شعار قسم ميدان

معجزة يورو 92.. كرة قدم بصوت فيروز وألحان الرحباني

ميدان - معجزة يورو 92.. كرة قدم بصوت فيروز وألحان الرحباني

على المسرح، تقف السيدة فيروز، ينخفض صوت الموسيقى ليبدأ صوتها الذي يشبهه تماما، تُلقي كلمات أغنيتها الجديدة "كيفك إنت" برشاقتها المعتادة، تواصل الغناء إلى تلك الجملة التي تقول "عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكّرتك براة البلاد".

  

سنوات ويحكي كاتب الأغنية وملحنها ونجل مطربتها كيف خرجت إلى النور؛ إنه زياد الرحباني المثير للجدل دائما. في أواخر الثمانينيات، سافر زياد وراء حبه وترك لبنان ليتزوج بعيدا عنها، ولم يخبر أحدا بموعد عودته، وحين عاد سرا إلى أحد أصدقائه قابل والدته بالمصادفة، لتقابله بسؤال: "كيفك إنت؟"، وتواصل عتابها بكلمات: "عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكّرتك براة البلاد". (1)

   

من وحي هذا الحديث أخذ الرحباني الكلمات من فم والدته لينسج منها قصيدة تعود إلى فمها فيما بعد، هكذا تُولد الفرص من رحم مصادفات شائقة يبدو بعضها كوميديا، لا تحتاج إلا إلى حسن الاستغلال حتى تصبح فرصا حقيقية. هذه القصة تعود إلى عام 1991، أي قبل عام واحد من تتويج الدنمارك بكأس أمم أوروبا 1992. هل تعلم أن الرابط بين القصتين ليس زمنيا فقط؟ (2)

   

ولادة اللحن الأول
الملحن زياد الرحباني (رويترز)
الملحن زياد الرحباني (رويترز)

   

في الأول من يناير/كانون الثاني عام 1956 وُلد زياد، طفل جديد ينضم للرحابنة، عائلة الرحباني فنية بامتياز، تعيش ما بين شعر وموسيقى، ولكن زياد مُنح شيئا زائدا، حيث كان ابنا للسيدة فيروز كذلك. في بيئة كتلك لا تبدو الموهبة في حاجة إلى البحث عنها، حيث ستتسلّل إليك دون أن تشعر، سيبدأ معك كل شيء من تلقاء نفسه، أيضا دون أن تشعر، هكذا بعض القدرات لا تحتاج إلى أي جهد لاكتسابها.

  

يُحكى أن الأب عاصي الرحباني اعتاد أن يُسمع نجله كل لحن جديد ليسأله عن رأيه، وفي مرة سمع زياد يدندن بلحن مميز، شيء بديهي بعد أن اعتادت أذناه ذلك، ولكن الغريب هو أن عاصي كان يسمع ذلك اللحن لأول مرة، ليتوجّه إلى ابنه لمعرفة أين سمعه من قبل، ويتفاجأ بإجابة زياد الذي قال: "لم أسمعه مطلقا، هو يتردد في ذهني من حين إلى حين". هنا بزغت الموهبة لأول مرة، لتُنذر بولادة فنان جديد. السؤال الآن؛ كم كان يبلغ زياد الرحباني من العمر يوم حدثت هذه القصة؟ 6 سنوات فقط. وماذا عن الخبرة؟ أحيانا تبدو بلا فائدة. (3)

 

في 1990، جاء رجل مغمور يُدعى ريتشارد مولر نيلسن للإشراف على منتخب الدنمارك، رجل لم يعرف في مسيرته التدريبية سوى بعض الأندية المحلية، أو العمل كمساعد لسيب بيونتيك المدير الفني للمنتخب في كأس العالم 1986، والجدير بالذكر أنهم غادروا البطولة حينها من دور الستة عشر بهزيمة ساحقة أمام إسبانيا بخمسة أهداف لهدف، بعدها رحلة لم تتم إلى كأس العالم 1990، حيث لم يشارك المنتخب الدنماركي من الأساس. (4)

      

ريتشارد مولر نيلسن مدرب منتخب الدنمارك (رويترز)
ريتشارد مولر نيلسن مدرب منتخب الدنمارك (رويترز)

   

