شعار قسم ميدان

عملة فيسبوك الرقمية.. هل كانت "صرحا من خيال فهوى"؟

ميدان - ليبرا

في الحين الذي كان يمارس فيه "مارك زوكربيرغ" هوايته المُفضّلة المُتمثّلة في إطلاق ميّزة دون التفكير فيها كثيرًا، فإنه عبّر عن دهشته -كما اعتدنا نحن عليه- بوجود ثغرات أمنية فيها أو اختراقات لخصوصيّة المُستخدم. هذه المرّة تكرّر الأمر ذاته مع العملة الافتراضية "ليبرا" (Libra)، وهي العملة التي كان يأمل زوكيربرغ أن تصل للمُستخدمين، وأن تبدأ عملية تداولها، ليتفرّغ بعدها لتساؤلات المُشرّعين، إلا أن حيلته تلك، أو أمانيه، لم تفلح في الحقيقة، فالاتحاد الأوروبي والكونغرس الأمريكي فتحا جبهة شرسة قبل أن يُصبح اتحاد "ليبرا" رسميا، الاتحاد الذي شهد مؤخرا انسحاب بعض الأسماء التي عبّرت عن موافقتها المبدئية، لتطرح هذه الأزمة تساؤلا هاما: هل تفشل خطّة فيسبوك في إطلاق عملتها والسيطرة على الاقتصاد العالمي؟

  

سخط من كبار التقنية

من السهل جدًا أن تُخفي بعض الأسماء الكبيرة قلقها وعجزها خلف وابل من التصريحات السلبية ضد "ليبرا"، فلو نجحت فيسبوك في تحقيق رؤيتها الخاصّة في مجال الدفع الإلكتروني، فإن قوّتها ستصبح في مستوى لا يمكن مضاهاته، وهو الأمر الذي يُخيف في طبيعته غالبية الشركات التقنية حول العالم. لكن هذا الأمر، أي تفسير تصريحات الرفض من قبل شركات التقنية باعتبارها تعبيرا عن عجز تقنيّ، لا يُمكن أن ينطبق مثلًا على "تيم كوك" (Tim Cook) الرئيس التنفيذي لشركة آبل. وفي مُقابلة أُجريت معه مع بداية أكتوبر/تشرين الأول 2019، قال "كوك" إن ما تنوي فيسبوك القيام به عبر إنشاء عُملة رقمية افتراضية أمر غير طبيعي أبدًا ولا يُمكن الوثوق به، فالعملات يجب أن تكون بيد الدول، وليس في يد شركات خاصّة لأن هذا الأمر سيمنحها فقط مزيدًا من القوّة، دون أية أسبقيّة تقنية على حد قوله(1).

  

بالنظر إلى "كاليبرا" (Calibra)، المحفظة الرقمية التي تنوي فيسبوك إنشائها، فإن الأمر لا يشكل الكثير من المخاطر، فما تقوم به آبل مُشابه لهذه الفكرة، فهي تُقدّم خدمة "آبل باي" (Apple Pay) للدفع الإلكتروني، كما أطلقت مؤخّرًا بطاقة آبل الائتمانية (Apple Card) بالتعاون مع مجموعة "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs)، المُتخصّصة في مجال الاستثمارات والشؤون المالية، بالإضافة إلى "ماستر كارد" (Master Card)، وهذا يعني أن رصيد المُستخدم في محفظة آبل له مُقابل مادّي حقيقي في مصرف ما(2).

   

  

ما سبق، يجعل تصريحات أخرى للملياردير "مارك كوبان" (Mark Cuban) مفهومة ومقبولة، وذلك حينما قال إن خطوة فيسبوك في إنشاء عملة رقمية جديدة هو خطأ كبير جدًا، لأنه وفي بعض الدول التي لا توجد فيها قوانين صارمة أو التي تواجه حالة من عدم الاستقرار سيكون خروج التحكّم الاقتصادي من يد الحكومة أمرٌ سيء جدًا(3).

