شعار قسم ميدان

زيدان بين الحقيقة والأسطورة.. هل تجعلك ثلاثة ألقاب لدوري الأبطال مدربا جيدا؟

ميدان - زيدان وكأس أبطال أوروبا

العنوان مستفز طبعا، نعترف بذلك، ولكن قبل أن تتهمنا بأي شيء سنطلب منك أن تُجري تجربة بسيطة؛ ابحث على الشبكة عن أي تحليل معتبر لمسيرة زين الدين زيدان مع ريال مدريد لم يطرح السؤال ذاته، حتى وإن كان بغرض تفنيده. على الأغلب لن تجده لأننا سبقناك، بل في الواقع ستندهش من الاستمرار في طرح السؤال مجددا بعد كل إنجاز للرجل وكأنه أصبح من لوازمه الشخصية، والآن بعد بداية عصيبة للموسم خفف أثرها زلزال مشابه في كتالونيا، عادت الأسئلة ذاتها للطفو على السطح مجددا، وعادت التحليلات ذات العناوين المثيرة، التحليلات التي تعدك بشرح كل شيء وتزعم أنها تعلم أسباب نجاح زيدان أو فشله، والتي تدرك أنها لن تقدم لك الكثير بمجرد قراءة سطورها الأولى، مجرد طريقة أخرى مبتكرة لسرد ما تعرفه بالفعل.

   

المربع رقم 1

ربما لذلك سيتعيّن عليك أن تُجري تلك التجربة فعلا. نحن لا نمزح؛ فلندع الانحيازات جانبا ولنتخيّل أنك مشجع حديث الاهتمام باللعبة بلا قناعات سابقة ولا يدور برأسك مصطلحات معقدة مثل الفلسفة التدريبية أو الأسلوب الخططي وغيرها، فقط أنت تريد أن تعرف كيف يفوز ريال مدريد مع زيدان، كيف حقق الرجل إنجازا لن يتكرر في المستقبل القريب، بل قد لا يتكرر أبدا.

  

غالبا سيكون أول ما يقابلك هو تحليل آدم بايت في سكاي بعنوان "ريال مدريد وفلسفة الفوز التي لا يتم تقديرها بما يكفي" (Real Madrid and the underrated Philosophy of Winning). تلك كانت محاولة صادقة من المحلل الإنجليزي للتعرف على سبب وصول الميرينغي مع زيزو للنهائي الثاني تواليا. كتبها قبل مباراة كارديف بأيام وتحدث فيها عن فلسفة النادي بشكل عام محللا الوضع إلى عدة عناصر؛ أهمها هو هوس فلورنتينو بيريز بالنجاح الساحق المستمر، وقسوته البالغة في عقاب أي نتيجة غيره حتى لو كانت بإقصاء مدرب يحظى بحب واحترام غرفة ملابس النادي القاسية بدورها، والذي يترجمه الرجل لطريقة عمل بسيطة تُعبّر عن رؤيته للعبة؛ تعاقدات مكوكية تأتي بلاعبين مهرة يستطيعون الفوز بأغلب المباريات دون عناء، والأمر كله يعتمد على بضع معادلات حسابية بسيطة. (1)

     

  

على سبيل المثال الرجل يعتقد أن ما يميز هؤلاء اللاعبين أن كلًّا منهم يستطيع الإتيان بعدة لقطات استثنائية خلال الموسم الواحد، وأنه بامتلاكه لعدد كبير منهم يستطيع زيادة عدد هذه اللقطات خلال الموسم ومن ثم الانتصار في أغلب المباريات. المعادلة الثانية تتجسد في كونه قد أدرك منذ زمن بعيد أن اللاعبين هم أهم رأس مال في اللعبة، وهم الأجدر بالاستثمار من أي عنصر آخر. عندما يمر أي فريق بفترة سيئة فإن الجميع يفكر في إقالة المدرب ببساطة لأن هذا أسهل بكثير وأكثر فعالية من إقالة الفريق.

