شعار قسم ميدان

صعود أياكس وعودة هولندا وآخر ومضات كرويف العبقرية.. أمير الانتقام

ميدان - مدرب أياكس الحالي إريك فان هاغ
15 سبتمبر/أيلول 2010؛ مرت ست سنوات منذ فاز أياكس بآخر لقب للدوري، والليلة هو على موعد مع ريال مدريد في افتتاحية مباريات المجموعة بدوري أبطال أوروبا. الصحافة تتحدث عن "مواجهة بين الأولاد والرجال" وتتوقع مصيبة. أياكس هُزم بهدفين نظيفين في البرنابيو، وهي ليست نتيجة كارثية أبدا بالنظر لمعطيات المباراة، ولكن فريقه لعب كالأولاد فعلا. (1)

  

أغضب المشهد الشخص الوحيد الذي كان ليَغضب حتى لو لم يغضب غيره. قام كرويف إلى مكتبه وبدأ في كتابة عموده الذي سيُنشر صباح اليوم التالي في دي تليغراف الهولندية: "هذا لم يعد أياكس"، "هذا الفريق أسوأ حتى من الحطام الذي وجده ميتشلز عندما حضر في الستينيات". عبارات قوية للغاية أدهشت الجميع تقريبا، خاصة بالنسبة لفريق كان الكل يتوقع اهتزاز شباكه بعدد أكبر من الأهداف، وكأن كرويف قد انقطع عن مشاهدة أياكس في السنوات الست الماضية ثم قرر العودة في هذه الليلة بالتحديد.

        

  

الجميع في هولندا كان قد اعتاد الرقم 14 بنوبات غضبه المفاجئة ومزاجيته الحادة، والأهم؛ الجميع كان يعلم أن كرويف يشعر بالمرارة بعد أن قام روسيل بإقصائه من برشلونة، وبعد أن عاد لهولندا ليكتشف أن نادي عمره صار يتحكم فيه مجموعة من "الحُلات" (Suits) كما يسميهم، وهذه الحُلات قد عملت على تهميش دوره هناك بالتبعية. كرويف كان يمتلك الكثير من وقت الفراغ وبلا شيء ليخسره تقريبا، وهذه هي أخطر نسخة من كرويف على الإطلاق. (5)

  

بطريقة ما تجمعت الظروف لتضعه أمام إحساسه المعتاد بالمسؤولية، خاصة أن الخسارة المهينة من وجهة نظره كانت أمام ريال مدريد بالتحديد دونا عن باقي أندية أوروبا، ومورينيو بالتحديد دونا عن باقي مدربي أوروبا، ورغم أن الجميع كان يظنها نوبة غضب عابرة فإن القليلين فقط كانوا يعلمون أنه على وشك التصرف إزاء الأمر. في الكواليس لم يكن الرقم 14 مهتما بأصداء مقاله بقدر ما كان منهمكا في جمع فريق العمل الذي سيقود المرحلة القادمة في أياكس؛ تلك التي عُرفت لاحقا بـ"الثورة المخملية" (The Velvet Revolution) نسبة إلى ثورة التشيكيين السلمية على النظام الشيوعي في الثمانينيات، فقط ثورة كرويف لم تكن بهذه النعومة. (6) (7)

  

الشعب يريد

بدأت ملامح الفريق تتكوّن شيئا فشيئا؛ قادة الحرب هم ويم يونك ودينيس بيركامب، والعضوية تضم فرانك دي بور مدرب أياكس وقتها الذي خسر للتو أمام ريال مدريد، ونسخة شابة لم تقتحم عالم التدريب بعد من ماركو فان باستن، وروبرت يونكيند. من فضلك تذكّر الاسمين الأول والأخير جيدا لأن دورهما هو الأكبر في هذه القصة رغم كونهما الأقل شهرة. (12) (13)

      

فرانك دي بور مدرب أياكس وقتها (رويترز)
فرانك دي بور مدرب أياكس وقتها (رويترز)