  

هذه الأمثلة البسيطة من المُعارضة، تأتي بسبب رغبة فيسبوك في الاستقلال تمامًا عن أي عملة حالية، فهي وعبر اتحاد مؤلّف من 100 شخص تقريبًا تنوي إنشاء العملة وتقييمها دون ارتباط بأي مصرف أو حكومة، وهذا يعني أن تلك الشركات قد تُشكّل قوة اقتصاديّة مُستقلّة يصعب تفكيكها، وهو ما يُقلق أي حكومة بطبيعة الحال.

  

قلق رسمي

   

في الحقيقة، لم يتحرّك الكونغرس الأميركي في وجه فيسبوك إلا بعد أن غيّرت الشبكة الاجتماعية المشهد السياسي في البلاد، حيث تستّرت الشركة الزرقاء على مجموعة كبيرة من الفضائح والتسريبات التي فتحت أبواب التدخّل الخارجي في سياسة الولايات المُتحدة الأميركية. ولهذا السبب، لم يرغب أعضاء الكونغرس في مُلاحقة فيسبوك مرّة أُخرى، وقرّروا إدارة المشهد بأنفسهم عبر استجواب "دافيد ماركوس" (David Marcus)، المسؤول عن العملات الرقمية في فيسبوك، والذي وجد نفسه مُضطرًا للإجابة على الكثير من الأسئلة التقنية والقانونية(4).

   

إجابات "ماركوس" كانت واضحة، وإلى جانب التهرّب المُعتاد لمسؤولي فيسبوك عبر استخدام عبارات مثل "هذا السؤال ليس من ضمن مهامي المُعتادة" أو "هذا الأمر لا نمتلك إجابة عنه الآن"، ذكر ماركوس أن فيسبوك تسعى للحصول على موافقات من الهيئات المالية العالمية بعيدًا عن تلك الموجودة في الولايات المُتحدة الأميركية، وهذا عملًا ببروتوكول "سويسرا" الخاص بالأمور المالية، والذي ما إن يستوفي شروطا مُحدّدة، فإن فيسبوك تحصل بموجبه على موافقة لاستخدام "ليبرا"، وفيما بعد "كاليبرا".

    

  

إلا أن خفوت نار الولايات المتحدة الأمريكية سرعان ما تبعه تصريحات لاذعة من قبل فرنسا وألمانيا، والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فالهيئة المسؤولة عن مكافحة الاحتكار في الاتحاد الأوروبي فتحت تحقيقًا فوريًا لاستجواب أعضاء اتحاد "ليبرا" للحد من أية مُمارسات غير قانونية(5). المسؤولين في فرنسا تخلّوا عن الدبلوماسيّة وقالوا صراحةً إن فرنسا ستحجب "ليبرا" فور صدورها إذا لم تحصل على إجابات واضحة حول كل شيء يخص العملة، فالخطأ هنا لن يؤدّي إلى تسريب عناوين البريد الإلكتروني للمُستخدمين مثلما هو الحال في الشبكة الاجتماعية، بل سيؤدي إلى تمويل الإرهاب، وإلى الكسب غير المشروع(6).

  

مصدر مخاوف الاتحاد الأوروبي يكمن في فيسبوك ذاتها، وتحديدًا في الكوارث التقنية التي وقعت بها خلال السنوات القليلة الماضية والتي جعلت خصوصيّة المُستخدمين في مهبّ الريح، فلو اكتملت رؤيتها، فإنها ستحصل على تفاصيل دقيقة بخصوص عمليات التسوق التي يقوم بها المُستخدم، دون نسيان تسهيل عمليات غسيل الأموال. لذا، فإن عدم وجود خطّة واضحة لدى فيسبوك للحد من تلك المسائل الإشكالية، لن يمنحها أية موافقة للعمل، على الأقل في دول الاتحاد الأوروبي.

