شعار قسم ميدان

تشاكا ضد مشجعي أرسنال.. هل الجماهير محقة دائما؟

ميدان - تشاكا ضد مشجعي أرسنال.. هل الجماهير محقة دائما؟

الموقف الأول؛ مجموعة من الأشخاص تعتدي بالسب على شخص آخر، فيحاول أخذ حقه بالرد عليهم، هل هناك مشكلة؟ لا. الموقف الثاني؛ مجموعة من الأشخاص تعتدي بالسب على شخص آخر، فيحاول أخذ حقه بالرد عليهم، هل هناك مشكلة؟ نعم، فهم يحق لهم أي شيء وهو لا يُسمح له بالرد. لماذا؟ لأنه لاعب كرة قدم وهم الجمهور. ووفقا لهذا المنطق يتم تعريف جمهور الكرة بأنهم مجموعة من البشر يحق لهم فعل أي شيء خارج الأُطر الأخلاقية والقانونية فقط لأنهم يشجعون هذا النادي أو ذاك. ماذا حدث؟ تشاكا يتعرض للسب هو وعائلته وتمني الموت لابنته حديثة الولادة من قِبل جماهير آرسنال، يشير إليهم بالصمت ويخلع قميصه اعتراضا على ما يقولون، فيصبح هو الجاني. كيف؟ عُد للتعريف المذكور أعلاه.

  

تشاكا السيئ

هنا سنضطر إلى العودة لبداية القصة، ومناقشة قرار منح تشاكا شارة القيادة للسؤال حول جدارته بها. الإجابة قطعا لا، هو ليس أكثر مَن شارك مع الفريق بين المجموعة الحالية، ولكن الاختيار وقع عليه هو ليكون القائد خلفا لكوسيلني الذي رحل في الصيف. كيف تم اختياره؟ عن طريق تصويت مفتوح شارك فيه زملاؤه في الفريق وصدّق عليه المدرب أوناي إيمري. (1)

  

تشاكا مغادرا الملعب غاضبا في مباراة أرسنال و كريستال بالاس (غيتي إيميجز)
تشاكا مغادرا الملعب غاضبا في مباراة أرسنال و كريستال بالاس (غيتي إيميجز)

       

في مقال نشرته الغارديان حينها أبدى نيك آيمز تحفّظه على هذا الاختيار، ورأى أن شخصية تشاكا ليست كافية لمنحه قيادة آرسنال في هذا التوقيت. الرجل رأى أن الشخصية القوية وحدها لا يمكن أن تكون المعيار، وما قدّمه اللاعب السويسري في السنوات الماضية لا يُثبت كفاءته بالحصول على شارة القيادة إطلاقا، ولا نعتقد أن هناك مَن اختلف مع هذا الطرح سوى زملائه الذين قاموا بالتصويت لصالحه وربما والدته وزوجته. (2)

    

تشاكا لم يتغيّر بعدما أصبح قائدا، فقد ظهر بالتهوّر نفسه ولم يُبدِ أي استعداد للتأقلم مع الوضع الجديد، وبالعودة إلى الوراء فهو ليس قائدا سيئا فحسب، بل هو لاعب أقل من المتوسط، لا يمكنه اللعب أساسيا مع آرسنال في ظروف مختلفة، ولا حتى في هذه الظروف بالنظر لأسماء تجلس على دكة الاحتياط من أجله فقط لأن إيمري يرى ما لا نراه، رداءة ما يقدّمه في الملعب لم تكن يوما محل خلاف لأن الجميع تقريبا يقرّ بها، ولكن السؤال الآن؛ هل يُعَدُّ كل ذلك مبررا لما حدث معه؟

   

لماذا بكى توريرا؟

هذا هو السؤال الأبرز، وذلك لأن كرة القدم شهدت الكثير من الوقائع المماثلة لما حدث بين تشاكا وجمهور آرسنال، ولكنها لم تشهد بكاء لأحد زملاء الضحية أثناء الواقعة، ورغم أن المسار الطبيعي للمشكلة كان سينتهي غالبا بحصول توريرا على فرصة اللعب أساسيا بدلا من تشاكا، وأنه لم تظهر أية بوادر لوجود صداقة وطيدة بين الاثنين تحديدا تجعل توريرا يحزن لهذه الدرجة من أجل زميله، فإنه لم يستطع تمالك نفسه، فما الذي يستدعي البكاء في هذه الحالة أصلا؟

    

اللاعب لوكاس توريرا ومدرب فريق أرسنال أوناي إيمري (رويترز)
اللاعب لوكاس توريرا ومدرب فريق أرسنال أوناي إيمري (رويترز)

  

