شعار قسم ميدان

وهم القيادة الذاتية.. خيال بدّدته الدرّاجات الهوائية و"السكوتر"

midan - رئيسية القيادة

تحوّل الحديث عن السيّارات ذاتية القيادة وخدمات النقل التشاركي إلى ساحة سجال بصخب سوق الأوراق المالية، فالأول يضخّ ملايين فيها، والثاني يُدافع عنها بضراوة ويؤكّد أنها المُستقبل. وآخر يحثّ الجهات التشريعية على إصدار قوانين خاصّة بها، والرابع ينتقد طُرق مدينته لأنها غير مؤهّلة لاستقبالها. ذلك الحماس يشوبه واقع لا مفرّ منه، القيادة الذاتيّة وخدمات النقل التشاركي لن تُشكّل سوى جزء من المُستقبل، وهذا على حساب وسائل نقل أبسط كالدرّاجات الهوائية و"السكوتر".

    

القيادة الذاتية

على الرغم من تكتّمها عن مشاريعها طوال الوقت، فإن شركة آبل أكّدت أكثر من مرّة أنها لا تعمل فقط على سيّارة ذاتيّة القيادة، فهي تسعى لبناء نظام كامل للقيادة الذاتيّة يُمكن الاستفادة منه في مجالات مُختلفة غير محصورة في السيّارات أو النقل(1). حياديّة آبل مفهومة جدا خصوصا بعد النظر إلى الواقع الذي لا يتطابق أبدا مع تصريحات شركات مُختلفة كانت قبل عامين أو ثلاثة تتحدّث عن إمكانية رؤية سيّارات ذاتية القيادة تجوب الطُرقات مع حلول عام 2020 أو 2021 على الأكثر(2).

 

مشاكل السيّارات ذاتية القيادة لا حصر لها، وتبدأ بكل تأكيد من السلامة والأمان، فالحوادث التي تسبّبت بها إحدى سيّارات شركة "أوبر"، أو تلك التي تسبّبت بها سيّارات شركة "تيسلا" أثناء استخدام القيادة الذاتية، دفعت الجميع للحديث عن مستوى ذكاء تلك الأنظمة ورفعت درجة القلق أيضا، صحيح أن التحقيقات أكّدت وجود خطأ بشري ولا علاقة للنظام الآلي بالحادث بشكل كامل، إلا أنه يبقى عامل خوف لدى شريحة واسعة من المواطنين في أماكن مُتفرّقة حول العالم.

   

undefined

   

التركيز على تلك الحوادث يجعل الصورة تبدو وكأن القيادة الذاتية ستصل غدا، أو بعد غد على أبعد تقدير. لكنها في الحقيقة لا تزال بعيدة كُل البُعد عن الوصول بالحجم الذي يجعلها تقنية فعلا يجب أن يقلق الجميع منها، فبحسب الإحصائيات، تأتي "سنغافورة"، وخلفها نيوزيلندا ثم هولندا في المراتب الثلاث الأولى على مستوى العالم من ناحية جاهزية التشريعات، في وقت تحلّ فيه الولايات المتحدة الأميركية في المركز العاشر عالميا على الرغم من جهود شركاتها الكثيفة في هذا المجال(3).

 

هذا الكلام إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على عدم جهوزية المُشرّعين حتى الآن لاعتماد قوانين مُنصفة تضمن حقوق المواطن قبل أي شيء. وحتى على صعيد البنى التحتيّة، تأتي هولندا، وخلفها "سنغافورة"، وخلفهما اليابان كأكثر ثلاث دول جاهزة لهذا النوع من السيّارات. في وقت تحلّ فيه أميركا في المركز السابع، وألمانيا في المركز الثاني عشر، والصين في المركز الخامس عشر، وأخيرا روسيا في المركز العشرين، وتلك دول تستثمر الملايين سنويا في مجال القيادة الذاتيّة وتختبر الكثير من النماذج. وهذا يعكس من جديد عدم جهوزية الطُرقات في مجموعة كبيرة جدا من الدول حول العالم لاستقبال هذا النوع من التقنيات(3).

