شعار قسم ميدان

معضلة سقراط.. هل هناك ما يُعرف بكرة القدم الجميلة؟

ميدان - مانشستر سيتي

الدقيقة 90 والنتيجة تشير إلى التعادل، المدافع يتلقى الكرة سريعا من حارس المرمى ثم يلجأ للخيار السهل ويرسل طولية بعيدة جهة منطقة جزاء الخصم، يسيطر عليها المهاجم ثم يتخلص من رقيبه ويضعها في الزاوية العليا للمرمى.

  

الآن قل لنا كيف تخيلت هذا الهدف؟ في إنجلترا على الأرجح، المهاجم قد يكون آندي كارول أو ربما تروي ديني، وهناك الكثير من الوحل بطبيعة الحال لأن هناك الكثير من المطر، وهذا يحيل مباراة بدنية كتلك إلى جحيم حقيقي، خاصة مع الزحام المتوقع وتراكم المدافعين أمام مرماهم في محاولة للصمود حتى النهاية، لا بد أن الكرة قد اصطدمت بعدد من اللاعبين قبل أن تسكن الشباك، وبما أنهم راضون بالتعادل فهذا يحصر الخيارات إلى حد كبير؛ المباراة بين هادرسفيلد وكارديف غالبا، أو بيرنلي وبرايتون مثلا، لو كانت المباراة في إحدى درجات إنجلترا الدنيا فلن تندهش.

 

الإيحاء الحرّاق

كانت هذه افتتاحية جوناثان ليو كبير محرري الإندبندنت في مقال له يحمل العنوان نفسه تقريبا، والهدف الذي يتحدث عنه هو هدف بيركامب الأيقوني في مرمى الأرجنتين بمونديال 1998 والذي تم اختياره لاحقا كأحد أجمل أهداف كأس العالم عبر تاريخه. كانت تلك هي طريقة ليو لتوضيح قوة الإيحاء الذي تحمله الكلمات، خاصة عندما نتحدث عن أمر نسبي كالجمال في كرة القدم. (1)

  

   

أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع عن الكرات الطويلة هو إنجلترا بداهة، وهذا هو ما تبني عليه باقي الاستنتاجات؛ طراز المهاجم ونوعية الهدف والمباراة وربما حتى الأجواء. عندما تسمع عن الكرة الطويلة لا تتخيل أبدا أحد أجيال هولندا -النقيض التكتيكي لكل ما سبق- الذهبية في يوم مشمس بالمونديال، وبالطبع لن يخطر ببالك بيركامب تحديدا على الإطلاق.

  

هذه هي المشكلة الأولى؛ الانطباعات سابقة التجهيز (Stereotypes) التي تعمينا عن الاستثناءات. مشكلة ولكنها ليست كل المشكلة، لأن الانطباعات سابقة التجهيز (Stereotypes) ليست الشيطان، بل دعنا نخبرك بمعلومة لن تسمعها في أي مكان آخر غالبا؛ أحيانا ما تكون مفيدة وتختصر الكثير من الوقت فعلا. أصلا الاحتفاظ بالتجرد طيلة الوقت أمر مرهق جدا وغير بشري، لذلك يسعى الناس للتعرف على من يشبهونهم وبتجنبون العكس، ولذلك يفضلون المألوف على المجهول.

  

الأهم؛ لذلك ينتجون الأنماط المكررة التي وُجدت الانطباعات سابقة التجهيز (Stereotypes) للتعرف عليها في المقام الأول، ولكنهم يتنكرون لها لاحقا فلا يتذكرون سوى الطفرات التي خرقت القاعدة لأنها أكثر إثارة وجاذبية. على سبيل المثال؛ كلنا سنتذكر هدف سيدورف ضد الأتليتي في 1997، ولكننا سنسخر بقسوة من أي محاولة لتكراره، رغم أننا دائما ما نطالب اللاعبين بالمزيد من السحر والمفاجآت والإبداع.

  

   

جمال وهمي

خذ غوارديولا مثالا؛ مؤخرا كان أحد الانطباعات المعلبة المسيطرة على قطاع لا بأس به من جمهور اللعبة هو أن كرة القدم الجميلة هي مرادف ما يقدمه الرجل مع أي فريق، هو أو من يسيرون على نهجه عموما؛ الشجاعة والإقدام والمبادرة واللعب لأجل التسجيل وإمتاع الحضور، كلها خصائص غالبا ما تكون حاضرة في مباريات غوارديولا فعلا، ولكن مع الوقت ازدادت التكتلات الدفاعية تكدسا في مواجهته، وفي بعض الأحيان كانت المرتدات تعاقبه بحدة ودقة غير معتادة، وهذا كله أنتج النسخة الحالية من غوارديولا، النسخة التي تتظاهر بأنها تسيطر على المباراة طولا وعرضا ولكن نسبة تحكمها فيما يحدث لا تتجاوز نسبة تحكم الخصم.