بالنظر إلى الصورة كاملة يمكننا استنتاج السبب بسهولة، الرجل سمع بأذنيه سباب والدة تشاكا وزوجته وابنته حديثة الولادة بعبارات قاسية، وهو يعلم أنه ليس هناك ما يستدعي كل ذلك، وأنه من الممكن أن يتعرض للأمر نفسه في حال لعب بشكل سيئ، كل هذا وهو لا يستطيع حتى التفوّه بأي كلمة في حق الجمهور لأن هذا الأمر مرفوض في عُرف كرة القدم، هم دائما على حق في الحالات المماثلة. الغارديان ذكرت أيضا أن عددا من زملائه قد ذهبوا لزيارته بعد ما حدث، ولكن لم يستطع أحدهم انتقاد تصرفات الجماهير في حقّه علنًا. (3)

  

دائما على حق؟ هذه قاعدة ترسخت في كرة القدم وخارجها، في أي فعل يتضمن تقديم منتج ما لجمهور مستهدف فإن الحق يذهب دائما للمتلقي، ولا يختلف المنطق سواء كان هذا المنتج كرة قدم أو بضاعة تُباع وتُشترى، وفي حال نشب خلاف بين هذا وهؤلاء فإن أصابع الاتهام تشير دائما إلى اللاعب أو البائع حتى وإن لم يخطئ، الفارق أن جمهور كرة القدم يستمد حصانة إضافية لكونه يشجع ناديا معينا، يتم التعامل معهم كانعكاس للنادي وتاريخه وعراقته، وهذا ما يمنحهم الحق في فعل أي شيء مرفوض قانونيا وأخلاقيا دون إدانة.

    

  

خط أحمر

الجمهور لا يمس، تحت أي ظرف وبأي معطيات لا يمكن إلقاء اللوم على المشجعين. في الـ 48 ساعة التي أعقبت مواجهة آرسنال وكريستال بالاس ألقى أوناي إيمري اللوم على تشاكا وأبدى تحفّظه على ما قام به اللاعب السويسري، وطالبت إدارة آرسنال اللاعب برسالة اعتذار علنية موجهة للجمهور، الأمر الذي رفضه تشاكا لتزداد حدة الهجوم عليه، وكالعادة غاب صوت العقل الذي يضع الأمور في نصابها ويُلقي ولو بـ 10% فقط من الخطأ ناحية المدرجات. (4)(5)

  

توريرا الذي بكى أثناء المباراة لم يستطع الحديث حول القضية فيما بعد، وربما لو كان الأمر بيده لخرج علانية ليُنصف زميله الذي أُجبر على سماع سباب عائلته وتمنّي الموت لطفلته ولم يتحرك أحد لإسكات ذلك، إيمري الذي ألقى اللوم عليه يعلم تماما أنه لم يخطئ بالدرجة التي تحدث عنها ولكنه لا يستطيع الحديث بغير ذلك، القوانين التي وضعتها الجماهير تفيد بأنه لا يمكن مناقشة مثل هذه الأمور، وإن كنت ترى عكس المتفق عليه فلتتحمّل عواقب ذلك حين ينصبّ عليك الغضب من كل جانب.

   

البعض سيرد بأن هذا قانون متفق عليه، وأن تشاكا لم يكن ضحيته الأولى، وأغلب جمهور الكرة يرون أنهم المموّلون الحقيقيون للعبة نظريا، وأن اللاعبين يحصدون الملايين مقابل تحمّلهم للإهانة، وهذه هي متطلبات اللعب في نادٍ كبير وما إلى آخره، بالفعل هذا قانون مترسخ ومتفق عليه، ولكن هذا لا يعني بأنه صحيح على أية حال، لأنه في حال جردنا الأمور من كرة القدم تماما، واستنتجنا من هذا الطرح أنه من حق أي صاحب عمل أن يقوم بإهانة موظفيه مقابل دفع مرتبات باهظة لهم، فكم شخصا من هؤلاء المشجعين سيقبل بهذا الحال إذا كان ضحيته؟

   

رد فعل تشاكا تجاه جماهير الأرسنال (رويترز)
رد فعل تشاكا تجاه جماهير الأرسنال (رويترز)

  

أما في حال كنت مشجعا من هؤلاء الذين يقولون نحن العنصر الوحيد الذي يتكبد الأموال من أجل اللعبة بينما الجميع يحصدون منها الملايين فهذه نقطة أخرى، الأمر من اختيارك ولا وجود لسلطة تفرض عليك ذلك، لا يوجد مشجع يدفع الأموال في سبيل كرة القدم سوى لأنه يحبها، لذا لا منطق في أن تتحول تلك العملية الاختيارية إلى أداة لابتزاز اللاعبين وإهانتهم هم وعائلاتهم مقابل دفع ثمن التذكرة والتصفيق لهم في حالة الفوز.

