شعار قسم ميدان

"بياناتك".. كنز شركات التقنية

ميدان - بيانات

يؤمن البعض أن هناك أمورا غير طبيعية تجري تحت الطاولة ساهمت في نجاح بعض الشركات التقنية مثل آبل ومايكروسوفت، أو المشاريع الاجتماعية على غرار فيسبوك وإنستغرام. ذلك الشك يأتي من مبدأ أن تلك الشركات لم تكن أول الواصلين في مجالاتها، لكنها بشكل أو بآخر أحكمت السيطرة على المشهد.

 

تلك الشركات، أو المشاريع، صحيح أنها لم تكن الوحيدة في السباق، وهي نجحت في اكتساح نسبة كبيرة من المُتسابقين ليس بسبب قُدرتها على جمع بيانات المستخدمين فقط، بل بسبب قدرتها على الاستفادة من تلك البيانات واستخدامها في مجالات مُختلفة.

 

البحث أولا

عندما خرج مُحرّك بحث غوغل كانت آلية عمله بسيطة تقوم على كلمة البحث التي يُدخلها المُستخدم، وعلى الصفحات الموجودة داخل قاعدة بيانات الشركة. لكن الأمر تطوّر لاحقا وبدأت الشركة بتخزين كلمات البحث التي يقوم المستخدمون بكتابتها لتقوم بعرضها في منصّة خاصّة تسمح بمعرفة أكثر المواضيع المتداولة في وقت ما. ولمزيد من الاستفادة، دمجت غوغل تلك البيانات مع منصّتها الإعلانية، فالمستخدم عندما يبحث عن شيء ما داخل مُحرّك البحث سيلاحظ ظهور إعلانات لنفس الموضوع أثناء تصفّح الإنترنت، وهذا أبسط مثال على الاستفادة من البيانات المُخزّنة.

 

الموقع الجغرافي للمستخدم، نوع جهازه، نوع نظام التشغيل، نوع المتصفّح، العمر، الجنس، عمليات البحث السابقة، ما هي إلا جزء بسيط جدا من مصفوفة البيانات المُخزّنة لدى غوغل، والتي سمحت لها في تطوير أنظمة ذكية مثل مساعدها الرقمي "غوغل أسيستنت" (Google Assistant)، فتطوير خوارزميات التعلّم الذاتي للآلة يعتمد على البيانات التي ستتعلّم منها، ولا يوجد أفضل من تلك التي توفّرها غوغل لهذا الأمر.

  undefined

 
تفكير شركة أمازون لا يختلف أيضا عن فكر غوغل، فأمازون هو متجر إلكتروني يوفّر قاعدة بيانات بملايين المنتجات رفقة شريط للبحث للوصول إلى تلك المنتجات. يقوم المتجر بتخزين عمليات البحث التي يقوم المستخدم بها، ويقوم كذلك بتخزين عمليات الشراء التي جرت بعد البحث، وهذا يُفسّر ظهور قسم في صفحة عرض المنتج يحتوي على مُنتجات أُخرى قام المستخدمون بالبحث عنها، فلو بحث المستخدم عن السيرة الذاتية للراحل "ستيف جوبز" وقام بعدها بالبحث عن قصّة تأسيس غوغل، ثم قام بشراء الكتابين، ستظهر تلك الاقتراحات عند زيارة صفحة السيرة الذاتية لـ "جوبز" من قبل بقيّة المستخدمين، فالخوارزميات تقوم بإنشاء رابط بين الكتابين، وبكل تأكيد تتعقّد العملية مع كثرة عمليات البحث والشراء التي تجري يوميا، لتُصبح المُقترحات أكثر دقّة.

 

تلك المظاهر البسيطة تُفسّر السبب الرئيس خلف تفوّق مساعد غوغل الرقمي أو مُحرّك بحث الشركة على بقيّة المساعدات الذكية ومنها "سيري" (Siri) من آبل(1)، دون تجاهل عشرات مُحرّكات البحث التي ظهرت واختفت وخسرت المنافسة أمام غوغل. أما المتاجر الإلكترونية فحدّث ولا حرج، خصوصا العربية، لكن التفضيل أولا وأخيرا يصبّ في مصلحة أمازون التي تُحاول إحكام القبضة عبر الكثير من الأدوات التي تبدأ من عرض اقتراحات تجذب المستخدم وتدفعه إلى إضافة مُنتج آخر إلى سلّة التسوّق الافتراضية.