    

بعدها أعلن كرويف الحرب على مجلس إدارة أياكس في الإعلام طالبا الدعم من جمهور الفريق، وبينما كان دي بور يفوز بالمباريات تباعا ويتصدر الدوري لأول مرة منذ زمن، كانت المدرجات تهتف مساندة للرقم 14 الأسطوري: "قف إن كنت تساند كرويفي"، هكذا كانوا يصرخون حينما يدخل فريق دي بور في نوبة من التمريرات العرضية المملة في نصف ملعب الخصم انتظارا لثغرة أو تمريرة سحرية من إيريكسين تُنهي كل شيء. (1)

  

بطريقة ما حصل كرويف على مقعده على طاولة اجتماعات المجلس وبدأ في الاعتراض والتعديل على الفور. المعركة الأولى انتهت بفوز ساحق وهذا أخاف الحُلات بشدة، لذا لجأوا إلى حيلة قانونية لتعيين لويس فان خال مديرا تقنيا للنادي. لماذا فان خال؟ نسينا أن نخبرك أن كرويف وفان خال كالزيت والماء لا ينسجمان، ومع الزمن تطور الأمر لكراهية متبادلة رغم أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما بكثير، حتى تحوّل الأمر في هولندا إلى ما يشبه المينوتيزم والبيلارديزم في الأرجنتين، نسبة للمدربين اللذين فازا بالمونديال مع السيليستي بفلسفات تكتيكية متناقضة تماما، لويس سيزار مينوتي في 1978 مستوحيا كرة الهولنديين الشاملة من 1974، وكارلوس بيلاردو في 1986، والذي كان يعتبر نفسه النسخة الجديدة من هيلينيو هيريرا الأب الروحي للكاتيناتشو. الفارق الوحيد هنا أن رومانسية كرويف وبراغماتية فان خال بقيا تحت المظلة الكبيرة للـ"توتال فوتبول". (8) (9)

      

  

الأمر له عدة تفسيرات؛ أولها هو القصة المتداولة عن عشاء كريسماس حضره فان خال في منزل كرويف ببرشلونة، ثم تلقى أثناءه مكالمة هاتفية تفيد بوفاة أحد أقاربه في هولندا، فغادر على الفور دون استئذان، وهو ما اعتبره كرويف من قبيل الوقاحة ولم يغفره من حينها. هذه هي القصة المختلقة، الحقيقة هي أن الثنائي أقرب للأقطاب المتشابهة التي تتنافر فيزيائيا حتى ولو لم تجلس على طاولة عشاء واحدة، كلٌّ منهما ينظر لنفسه بكثير من التقدير ويعتبر أفكاره جزءا من "الطريقة الصحيحة" للعب كرة القدم، كلٌّ منهما يتحدث عن "الفلسفة" أغلب الوقت ويمتلك جمهوره الوفي بين الهولنديين، وهذا هو ما جعل اختلافاتهم التكتيكية في الملعب تنال حجما أكبر مما تستحقه. (1) (10)

  

المهم أن المعركة الثانية انتهت بفوز فريق كرويف أيضا، والحيلة القانونية لم تصمد في المحاكم لأنها تمت بدون علمه رغم كونه أحد أعضاء المجلس، وحينها لم يكتفِ الجمهور بإقالة فان خال وحسب، بل إن اكتشاف الخدعة أدّى إلى موجات عارمة من الغضب انتهت باستقالة مجلس الإدارة برمته.

