شعار قسم ميدان

محمد صفوت.. البطل الذي أعاد مصر إلى ساحة التنس

ميدان - محمد صفوت

اقترن اسم مصر بالنجاح فيما يتعلّق بالمضرب والكرة الصغيرة، ذلك داخل الصالات الزجاجية التي تُمارس بها لعبة الاسكواش. الحديث عن مصر في هذه اللعبة يصل إلى حد السيطرة والهيمنة الكاملة وليس فقط الظهور في المحافل الكبرى، بل وتصاعدها في السنوات الأخيرة، وهو أمر بات معتادا من كثرة تكراره في الفترة الماضية.

  

هذه المرة نحن على موعد مع ظهور مصري جديد بمضرب وكرة صغيرة، ولكنه ليس داخل صالات زجاجية، بل في لعبة التنس التي غابت عنها مصر لعقود من الزمن، تلك التي شهدت ممارسة اللعبة في الظل، أو ربما فيما هو أخفت من ذلك.

  

محمد صفوت يشارك في الأدوار الرئيسية من بطولة أستراليا المفتوحة للتنس، وذلك بعد نجاحه في تخطي المرحلة التمهيدية، كأول مصري يُحقّق ذلك الإنجاز منذ 41 عاما، وتحديدا منذ أن حققه إسماعيل الشافعي الرئيس الحالي للاتحاد المصري للتنس. ليس ذلك فقط، بل إن هذا الإنجاز يأتي بعد أقل من عام من نجاحه في الوصول إلى نهائيات أولمبياد طوكيو 2020 بحصوله على ذهبية دورة الألعاب الأفريقية، ليكتب أول ظهور أوليمبي مصري فيما يتعلق بالتنس. إنجاز يتبعه آخر؟ إذن فلتحضر الأضواء وليبتعد الظل قليلا. (1)(2)

       

محمد صفوت (رويترز)
محمد صفوت (رويترز)

        

حجم الإنجاز

قد تبدو الصورة غير واضحة نظرا للاحتفاء بلاعب خرج من الدور الأول للبطولة، ولكن قبل ذلك، عليك أن تذكر أن صفوت هو رابع مصري يشارك في تاريخ بطولات الغراند سلام، وذلك بعد إسماعيل الشافعي وأحمد المهيمي وتامر الصاوي، علما بأن الظهور الأخير في البطولات الأربعة الكبرى كان في 1996 على يد تامر الصاوي في رولان غاروس، ذلك بالطبع قبل ظهور صفوت الذي غيّر الموازين. (3)(4)

  

صحيح أنه قد ودّع المسابقة، إلا أنه قد شارك لأول مرة في بطولات الغراند سلام دون تدخلات من القدر، مشاركة ناتجة عن تخطي الأدوار التمهيدية التي أرهقته وصعّبت عليه مهمة مباراة الدور الأول، تلك التي كانت أمام خصم فاز عليه من قبل، وكان قريبا من ذلك بعدما قدّم مباراة مثالية في أغلب أوقاتها، خانه فيها فقط الإرهاق وقلة الخبرة.

  

رغم ذلك فالرجل لم يغادر أستراليا المفتوحة خالي الوفاض، بل إنه حصل على 90 ألف دولار أسترالي كجائزة مالية، و25 نقطة ارتقت به على مستوى التصنيف 18 مركزا بشكل مؤقت؛ ليصل إلى التصنيف رقم 155 على مستوى العالم بعد أن دخل البطولة مُصنَّفا رقم 173. (5)

   

كل هذا بالطبع يأتي إضافة إلى الخبرة التي حصل عليها بالمشاركة في منافسة كتلك، التي تُعَدُّ المشاركة الثانية له في بطولات الغراند سلام بعد رولان غاروس 2018، تلك التي جاءت بمصادفة قدرية رُبما استحقها صفوت عن مجهوادته الكبرى طيلة السنوات الماضية بدعم قليل ودون أضواء، تذكّرها جيدا لأننا سنخبرك إياها بالتفصيل لاحقا.