   

ما يعتقده بايت أن هذه الفلسفة قد انتقلت لباقي عناصر النادي في فترة زيدان، وبسبب زيدان، وأنها شكّلت نوعا من الوحدة في صفوفه ساعدته على تحقيق هذه الألقاب أكثر من أي شيء آخر، أكثر من العناصر المعتادة التي يسوّقها المحللون لتفسير نجاح فريق ما أو فشل آخر. الجميع في مدريد لا يرى خيارا سوى الفوز المستمر بمن فيهم الجمهور. يحصلون على العاشرة مع أنشيلوتي فيبدأ الحديث عن الحادية عشرة، ثم يحققونها فيطمحون في الثانية عشرة، وما توقّعه بايت أن ينتقل الجميع في مدريد للحديث عن الثالثة عشرة إن فازوا في كارديف، وهو ما حدث فعلا.

  

هل اقتنعت؟ بالطبع لا، لأنه حتى لو سلّمنا بكل ما ورد في تحليل بايت فإنه لم يشرح بعد كيف فعل زيدان ما فعله. ما زلنا لا نفهم كيف حدث ما حدث وبالتالي لم نفهم لماذا يحدث ما يحدث الآن. بيريز قد يكون أعظم رئيس نادٍ في تاريخ كرة القدم أو لا، ولاعبو ريال مدريد ومدربهم قد يكونون أفضل مَن مرّ على اللعبة أو لا، ولكن هذا لا يُفسّر الفوز بثلاثة ألقاب متتالية لدوري الأبطال. بايت منحنا نظرة قريبة لطريقة عمل بيريز كرئيس نادٍ ولكنه لم يُخبرنا كيف تحوّلت إلى طريقة عمل الجميع في النادي.

  

النظرية
المدرب زين الدين زيدان (الجزيرة)
المدرب زين الدين زيدان (الجزيرة)

   

هذه هي المشكلة؛ أن أغلب المحاولات لتحليل ما حدث إما تنتهي بالإشارة إلى عناصر مبهمة أو عناصر ليست لها علاقة كبيرة بعمل زيدان نفسه. آدم بايت بدأ تحليله ليمنحنا بضع إجابات ولكنه أنهاه وهو يمنحنا المزيد من الأسئلة. كل التحليلات الباقية تقريبا تشترك في أمر واحد هو الحديث عن إمكانيات زيدان الاجتماعية وقدراته الاستثنائية على التعامل مع غرفة خلع الملابس، وفي هذه العبارة تحديدا تكمن معضلة تقييم زيدان كمدرب، بل ربما معضلة تقييم أي مدرب في العموم.

  

زيدان امتلك هذه القدرة فعلا في فترته الأولى مع ريال مدريد، هذا أمر مفروغ منه. السؤال هو؛ هل هي بهذه الأهمية وهذا التأثير؟ هل تكفي للحصول على ثلاثة ألقاب متتالية؟ هنا نجد أنفسنا أمام إجابتين متناقضتين؛ واحدة يقدمها بعض المدربين الذين يتحدّثون عن الجوانب الاجتماعية في علاقة المدير الفني مع لاعبيه، مثل نيغلزمان الذي أكّد في 2015 أن التكتيك لا يتجاوز 30% من عمل المدرب بأي حال من الأحوال، وأن الباقي متوقف على شخصيته ومهاراته في التواصل. (2)

    

  

طبعا يمكنك أن تتفهّم لماذا لا يبدو هذا كافيا للكثيرين حتى وإن أثبت نجاحه، ببساطة لأنها المساحة التي يختلط فيها العلم بالخرافة في اللعبة، المساحة الواقعة بين الشك واليقين، بين ما يمكن قياسه وما ليس كذلك. تخيل نفسك صاحب عمل وتخوض مقابلة مع أحد المتقدمين لوظيفة ما، وتخيل رد فعلك لو كان الرجل يتمتع بمهارات اجتماعية رائعة ولكنه لا يملك شهادة ما تُثبت قدرته على أداء العمل، ليس هناك دليل واحد على أنه سيقوم بوظيفته بحدٍّ أدنى من الكفاءة تحت ظروف مختلفة.