    

undefined

   

غباء الآلة

يقول "آندرو إن جي" (Andrew Ng)، وهو مُهندس سابق في غوغل يعمل حاليا مع "بايدو" (Baidu) مُختصّ في مجال الذكاء الاصطناعي، إن الشركات وعوضا عن تطوير خوارزميات ذكية للتعامل مع أقصى الحالات وأصعبها على الإطلاق، تحتاج إلى التعاون مع الدولة لتثقيف المواطنين وحثّهم دائما على الالتزام بالقوانين قبل أي شيء(4). يُمكن تلخيص ما سبق بأن الآلة لا تزال غير قادرة على توقّع السلوك البشري بشكل صحيح لأنه بشكل أو بآخر عشوائي، ولا بُد من وضعه في قوالب -قوانين- ثابتة لتسهيل العملية على الآلة.

 

ويرى "راسل براندون" (Russell Brandom) أن المُدافعين عن القيادة الذاتيّة يسعون لجعل الطُرقات آمنة للسيّارات ذاتية القيادة عوضا عن العكس، أي جعل السيّارات هي الآمنة لحماية المُشاة وبقيّة البشر(4). وهذا يؤكّد مرّة أُخرى أن الجهود المبذولة للحد قدر الإمكان من الحوادث لا تزال غير كافية، على الرغم من نظرية "إيلون موسك" (Elon Musk) التي يؤكّد فيها أن الحوادث التي منعتها القيادة الذاتية أكبر بكثير من الحوادث التي تسبّبت بها.

 

وبالحديث عن الحوادث، فإن الخطأ البشري كان موجودا بالفعل في مُعظمها. لكن السيّارات الآلية التي تجوب الشوارع العامّة كان فيها نوع من القصور، من الشركات تارة، ومن الأنظمة الموجودة فيها تارة أُخرى. ففي حادثة "أوبر" التي صدمت أحد المُشاة أثناء عبوره الشارع مع درّاجته الهوائية، قام النظام بإظهار تحذير قبل 6.3 ثانية من الارتطام، مُظهرا أنه عثر على جسم غير معروف، إلا أنه وقبل ثانية ونصف تقريبا أكّد أنه إنسان وقام بتطبيق الفرامل، لكن بعد فوات الآوان(5). الأمر نفسه حصل مع سائق سيّارة "تيسلا" التي ارتطمت بالحاجز في إحدى الطُرقات السريعة، فالنظام قام بتحذيره لكن دون جدوى، مع أقاويل بأن الحاجز لم يكن موجودا قبل أيام، وأن نظام الخرائط اعتقد أن الطريق مفتوحة وحاول الخروج منها.

   

   

بشكل عام، فإن المستوى الرابع في مجال القيادة الذاتية يعني وجود سائق خلف المقود لاستلام زمام الأمور في الحالات الطارئة، وهو المستوى المسموح به حاليا في معظم المُدن حول العالم، مع وجود بعض الولايات الأميركية التي سمحت باختبار المستوى الخامس حاليا. لكن هذا يعني أن النظام الآلي مع إنسان بداخله ليس جاهزا بعد، فكيف سيتصرّف عندما يكون لوحده تماما؟ خصوصا أنه سيكون مُحاطا بسيّارات عاديّة مع سائقين بشر في داخلها؟

 

القليل يعني الكثير

"خلال عقد من الزمن، سوف تُساهم القيادة التشاركية في أقل من 50٪ من عائدات أوبر"، هذا ما ورد على لسان الرئيس التنفيذي الحالي لشركة "أوبر" خلال عام 2018، فالشركة التي تعتمد بشكل كبير جدا على النقل التشاركي، والتي تستثمر المليارات في مجال القيادة الذاتيّة لا ترى أنها المُستقبل، بل جزء من المُستقبل فقط، وهذا على حساب تقنيات أبسط وأكثر أمانا بالنسبة للمُستخدمين(6).