   

بداية على خُطى فيدرر

undefined

  

قصة بداية صفوت لممارسة التنس شائقة حقا، نظرا لأنها تُلامس قصة بداية أيقونة اللعبة روجر فيدرر، حيث بدأ كلاهما كلاعبي كرة قدم، قبل أن يُمارسا الكرة رفقة التنس، ثم يأتي القرار النهائي لاحقا باحتراف التنس ومنحها كامل التركيز. علما أن الأمور كانت أصعب بكثير بالنسبة لصفوت نظرا لعدم توفر الإمكانيات في مصر وأفريقيا مقارنة بأوروبا. (6)

    

صفوت بدأ كحارس مرمى لنادي المنصورة المصري، متأثرا بشخصية رعد في المسلسل الشهير "كابتن ماجد"، قبل أن يتعرّض لإصابة في إصبع يده لم تكن بالغة ولكنها جعلته يحوِّل شغفه إلى التنس، ومن هنا بدأت الرحلة على خُطى فيدرر، الأسطورة السويسري الذي اختلفت حكايته في عدم تعرُّضه لإصابة، بل إن مدربه لاحظ موهبته الفذة لينصحه هو ووالديه بالتوجُّه إلى التنس بشكل احترافي بدلا من كرة القدم. (7)(8)

   

بداية ممارسة اللعبة بشكل جاد كانت في سن العاشرة من خلال نادي جزيرة الورد بمحافظة المنصورة، رفقة مجموعة من الأصدقاء الذين تركوا التنس من أجل إكمال مسيرتهم التعليمية، ولكن صفوت وضع شغفه أولا وركض وراء التنس من جزيرة الورد إلى القاهرة حيث تدرب مع المنتخب واكتسب خبرة ودفعة مميزة من هذه المرحلة، لينتقل إلى الجزيرة ثم وادي دجلة، قبل أن يسافر إلى النمسا في وقت لاحق من أجل إضفاء الصبغة الاحترافية أكثر على مسيرته.

    

   

لماذا؟

"منذ صغري أشاهد فيدرر وأجاسي وسامبراس في التلفاز، ولكنني دائما أسأل نفسي ما الذي يمنع من أن نصبح مثلهم؟ لديهم أقدام مثلنا ويتدربون مثل ما نتدرب، فلماذا يؤمنون بالوصول ونحن لا نؤمن؟"

   

ما صنع ثورة صفوت في عالم التنس هو إيمانه بأن العراقيل وقلة الدعم ليست حجة، وأن هناك العديد من اللاعبين في بلاد أخرى يتلقون دعما أقل من مصر، ومع ذلك يصلون وينجحون، لذا فلا داعي للوقوف والشكوى من قلة الدعم المادي وخفوت الأضواء، وليُضِئ كل بطل أنواره الخاصة ويصنع رحلته بنفسه في حال أراد ذلك.

  

عقب مشاركته في رولان غاروس 2018، ذكر صفوت أن وصول مالك الجزيري إلى أدوار متقدمة في البطولات الكبرى جعل اللاعبين العرب يُصدِّقون إمكانية الوصول، مؤكدا أن صعود اللاعب التونسي جعله يرفض دور الضحية وينظر حوله ويكتشف أن هناك لاعبين أفضل من حيث الإمكانيات لا يحظون بالدعم نفسه الذي يحصل عليه هو وزملاؤه، ومع ذلك يصنعون قصصهم بأنفسهم، ويرسون قاعدة أن السر يكمن دائما في اقتحام الطرق المجهولة ومحاولة اكتشافها. (9)

    

اعتراف صفوت بأنه عاش دور الضحية ذلك في فترة يُبرز مدى تطور عقليته واستفادته من المواقف التي يمر بها، حيث إنه لم يكتفِ بما قامت به الأجيال السابقة بالمشاركة في البطولات المحلية والسعي وراء الظهور في كأس ديفيز وانتهى الأمر، بل إن كل خطوة للأمام تُقرِّب مشهد الماسترز والغراند سلام والتصنيفات الأولى أكثر. المشاركة مرة تعني أن ذلك من الممكن أن يحدث ثانية، والتألق العربي لمالك الجزيري وأنس جابر خير دليل لمن أراد دليلا.

  

مصادفة؟

undefined

  

هل تتذكر تلك اللقطة القدرية التي أخبرناك أننا سنعود إليها؟ في 2018، خرج صفوت من الأدوار التمهيدية لرولان غاروس، وأثناء استعداده للرحيل تفاجأ بأن الاختيار قد وقع عليه كـ "lucky looser" من أجل خوض المباراة ضد غيرغور ديمتروف المُصنَّف الرابع في البطولة وأحد أفضل اللاعبين في العالم. (10)

    