بعدها بعامين آخرين كانت الأمور تسير في الاتجاه نفسه، غياب عن يورو 92 وفقا للتصفيات، ولكن القدر منح الدنمارك فرصة خوض تحدي أمم أوروبا بمنتخب لم يكن من المقرر له المشاركة، وبقوام مكوّن من مجموعة لاعبين متوسطين وبيتر شمايكل. الجميع بلا خبرة، ولكنّ لحنا إعجازيا يتردد في ذهن نيلسن من حين لآخر، أيضا لم يكن قد سمعه من قبل. وماذا عن المنطق؟ أحيانا يبدو بلا فائدة هو الآخر. (5)

  

مصادفة؟

أنت لا تتحدث هنا عن مسلسل مكسيكي، ولم نسقط في حقبة أفلام الثمانينيات الهندية، بل كان ذلك واقعا، ولولا أنه حدث منذ أقل من 30 عاما لشكّك البعض في الرواية، التي وُثِّقت لحسن الحظ حتى لا يفعل أحدهم ذلك بعد 100 عام. القصة بدأت قبل 10 أيام فقط من انطلاق يورو 1992 بالسويد، حين أعلن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم استبعاد منتخب يوغوسلافيا من البطولة لأسباب لا تتعلق بكرة القدم، ولكن بسبب الحرب على البوسنة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية قبلها بعام. (6)

   

بعدها بـ 3 أيام، وقبل أسبوع واحد من انطلاق اليورو، وُجِّهت الدعوة للدنمارك من أجل المشاركة في البطولة، لتتباين الآراء ما بين استغلال الفرصة وما بين الانسحاب، ويحكم الخيار الأول في النهاية وسط اعتراضات من جهة، وانتظار لهزائم ثلاثة متتالية وتوديع مبكر للبطولة من جهة أخرى. بين هذا وذاك، لا مانع من إضافة بعض تفاصيل السينما الهندية، فوقتها كان منتخب يوغوسلافيا هو المرشح الأبرز للفوز باللقب، إذ يضم العديد من أفضل لاعبي العالم مثل بوبان وشوكر ومياتوفيتش، في الوقت الذي يغيب فيه منتخب الدنمارك عن الساحة منذ سنوات، الأمر أشبه باستدعاء دوبلير مغمور بدلا من حائز على الأوسكار، وما بين العقل والرغبة في الجنون يتحدد السيناريو الذي تنتظره الجماهير في النهاية. (7)(8)

  

انتظر لحظة، حيث إنه لا مانع أيضا من إضافة بعض المأساويات على وضع الدوبلير بأن يظهر مريضا وشاحبا حتى تكون احتمالية نجاحه أقل من الصفر. بعد أيام من القرار النهائي بالمشاركة بدلا من يوغوسلافيا يتلقى نيلسن صدمة قوية برفض نجم المنتخب الأول مايكل لاودروب المشاركة في البطولة اعتراضا على الفكر الدفاعي له من جهة، ولاعتقاده بعدم قدرة الدنمارك على القيام بشيء يستحق التضحية من جهة أخرى. (9)

      

نجم منتخب الدنمارك الأول مايكل لاودروب (رويترز)
نجم منتخب الدنمارك الأول مايكل لاودروب (رويترز)

   

السيدة فيروز كانت مثل لاودروب حين تحفّظت على كلمات "كيفك إنت" في البداية، ولكنها بعد 4 سنوات فازت بإحدى أروع أغانيها على الإطلاق، أما لاودروب فكان موقفه بائسا، حيث جلس بحسرة يشاهد المجد دون أن يُلامسه، ودون أن يمتلك الفرصة لإعادة المحاولة بعد 4 سنوات! (10)

   

مقطوعة موسيقية في الخلفية، حيث نعود إلى الرحابنة من جديد. الزمان عام 1973، والمشهد يظهر فيه زياد الذي يطلب عمه منصور منه لحنا جديدا ليكتب عليه أغنية للمطرب مروان محفوظ، ولكنه بمجرد أن يسمع اللحن يُقرّر تغيير الكلمات إلى حديث عن قصة وفاة أخيه عاصي، الذي هو والد زياد. هكذا كتب منصور الرحباني أغنية "سألوني الناس"، لتغني فيروز أول ألحان ابنها الذي لم يكن قد أكمل 17 عاما بعد. يبدو أن المشاوير التاريخية كلها تبدأ بلحظة مماثلة، وربما باللحظة نفسها مع اختلاف البيئة والأرض فقط. (11)

     

    

وعد فيلفورت

"ما حدث كان مثل قصة خيالية، لم يكن الأمر مجرد كرة قدم، بل إنه حدث غيّر الطريقة التي ينظر بها الدنماركيون إلى أنفسهم".