  

حُلات وقمصان

في مقابلة لاحقة مع سكاي، يحكي روبن يونكيند عن لقائه الأول بكرويف أثناء الإعداد لمشروع أياكس الجديد: "لن أنسى التعبير الذي ارتسم على وجهه عندما سألته عن الملف الذي يحتوي على ملاحظاته. نظر لي قائلا: أي ملاحظات؟ أنا لا أكتب الملاحظات، أنا أراقب، أنا أجمع المعلومات، ثم أتصرف، وإن أردت معرفة أي شيء ما عليك إلا أن تسألني". لذا كان يونكيند هو من يحتفظ بدفاتر ضخمة من الملاحظات، كلها قد تم تسويدها من رأس كرويف مباشرة. (11)  

      

يوهان كرويف (رويترز)
يوهان كرويف (رويترز)

        

خطة عمل كرويف كانت تقوم على عدة محاور رئيسية وصولا لأدق التفاصيل، وكأنه قد قام بالأمر كله من قبل، ببساطة لأنه قام بالأمر كله من قبل فعلا في برشلونة وأياكس نفسه؛ المحور الأول هو تعيين أكبر كم ممكن من اللاعبين السابقين للنادي أصحاب الكفاءات في كل المناصب، وهو أمر كان يشوبه قدر من المحسوبية وسوء التقدير أيضا. الثاني هو إعادة تشكيل الأكاديمية بناء على حقيقة واحدة؛ هي أن الفريق الوحيد الذي يحتاج إلى الفوز بمبارياته هو الفريق الأول، وباقي المراحل السنية عليها أن تخدم هذا الغرض، عليها أن تتحرر من ضغوط الفوز وتولي اهتماما أكبر لتطوير الأفراد كرياضيين أولا وكلاعبي كرة قدم ثانيا. الثالث كان إجبار مديري النادي الرياضيين على تعويض النجوم الراحلين بلاعبين من الأكاديمية، وإن فشلوا فسيخبرنا فشلهم بما نحتاج للعمل عليه والعكس بالعكس.

  

كل هذا رائع، ولكن كانت هناك أسئلة محددة كانت بحاجة إلى إجابات محددة؛ ما مهمة هذا المشروع؟ ما أسلوب لعبه؟ كيف يلعب أياكس بعشرة لاعبين؟ كيف يلعب أياكس أمام عشرة لاعبين؟ كيف يواجه خطط اللعب المضادة مثل 4-4-2؟ كيف يواجه الفرق التي تركن الباص؟ كيف سيتم تقسيم لاعبي الأكاديمية عمريا؟

        

   

أولا بدأ توحيد أسلوب اللعب عبر كل الفئات السنية للأكاديمية، قبل ذلك كانت كل فئة تتدرب على جزيرة منعزلة بلا رابط يُذكر للمرحلة التالية أو السابقة، وبهدف وحيد هو تحقيق الفوز لكي يحتفظ مدربها بوظيفته لأطول وقت ممكن، ثم بعد فترة من الزمن تم إعادة تقسيم الناشئين إلى مجموعات فردية لا فرق كرة قدم، بمعنى أن كل مدرب صار يتولى مجموعة أفراد من أعمار متقاربة لمدة ثمانية أسابيع. مثلا إن كان يعمل مع فريق تحت 10 أعوام، فالآن صار يعمل مع ثلاثة من فريق تحت 10، واثنين من فريق تحت 11، وخمسة من فريق تحت 12، وهكذا، ووظيفته الأساسية هي تطوير مستواهم والتأكد من تبادل الخبرات عبر الأجيال المختلفة، وبعد انقضاء الفترة ينتقلون لمدرب آخر ويتولى هو مجموعة أخرى، والهدف هو أن يحصلوا على أفضل ما يملكه كل مدرب. (11)

  

بهذه الطريقة تضمن أن يتعرض اللاعبون لأكبر كم ممكن من التأثيرات الإيجابية المختلفة عسى أن يساعد ذلك على استكشاف كل قدراتهم، وفي الوقت ذاته يساعد التغيير الدائم للمدربين كرويف وفريقه على تحديد مكامن الضعف، وما إذا كانت المشكلة التي تعاني منها هذه المجموعة سببها اللاعبون أم مدربهم. على سبيل المثال، إن كان المدرب مهاجما سابقا فسينظر لهم بطريقة معينة، إن لم يكن متمرسا في التواصل الإنساني مع المراهقين فستقع المشاكل حتما. أحد مدربي الأكاديمية مثلا، بريان تيفردين، كان يجيد استطلاع مستقبل هؤلاء الشباب وقابليتهم للتحول إلى نجوم من عدمها، بالإضافة إلى قدرته على تفهم خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، بالتالي حتى هؤلاء الذين عانوا مع غيره كانوا يتوهجون بشدة تحت قيادته.