ولكي تكون الأمور أكثر وضوحا، فإن الـ "lucky loosers" هو مصطلح يُطلق على اللاعبين الذين يخسرون في المرحلة التمهيدية لبطولات الغراند سلام، حيث إنه في حالة انسحاب أي لاعب في منافسات الدور الأول للبطولة لا يتم اعتبار خصمه فائزا كما يحدث في الأدوار اللاحقة، بل تُقام قرعة للاختيار ما بين الخاسرين في آخر المراحل التمهيدية من أجل اختيار أحدهم لخوض اللقاء عوضا عن المنسحب، ذلك بالطبع في حال انسحب قبلها بفترة تسمح بذلك وليس أثناء الإحماء مثلا. وقبل مباراة ديمتروف وترويسكي وقتها أعلن الأخير انسحابه، ليتم إبلاغ صفوت باحتمالية أن يقع الاختيار عليه لمواجهة ديمتروف، الأمر الذي تأكّد قبل نصف ساعة فقط من المباراة، ليحصل اللاعب المصري على وقت ضيق للغاية من أجل الاستعداد للمباراة بدنيا وذهنيا. (11)

   

حينها لاقى صفوت تشجيعا كبيرا من الحاضرين في ملعب فيليب شاترييه، الملعب الرئيسي لبطولة رولان غاروس، وتخيّل أن هذا الملعب يُسبّب رهبة لبعض اللاعبين المحترفين والذين خاضوا أكثر من مباراة عليه من قبل، فما بالك بلاعب تطؤه قدماه لأول مرة، في مباراة لم يكن يعرف أنه سيخوضها إلا قبلها بأقل من ساعة، وأمام واحد من أفضل 20 لاعبا في العالم.

 

قدَّم صفوت أداء مميزا يومها بالنظر إلى كل الظروف المحيطة، وعلى الرغم من خسارته بثلاث مجموعات نظيفة فإنه استحق تشجيع الحاضرين الذين هتفوا باسمه طيلة المباراة بعد رؤية الإصرار والقتالية في أدائه. مصادفة؟ ربما، ولكن تذكر دائما أن المصادفات تحدث للجميع، ولكن لا يُجيد استغلالها إلا بعضهم فقط. 

    

   

فرصة من رحم المصادفة

"لقد أنهيت مباراتي الأولى في الغراند سلام من ساعة واحدة فقط، الآن عليّ أخذ قسط من الراحة ثم الوقوف معها ومع الأسبوع الماضي لكي أُحدّد ما يستحق التوقف عنده وما الدروس المستفادة، وأيضا الأشياء الإيجابية التي يجب أن أستمر فيها لتطوير أدائي. الآن سأفكر في ويمبلدون والمحطات القادمة"

   

هكذا تحدّث صفوت بعد ساعة فقط من تلك المشاركة في رولان غاروس 2018، الحديث هنا يبدو عاديا، وكلماته من الممكن أن يتفوّه بها أي شخص في مكانه، ولكن ما ليس بإمكان الجميع هو ألّا تكون مجرد كلمات، وأن يُظهِر الواقع فيما بعد أن قيمة المصادفة تكمن بالفعل فيما يحدث بعدها.

  

في يونيو/حزيران 2018 انتهت رولان غاروس، وفي أغسطس/آب 2019 حقق صفوت ذهبية دورة الألعاب الأفريقية، ليحجز بطاقة الوصول إلى أولمبياد طوكيو 2020، ويصبح أول لاعب تنس مصري يشارك في دورة الألعاب الأولمبية، وبعدها بأشهر جديدة تأتي مرحلة المشاركة في أستراليا المفتوحة؛ الحدث الذي نحن هنا من أجله. (12)(13)

    

الوصول إلى أستراليا جاء بعد تخطي الأدوار التمهيدية، وقبل أن يخوض صفوت مباراته الأولى ضد الفرنسي باريري تحدّث عن سعادته بتحقيق هذا الحلم، ولكن حديثه أخذ طابعا خاصا كعادته، مبتعدا عن الكلمات التقليدية التي تُقال في هذه المواقف، حيث حثّ شباب بلده على متابعة أحلامهم في هذه اللعبة، مؤكدا أنه يسعى لأن يقوم بشيء يساعد الأجيال القادمة في مصر على تحقيق إنجازات في عالم التنس.

  

الرحلة انتهت في أستراليا عند مواجهة الدور الأول أمام بارير، ولكنها لم تخلُ كالعادة من الدروس المستفادة، كما أن صفوت لعب مباراة جيدة خانه فيها فقط الإجهاد وطول المباراة، وقلة الخبرة في مواقف دفعته لارتكاب أخطاء سهلة وإهدار فرص كانت كفيلة بحسم أشواط حاسمة لصالحه. رغم ذلك، تبقى محطة مهمة وخطوة للأمام سنعود لها حين يُحقّق البطل المصري إنجازا آخر يتخطى كل ما سبق، تماما كما كانت محطة رولان غاروس تمهيدا لما بعدها.

