رأسمالية كرة القدم.. كيف تحوَّل غضب الجماهير من المدرب إلى الإدارة؟
في برشلونة ينتظر الجميع رحيل بارتوميو وإدارته، وفي مدريد كلما ساءت الأوضاع تتم المطالبة برأس فلورنتينو بيريز، في أرسنال لافتات تُطالب برحيل كرونكي، وفي مانشستر عدد من المشجعين يهاجم منزل إد وودوارد. على ناحية أخرى، تبتسم جماهير إنتر بمجرد ذكر اسم أحد أفراد إدارة ستيفان زهانغ، تلك التي لم يمارس أحدهم كرة القدم إذا استبعدت نائب الرئيس خافيير زانيتي. (1)(2)(3)
الجدير بالذكر أن كل الأسماء المذكورة والتي يعرفها المتابع جيدا لم تظهر في ميادين الكرة كلاعبين أو مدربين، ولكنها باتت مألوفة وتتردد كثيرا بناء على أي تغيير في مردود النادي سواء بالسلب أو بالإيجاب. الوضع يبدو جديدا، ولكن بالسير وراء تسلسل الأحداث تجد الأمور قد عادت إلى طبيعتها. كيف؟ هذه هي حكاية اليوم.
في أواخر القرن التاسع عشر بدت كرة القدم نشاطا مخيفا في إنجلترا، حيث كانت بلاد الإنجليز هي مهد اللعبة بشكلها الاحترافي. كرة القدم كانت عبارة عن تجمعات جماهيرية كبرى يمثلها مجموعة من السُّكارى، شباب مخمور مثير للشغب يحتشد قبل وبعد كل مباراة لفريقه، يقتحمون الملعب في كثير من المناسبات ويتشاجرون مع جماهير الفِرَق الأخرى، ومساء، يشعلون النيران في الحانات المحلية على مقربة من الأماكن التي يسكنها مديرو الأندية، كإعلان عن غضبهم من المسؤولين عن تلك الهزائم التي تكبّدوها.
هذه الصورة أزعجت القائمين على الأندية، هؤلاء الذين ينتمون إلى طبقات عُليا ولا يستطيعون التعامل مع عامة الجماهير، ونتيجة لذلك تولّد لديهم شعور أنهم سيكونون مطاردين دائما من قِبل المشجعين، لذلك تظهر الحاجة إلى وجود ممثل رسمي أو وكيل، شخص يكون أشبه بمصدّات الرياح يُوضع بينهم وبين الجماهير، ويكون مسؤولا ولو بشكل ظاهري عن سوء الأحوال، ليتلقّى هو اللوم ويمتص الغضب، ويبقى مسيّرو الأمور بعيدا عن الواجهة.
هنا ظهر مصطلح المدرب لأول مرة، حيث إنه لم يكن موجودا قبلها، ولم يكن هناك ما يُعرف بالجهاز الفني ولا أيٍّ من أفراده. أرادت الإدارات من هذا الاقتراح جعل قاعات الاجتماعات مكانا مجهول الهوية، فيما بات يُعرف اليوم بالغُرف المغلقة، وانتقل الأمر إلى أوساط المشجعين نفسهم والذين باتوا يؤمنون بوجود حياة أخرى في تلك الغُرف المغلقة، يكون المدرب فيها هو الرأس التي يسهل التضحية بها لامتصاص غضب الجماهير. في حال وصلت الأمور إلى نقطة نهاية سيخرج أحد مسيري النادي بخبر إقالة المدرب، وهكذا تشعر الجموع المحتشدة بأن صوتهم الغاضب قد أدّى إلى التخلص من السبب في الأزمة.