  

هذا التناقض الأزلي بين عنصرين مهمين من عناصر كفاءة المدرب هو ما يخلق هذا الصراع الدائم. مهارات زيدان الاجتماعية ليست كافية لإثارة إعجاب محللين من طراز جوناثان ويلسون وثور هوغشتاد وغيرهم، وهذا لا يعني أنهم يرونها خرافة أو لا يعترفون بقدراته في هذا الصدد، فقط هم يؤمنون أن نجاحا كهذا يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، يحتاج إلى نظرية ملموسة قابلة للقياس والتكرار كأي تجربة علمية. (3) (4)

  

مشكلة زيدان أنه حقق أكبر نجاح ممكن من دون نظرية واحدة، من دون أن ينجح أيٌّ منهم في اكتشاف سره الحقيقي. ربما كان ليصبح الأمر مقبولا لو كان قد اكتفى باللقب الأول أو حتى ما تلاه مباشرة، ولكن ثلاثة ألقاب تُثير غضبهم طبعا ولا يمكنك أن تلومهم. في الواقع هي تُثير غضب الكثيرين لأن حاجتنا إلى الفهم واليقين قديمة قِدم البشرية ذاتها، وحقبة زيدان في مدريد ليست إلا دليلا ضخما على أن أي شيء قابل للحدوث، بلا منطق وبلا حسابات ودون الحاجة إلى أي خبرة تُذكر وعلى عكس كل المؤشرات. نجاح زيدان وضعهم في أزمة هوية لأنه أثبت أن النجاح قد لا يحتاج إلى نظام ما، وأن الفوضى قد تُحقق نتائج أفضل في بعض الأحيان.

    

لا أحد يعتبر الإيطالي أنشيلوتي أو الإنجليزي بوب بيزلي من أعظم مدربي اللعبة رغم نجاحهم المدوي بلغة النتائج، ومن النادر جدا أن تجد مَن يصفهم بالعبقرية رغم صعوبة الإنجاز
لا أحد يعتبر الإيطالي أنشيلوتي أو الإنجليزي بوب بيزلي من أعظم مدربي اللعبة رغم نجاحهم المدوي بلغة النتائج، ومن النادر جدا أن تجد مَن يصفهم بالعبقرية رغم صعوبة الإنجاز
   
ربنا يولي من يصلح

المنطقي الآن أن نبدأ في البحث عن حل وسط بين هذا وذاك، ولكن إن كان هناك مَن عثر عليه فهو سِد لو؛ الرجل الذي يمتلك القليل من كل شيء ولعل هذا هو ما مَكّنه من أن يكون حلقة الوصل بين المعسكرين. سِد لو يفهم من أين يأتي هذا التناقض الفج بين أساليب زيدان ونجاحاته الفعلية، ويفهم لماذا يصعب على الكثيرين هضم هذه النجاحات. (5)

  

في مقال عبر "ESPN" قبل نهائي كييف توقع سِد لو أن يفوز زيدان مع ريال مدريد باللقب الثالث على التوالي لينضم إلى قائمة قصيرة للغاية في تاريخ اللعبة تشمله مع اسمين آخرين فقط فازا بالبطولة ثلاث مرات منذ نشأتها؛ كارلو أنشيلوتّي وبوب بيزلي. وفي هذين الاسمين تحديدا تقع الإجابة من وجهة نظره.