  

الخبر يقول: "تشاكا أخطأ في حق جماهير آرسنال". وفي الحقيقة عبارة "جماهير آرسنال" هنا عبثية للغاية، فهي من المفترض أنها تُعبِّر عن ملايين من البشر حول العالم، وفي لحظة ما تم اختزالها في مجموعة الحاضرين في ملعب الإمارات خلال المباراة فقط، تلك المجموعة التي توجّه إليها تشاكا بردة فعله الغاضبة، فشعرت مجموعات من جنوب الهند وشرق الصين وأدغال أفريقيا بالحزن لأنهم يشجعون آرسنال، وبناء على ذلك فقد أخطأ تشاكا في حقهم بالتبعية.

  

هذه عملية تدليس ولا تحتمل أن تُوصف بغير ذلك، وهذا المنطق يستمد قوّته من اختزال كل شيء في ألوان القمصان، وينسون أن الحدث الأصلي كان أن مجموعة من البشر قامت بسب أحد الأفراد بكل الأوصاف التي لا يتحمّلها إنسان، هو وعائلته بجميع أفرادها، والقانون يقول أيضا إن هذا الشخص لا يحق له إبداء أي امتعاض من ذلك لأنه لاعب غير جيد، ولأن تلك المجموعة من البشر قد ارتدت شعار فريق ما وقطعت تذكرة لمشاهدة مباراته، وبذلك حصلوا على الحصانة للخروج عن أي قانون ومعايير أخلاقية.

    

طالب تشاكا جماهير أرسنال بالصمت أولا ثم خلع قميصه ليعكس رفضه لما يحدث، فهل مطالبة مَن يسبونك بالتوقف باتت خطأ يُوجب العقاب؟
طالب تشاكا جماهير أرسنال بالصمت أولا ثم خلع قميصه ليعكس رفضه لما يحدث، فهل مطالبة مَن يسبونك بالتوقف باتت خطأ يُوجب العقاب؟
   

ولأنهم "خط أحمر" فإن أي رد فعل أمامهم سيُعتَبر جريمة، إذا لم تشاهد المباراة وما قام به تشاكا فقد تظن أنه أخرج سلاحا وقتل كل مَن في الملعب، هذا هو المبرر الوحيد لحجم الحنق المستمر منذ خروجه غاضبا وحتى الآن، ولكن في الحقيقة كل ما قام به الرجل هو أن طالبهم بالصمت أولا ثم خلع قميصه في رد فعل يعكس رفضه لما يحدث، وهنا نحن أمام معضلة أخرى، هل مطالبة مَن يسبونك بالتوقف باتت خطأ يُوجب العقاب؟ هل يفترضون قدرة اللاعب على تحمّل سباب الآلاف ولا يفترضون قدرة الآلاف على تحمّل طلبه بالتوقف عن ذلك فقط؟

  

الأمور لم تتوقف عند ذلك، بل إن إدارة آرسنال قدمت مشورة طبية نفسية لتشاكا، بالفعل هو يبدو غير متزن نفسيا لأنه لم يهز رأسه بالموافقة على تمنّي الموت لابنته وسباب أمه وزوجته، في حال قابل هذه الصيحات بابتسامة عريضة لم يكن ليُعامل كمريض نفسي. المؤسف في الأمر أننا لم نشاهد اقتراحا واحدا لتقديم العلاج النفسي لمجموعة من البشر تمنّوا الموت لطفلة عمرها أيام فقط لأن والدها لا يلعب كرة القدم بشكل جيد. (6)

    

  

ماذا لو؟

في هذه الحالة نحتاج إلى وضع افتراض للكشف عن تناقض آخر، ماذا لو استبدلنا لاكازيت بتشاكا مثلا؟ وماذا لو عُدنا للوراء أكثر وكان بطل الواقعة هو تييري هنري؟ نحن نحتاج إلى لاعب لديه جودة أعلى، وفي الوقت نفسه يميل إليه الجمهور عاطفيا، الأمر الذي يجعلهم على استعداد للصفح عن أفعال لو قام بها غيره لحل عليه غضبهم.

  

بالطبع ستخبرنا بأن لاكازيت وهنري لا يمكنهما القيام بذلك لأنهما محترفان ويحترمان تقاليد النادي وجماهيره وما إلى ذلك، ولكننا هنا نضع افتراضا ليس إلا، وبالطبع قبل لحظات مما قام به تشاكا لم يكن أحد ليتخيل أنه سيقوم بذلك، ولكنه فقط طفح به الكيل أمام تكرار صيحات الجماهير المسيئة، ولا أحد يعلم ماذا سيفعل هنري أو لاكازيت أو حتى أكثر الأشخاص هدوءا على كوكب الأرض في حال طفح به الكيل.