هذه الصورة التي وضّحتها "FourFourTow" قد تبدو بعيدة عن التصديق اليوم، وذلك نظرا لتفاوت الوعي التكتيكي والإلمام بأمور كرة القدم بين الإدارات والمدربين، حيث يبدو المدير التنفيذي لكل نادٍ أشبه بالحاسوب المليء بالأرقام، بينما الصورة الذهنية للمدرب تكون عبارة عن مجموعة من المثلثات والخطوط التكتيكية المتشابكة، وإن لم تكن كذلك، فإنه يشترط ممارسته كرة القدم وصناعة مسيرة تشفع له أمام فقره الخططي. ولكن مع ذكر هذا الأمر، تذكّر أن الحديث يحكي عن كرة القدم قبل أكثر من 120 عاما، أي قبل أن يدرك العالم هذه الأبعاد التي نتحدث عنها اليوم، في وقت كانت القوانين والمسابقات تشق طريقها نحو الخروج إلى النور، ليست القوانين المعقدة حول تقنية الفيديو وآلية تطبيقها، بل أشياء بدائية كصافرة في يد الحكم وشبكة في المرمى. (4)
|
بمرور الوقت، وبالوصول إلى الثلث الأخير من القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة، بدأت صلاحيات المدرب تزداد، وأصبح بإمكانه الحصول على دور البطولة في المشهد، ولم يصبح مجرد واجهة أو درع حماية للإدارات كما كان، بل هو الملهم وصاحب الأفكار ورائد الثورات التي شهدتها كرة القدم مع بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن. كاتيناتشو الطليان وثورة كرويف وإطلالة ساكي ثم عودة الفكر الدفاعي بقيادة كابيللو وانقلاب الموازين بظهور بيب غوارديولا، مَن كانوا رؤساء الأندية في تلك الفترات؟ لا تعرف؟ نحن أيضا لا نهتم حتى وإن كنا نعرف بعضهم.
منذ هذه الفترة وحتى بداية العقد الماضي، بدا المدرب صاحب الكلمة العليا، وحاول المدربون السعي وراء ذلك، حتى إن كرويف طالب حين كان مدربا لبرشلونة بأن يكون أجر المدرب أعلى من أجر كل اللاعبين، حتى لا يشعر أي لاعب أن سلطته تفوق سلطة مدربه. تذكّر أن ذلك الوضع كان منذ أكثر من 30 عاما، قبل أن يصدر حتى قانون بوسمان والذي منح اللاعبين حق التصرف في ذواتهم وفصلهم عن السلطة المطلقة للأندية، فما بالك بما نحتاج إليه اليوم في ظل قدرة غرف الملابس على الإطاحة بالمدرب أيًّا كان اسمه. (5)(6)
نتيجة لذلك أصبح المدرب هو ضحية الجماهير بصورة منطقية وليست كما بدأ الأمر كمصدّة هواء، حيث إنه هو مَن يحمل الفكر والرؤية والفلسفة في نظرهم، والفشل يعني إخفاق الرجل في تطبيق أفكاره، أو خللا في أفكاره نفسها، ونتيجة لذلك، ارتفعت نسبة تعرّض المدربين للإقالة بصورة مرعبة، حيث إنه بالتعامل مع كرة القدم الإنجليزية كمثال، كان هناك 1900 إقالة لمدرب في الفترة بين عامي 1899 و1993، وفي السنوات الأخيرة، ارتفعت النسبة مع تطور اللعبة والإحصائيات التي باتت كفيلة بكشف نقاط القوة والضعف لدى الخطط بصورة أسرع، فبات متوسط عمر المدرب عامين فقط أو يتجاوز ذلك بقليل. (7)
الوضع بات مدفوعا بغضب الجماهير من ناحية، وبرغبة الإدارات في تحاشي هذا الغضب من ناحية أخرى، أضف إلى ذلك عدم الوعي الكافي لدى الطرفين، حيث أصبحت الإدارات أقل وعيا وأكثر ثروة في عصر الرأسمالية، وباتوا يبحثون عن معادلة تدخل فيها الأموال من ناحية لتُعالج كيميائيا وتُنتج ألقابا وبطولات وشعبية واسعة، تلك التي تعود لتتحوَّل كيميائيا في صورة المزيد من الأموال، كتعريف بديهي للاستثمار. هنا لم يحصل المدرب على القدر الكافي من الاستقلالية، حيث بات مصيره مرتبطا بمدى تفهُّم الإدارة لدوره، ومدى تفهُّم المشجعين للأمر ذاته، وبطبيعة الحال تفهُّم اللاعبين، مع الالتزام بالدعوات والصلوات لكي تسير الأمور دون مؤامرات أو أخطاء تحكيمية وما شابه.
|
هنا نعود إلى ما ذُكر في المقدمة، في برشلونة انصبَّت موجة الغضب ذاتها على الإدارة سواء كان المدرب فالفيردي أو سيتين، وفي مانشستر يونايتد لا يعترض أحد على سولشاير بقدر اهتمامه برحيل الجليزرز، كذلك الحال مع كرونكي في أرسنال وبرلسكوني في ميلان قبل أن يبيع حصته في النادي، حتى إذا تركت أوروبا في رحلة إلى مصر، فستجد الجماهير تتلعثم في نطق أسماء المدربين الأجانب كل عام، في مقابل متابعة شائقة مليئة بالمدح والذم لكل مغامرات محمود الخطيب ومرتضى منصور.