 

خلال عام 2017، أكّد 63٪ من الأميركيين أنهم يخافون من السيّارات ذاتية القيادة. وبعد مارس/آذار 2018، ارتفعت تلك النسبة إلى 73٪. أي إنك لإدخال السيّارات ذاتية القيادة إلى المُجتمع، تحتاج إلى إقناع المواطنين بها أولا، أي التأثير على الرأي العام، وهو شيء ليس بالسهل أبدا(7). لكن وخلال تلك الفترة، بدأت أخبار الاستحواذات الغريبة بالظهور، فشركة "أوبر" تستحوذ على "جامب" (Jump)، و"ليفت" تستحوذ على "موتيفيت" (Motivate)، كما أن "لايم" (Lime) أصبحت شركة ناشئة بقيمة 1.1 مليار دولار بعد استثمار "أوبر" وغوغل فيها، ومثلها "بيرد" (Bird) التي تُقدّر قيمتها بـ 2.2 مليار دولار(8).

    

    

تتشارك جميع الأسماء السابقة في عنصرين فقط، الأول كونها شركات ناشئة، والثاني كونها شركات مُتخصّصة في مجال تأجير الدرّاجات الهوائية الكهربائية، أو العاديّة، رفقة درّاجات "السكوتر" الكهربائية أيضا. وهذا إذًا يُفسّر كلام الرئيس التنفيذي لشركة أوبر من جهة، والأرقام الضخمة التي تُستثمر في تلك الشركات الناشئة من جهة أُخرى.

 

لا تحتاج الدرّاجات الهوائية، ومثلها درّاجات "السكوتر"، إلى رُخص قيادة أو إلى تقنيات هائلة وذكيّة لضمان سلامة الراكب. ولا تحتاج إلى الكثير من التعديلات على البنى التحتيّة، فهي مُستخدمة من قِبل بعض المواطنين حتى قبل ظهورها كمُنتج بمُحرّك كهربائي للحفاظ على البيئة وللنقل بسرعة أكبر، وهذا يعني أن أي مدينة قادرة تقريبا على استيعابها عبر توفير محطّات صغيرة لركنها، ولشحنها في ذات الوقت. وهذه بالمُناسبة ميزة إيجابية أُخرى على حساب السيّارات ذاتية القيادة، فكمّية الكهرباء اللازمة في السيّارة أكثر بكثير من تلك اللازمة في الدرّاجات.

 

قفزت الشركات التقنية عن التدرّج الطبيعي لوسائط النقل وقرّرت تحويل السيّارات إلى آلة ذكيّة. لكنها غفلت عمّا هو أبسط، الدرّاجات، التي أصبحت في 2018 صيحة تقنية مهمّة تُقدّر قيمة شركاتها بمليارات الدولارات. والأهم من هذا كُلّه أنها أثبتت فاعليّتها على مدار عقود كاملة من الزمن، ناهيك بتكلفتها المُنخفضة ومستوى حمايتها المُرتفع.

 

ما سبق لا يعني أبدا أن البحث والتطوير في مجال القيادة الذاتيّة أمر عديم الفائدة أو الجدوى، بل على العكس. لكن الصورة التي رُسمت له جعلته وكأنه مُستقبل قريب لأن تقنياته جاهزة من جهة، ولأن الجميع جاهز لاستخدامه من جهة أُخرى، هو شيء بعيد تماما عن الصحّة ويحتاج إلى مزيد من الوقت لأن وصوله مُرتبط بالكثير من العوامل منها تقبّل المُستهلك، ونضج التقنية ذاتها، إضافة إلى القوانين والتشريعات والبنى التحتيّة أيضا. وفي ظل الازدحامات المروريّة القاتلة في مُعظم المُدن الكبيرة والتي يسعى "موسك" لحلّها عبر حفر أنفاق تحت الأرض، يُمكن الوثوق في الدّراجات نظرا إلى كونها حلا عمليا على المدى القصير، والطويل أيضا.