  

فكر في الأمر، الخصم هو من يجبره على هذا الأسلوب، والزحام هو ما يجعل لاعبيه يفكرون عدة مرات قبل إطلاق أي تمريرة أمامية مباشرة أو تسديدة بعيدة، وهو ما يفرض عليه تركيز اللعب على الأطراف في أغلب الوقت، والنتيجة أن الكثير من أهداف الرجل صارت تأتي من لعبات محددة سابقة الإعداد في التدريبات، الكثير والكثير من العرضيات أمام المرمى الخالي التي تنتظر لمسة واحدة لتسجيلها "Tap-Ins"، لمسة لا تحتاج إلى أي مهارة ولا مجال فيها للجمال أو الإبداع الفردي، "Stereotypes" أخرى مكررة تؤدي إلى النتيجة نفسها في النهاية.

  

كل هذه التعقيدات والعراقيل التي وضعها المنافسون في طريقه أزالت عددا لا بأس به من الخيارات التي كانت مفتوحة سابقا، أصبحوا قادرين على المشاركة في نحت أسلوب اللعب الذي طالما اعتبره خاصا به وحده، أو ما يمكن تعريفه بمعضلة ما بعد 2010، عندما بدأ غوارديولا يسعى لمزيد من التحكم في تفاصيل فريقه، والتي انتهت بحصوله على ما أراد مع نسخة السيتي الحالية، ونجاحه في تحويل مجموعة من أمهر لاعبي البريميرليغ إلى ماكينات آلية لا تتوقف يمكنه إدخال تعليماته إليها قبل كل مباراة. (2)

    

بيب غوارديولا (غيتي)
بيب غوارديولا (غيتي)

  

أمر رائع وباهر لا شك، ولكنه يعرّف مشكلة ليو مع "جمالية سيتي غوارديولا"؛ إن الحرية التي كان ينعم بها أمثال ميسي وتشافي وإنييستا لم تعد هنا، ليس بالقدر نفسه على الأقل، كل شيء أصبح محسوبا ومنظما لدرجة مزعجة أحيانا، ومجال المفاجآت صار محدودا للغاية. الجمال ما زال حاضرا في كل مباراة، ولكنه جمال جماعي ميكانيكي يفتقد للدرجة الكافية من البشرية إن جاز التعبير، لذا كتب الرجل مقالا كاملا عن تمريرة دي بروينه الساحرة لساني في مباراة ستوك بالموسم الماضي، لأنها واحدة من اللحظات التي يمكنك القول إن غوارديولا نفسه لم يتوقعها. (3) (4)

  

جاز كلوب

كلوب إذن؟ بوتشيتينو؟ لا، حتى هؤلاء لم يعد ليو يجد في كرتهم الكثير من الجمال، بل إن أسلوب اللعب القائم على الضغط كصانع أول ورئيس لأخطاء الخصم -ومن ثم الهجمات- قد حوّل مبارياتهم إلى ما يشبه الفوضى، أو ما يطلق عليه جوناثان ويلسون أحيانا الهجوم الأخرق (Gung-Ho Attack(5) حيث العشوائية هي ما يقود اللعب، والعشوائية تتطور لغوغائية أحيانا، شيء أقرب للنقيض مما يقدمه غوارديولا، حرية شبه كاملة في الثلث الأخير ولكن إيقاع المباراة يصبح أشبه بمقطوعات الجاز طبقا لليو؛ موسيقى مستمرة يصعب أن تجد فيها نوتة واحدة منتظمة.

  

هذا يقودنا للسؤال عن ماهية الجمال في اللعبة، لأن، وبصراحة، وجهة نظر ليو تقلص الخيارات لدرجة العدمية، وهنا سنصطدم بالمشكلة الثانية إذا لجأنا لآراء السقراطيين مثلا؛ الفيلسوف الإغريقي يرى أن الفائدة ينبغي أن تكون مقدمة على الجمال في أي فعل بشري هادف، وصانع الألعاب البرازيلي الثائر يرى الجمال كقيمة مطلقة أولى بالتقدير من أي شيء آخر. باختصار؛ أحدهم لا يمانع اصطحاب الجمال في رحلة نحو الغاية ما دام لن يعطله، والآخر يهيم على وجهه في الشوارع بلا هدف مكتفيا بصحبته. (6)

  

على الأغلب كانت وجهة نظر الثنائي متأثرة بظروف العصر، سقراط الأول فيلسوف، والفلسفة قد تكون، وعلى عكس المتوقع، براغماتية للغاية في بعض الأحيان، والثاني فيلسوف من طراز آخر، وهب حياته لقضايا إنسانية عظيمة في مواجهة قبح الديكتاتورية والفاشية، وهذا قد يكون سببا في تطرف مقاربته للأمر. (7)

    

  

أصلا التدقيق في وجهة نظر سقراط الإغريقي يُلقي بنا في متاهة أخرى، لأنها تفترض بداهة أن الجمال ليس مفيدا بحد ذاته، وأن النفع مقصور على الأفعال البشرية الحسية وحسب، وأن القيم المعنوية المشابهة لا تمتلك قيمة حقيقية في الواقع، وهذا قد يكون حقيقيا في بعض الحالات، ولكنه لن يتحول إلى قاعدة أبدا، بل هو أشبه بالحجج الرديئة التي يلجأ لها مشجعو اللعبة بعد فوز غير مستحق أو مباراة مملة، ولكنه يقودنا مرة أخرى للصراع الأزلي في كرة القدم؛ صراع النتائج والجودة.