الأمر لا يقتصر فقط على الانتقادات، ومن هذه النقطة يمكن تفسير تلك الظاهرة، حيث إن مسيري الأندية يدفعون ضريبة الشهرة التي يسعون إلى صناعتها باستخدام أنديتهم، فكما يتلقون الإشادات مع كل نجاح وكل صفقة كبرى، عليهم تحمل غضب المشجعين في حال لم تكن الأمور على ما يُرام، طالما قرروا إظهار أنفسهم في دور البطولة دائما.
فلورنتينو بيريز مثلا كان معبودا في ريال مدريد حين جلب الغالاكتيكوس الأول بقيادة زيدان وفيغو ورونالدو الظاهرة، وأيضا حين تجدد الأمر بعدها بـ 8 سنوات بالتعاقد مع كرستيانو رونالدو وكاكا وبنزيما وألونسو، ولكنه كثيرا ما استمع إلى صافرات الاستهجان في كل مرة يسوء فيها الوضع، ثم عاد ليسمع التصفيقات من جديد حين عادت الأمور إلى نصابها، ثم عادت موجة الغضب مرة أخرى، وهكذا يتجدد الحال دائما. (8)
لماذا يحدث ذلك؟ لأن المُلّاك أصبحوا يبحثون عن تصدُّر المشهد، لأنهم أصبحوا مُلّاكا لا مجرد مديرين، فأصبحوا يهتمون بتعريف أنفسهم للجماهير وعرض أنشطتهم وتحركاتهم كافة، وإرساء قاعدة أنهم أصحاب الفضل فيما يحدث، وبناء على ذلك يُدرك المشجعون أنهم السبب في الخطوات السلبية تماما كالإيجابية، ونتيجة للوعي الذي زاد لدى مشجعي اللعبة، أصبح كل شيء معروفا وسهل التداول، حيث لا يخفى على مشجعي أرسنال استفادة كرونكي من اسم النادي، وكذلك القروض التي يأخذها رومان أبراموفيتش لمشاريعه الأخرى استنادا إلى ملكيته لتشيلسي. (9)(10)
في الوقت الحالي لم يصبح مُلّاك الأندية كما كانوا، بل بات الأمر عبارة عن بقرة تدرّ شهرة وأرباحا تسمى كرة القدم، تلك التي تخطف أنظار المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال من أجل الاستثمار فيها، وبمجرد صرف المبالغ الجنونية يكتشفون أن العائد الذي سيأتي ليس بالكثرة التي بدا عليها من بعيد، لينتج عن تلك العملية طريقان؛ إما باريس سان جيرمان ومانشستر سيتي، وإما أرسنال؛ مثال أول تصرف فيه الكثير من الأموال دون تحقيق عوائد حقيقية من وراء هذا الاستثمار، مع طفرة ملموسة في حجم وقيمة النادي، وإما نسف لأحلام الجماهير والنادي كرويا في مقابل استغلال اسم وقيمة وتاريخ الأندية في الحصول على شعبية أكبر وأرباح أكثر دون بحث عن مشاريع حقيقية، طالما الحاضر يضمن للمالك ما يكفي من أرباح.
الصورة التي يفهمها المستثمرون متأخرا وربما لا يفهمها أغلب الجماهير هي تلك المتعلقة بحجم الإنفاق والعوائد، إذ تبدو كرة القدم مجالا مدرّا للأموال بصورة جنونية، فلماذا لا يصرف المُلّاك أكثر لكي يربحوا أكثر؟ في الحقيقة مع جنون الإنفاق والوضع الرأسمالي الذي انبطحت أمامه كرة القدم لا تتوقع أن هناك ربحا قد يُضاهي ميزانية الرواتب والتعاقدات الكبرى، لذلك في حال بحثت وراء ميزانية أيٍّ من الأندية المنافسة فستجده يعاني من الديون، وفي حال أردت مشروعا ينتهي بنجاحات رياضية فإن ذلك سيحدث على المدى الطويل، وبأرباح مادية ليست بالمغرية، شيء كما يقوم به ليفربول اليوم على سبيل المثال.