   

أستراليا المفتوحة.. وماذا بعد؟

"سأشارك في أستراليا المفتوحة وفي أولمبياد طوكيو من أجل تحقيق إنجاز، منذ صغري وأنا لا أؤمن بما يُسمّى التمثيل المُشرِّف، حلمي أن أصبح الأول عالميا، ولكن ذلك بالطبع يتطلّب الفوز بكل البطولات"

    undefined

   

كلمات كتلك، ومحطات كالتي عاشها محمد صفوت بالتدرج من مرحلة إلى أخرى، تعطي إشارة عمّا بعد أستراليا المفتوحة، لا ينتظر أحد أن يضع صفوت مضربه ويتباهى بأنه قام بما لم يقم به لاعب مصري، بل إن هناك أولمبياد في طوكيو أغسطس/آب المقبل، وبطولات كبرى أخرى أثبت قدرته على المشاركة فيها من خلال تجربتين، وبهذا المعدل من التطور، لا يبدو أن هناك شيئا مستحيلا.

  

الخطوة المقبلة الآن ستكون حجز مقعد بين أول 100 مُصنَّف، الأمر الذي تحدّث عنه قبل انطلاق منافسات أستراليا المفتوحة، ولكن فيما يتعلّق بالتصنيف، فصفوت يرى أن الوصول إلى تصنيف مُتقدِّم وحده ليس إنجازا، ولكن الأهم هو الحفاظ على هذا التصنيف لفترة طويلة، فهو لا يشغل باله بالترتيب بقدر ما يبحث عن التطوُّر والتحسُّن، فارتفاع الجودة والأداء هو الضامن الوحيد للارتقاء في التصنيف وتقديم منتج أفضل بمرور الوقت. (14)(15) التطور الحاصل في آخر سنتين -والمنتظر استمراره- ليس وليد المصادفة، بل إن صفوت منذ عامين وهو يعمل بدوام كامل مع مدربه غيلبرت شالر ورفقة الأخصائية النفسية هند عيسى، ذلك بعد السفر والاستقرار في النمسا، حيث التدريب بانتظام وتكريس الوقت والجهد كله من أجل اللعبة في بيئة تسمح بذلك. (16)

  

في النهاية، يُبرز صفوت الدور الحقيقي للرياضي، فالنجاح لا يتوقف عند تحقيق الألقاب والميداليات، أيضا الصورة الذهنية التي ينقلها للأجيال القادمة وكونه نموذجا مُلهِما أمر لا يمكن نسيانه. من خلال لقاءاته بالأطفال من ممارسي اللعبة وتقديم الدعم والنصائح لهم دائما يحاول صفوت أن يكون الحلقة المفقودة بالنسبة لهم، فإن لم يكن هناك دعم كافٍ لهذه اللعبة في مصر، فلِمَ لا نصنع نحن هذا الدعم كأبطال سابقين وحاليين؟ (17)

  

في 2016 نشر محمد صفوت صورة عبر حسابه الشخصي على إنستغرام في صالة الألعاب الرياضية معنونا: "أستيقظ في السادسة صباحا من أجل الاستعداد لما هو قادم، لديّ حلم ومستعد لتقديم كل ما يتطلّبه الأمر من أجل تحقيقه". والآن، وبعد 4 سنوات من هذه اللقطة، تشهد جميع الإنجازات التي حققها على صدق كلماته، وعلى تحوّلها إلى جهد حقيقي نجح أخيرا في قطف ثماره، وما زال القادم أكثر.

    

  

الأحلام خُلقِت لتُحقَّق، عبارة تُصدِّق عليها الرياضة دائما، وإن بدت بعيدة عن الواقع، فالنماذج التي تُقدِّمها الرياضة كفيلة بإثبات العكس، المهم ألا يتوّقف الأمر عند الإيمان والحلم فقط، وأن يُترجم الشغف بالتضحيات والكثير من العمل والجهد لكي لا يصبح مجرد عبارة حالمة. كيف؟ بأن تستيقظ في السادسة صباحا لا لشيء إلا لأن لديك حلما ينتظر أن تحوِّله بنفسك إلى واقع.

المصدر : الجزيرة