(جان كايلدتوفت، صحفي دنماركي)

   

إذن، بدون لاودروب، بدون احتمالات للقيام بشيء كبير، ولكن بإيمان من نيلسن، الرجل الوحيد الذي امتلك إيمانا منذ البداية بين المجموعة. يحكي بيتر شمايكل فيما بعد عن جلسة الرجل مع الفريق قبل انطلاق البطولة، حيث إنه بدلا من إلقاء بعض الكلمات الحماسية، ذهب إلى أبعد نقطة ممكنة بإخبارهم أنه جاء من أجل الفوز بالبطولة، الأمر الذي استدعى نظرات وضحكات متبادلة بينهم، كرد فعل طبيعي على كلمات أحد المجانين، هؤلاء الذين يتفوهون بكلمات عن الأمل دائما بصوت مرتفع مع حركات متسارعة لليدين والأكتاف. (12)

   

المباراة الأولى أمام إنجلترا وتعادل سلبي، ثم صدام قوي أمام الجارة السويد ينتهي بالخسارة بهدف، لينتظروا مباراتهم الأخيرة أمام فرنسا، تلك التي من المفترض أن يخسروها ثم يعودوا إلى بلادهم بهدوء، أضف إلى ذلك مأساة جديدة، حيث يتلقى مهاجم الفريق كيم فيلفورت اتصالا من زوجته تُخبره خلاله عن سوء حالة ابنته الصحية والتي تعاني من سرطان الدم، ليضطر إلى مغادرة البطولة والعودة إلى بلاده، تاركا أجواء كئيبة بين زملائه، ولكنه يمنحهم حماسا في المقابل، حيث وعدهم أنه في حالة تحقيق الفوز الإعجازي على فرنسا والتأهل للدور المقبل، فإنه سيطمئن على صحة ابنته ثم يعود إليهم من جديد لاستكمال البطولة. (13)

  

تبدأ المباراة بقصة الأرنب والسلحفاة التي سمعناها كثيرا في طفولتنا، حديث من لاعبي فرنسا بغرور الأرنب إلى لاعبي الدنمارك في الممر المؤدي إلى الملعب يطالبونهم فيه بعدم الإيذاء واللعب الخشن. لماذا؟ لأنهم ذاهبون حتما إلى الدور المقبل ولا يريدون خسارة أي لاعب منهم للإصابة، بينما لن تستفيد الدنمارك شيئا من إيذاء أي لاعب فرنسي إذ إنهم سيغادرون البطولة بمجرد أن يطلق الحكم صافرة النهاية، أليس كذلك؟ (14)

  

السلحفاة الدنماركية تدخل المباراة مشحونة بوعد فيلفورت وسخرية الفرنسيين، لتنتهي نهاية مماثلة للقصة الأصلية بهزيمة مفاجئة للأرنب المغرور، وتتواصل رحلة أبناء نيلسن إلى الأمام، وهذه المرة إلى اختبار أكثر صعوبة مما سبق. الدور نصف النهائي يحمل مواجهة أمام الجيل التاريخي لهولندا بقيادة فان باستن ورايكارد وخوليت، ثلاثي ميلان الفائز بالكرة الذهبية والبقية، ولكن خيط الأمل ما زال ممتدا، وفيلفورت يُنفّذ وعده ويعود لاستكمال البطولة، والآن هيا إلى نصف النهائي.

    

   

المشهد الأخير

ملحمة حقيقية؛ بيتر شمايكل وليلة للتاريخ، هدف هنا وتعادل هناك وتقدم دنماركي ثم تعديل هولندي في اللحظات الأخيرة. الدنمارك يعلمون أن لديهم الأفضلية من خلال حارسهم في حال تم اللجوء إلى ركلات الترجيح، لذلك كافحوا من أجل إيصال المباراة إليها وعدم المخاطرة أمام كاسحات الطواحين. وفي النهاية، يتصدى شمايكل للركلة الأخيرة من أقدام فان باستن ويُعلن مواصلة الرحلة حتى المشهد الختامي. كان من الممكن أن يضيعها لاعب آخر، ولكن أن يأتي الإخفاق من أفضل لاعب في العالم يجعل الأمر أكثر دراماتيكية.