  

الجماهير ستغضب في هذه الحالة؟ بالطبع، ولكن على الأقل ستسمع بعض التبريرات للاعب، لا يمكن أن تشير بأصابع الاتهام نحو الجماهير، ولكن على الأقل سيكون هناك نصيب من الخطأ لكل طرف، أو الحديث حول ما قدمه اللاعب للنادي وأنه يستحق فرصة ثانية وما إلى ذلك، وهذا ما يعيدنا إلى إحدى النقاط السابقة من جديد؛ هل ما قام به تشاكا خطأ فجٌّ في المطلق؟ أم أنه اعتُبِر فجًّا لأنه تشاكا؟

    

رد الفعل انصبّ على تشاكا نفسه لا على الفعل، ومشاعر الجماهير نحو اللاعب هي ما صوّرت لهم أن ما قام به فجٌّ لهذه الدرجة
رد الفعل انصبّ على تشاكا نفسه لا على الفعل، ومشاعر الجماهير نحو اللاعب هي ما صوّرت لهم أن ما قام به فجٌّ لهذه الدرجة
   

في علم النفس هناك ما يسمى بالتبرير العاطفي أو التفسير العاطفي (Emotional Reasoning)، وهو ببساطة اعتقاد شيء ما بناء على تجربة سابقة، أي إنه انطباع عاطفي يجبرك على تفسيره بالمنطق، فمثلا إذا تعرضت للخيانة في علاقة عاطفية ما، فمن الممكن أن تتوقعها من شخص جديد في علاقة جديدة، حتى وإن لم يقم بأي شيء يشير إلى ذلك، النظرية أيضا تتحدث عن إدراك الأشياء التي يقوم بها الأشخاص من زاوية الخبرات السابقة لدينا حولهم، وهو ما دفع الجميع إلى صب غضبهم على تشاكا لأنه لا أحد يحبه تقريبا باستثناء والدته وزوجته، وإذا قام 10 أشخاص آخرون بالفعل نفسه لن يشعر هؤلاء الغاضبون أنه يستحق كل ذلك، ولكن رد الفعل انصبّ على تشاكا نفسه لا على الفعل، ومشاعر الجماهير نحو اللاعب هي ما صوّرت لهم أن ما قام به فجٌّ لهذه الدرجة. (7)

  

في هذه المنطقة هناك مثال حي لحالة شاذة، كريستيانو رونالدو الهداف التاريخي لريال مدريد، وأكثر مَن حقق كل شيء مع النادي تقريبا، كل ذلك لم يشفع له أمام صافرات الاستهجان فقط لأنه لم يسجل في عدة مباريات، الجمهور يتعامل معه كآلة يُصفق لها فقط حين تجلب البطولات وتُسجّل الأهداف، فكيف كانت النتيجة؟ الرجل رحل وصرّح في أكثر من مرة عن مفهوم العائلة الغائب في مدريد. هذا ما تزرعه الجماهير وترفض أن تجني ثماره، تقرر التعامل مع اللاعب كسلعة وتغضب منه حين لا يقاتل من أجل الفريق ولا يُظهر له الانتماء. (8)(9)

   

حق الجماهير

في البداية تم التصديق على عدم أحقية تشاكا بشارة القيادة، بل وعدم أحقيته باللعب أساسيا مع آرسنال، ثم أخذ الحديث منحى الدفاع عن اللاعب وإدانة ما قامت به الجماهير، والأمر وفقا للسياق منطقي جدا ولا يبدو متناقضا إطلاقا، لأنه لا شيء يفترض السماح بإهانة عائلات جميع اللاعبين الذين لا نحبهم وتمنّي الموت لأبنائهم.

   undefined

  

هناك صافرات استهجان تُعبِّر عن الغضب والاستياء، وهناك لافتات من الممكن الكتابة عليها بجميع اللغات من أجل توصيل أي رسالة، هناك تقليد رفعت فيه المناديل البيضاء للتعبير عن الاستياء والرغبة في نهاية وضع ما، هناك الكثير من الطرق لتخبر بها اللاعب السيئ بأنه سيئ، والقائد الذي لا يصلح للقيادة بأنه لا يصلح لها، هذا في حال أردت أن تتحدث في السياق الذي ينبغي لك الحديث فيه، أن تتعامل مع اللاعب فقط كلاعب والمدرب دون التطرق إلى حياته خارج حدود وظيفته.

  

لا أحد يطالب الجماهير بالصمت، ولا أحد يضع شروطا للشكل الذي ينبغي أن يكون عليه الاعتراض، المسألة تتعلق بالمنطق ليس إلا، نحن نتحدث عن كرة القدم، لذا من البديهي أن تكون الإشادات والانتقادات داخل حدود كرة القدم، وفي حال خرج البعض عن ذلك ووجّه الإهانة لأحدهم فإنه من حق أحدهم أن يُبدي غضبه من تلك الإهانة. الآن يمكنك العودة للإجابة عن السؤال المذكورة في البداية.

المصدر : الجزيرة