  

الـ"فلسفة"

undefined

  

فلسفة المشروع كانت كأي فلسفة، بسيطة في مفهومها، بالغة الصعوبة في تطبيقها. كرويف كان يؤمن أن عجلة المال قد دارت ولا سبيل لإيقافها، وأياكس لم ولن يكون مؤهلا لمجاراة كبار أوروبا بأي شكل من الأشكال، والحل الوحيد المتبقي كان العمل بذكاء والاعتماد على ما اعتاد أياكس الاعتماد عليه طوال تاريخه؛ لاعبي الأكاديمية. 

  

بوضع احتياجات الأفراد -لا الفِرق- في قلب مشروعه، بدأت التقنيات تتضح شيئا فشيئا، وحينها أصبح المدربون مطالبين بأكثر من مجرد تدريبات على ملعب كرة قدم، صار عليهم أن يتابعوا الأولاد في منازلهم ويتحدثوا مع ذويهم ويعقدوا الاجتماعات مع مدرسيهم ليبقوا مطلعين على كل ما يخصهم، ثم بدأ انتداب مدربين محترفين من رياضات أخرى كالجودو وألعاب القوى وحتى كرة القدم الأميركية، لأن تدريب باقي عضلات الجسد قلل معدلات الإصابة بأربع مرات، وممارسة كرة السلة منحت اللاعبين قدرة أفضل على التوازن الجسدي، باختصار، حتى سن 12 عاما كان ما يقرب من نصف التدريب الذي يتلقاه اللاعبون لا علاقة له مباشرة بكرة القدم.

  

رغم التأفف والاستغراب والهمسات الغاضبة والاتهامات بالجنون بين الحُلات وفي أروقة النادي فإن كرويف قد استمر في مشروعه، وبطريقة ما حصل على التمويل الكافي لبناء مدرسة داخل حرم الأكاديمية، لأنه اكتشف أن العديد من المراهقين سيحبون الفيزياء إن كانت تُشرح من خلال كرة القدم، وأكثر منهم سيقع في غرام الإنجليزية إن كان يقرأ تقريرا تحليليا لمباراة تشيلسي وتوتنهام الماضية، وكل ذلك اختصر الكثير من الوقت على اللاعبين الشباب، وأتاح مزيدا من الوقت لتدريبات كرة القدم بالتبعية. (11)

      

   

لم تعد الأكاديمية تتكوّن من 13 فريقا، بل من 250 فردا مستقلا، وكل واحد منهم يمتلك خطة تطوير كاملة على المستوى الدراسي والإنساني والرياضي، والنتيجة؛ لاعبون يعيشون لأجل كرة القدم ويتنفسونها يوميا في كل ما يفعلونه، كرة القدم الشاملة كما ترويها الحكايات الرومانسية عسيرة التصديق.

   

يقول يونكيند: "بعد أربع أو خمس سنوات من العمل كدنا نرى المستقبل الرائع بأعيننا وكنا متيقنين من تحقيقه، شاهدنا الإمكانيات الباهرة لمن هم أقل من 19 عاما واندهشنا، فريق تحت 17 كان قادرا على هزيمة منافسين أكبر من 25 عاما. هذا هو كرويف، هذا هو ما حدث عندما أعاد تشكيل أكاديمية أياكس في الثمانينيات، بعدها بسبعة أعوام كانوا يفوزون ببطولة أوروبا بمجموعة يافعة من اللاعبين، الأمر نفسه حدث في برشلونة، ورغم ذلك قليلون فقط من يلاحظون النمط المتكرر، وأقل منهم يعترفون بفضله في الأمر؛ الرجل يذهب إلى مكان ما ثم يغير بضعة أشياء في الأكاديمية وبعدها بخمس إلى عشر سنوات يحدث النجاح، لا يمكن أن يكون كل هذا مصادفة".

