شعار قسم ميدان

إيميليانو سالا.. لماذا يجب أن يذهب فريقك المفضل إلى الجحيم؟

ميدان - إيميليانو سالا.

يبدأ فيلم[1] قديم بمشهد لقبيلتين من البشر البدائيين، اعتاد أفراد كل قبيلة أن يقفوا في الصباح على جانبين متقابلين من مياه النهر، ويتبادلون الصياح الغاضب، ثم ينصرفون. الصياح لا يضر أحدا، والمياه لم تكن محل صراع، ولكن أفراد كل قبيلة وجدوا في هذا المشهد نوعا من الانتماء؛ فهم فريق يقف في جانب والخصوم في الجانب الآخر، والصياح المتبادل نجح في مراكمة العداء. ورغم أن الصياح لا يضر أحدا، فإنه في أحد الأيام قرر قائد إحدى القبيلتين أن يمسك بعظمة ضخمة لحيوان ميت، وعبر النهر وانهال على رأس القائد الآخر فأسقطه ميتا. وهذه تحديدا هي اللحظة التي يجب فيها أن يذهب فريقك إلى الجحيم!

 

سالا الذي مات

إيميليانو سالا هو لاعب أرجنتيني محدود الشهرة، ومتوسط الجودة، انتقل منذ أيام قليلة إلى نادي كارديف سيتي بالبريمييرليغ. وفي الطريق إلى النادي الجديد، اختفت الطائرة الخاصة التي كانت تحمله، وبعد أسابيع طويلة من الانتظار أُعلن نبأ موته[2] بعد العثور على بقايا الطائرة المحطمة. وفي مباراة كارديف أمام ساوثهامبتون، وقف الجميع في حداد على روح سالا. ومن بين هؤلاء الجميع وقف اثنان من مشجعي النادي الخصم يفكران في الطريقة التي يمكن بها توجيه إهانة لكارديف قبل بداية اللقاء، فاختارا السخرية من حادثة تحطم الطائرة أو ما أسمته الصحافة[3] الإنجليزية "aeroplane gesture".

السؤال الذي يطرح نفسه؛ لماذا قرر هذان المشجعان إهانة سالا؟ فهو لم يلعب أي مباراة لكارديف، وليست هناك خصومة تاريخية من الأساس بين الناديين. والإجابة بصورة سريعة وبكثير من الحسم تكمن في المشهد الذي بدأ هذا التقرير؛ إنها الكراهية والخصومة. فهذان المشجعان ينتميان إلى فريق ما، ومن ثم فيجب أن يلحقا بالخصم كل إهانة ممكنة وكل ضرر. ربما يبدأ الأمر بالصياح، وربما يتجاوزه إلى إشارة عرقية عنصرية إن كان بين لاعبي الخصم فرد أسود، وربما إشارة عنصرية دينية لو أن بين لاعبي الخصم لاعبا مسلما مثلا. وربما يجد بعض المشجعين في أنفسهم قدرا أكبر من الجرأة والكراهية غير المبنية على أي أساس سوى الخصومة الكروية، فيقرر أحدهم أن يحمل سلاحه ليقتل خصمه.

 

القتل هنا ليس كلمة مجازية، فقبل أسبوع[4] من كتابة هذه الكلمات تعرض اثنان من مشجعي واتفورد لجروح قطعية في الرأس والوجه بعد الاعتداء من قِبل أربعة مشجعين لإيفرتون، وتسبّب أحد هذه الجروح في عاهة مستديمة لأحد مشجعي واتفورد. والكراهية هنا ليست كلمة شعرية أيضا، ولكنها كلمة ذات دلالة واضحة، وهي ذلك الشعور عند مشجع كرة القدم الذي يدفعه إلى إيقاع أكبر ضرر ممكن بالخصم مستخدما في ذلك كل الإشارات العرقية أو الدينية العنصرية أو العنف الجسدي إن أُتيحت له الفرصة. وهذه تحديدا هي اللحظة التي يجب أن يذهب فريقك فيها إلى الجحيم.

 

السود الأغبياء

من المنطقي أن ننظر إلى العنصرية على أنها المرض الأسوأ في تشجيع كرة القدم، ولكنها في كثير من الأحيان لا تتخطى كونها أحد أعراض متلازمة أكبر، وهي الكراهية. يمكننا أن ندرك الفرق بين الأمرين إذا ما تأملنا الفارق بين التصريحات[5] الأخيرة لجيمس واطسون (الحائز على جائزة نوبل لإنجازاته في مجال الـ "DNA") وبين تصريحات[6] قديمة للمدير الفني الإسباني لويس أراغونيس.