    

  

لا أحد يعتبر الإيطالي أو الإنجليزي من أعظم مدربي اللعبة رغم نجاحهم المدوي بلغة النتائج، ومن النادر جدا أن تجد مَن يصفهم بالعبقرية رغم صعوبة الإنجاز. بوب بيزلي تحديدا كان يُمدح بأي شيء غير قدراته التكتيكية والخططية، وأنشيلوتّي يُمثّل درجة أقل من التطرف في هذا الصدد؛ الجميع يعلم أنه مدرب جيد وأنه قادر على بناء فريق قوي، ولكن الجميع يعلم أن نجاحاته الأكبر كانت في إدارة غرف ملابس مدججة بالنجوم المغرورين والطموحات الشخصية، وأن مهمته الأصعب في ميلان وريال مدريد كانت في إبقائها هادئة وإخماد الحرائق المتوقعة بين النجوم. هذا هو الأمر ببساطة، الرجل لم يحتج إلى الابتكار والاختراع لأن تلك كانت وظيفة اللاعبين.

  

سِد لو يرى أن هذه هي مشكلة زيدان مع الكثير من المحللين أيضا؛ أن الحديث عن شخصية المدرب و"الكاريزما" الخاصة به هو ما يُقال عندما لا يكون هناك الكثير ليُقال، بالضبط مثل الحال عندما يفوز أي فريق بأداء سيئ فيتمحور الحديث عن أمور مبهمة مثل شخصية البطل وروح المجموعة، وكأنها حيلة لمواساة الفريق الخاسر أكثر منها محاولة لتهنئة الفائز، أو محاولة عبثية للبحث عن منطق ما في نتيجة غير منطقية. هذا لا يعني أنه ليس هناك ما يمكن تسميته بشخصية البطل أو روح المجموعة، بل بالعكس هي مفاهيم مهمة للغاية وضرورية لنجاح أي فريق. ضرورية ولكنها ليست كافية ولا تُقدِّم تفسيرا مُرضيا.

  

مع الوقت أصبحت تلك التعبيرات مرادفا للعشوائية وعدم الاستحقاق، والحقيقة أن كل مَن أدلوا بدلوهم في الأمر لم يستطيعوا تجنّب هذه المساحة، وأكّد أغلبهم أن زيدان كان محظوظا في عدة لقطات محورية في البطولات الثلاث، تدخّلت فيها عناصر خارجية لصالح فريقه حتى عندما كان في أفضل مستوياته، وفي الوقت نفسه لم يُعانِ من اللقطات ذاتها إلا نادرا.

  

ثقب أسود

undefined

  

هذه الحالة العجيبة من التناقض مثّلت تحديا ضخما لقدرة الصحفيين والمراسلين والمحللين على التعبير، وهي ما أعجزهم عن تقديم تفسير حقيقي مقنع للانتصارات المتتالية في كثير من الأحيان لدرجة أن انتصارات ريال مدريد مع زيدان تحوّلت إلى ثقب أسود يبتلع كل محاولات الشرح والفهم.

   

بعد التغلب على بايرن ميونيخ في نصف نهائي 2018 على سبيل المثال كتب محمد بوت محلل سكاوكا تقريره المعتاد عن المباراة معتبرا ليفربول الذي سيلاقيه ريال مدريد في النهائي هو أكبر الخاسرين من هزيمة عملاق بافاريا، وحتى من قبل أن تتضح أي مؤشرات على سير اللقاء، وبرر توقعه بأنه يعتقد أنه مهما حدث في النهائي فإن ريال زيزو سيتمكّن من وضع الكرة في الشباك عدد مرات أكثر من خصمه، وأن فوزهم على باريس ويوفنتوس وبايرن ميونيخ يُثبت هذه النظرية؛ لا شيء مؤكد، لا نعلم كيف سيلعب زيدان ولا التشكيل الذي سيختاره، بل وربما نحن متأكدون أن فريقه لن يُقدِّم أداء جيدا، ولكننا متأكدون من أنه سيفوز حتى لو قابل منتخب العالم. (6)

  

خورخي فالدانو أسطورة ريال مدريد ذاته أطلق نظرية مشابهة عندما قال إن "ريال مدريد هو أفضل فريق في العالم يستطيع لعب كرة القدم السيئة"، أو بكلماته "Nobody plays bad football as well as Real Madrid". هذه عبارات تحتاج إلى خبير ألغاز لفك شفراتها، ولا شيء يُعبّر عن الحالة مثلها. (7)