|
في موسم الانتقالات الشتوية تعاقد توتنهام مع نجم أيندهوفن ستيفن بيرخفاين، وبغض النظر عن انطلاقة اللاعب القوية مع الفريق، فإن ما أثار اهتمام "FourFourTwo" هو حكم الجماهير على الصفقة قبل أن تتم على الرغم من أنها لم تقم بمتابعة أداء اللاعب في هولندا، ولكنها استطاعت إعطاء حكم حول المكان الذي سيلعب فيه، وكذلك تقييم للثمن الذي دفعه النادي لجلبه مع حكم مبدئي بنجاح أو فشل الصفقة. (11)
هذا بالطبع لا يحتاج إلى تفسير، فمقاطع يوتيوب باتت قادرة على نشر لمسات أي لاعب لا يعرفه أحد سوى والديه، وعلى الرغم من أن هناك بعض القنوات تحاول تقديم تحليلات تفصيلية، فإن ما يُسيطر على المشهد هي تلك المقاطع التي تُعطي 7 دقائق من المراوغات والتسديدات التي يستطيع أيٌّ منّا صناعتها، فقط بشرط قضاء يوم في إحدى الساحات الشعبية. هذه المقاطع باتت تعكس صورا مزيفة للعديد من اللاعبين عند الجماهير، تلك التي تنكشف بمجرد أن ينتقل اللاعب إلى فريقهم ويبدؤوا في متابعته بشكل حقيقي.
هذه المقاطع أيضا هي التي تُحدِّد تقييم الجماهير للصفقات قبل أن يتم التعاقد معها أصلا، وترفع من سقف طموحاتهم بالنسبة لبعض اللاعبين المتواضعين، وتجعلهم يرفضون آخرين لأنهم لا يحظون بالهالة الإعلامية نفسها، وبناء على ذلك يُطلقون الأحكام والتقييمات على الإدارات، التي بات بعضها يلجأ بدوره إلى تلك المقاطع، ويتفاجؤون بعدها أن اللاعب الذي رأوه على يوتيوب ليس هو الذي تعاقدوا معه، ما يُرجِّح احتمالية وجود نسختين لكل لاعب إيمانا بنظرية التوءم عصام الحضري وحيسام الحضري التي تحدث عنها فيلم بوشكاش في 2008.
بالنظر إلى حالات أخرى مختلفة، تجد مثلا جماهير برشلونة قد تفاجأت بأن كوتينيو لا يستطيع الركض لأكثر من 60 دقيقة رغم كونه يفعل ذلك مع ليفربول، وأنهم في مدريد صُدموا بإصابة غاريث بيل المزمنة رغم كونها مزمنة وتتجدّد معه منذ بدأ ممارسة اللعبة. هذا يحدث رغم كون الدوري الإنجليزي هو الأكثر متابعة حول العالم، ولكن نتيجة لأن الإدارات لم تعد متخصصة كما أسلفنا، فإنها تُخدع بالهدف والتسديدة الخارقة ومقاطع يوتيوب تماما كالجماهير، وإذا كان ذلك يحدث مع أسماء بحجم بيل وكوتينيو وفي دوري كالبريميرليغ، فماذا عن الدوري الهولندي أو الصربي أو النرويجي؟ وماذا عن مواهب أميركا اللاتينية التي باتت محل اهتمام الجميع اليوم وبأرقام فلكية؟ تخيَّل أن أحدهم يخشى شراء الأقمشة عبر الإنترنت خوفا من فارق الخامة ثم يذهب ليدفع 40 مليون يورو لجلب مراهق شاهده يسجل هدفا على الإنترنت!
المحصلة النهائية لذلك أن عمل كشافي المواهب لم يصبح مرهقا كما كان في السابق، وباتت الجماهير تشعر بسهولة ما يقوم به هؤلاء في الأندية الكبرى، ويتقاضون في مقابله مئات الآلاف من اليوروهات، ما جعل موجة السخط تتزايد، إذ بات المشجعون يشعرون أنهم أكثر وعيا من المدربين ومن مُلّاك الأندية ورؤسائها في أحيان كثيرة، وأن قصة الغرف المغلقة لم تعد بتلك السرية التي كانت عليها في الماضي، وأن معايير نجاح وفشل الإدارة لم تُصبح بالتعقيد نفسه في عصر توفر فيه كل شيء عبر الإنترنت.
والآن، بعد أن سقط العالم تحت عباءة الرأسمالية، هل تعتقد أن كرة القدم أكبر من العالم؟ ومع تحوُّل الأندية إلى مؤسسات استثمارية مملوكة لمجموعة من أصحاب رؤوس الأموال، ألا يبدو من المنطقي أن تتحوَّل الأهمية من الألقاب إلى الأرباح؟ الآن يمكننا أن نضع نقطة النهاية بجوار عبارة "هكذا تحوَّل غضب الجماهير من المدرب إلى الإدارة" التي جئنا إلى هنا من أجلها.