 

خرج علينا واطسون مؤخرا بتجديد لتصريحاته العنصرية القديمة، وقال إن اختبارات ذكاء البيض تتفوق على السود، وذلك يعود لأسباب جينية تجعل البيض أكثر ذكاء. وهذا التصريح استكمال لآراء قديمة يعتنقها واطسون، منها مثلا أن أزمة العالم حاليا تكمن في افتراض خاطئ بأن كل البشر متساوون! على الجانب الآخر، وفي واقعة شهيرة حدثت أثناء بداية تدريب أراغونيس للمنتخب الإسباني، أراد المدرب العجوز أن يشجع لاعبه الشاب خوسيه أنتونيو رييس، فقال له: أخبر هذا "الخراء الأسود" (يقصد تيري هنري زميل رييس في أرسنال حينها) أنك أفضل منه، أخبره ولا تتراجع، أخبره بالنيابة عني، يجب أن تؤمن بنفسك، أنت أفضل من ذلك "الخراء الأسود".

 

المدرب أراغونيس واللاعب خوسيه أنتونيو رييس (رويترز)
المدرب أراغونيس واللاعب خوسيه أنتونيو رييس (رويترز)

حظ أراغونيس العاثر كان في أن تلك الواقعة كانت مصورة، وتم بثها عبر شبكة التلفزيون الوطني الإسباني، ووجد الرجل نفسه ضد اتهام بالعنصرية. وجاء رد العجوز مثيرا للتأمل، فقال إنه مواطن عالمي وإن لديه العديد من الأصدقاء السود، وبعضهم من أصدقاء الطفولة، وأضاف إنه ليس عنصريا، بل أراد فقط أن يبث الحماس في روح لاعبه الشاب رييس! لم يتوقف الأمر هنا، بل دافعت الصحافة الإسبانية عنه حينها، وقالت إن أراغونيس العجوز قد درّب العديد من اللاعبين السود، ومنهم صامويل إيتو مثلا، ولم يحدث أن اتهمه أحد منهم قبل ذلك بالتمييز ضده.

يمكن تصديق كلمات أراغونيس، وكذلك كلمات الصحافة عن أنه لم يمارس العنصرية ضد لاعبيه السود من قبل. ولكن هذا الموقف يدفعنا إلى التساؤل؛ لو أن واطسون رجل عنصري يرى للبيض أفضلية على السود، فمن المنطقي أن يقول كلمات عنصرية. ولكن لماذا يقولها أراغونيس؟ الإجابة تكمن في كلمة واحدة وهي الكراهية!

 

الأسود الطيب والأسود الشرير

الكراهية هي التي تدفع إنسانا لا يحمل إيمانا حقيقيا بالعنصرية لأن يتفوه بكلمات أو أن يأتي بأفعال عنصرية فقط من أجل إيذاء الخصم. لم يكن تيري هنري قط خصما كرويا لفريق درّبه أراغونيس، ولكن في اللحظة التي كان يتحدث فيها مع رييس محاولا دفعه للإيمان بذاته، أصبح هنري حينها على الناحية الأخرى من الخط، فتعامل معه العجوز كخصم يجب أن يحقّر من قدره.

 

هذه الحالة تكشف خلطا بين مفهومين رئيسيين في كرة القدم أو فكرة الصراع عموما، وهما مفهوما الخصومة والعداء. فالخصومة تعني مسابقة يفوز فيها أحد الطرفين، وفوزه يعني بالضرورة خسارة الآخر. أما العداء فهو أزمة وجود؛ فوجود أحد الطرفين يعني سحق الآخر وعدم وجوده. الكرة تنتمي إلى النوع الأول وهو الخصومة، ولكن النظر لها كصراع حياة أو موت سوف ينتج المشهد الذي كان أراغونيس بطلا له.

 

اللاعب هنري مصافحا اللاعب خوسيه أنتونيو رييس (رويترز)
اللاعب هنري مصافحا اللاعب خوسيه أنتونيو رييس (رويترز)

  

العنصرية كمرض مستقل لها وجودها في كرة القدم، فحتى هذه اللحظة ما زال العداء بين سيلتيك ورينجرز في اسكتلندا يقوم على أساس طائفي[7]، وما زال مدرب رينجرز هو البروتستانتي ستيفن جيرارد، ومدرب سيلتيك هو الكاثوليكي الأيرلندي الشمالي بريندن رودجرز. وما زالت جماهير رينجرز تغني في الحانات، هاتفة: نحن نكره الرومان كاثوليك.. الرومان كاثوليك اللعناء. ولكن هذه العنصرية الصلبة أقل شيوعا من العنصرية المصطنعة التي تظهر في حالة أراغونيس وفي واقعة جماهير تشلسي مثلا ضد السود من جماهير باريس سان جيرمان في فبراير/شباط 2015. في تلك الواقعة أُدين عدد من مشجعي تشلسي بالاعتداء على مشجع باريسي أسود البشرة في محطة مترو بالعاصمة الفرنسية، وفي الفيديو الذي وثّق الواقعة يمكن سماع هؤلاء يغنون: نحن عنصريون .. نحن عنصريون .. هذه هي الطريقة التي نفضّلها! هؤلاء العنصريون سافروا خلف فريق يضم ويليان وراميريز ولوي ريمي وكيرت زوما وكوادرادو وقبل الجميع يأتي ديدييه دروغبا! ولو أن عنصريتهم كانت حقيقية، فلماذا لا تتجلى ضد لاعبي فريقهم!؟ [8] [9]