    

 

في محاولته للبحث عن اليقين تحدّث ثور هوغشتاد في "Four Four Two" عن بضع نقاط مهمة ساهمت في نجاح زيدان؛ أبرزها على الإطلاق كان حقيقة أنه مَثّل نقيضا للمدرب الذي سبقه، بينيتيز كان متخصصا تكتيكيا بلا كاريزما أو أي نوع من المهارات الاجتماعية، وربما كان هذا ما منعه من التحوّل إلى مدرب "كبير" بالمعنى الدارج طيلة مسيرته وعرّضه لسخرية الكثيرين. زيدان كان العكس، وبعد تجربة بينيتيز بكل تفاصيلها كان العكس هو بالضبط ما تحتاج إليه غرفة ملابس ريال مدريد، وإن قمت بتغيير بعض التفاصيل فيمكنك أن تعتبر أن النجاح المدوي في موسم أنشيلوتّي الأول كان ردة فعل لفترة عصيبة للغاية مع مورينيو قبله، مع التسليم بالاختلافات الشخصية الجذرية بين البرتغالي وبينيتيز ولكن أنت تفهم ما نقصد.

  

أضف إلى هذا حقيقة أن زيدان رفض إضافة الكثير لفريقه طيلة فترته في مدريد، وهذا على عكس الشائع منحهم قدرا من الاستمرارية والاستقرار، ولكنه كان استقرارا على الفوضى كما يصفه هوغشتاد. (8) في نهائي كييف شارك عدد كبير من اللاعبين ممن كانوا حاضرين في النهائي السابق، ورغم ذلك قدّم فريق زيدان مباراة عشوائية للغاية غلب عليها الارتجال ويصعب العثور فيها على نمط لعب محدد، وربما كانت محاضرة زيدان بين الشوطين دليلا قاطعا على كل ذلك، لأن توجيه فريقك لإرسال الكرات الطويلة للتغلب على ضغط ليفربول هو أمر قد يستنتجه أي متابع عشوائي للعبة ولا يحتاج إلى دراية كبيرة بالتكتيك أو الأمور الخططية. (9)

  

زيدان ليس محظوظا وحسب. كانت هذه هي الجملة التي أنهى بها تحليله، وهي عبارة أخرى بديهية لم يكن يحتاج إلى ذكرها لأنه مهما بلغت الفوضى والعشوائية فقد لا تكفل لأي مدرب الحصول على ثلاثة ألقاب متتالية لدوري الأبطال. في الواقع هي طريقة ضمنية للاعتراف أن الحظ لعب دورا أكبر من المتوقع في تتويج زيدان، على الأقل من وجهة نظر هوغشتاد.

   undefined

       

شذوذ مؤقت

طبعا كل ما سبق يبدو لك عديم الفائدة الآن. نظرية هوغشتاد قادتنا للمربع رقم 1 مرة أخرى. ما الفارق بين أن يحافظ زيدان على فريقه بلا إضافات وبين الحديث عن مهاراته الاجتماعية في التعامل مع غرفة الملابس؟ هذا هو ذاك ولكن بتفاصيل أكثر، والآن أنت تريد معرفة ما نظنه فعلا بغض النظر عن هوغشتاد وويلسون وغيرهم.