 

اصطناع الذكاء

يُمكن طرح الكثير من الأمثلة على توفير حلول ذكية مُصطنعة داخل المشاريع التقنية المُختلفة، فشبكة فيسبوك مثلا تقوم بالاطّلاع على الصفحات التي يُتابعها المستخدم من ناحية التصنيف، لتقوم فيما بعد باقتراح صفحات تحت نفس التصنيف. ولحصر الخيارات تقوم بالاطلاع على الصفحات التي يُتابعها الأصدقاء، وعلى المُشاركات التي سجّل المستخدم إعجابه بها. في حقيقة الأمر، يبدأ كل شيء بجمع البيانات، سواء تفضيلات المستخدم، صفحاته، أو الصفحات التي يُتابعها أصدقاؤه، لتقوم الخوارزميات بتحويلها من بيانات مُنظّمة في جدول إلى بيانات يستفيد المستخدم منها.

 

نفس الأمر يتكرّر في "إنستغرام"، فالمستخدم في تبويب الاستكشاف (Explore) تظهر له مشاركات متنوعة من حسابات لا يُتابعها قام الأصدقاء بمتابعتها أو بتسجيل الإعجاب على مشاركاتها، مرورا بعمليات البحث التي تجري. لكن الذكاء الأكبر يُمكن رصده في الأجهزة الذكية المزوّدة بمجموعة من المُستشعرات. في الهواتف الذكية يُمكن فتح تطبيق النشاط لمعرفة عدد الخطوات التي قام المستخدم بها، وعدد الطوابق التي صعدها، وعدد السعرات الحرارية المحروقة كذلك. أما في الساعات الذكية المُختلفة فتطبيق الرياضة يُعطي للمستخدم فكرة عن عدد الأمتار التي قام بسباحتها وعن نوع السباحة أيضا! الأمر الذي يُمثّل ذكاء كبيرا ومُدهشا بالنسبة للبعض.

 

 
الأمر وببساطة لا يخرج عن كونه استفادة من البيانات الواردة من المُستشعرات، فبداخل الساعة هناك شريحة لتحديد الموقع الجغرافي، "جي بي إس" (GPS)، وشريحة إلكترونية لتحديد السرعة، وأُخرى لتحديد الاتجاه والصعود. وبجمع تلك البيانات وبمقارنتها مع بعض أنماط الحركة التي يقوم المستخدم بها أثناء السباحة يُمكن تحديد نوع سباحته. وفي استفادة على مستوى أعلى، تقوم ساعات آبل الذكية الآن بدراسة نبضات القلب التي تقوم بتسجيلها عبر مُستشعر خاص، وتقوم بتمريرها إلى خوارزميات ذكية تُحاول العثور على خلل فيها عبر مطابقتها مع الكثير من الأنماط والحالات الموجودة مُسبقا، وهذا لتنبيه المستخدم في حالة وجود أي شيء غير طبيعي، وهو أمر نجحت به عندما أنقذت حياة شخص بعدما نجح تطبيق في اكتشاف وجود مشكلات في الرئتين كادت أن تودي بحياته(2)(3).

 

الذكاء الاصطناعي للفوز بكأس العالم

قد تبدو رياضة كُرة القدم بسيطة، 22 لاعبا يركضون خلف الكرة أملا في إدخالها في شباك الفريق المنافس دون تلقّي أهداف في شباكهم. لكن الأمر ليس كذلك أبدا خصوصا في العصر الحديث، فهناك أساليب وتكتيكات مُختلفة لصناعة تلك الفرص، وللذود عن المرمى وحمايته من الأهداف. تحرّكات اللاعبين وتمركزهم داخل الملعب يجري وفق حركة مدروسة تماما يقوم المُدرّب بالتخطيط لها ودراستها لإخراجها بأفضل شكل مُمكن.