 

الإجابة ببساطة أننا أمام عنصرية براغماتية مزورة، ربما أكثر انحطاطا من عنصرية واطسون العلمية الصلبة. لأن العنصرية المتماسكة يمكن مواجهتها بشكل منظم، ويمكن أن نحللها ونثبت الخطأ فيها، ويمكن أن نغير القناعات التي تقوم عليها. فيمكن مثلا أن يقوم عالم آخر ليثبت أن افتراضات واطسون غير علمية وتتغافل التأثيرات الاجتماعية والثقافية. أما العنصرية البراغماتية فإنها تندرج تحت قائمة من أعراض متلازمة الكراهية، والكراهية علة في النفوس يصعب أن تقتلعها ما دامت لا تأخذ شكلا واضحا. ومن هنا يجب النظر إلى العديد من ممارسات التشجيع الكروي كتجليات للكراهية في متلازمة واحدة يجب التعامل معها جميعا في آن واحد.

 

متلازمة الكراهية

مما سبق، يمكننا النظر إلى عدد من الأفعال المقترنة بتشجيع كرة القدم كطيف من الأعراض في متلازمة واحدة. تتدرج هذه الأعراض في حدتها وفي قبحها ولكن لا يمكن فصلها عن بعضها كتجليات لشيء واحد. ومثلما في المتلازمات المرضية، فلا يجب النظر إلى كل عرض بشكل منفصل ومحاولة علاجه بشكل منفصل، ولكن يجب النظر إلى الحالة ككل. ربما يبدأ الأمر بتبادل للسباب البذيء والعبارات النابية بين مشجعي أرسنال وتوتنهام مثلا عبر صفحات منصات التواصل الاجتماعي. كلمات افتراضية في فضاء افتراضي لن ينتج عنها الكثير من الضرر.

 

ولكن ربما يتطور الأمر إلى صياح في الملعب، والصياح كما أخبرتك في البداية لا يضر أحدا. ربما يضر جون تيري الذي أمطرته جماهير ليفربول بالأناشيد الساخرة من واقعة انزلاقه في نهائي دوري الأبطال 2008 أمام مانشستر يونايتد. وجماهير تشلسي انتظرت بضع سنوات قبل أن تصيح هي الأخرى وتنتقم بأناشيد انزلاق ستيفن جيرارد الشهير في دوري موسم 2014. ربما يتصاعد الصياح، ويأخذ شكلا أكثر إيذاء، فتقرر جماهير ستوك سيتي أن تجلب إلى المدرجات فضيحة الخيانة التي تورط فيها جون تيري مع زوجة زميله في المنتخب الإنجليزي واين بريدج. [10]

 

الصياح لا يضر أحدا.. هل أنت واثق من هذا الادعاء؟! إذ إن صياح السخرية من الموت والحوادث الجماعية يختلف. ففي المباراة التي جمعت ليفربول ومانشستر يونايتد بالدوري الأوروبي موسم 2016، قرر قطاع من جماهير الشياطين أن يغنوا ساخرين من كارثة هيلزبروه التي راح ضحيتها 96 من مشجعي ليفربول عام 1989. فعلوا ذلك في الأنفيلد على مشهد من أشخاص فقدوا أعزاء لديهم في ذلك اليوم المفجع! وبالمثل قام قطاع من جماهير ليفربول في مارس/آذار 2018 بالغناء ساخرين من ضحايا كارثة ميونخ، التي راح ضحيتها 23 من الطاقم الفني ولاعبي مانشستر يونايتد في عام 1958. [11] [12]

 

لا يتوقف الأمر عند الصياح الضار، ويمكن لأعراض هذه المتلازمة أن تدخل بنا إلى ساحة حرب. ففي نهاية موسم 2002، وفي المباراة التي خسرها ميلوول أمام بريمنغهام للصعود إلى الدوري الممتاز، وقعت أحداث عنف وصفتها "BBC"[13] حينها بأحد أسوأ ما شهدته إنجلترا خلال العقود الأخيرة، إذ اجتاح مئات المشجعين المنتمين إلى ميلوول شوارع ما حول المباراة، واشتبكوا مع الشرطة المحلية، وهو ما تسبب في إصابة 47 من أفراد الشرطة و24 من خيولهم. وفداحة الواقعة دفعت الشرطة المحلية هناك نحو مناقشة قرار عقاب النادي نفسه، والاختصام القضائي ضد إدارته، وهو حدث شديد الندرة في الكرة الإنجليزية!