  

طبقا لجون كارلين، كاتب آخر متخصص في شؤون ريال مدريد وصاحب كتاب "الملائكة البيضاء"، فإن ما يحدد كفاءة المدرب من عدمها مجموعة من العناصر شديدة الغموض والتغير. يمكنك أن تحكم على حقبة ما في تاريخ المدرب بعد نهايتها طبعا، ولكن يصعب توقّع ما سيفعله قبل أن يحدث. (10)

    

 

كارلين وصّف علاقته المرتبكة بزين الدين زيدان بشكل بسيط وسهل، قائلا إنه لم يتوقع ربع نجاحه عندما تولى المهمة، وحتى بعدما نجح كان يجد صعوبة بالغة في تخيل نجاحه مع أي فريق آخر. تخيل زيدان مع توتنهام مثلا أو ليفربول لتفهم ما يعنيه، عندما تتغير الكثير من الملابسات الظرفية التي منحته هذه السيطرة المطلقة في مدريد، ومع مجموعة مختلفة من اللاعبين أقل مهارة أو حتى على الدرجة ذاتها من الكفاءة ولكنها مختلفة عن مجموعته المفضلة في العامين ونصف اللذين قضاهما في العاصمة.

  

في الواقع، إن تخيلت ذلك فعلا وشعرت بشعور كارلين نفسه فستفهم إحجام زيدان عن إبرام أي تعاقدات في حقبته الأولى. الرجل نفسه يدرك مزاياه وعيوبه وأكّد أكثر من مرة أنه ليس ضليعا في أمور التكتيك والخطط وعلم كرة القدم القابل للقياس، وعبارته الشهيرة قبل نهائي كييف "لست أفضل مدرب في العالم بالقطع ولكنني لست الأسوأ كذلك" تُحسب له لا عليه. هذه درجة استثنائية من التجرد والدراية بالذات. (11) ربما لذلك كان مصمما على الاحتفاظ بكل شيء كما هو، دون لاعبين جدد قد يهددون الانسجام الحاصل، والذي يعتبره الرجل رأس ماله الأهم.

  

أريد حلًّا

في 2014 قدم موقع "Stats Bomb" تحليلا رقميا مثيرا للغاية يتحدث بالأساس عن التسديد البعيد، ويحاول تفنيد الأسطورة الشائعة عن كونه خيارا يائسا لإنهاء الهجمة، وبعد عدد لا نهائي من الجداول والإحصائيات والخرائط بالغة التعقيد شملت دراسة مئات المباريات من البريميرليغ توصّلوا إلى حقيقة أن التسديد البعيد كان خيارا ناجحا بنسبة كبيرة. في الواقع كانت نسبة نجاحه تقترب من نجاح الخيارات التكتيكية الأخرى التي تعتمد على تعليمات المدربين، مثل اللعب في أنصاف الفراغات والاعتماد على الحلول الجماعية أو ببساطة انتظار انفتاح ثغرة ما للتمرير البيني. (12)

    

قد ينتفض ريال مدريد زيدان ويعود بعدة نتائج إيجابية وربما يحقق بطولة كبيرة هذا الموسم، ولكننا نعتقد أن هذا لن يحدث إلا في ظروف استثنائية أخرى
قد ينتفض ريال مدريد زيدان ويعود بعدة نتائج إيجابية وربما يحقق بطولة كبيرة هذا الموسم، ولكننا نعتقد أن هذا لن يحدث إلا في ظروف استثنائية أخرى
   

ما علاقة كل ذلك بزيدان ونسخته الخاصة من ريال مدريد؟ إنها لحظة تتكرر في تاريخ كرة القدم مثلما تتكرر في تاريخ كل شيء آخر؛ عندما تصل طريقة عمل شيء ما إلى أقصى درجات التعقيد والنظام فإن الحلول الفوضوية البدائية الفردية قد تكون الإجابة. في تحليل آخر اتضح أن سبب اتجاه بعض الأندية للتعاقد مع لاعبي ارتكاز يستطيعون المراوغة أو إعادة توظيف لاعبين مهرة في هذا المركز يعود إلى أسلوب الضغط المتبع في السنوات الأخيرة، والذي يعتمد بشكل أساسي على غلق زوايا التمرير بين اللاعبين وحرمان لاعبي الارتكاز من الخيارات المتاحة لحظة بدء الهجمة. الحل؟ ارتكاز يستطيع حمل الكرة واستغلال الفراغات التي خلّفها تمركز الخصم. المراوغة قادرة على خلق الفوضى لأنها تستفز الخصوم للتصرف بغريزتهم، تُشعرهم بالتهديد وتجبرهم على ترك مواقعهم والتحرك لافتكاك الكرة لأن كل مسافة يقطعها المراوغ للأمام تهدم تنظيمهم وتهدد مواقعهم، وحينها تظهر الفراغات مجددا ومعها تظهر خيارات التمرير لحامل الكرة.