   

طبعا لا بد أنك قد لاحظت صيغة الماضي ونبرة الحسرة في الفقرة السابقة على لسان يونكيند، والتي تشي بأن ما كان على وشك الحدوث لم يحدث، ويؤسفنا أن نخبرك أن هذا حقيقي فعلا؛ في 2015 عاود السرطان كرويف وأصبح يصارع لأجل حياته، وفقد تلاميذه المخلصون الحماية التي كان يكفلها لهم في غرف صناعة القرار، وبدأت الحُلات في الانقضاض على المشهد مجددا بمساعدة دي بور الذي اتضح في النهاية أنه كان أكثر إخلاصا لمعسكر فان خال.

   

معسكر فان خال لا يؤمن بكل هذا الهراء عن تطوير الأفراد. في الواقع، أكبر خلافاته مع كرويف كانت تدور حول هذه الثنائية؛ الفرد في مواجهة المجموعة، تطوير الفريق بدلا من تطوير اللاعب، وما منح وجهة النظر تلك أقوى أرضية ممكنة وقتها كان وصول فان خال بمنتخب هولندي متواضع إلى نصف نهائي المونديال الذي توقع الجميع أنهم لن يتجاوزوا دور مجموعاته، وتمكنه من سحق بطل العالم ونسخته الخاصة جدا من الكرة الشاملة بخمسة أهداف نظيفة اعتمدت على المرتدات السريعة، في انقلاب على تاريخ هولندا الكروي والتكتيكي أظهر من خلاله فان خال أن براغماتيته لا تعرف الحدود ولا تأبه بالمقدسات، وكأن الفوز المدوي كان في جوهره اعترافا صريحا بهزيمة الهولنديين في لعبتهم، وإعلانا ضمنيا بالاستسلام للواقع الجديد، والحقيقة أن قليلين فقط يمكنهم لومه.

  

"كرويف كان يحمينا، وبمجرد مرضه أيقنّا أن كل شيء قد انتهى"

(روبن يونكيند في حوار مع سكاي، أغسطس/آب 2017)

        

  

هذا ليس فيلم نينجا صينيا من التسعينيات، بل نادي أياكس لكرة القدم. المهم أن خطط التطوير استقرت في سلال القمامة بأسرع مما قد تتخيل، وفي ديسمبر/كانون الأول 2015 كان يونك يعلن استقالته من منصبه بسبب "خلافات غير قابلة للحل"، ثم تبعه كرويف و14 آخرون من ضمنهم يونكيند، وطبعا لم يكن أي منـ.. لحظة.. شاهدنا الإمكانيات الرائعة لمن هم أقل من 19 عاما واندهشنا؟ وفريق تحت 17 كان قادرا على هزيمة منافسين أكبر من 25 عاما؟ ألا يبدو هذا مألوفا؟

  

أمير الانتقام

رحل دي بور بانقضاء موسم 2015-2016 بعد أن فضّل الصمت أثناء هدم مشروع تطوير الناشئين، ولكن كرويف كان قد زرع بعض التلاميذ المخلصين في عدة أماكن ولم تتمكن الحُلات من إزالتهم، أبرزهم أوفرمارس مدير الكرة الحالي، والذي أتى ببيتر بوش إن كنت لا تزال تتذكره، وبيتر بوش اختار تلميذا مخلصا آخر هو دينيس بيركامب في جهازه المساعد، وبدا الأمر كبداية رحلة لتصحيح أخطاء الفترة الماضية.