 

كل هذه الأعراض تأتي في مرتبة تالية لأسوأ ما يمكن أن تنتجه الكراهية الكروية، وهو القتل! يمتلك نادي بلاكبول تاريخا طويلا من ضحايا العنف المرتبط بكرة القدم؛ في بعض الأحيان كانت جماهيره هي الضحايا، وفي أحيان أخرى كانت جماهير الخصم. ففي عام 1974 سقط كيفين أولسون قتيلا نتيجة الطعن حتى الموت في مباراة ضد بولتون، وكان الفتى الصغير ذو السبعة عشر عاما من جماهير الفريق، وهو واحد من أصغر ضحايا العنف الكروي، ولم ينسه أحد حتى الآن. وفي عام 1982 وقع الضحية من الخصوم، وذلك في شجار بين هوليغانيز بلاكبول ضد شيفلد يوناتيد، وطُعن فيها أحد مشجعي الفريق الخصم حتى الموت، ولكن لم تستطع الشرطة تحديد الجاني.[14]

 

مفهوم القبيلة:

كل تلك الأعراض التي نسردها هنا تندرج تحت متلازمة واحدة وهي الكراهية. ويشرح لنا أحد علماء النفس الاجتماعيين هذه الظاهرة في وثائقي[15] "The Real Football Factories"، فيقول إن روابط تشجيع كرة القدم يحكمها ما يحكم القبائل البدائية؛ فالترابط بين الأعضاء يخلق الهوية، وهذه الهوية تحتاج إلى عدو، لأن هذا العدو والصراع ضده يصقل روح الانتماء! وهذا التشوه في مفهوم الانتماء وجعل كراهية الخصم مرادفا له يمكنه أن ينتج كل ما سبق من تجليات بغيضة تتدرج من السخرية الكاريكاتيرية وربما تصل إلى العنصرية الدينية والتمييز العرقي، وقد يقرر أحد المشجعين أن يمسك بالعظمة العملاقة وأن يعبر الجانب الآخر من النهر ويقرر أن يقتل بها خصمه. وهذه هي تحديدا اللحظة التي يجب على فريقك فيها أن يذهب إلى الجحيم، لأن الحياة البشرية أكثر قدسية من كل شيء بما في ذلك كرة القدم!

 

لا يمكن لأحد أن يطلب من مشجعي كرة القدم أن يتحولوا لمجموعة من السادة المتأنقين الذي يذهبون في حلل فاخرة لحضور المباريات، ويتبادلون فيها الورود والكلمات الطيبة مع جماهير الخصم، ولكن يجب إدراك الخط الفاصل بين الانتماء ومحبة الفريق وبين ارتكاب أفعال الكراهية والجرائم تحت اسم تشجيع الفريق، ويجب إدراك الخط الذي ربما يبدأ بتعليقات ساخرة وأغنيات مضحكة، والذي يمكن أن يصل إلى الإيذاء والعنف في آخره.

 

يمكن لقارئ هذا التقرير أن يراه تجليا آخر لموجة الصوابية السياسية، واتجاه إعادة تعليم الناس الطريقة الصحيحة التي يديرون بها الأمور. ولكن دعني أخبرك قصة[16]، في عام 1976 وبعد لقاء جمع ميلوول وويستهام، وقع قتال بين رابطتي هوليغانز الفريقين، امتد القتال إلى محطة القطار، وصعد إلى سطح أحد القطارات، وهناك وقع أحد مشجعي ميلوول تحت عجلاته ومات. ومنذ ذلك الحين، يفخر هوليغانز ويستهام بتلك الحادثة، ولديهم أغنية تقول: "نحن فتيان وستهام.. نحن نلقي بمشجعي ميلوول تحت القطارات!".

 

عقلية المشجع الذي يرى في حادثة القطار تلك مدعاة للفخر أو تأكيدا على ذكورة كرة القدم، هي ذات العقلية التي عبرت النهر لتقتل الخصم من القبيلة الأخرى، وهي ذات العقلية التي قررت السخرية من مصرع سالا المأسوي في لحظات تأبينه، أو لماذا يجب أن تذهب كرة القدم إلى الجحيم في بعض اللحظات!

المصدر : الجزيرة