    

   

بعد الوصول إلى النهائي انقلب كل شيء في الدنمارك، توافد الآلاف إلى السويد من أجل حضور المباراة النهائية حتى حُجِزت كل الفنادق في ستوكهولم وضواحيها، لدرجة أن عائلات اللاعبين لم يجدوا مكانا إلا فندق المنتخب نفسه بعد طلب من أبطال الرحلة وافق عليه الاتحاد الدنماركي. الجميع بات يلامس أطراف الحلم الآن، ولا أحد يريد أن يُضيّع فرصة حضور هذه اللحظة التاريخية التي باتت أقرب للواقع من أي وقت مضى. (15)

   

الآن جاءت لحظة الحسم، المباراة النهائية. الخصم؟ ألمانيا الموحدة مؤخرا في أول ظهور لها بعد هدم جدار برلين. قبل المباراة تعود قصة الأرنب والسلحفاة من جديد، ستيفان إيفينبرغ يتحدث مع زميله في بايرن ميونخ برايان لاودروب -شقيق مايكل- ويخبره بأنه لا يمانع في أن يعطيه قميصه بعد المباراة، بكل سخرية يتحدث إيفينبرغ الذي لم يتعلّم مما وقع فيه الضحايا السابقون. (16)

   

شمايكل ومباراة أخرى للتاريخ، ولكن النهاية كانت هوليودية لدرجة أكثر خيالا من أن يتصدى الحارس لركلة جزاء حاسمة، حيث انتهت بهدفين مقابل لا شيء للدنمارك. أين الخيال؟ ستجده في اسم مسجل الهدف الثاني، كيم فيلفورت؛ ذلك الذي حاربت ابنته السرطان فأهداها لقب اليورو الوحيد في تاريخ البلاد. أحيانا نضطر إلى التفكير في أحاديث مَن يعتقدون أن كرة القدم تحكمها سيناريوهات متفق عليها سابقا، من المستحيل نظريا أن يمنحك القدر قصة أجمل في كل مرة، ولكنه يفعل! (17)

       

     

فيلفورت أرجع سرّ القوة إلى معرفة اللاعبين بعضهم بعضا جيدا وحالة التجانس، المدرب نيلسن تحدث عن شيء مشابه؛ حيث قال إنه امتلك أفضل فريق حتى وإن لم يتكوّن من أفضل لاعبين. بالطبع كان إيمانه هو السبب الأول، ولكن يبدو أنه أكثر تواضعا من أن يُذكِّر الجميع بكونه أول مَن آمن بالمعجزة بينهم. الإبحار في التشابهات والمصادفات لا نهاية له، وتطابق القصص حتى وإن اختلفت المعطيات يبدو حتميا. عند الرحابنة أيضا كان الاجتماع العائلي سببا في كل تجديد، والتفافهم حول فيروز جعل صوتها يأخذ حظه من التاريخ، وإن تذكّرت تمرّد زياد على تقاليد عائلته ورغبته في التجديد، فتذكّر أيضا أن نيلسن ابتعد عن الفكر الهجومي للمدرب الذي كان مساعدا له قبلها بـ 6 سنوات فقط، ليلعب كرة مناسبة للمجموعة التي يمتلكها بأسلوب يميل أكثر للدفاع والمرتدات، ذلك الذي رفضه لاودروب، كما لم تقتنع فيروز بـ "كيفك إنت" في البداية. رباه، سندور في الدائرة ذاتها من جديد! (18)(19)

    

في بداية القرن العشرين وضع الكاتب الفرنسي جورج بولتي ما أسماه بالـ 36 حبكة، من خلال كتاب يحمل تفسيرات وأمثلة بناء على تحليل بعض النصوص اليونانية والفرنسية الكلاسيكية وكذلك المعاصرة، وفي النهاية استخلص نظرية تُفيد أنه لا يوجد أي سيناريو أو قصة على وجه الأرض يمكن أن تخرج عن الحبكات الـ 36، ما ترتّب عليه لجوء جميع كُتّاب السيناريو لنظرية بولتي قبل الشروع في كتابة أي عمل سينمائي أو درامي جديد. (20)

  

بعدها بسنوات ذهب بعض الكُتّاب إلى نظرية فلسفية تُفيد بأن الـ 36 حبكة لا تقتصر على القصص الدرامية فقط، بل إنها تنطبق على الحياة الحقيقية للبشر كذلك. اعتقاد يُفيد بأن قصة حياة أي إنسان هي حبكة من تلك التي وضعها بولتي. وفي الوقت الذي لم يتوصل فيه أحد إلى ما يُثبت ذلك أو ينفيه، تشهد جميع قصص الواقع على أننا لا نملك إلا أن نأخذ هذه النظرية على محمل الجد. الآن يمكنك أن تذهب للبحث عن قصة ثالثة مشابهة لحكاية الدنمارك والرحباني ولكن في مجال آخر، ذلك في حال وصلت إلى هنا ولم يغادرك التشويق بعد.

المصدر : الجزيرة