  

عبر الموسمين التاليين سيقوم بوش وخلفه إيريك تين هاغ -المدرب الحالي- بتحقيق أقصى استفادة ممكنة من فريق تحت 19 الذي أدهش يونكيند قبل أن يرحل وفريق تحت 17 الذي كان قادرا على هزيمة منافسين أكبر من 25 عاما، وبدعم كامل من أوفرمارس الذي التزم بتعليمات كرويف فيما يخص تعويض الراحلين؛ سيليسين سينتقل لبرشلونة وسيحل مكانه أندري أونانا حارس فريق تحت 19، كلاسين إلى إيفرتون وسيصعد دوني فان دي بيك للفريق الأول، بازوير إلى المجهول وفرنكي دي يونغ إلى الأضواء، هيتينغا إلى الدكة ودي ليخت إلى الملعب، فيلتمان لإصابة طويلة ونصير مزروعي لفرصة محتملة، ميليك وفيشر نحو تجارب جديدة، وعبد الحق نوري وكاسبر دولبرغ وجاستن كلويفرت نحو مباراتهم الأولى. (14) (15) (16) (17) (18)

           

إيريك تين هاغ وبيتر بوش (رويترز)
إيريك تين هاغ وبيتر بوش (رويترز)

         

مع بعض الإضافات الخارجية مثل دافينسون سانشيز وديفيد نيريز وحكيم زياش نفسه، ومجموعة من المخضرمين في لاس شون وهونتلار وتاديتش، تكوّن الفريق الحالي الذي تمكن من حصد 12 نقطة في دور المجموعات لدوري الأبطال هذا الموسم، بعد ثلاثة انتصارات أمام أيك أثينا في المباراتين وبنفيكا في الأياكس أرينا، وثلاثة تعادلات مع بايرن ميونيخ ذهابا وإيابا وبنفيكا في البرتغال، قبل أن يتلقى خسارته الأولى على أرضه أمام حامل اللقب في الجولة التالية، ثم ينتقم في البرنابيو برباعية تاريخية نسفت ما تبقى من موسم ريال مدريد الحالي وتسببت في عدة زلازل بالعاصمة الإسبانية، ذات ريال مدريد الذي أشعل حماس كرويف ليكتب مقاله الشهير في دي تليغراف ويطلق مشروعه في المقام الأول. اسمح لنا أن نسحب ما قلناه سابقا، هذا فيلم نينيجا صيني من التسعينيات فعلا. (18)

     

حتى فان خال اعترف بجودة الفريق الحالي لأياكس، وشبهه بفريقه التاريخي بطل أوروبا 1995، وحتى دي بور صار يتوقع مستقبلا أفضل للكرة الهولندية بالمواهب الحالية، أما يونك ويونكيند فقد انتقلا للمرحلة التالية من حياتهما؛ انضما إلى فريق "كرة كرويف" (Cruyff Football) الذي يهدف لنشر أفكار الأسطورة الراحلة حول العالم، وتطوير المواهب الشابة وكوادر التدريب. يقول يونكيند إن آخر مرة هاتف فيها كرويف كانت قبل وفاته بأسبوعين، وحينها أخبره بأن عليه أن يحزم أمتعته ويذهب إلى الصين. هذه ليست مزحة ولا تتمة لجزء ثانٍ قريب من فيلم النينجا؛ كرويف كان يرى الصين صفحة بيضاء تنتظر التسويد، وطالب يونكيند بأن يتأكد أن الصينيين لن يقعوا في الأخطاء نفسها عندما يطلقون مشروعهم الكروي. (19) (20)

    

أورانجي جميل إلى حد ما

ثورة كرويف لم تصل كاملة للمنتخب بعد رغم أنها أوشكت على ذلك؛ قريبا سيمتلك برشلونة لاعبين هولنديين في صفوفه، وربما ثلاثة إذا صحت الأخبار الأخيرة عن نية بارتوميو انتداب دي ليخت، وقد يرحل أونانا والمزروعي لمستويات أعلى من المنافسة بعد عروضهما الرائعة الأخيرة، ولا شيء يمنع فان دي بيك وكلويفرت من مزيد من النضج واكتساب الخبرات وربما الانضمام للمنتخب قريبا، ومع عناصر أخرى جمعتها المصادفة السعيدة مثل فان دايك وفينالدوم وديباي قد يصبح أي شيء ممكنا كما أظهر دوري الأمم الأوروبية الأخير. (21) (22) (23)