  

حلول فردية للغاية تتغلب على أعتى المنظومات التكتيكية في أوج التزامها وتفانيها ونظامها. كل فترة من الزمن تعود هذه الظاهرة كحدث مؤقت خارق للعادة (Anomaly) ثم تبدأ الدورة من جديد، وما نعتقده أن هذا هو ما حدث مع ريال زيزو؛ فريق يعمل بأبسط الطرق وبلا تعقيدات في مواجهة الهوس التكتيكي الحاصل الآن. في الواقع كان هذا هو ما حدث بالضبط في واحدة من أفضل مباريات الميرينغي خلال حقبة زيدان أمام أتليتكو مدريد بنصف نهائي بطولة 2017؛ لوس بلانكوس أتموا 20 مراوغة ناجحة من أصل 33 محاولة للتغلب على المنظومة الدفاعية الأكثر شراسة وفاعلية في أوروبا. (13)

     

إحصائيات المراوغة في نصف نهائي دوري الأبطال 2016-2017  (هوسكورد)
إحصائيات المراوغة في نصف نهائي دوري الأبطال 2016-2017  (هوسكورد)

    

ماذا سيحدث الآن؟ حديث كارلين يحمل الإجابة بطريقة ما، الرجل لم يكن يتخيل نجاح زيدان مع فريق آخر في ظروف أخرى وهذا هو ما حدث بالضبط في فترته الحالية؛ فريق آخر بظروف أخرى، فريق يملك أزمة نفسية واضحة يصعب تجاوزها لأنه تعرض للكثير من القصف الإعلامي خلال الموسم الماضي، وأكثر أعضائه يرون أنه كان مبالغا أو غير مستحق وهم غالبا محقون، والأهم أن كثيرا من عناصره قررت أن تكتفي بما حققت من أمجاد ولم تعد تهتم بوزنها أو لياقتها أو قدرتها على اللعب من الأصل، وإن أضفت إلى كل ذلك التعاقدات الجديدة فستفهم سبب المعاناة الحقيقي.

  

أيًّا كان السبب خلف نجاح هذه المجموعة مع هذا المدرب في الفترة الأولى فهو لم يعد هناك. اللاعبون تغيروا والمدرب اضطر للقيام بعدة تعديلات كان يخشى القيام بها فيما سبق. النتيجة أن أفضل لاعبيه منذ بداية الموسم تقريبا هو اللاعب الوحيد الذي أعلن صراحة رغبته في رحيله قبل بداية الموسم. حتى المهارات الاجتماعية لم تعد تعمل كما كانت. (14)

  

ريال مدريد زيدان قد ينتفض ويعود بعدة نتائج إيجابية وربما يحقق بطولة كبيرة هذا الموسم، ولكننا نعتقد أن هذا لن يحدث إلا في ظروف استثنائية أخرى. أما عن السؤال إن كان الرجل مدربا جيدا أم لا فهو على الأغلب متوقف على قدرته على النجاح في هذه الحقبة، مع فريق آخر بظروف أخرى مثلما يقول كارلين. ما نعتقده أن ما حدث في الفترة الأولى كان واحدة من لحظات الشذوذ التاريخية عن القاعدة، ويصعب أن تتكرر مع المدرب ذاته والفريق ذاته بهذه السرعة. إن كان زيدان مدربا جيدا بسبب شخصيته وقدراته على التواصل فقد استفاد من ذلك أقصى استفادة ممكنة، ولن يكون مستغربا أن يحدث العكس الآن.

المصدر : الجزيرة