  

الجودة والنوعية

كرويف يقول إن النتائج بلا جودة مملة، والجودة بلا نتائج لا معنى لها، وهو أمر يتفق معه فيه خورخي فالدانو فيلسوف الكرة الأرجنتينية ورفيق مارادونا الأبرز في مونديال المكسيك ولاعب ومدرب وإداري ريال مدريد لاحقا، واستخدم في شرحه لوجهة نظره لفظة معبرة للغاية ليس لها مرادف دقيق في العربية: "Mediocre"، أقرب ما وجدناه لمعناها هو "عادي" أو "متوسط"، المهم أن فالدانو يقول فقط الـ "Mediocre" هو من لا يطمح للجمال فيما يفعله، (Everybody wants to win, but only the mediocre does not aspire to beauty). (8) (9)

 

هذه قضية منتهية ومفروغ منها، الجمال هو الجمال، والتسفيه من دوره في حياتنا هو أمر لا يُقدم عليه إلا الحمقى، وحتى أعتى مشجعي الـ "Anti-Football" يزعمون أن هناك شيئا من الجمال هنالك، بل دعنا نخبرك أنه لا يوجد مشجع واحد للعبة لا يستطيع تقدير جمال بعض لقطاتها. في الواقع، أغلب المزاعم عن عدم الحاجة إلى القيم الشبيهة هي مزاعم طفولية مراهقة في جوهرها، لم تصل حتى لإدراك حدود ما تزعمه، ببساطة لأنها تحصر المعركة في نطاق النتائج وكيفية تحقيقها فقط لا غير، بينما تحتفي -في ذات الوقت- بطريقة احتفال مبتكرة بالهدف مثلا، أو قميص مميز لفريقها المفضل، أو دخلة قوية لجماهير ناديها قبل مباراة ديربي، وكلها أمور أقل تأثيرا بكثير على النتائج من أي شيء آخر قد يحدث داخل الملعب.

    

  

الأهم أنه لو مددنا هذا الخط على استقامته، وافترضنا -كما يقول سقراط- أن النفعية مقدمة على أي شيء آخر فعلا فسنكتشف أن ديفيد سالي وكريس أندرسن مؤلفي كتاب "لعبة الأرقام" قد سبقا الجميع لهذه الفرضية، وبعد أن استخدما الخوارزميات الذكية والتحليل الإحصائي لمئة العام الماضية من كرة القدم الإنجليزية اكتشفا أنه لو أمكن اختصار اللعبة كلها في قاعدة فنية تكتيكية واحدة ناجحة فستكون تلك القائلة بأن الحفاظ على نظافة شباكك أهم بكثير من تسجيل هدف واحد، وطبقا لأبحاثهم فإن هذه هي القاعدة الذهبية في كرة القدم، ورغم ذلك فإن تطبيقها بحذافيرها لن يقودك إلى أي إنجاز فعلي على المدى البعيد أو القصير، فقط سيقودك للبقاء حيا إن جاز التعبير. (10) (11)

  

في بعض الأحيان يكون هذا مهما للغاية، أن تبقى حيا، بل في بعض الأحيان يكون هو أهم شيء على الإطلاق، ولكنه غير محتمل كأسلوب حياة، ولو كان محتملا لما تقدمت البشرية خطوة واحدة عن العصر الحجري، ولكان سقراط يلقي محاضراته واقفا على صخرة في الصحراء بدلا من ساحات الرخام المصقول ذات الأعمدة المزخرفة، بل لما كان سقراط ليلقي محاضراته من الأصل لأنها كانت ستُعدّ رفاهيات لا يحتملها الوضع، وبالقطع لم يكن بيركامب ليفكر في تسجيل هدفه بهذه الطريقة.

  

أما إذا كنت تبحث عن إجابة واضحة شافية فنحن لا نمتلكها للأسف. كل ما نستطيع قوله إننا نثق في أنك ستعرف الجمال حين تراه. طبعا هذه ليست إجابة مقنعة لأنها ليست أكثر من كليشيه مكرر يردده الجميع، ولكن هذا ليس ذنبنا، هذه هي الحقيقة فعلا، وإن لم تكن تدركها فسندعوك لإجراء تجربة أخرى على غرار تجربة ليو؛ فقط استمع لأي مؤتمر صحفي أجراه يورغن كلوب عقب الخسارة من مانشستر يونايتد مورينيو بكرة طويلة في الدقائق الأخيرة، وبكل الصور الذهنية التي تستدعيها هذه التصريحات في هذه المناسبة تحديدا وصولا لارتقاء فيلايني أعلى مدافعي الريدز وتسجيله للهدف، ثم استمع لها مرة أخرى وأنت تشاهد هدف بيركامب. (12) 

المصدر : الجزيرة