       

المنتخب الحالي لا يقدم الطراز الكرويفي من كرة القدم أبدا، ومبارياته أمام ألمانيا وفرنسا في دوري الأمم الأوروبية خير دليل على ذلك
المنتخب الحالي لا يقدم الطراز الكرويفي من كرة القدم أبدا، ومبارياته أمام ألمانيا وفرنسا في دوري الأمم الأوروبية خير دليل على ذلك
      

"ربما" و"قد" و"لعل" هي ألفاظ توحي بالأمل، وهو حق مشروع تماما بعد أن ظهر نجاح أفكار كرويف في بعض المتخرجين من أكاديمية أياكس، وبعد أن تأكد أوفرمارس وبوش وتين هاغ من استغلالهم لتكوين فريق تنافسي يستحق المشاهدة ولا يلعب كالأولاد. نجاح نسبي ضئيل إذا ما قارنته بما أنجزته بلجيكا وإسبانيا وألمانيا في هذا الصدد، ولكنه أثبت للمرة الألف أن نظرية الرجل صالحة للتطبيق، وأن الأحلام الرومانسية المثالية ليست تهمة، ولن تكون كذلك طالما صاحبها عمل جاد طموح، ولن نعتذر عن الكليشيه المكرر هذه المرة، لأنه رغم كونه لا يضمن النجاح أبدا كما يثبت الواقع يوميا، فإنه يظل قادرا على إغرائنا بالمحاولة من آن لآخر. يمكنك أن تسأل ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا أنفسهم لتتأكد.

    

المنتخب الحالي لا يقدم الطراز الكرويفي من كرة القدم أبدا، ومبارياته أمام ألمانيا وفرنسا في دوري الأمم الأوروبية خير دليل على ذلك. هذه هي ضريبة انتداب عقل براغماتي آخر مثل كومان في لحظة مأزومة من مسيرته التدريبية، يسعى من خلالها لاستعادة مكانته السابقة وتحقيق النجاحات السريعة للعودة للبريميرليغ. ربما لو كان مشروع كرويف قد استمر لفترة أطول لتمكّنّا من توقع الكل من الجزء، ولقلنا إنها مسألة وقت لا أكثر حتى يعود أياكس للسيطرة على الأورانجي وتمثيل هويته الكروية، ولكن هذا لم يحدث للأسف. الشيء الوحيد الذي لن نشاهده من فيلم النينجا الصيني هو نهايته السعيدة. (24)

      

    

الآن تطلق عليه الصحف مشروع الـ400 مليون يورو، وهو، كما توقعت بالضبط، يقوم على بيع المواهب الحالية مثل دي ليخت ودي يونغ ونيريز وزياش وتاليافيكو وفان دي بيك إلى كبار أوروبا بأسعار ضخمة. (25) في العامين الماضيين استعادت منتجات الدوري الهولندي جزءا من سمعتها السابقة، ولكن لا أحد يعلم إلى أين سيتجه أياكس بعدها، وجود أوفرمارس قد يضمن مستوى معينا من الكفاءة في التعاقدات الجديدة مع اللاعبين والمدربين، ولكن في غياب يونكيند ويونك وحملة إرث كرويف لا يبدو أن فريقا تحت 19 سيدهش مجددا، أو أن فريقا تحت 17 سيتمكن من هزيمة منافسين أكبر من 25 عاما، فقط يبدو أن كل ما حصلت عليه هولندا هو ومضة سريعة أخيرة من عبقرية الرقم الأعظم في تاريخها.

المصدر : الجزيرة