  

  

دخلت التقنية مع تطوّرها إلى الرياضة بشكل كبير، فخلال التدريبات هناك أجهزة تتبّع خاصّة بكل لاعب تُعطي تفصيلا كاملا عن نبضات القلب وعن تحرّكاته داخل الملعب وعن سرعته ولياقته، الأمر الذي يسمح للمُدرّبين اختيار التشكيلة الأمثل، ويسمح للأطباء في نفس الوقت الكشف عن الإصابات وعن الأمراض فور حدوثها، وهذا بفضل البيانات التي يتم جمعها من المُستشعرات.

 

لكن الشركات التقنية المُتخصّصة في مجال جمع البيانات والذكاء الاصطناعي قرّرت رفع التحدّي وقامت بتطوير تطبيقات تقوم بكل شيء تقريبا، فهي تقوم بتسجيل المباريات وتحليل مُجرياتها وتصنيف المحتوى بحيث يُمكن الوصول إلى الأهداف على حدة، وإلى الضربات الحرّة على حدة. كما يُمكن اختيار اللاعب لمعرفة أدقّ التفاصيل عن تحرّكاته داخل الملعب، وهذا يُفسّر البيانات التي تقوم بعض القنوات بعرضها أثناء المباراة كالمسافة التي قطعها لاعب ما، أو عدد التمريرات الناجحة التي قام الفريق بها خلال المُباراة.

  

 
تلك البيانات كانت مسؤولة أيضا عن فوز المُنتخب الألماني بكأس العالم، فإلى جانب الالتزام بالخطط التي يُقدّمها المُدرّب، قامت شركة "ساب" (SAP) بتطوير تطبيقات لرصد جميع التفاصيل للتعلّم منها، مع تقديم بعض الاقتراحات كذلك لتحسين بعض الجوانب بحيث يُصبح اللاعب قادرا على إخراج هاتفه الذكي والاطلاع في أي وقت على الأخطاء التي وقع بها، أو الأمور الجيّدة التي ساهمت في تحقيق الأهداف أو منعها عن فريقه.

 

في موقع يوتيوب تتوفّر نفس الموارد تقريبا، فالبحث عن ركلات الترجيح في مباراة ما أمر مُمكن، ومهمّة المُدرّب وفريق الإعداد معه هي الاستفادة من تلك البيانات لتحسين جودة الفريق. لكن مثل تلك التطبيقات والأدوات تأتي لتوفير جودة إضافية على تلك التي وفّرها الفريق الفنّي، فمن خلالها يُمكن حتى دراسة لاعبي الفريق الخصم والعثور على نمط تحرّكاتهم المُتكرّرة للحد منها وإيقاف تلك الخطورة.

  

  

كمّ كبير من الشبكات الاجتماعية ظهر واختفى، وبقيت فيسبوك في مكانها تنمو وكأن شيئا لم يكن. ومجموعة كبيرة من الشركات دخلت مجال إنتاج الحواسب والأجهزة الذكية، لتبقى آبل هي الأُخرى في طور النمو. أما مايكروسوفت، فهي أيضا أحكمت قبضتها على سوق أنظمة تشغيل الحواسب، وهذا لأنها شركات عرفت قيمة البيانات بين يديها، واستثمرت فيها وأخذتها في مجالات أُخرى سمحت لها فتح آفاق لم تكن على البال أبدا.

 

لو قرّرت تلك الشركات الاكتفاء بما لديها والاستمرار على نهج واحد فهي كالإنسان الذي يتناول طعاما دون مُمارسة الرياضة، أو كالوعاء الذي يتم إسقاط الماء فيه القطرة تلو الأُخرى دون تفريغ، مصيره أن يمتلئ ليبدأ بالطوفان، ولعلّه السبب خلف فشل بعض المشاريع، وخصوصا العربية، التي تنجح في جمع البيانات أو تقديم أداة تسمح لها بجمع البيانات، لكنها لا تقوم بوضع تلك البيانات في مسار آخر تستفيد هي منه أولا، ويستفيد المستخدم ثانيا، فالشركات التقنية، وحتى مع استخدام مُستشعر التسارع والحركة داخل الهواتف في وظائف الصحّة والرياضة، قرّرت الاستفادة منها للتعرّف على رفع المستخدم للجهاز، وبالتالي تشغيل الشاشة دون الحاجة إلى لمس أي زر، وتلك الغاية التي يجب على أي شركة تقنية السعي ورائها.

المصدر : الجزيرة