  

انسحاب الأعضاء

undefined

  

لم تكن تصريحات "تيم كوك" هي الحدث الأكبر، ولا حتى ردود أفعال المُشرّعين في دول مُختلفة، فما قامت به شركة "باي بال" (PayPal) التي كانت ضمن قائمة أول 30 شركة في اتحاد "ليبرا" كان هو الصدمة الأكبر للجميع، فالشركة أعلنت انسحابها بشكل مُفاجئ، مؤكّدين أنهم سيركّزون على مهامهم الحالية المُتخصّصة في مجال الدفع الإلكتروني على أن يعودوا مُستقبلًا للمُساهمة في "ليبرا" لو وجدوا إمكانية لذلك(7).

  

بشكل ودّي أنهى المسؤولون في "باي بال" علاقتهم بـ "ليبرا" التي لم تبدأ بشكل رسمي، فأعضاء الاتحاد من المُفترض أن يوقّعوا على أول اتفاقيّة رسمية في العُشر الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019. لكن ردّ فيسبوك الذي تجاهل تلك الودّية أظهر جانبًا يخافه الجميع، جانبًا لن يتقبّل أي رأي آخر غير رأي فيسبوك.

  

إذ قال مسؤولو فيسبوك إن إنشاء عملة رقمية مثل "ليبرا" يتطلّب جرأة وطموح، بالإضافة للكثير من المرونة لتصحيح الأمور ولتحقيق تلك الرؤية، الأمر الذي سيأخذ الكثير من الوقت والجهد على حد سواء، لأن تغيير النظام المالي العالمي ليس بالأمر السهل أبدًا، وهو تحدٍ لا تقوى عليه سوى قلّة من الشركات(7).

   

  

تصريحات فيسبوك، حملت صيغةَ تحدي، حتى لو لم تُسمِ "باي بال" بالاسم، فالشركة بشكل أو بآخر لم تكترث، لأن البدائل كثيرة، خصوصًا أن الهدف الرئيسي هو الوصول لأكثر من 100 عضو في الاتحاد، وهي التي تمتلك حاليًا 28 اسم تقريبًا. "آل كيلي" (Al Kelly)، الرئيس التنفيذي لشركة "فيزا" تهرّب من الإجابة المُباشرة حول نيّة الشركة في الخروج من الاتحاد، حيث قال إن "فيزا" وقّعت على اتفاقية مبدئية تُظهر نواياها في الانضمام للاتحاد، إلا أن هذا الأمر ليس نهائيا حتى اللحظة بالنسبة لجميع الأعضاء، لأن التوقيع الرسمي لم يتم، وكل شيء يُمكن أن يتغيّر(9).

  

التصريحات كانت مُجرّد مناورات بسيطة لإبقاء باب الخروج مفتوحًا، الباب الذي على ما يبدو كان كبيرًا و"يتّسع لجمل"،فما هي سوى أيام قليلة حتى أعلنت "فيزا" انسحابها الرسمي، متبوعةً بكل من "ماستر كارد" و"إي باي" (eBay)، بالإضافة إلى "سترايب" (Stripe) و"ميركادو باغو" (Mercado Pago) انسحابها هي الأُخرى رسميًا مؤكّدين دعمهم للمشروع، وفاتحين في ذات الوقت باب العودة، لأنهم يعملون على إعادة تقييم الفرصة لا أكثر(10).

   

 

لم يُدرك "زوكربيرغ" أن هناك خطًّا أحمرًا يصعب تخطّيه، فحقوق الإنسان وخصوصية المُستخدمين يُمكن القفز عليها في بعض الدول، لكن، وعندما يتعلّق الأمر بكرسي الرئاسة أو بالمصرف المركزي في أي دولة، فإن الحكومات ستنتفض فورًا، وهذا يعني أن "ليبرا" قد لا ترى النور في الموعد المُحدّد. لكنها ستُظهر في ذات الوقت مدى جديّة فيسبوك والتزامها في اللعب بشفافيّة مع جميع الأطراف، فهي إن حقّقت ذلك، فستحصل على قوّة مُضاعفة تُبقيها لسنوات طويلة دون مساس مع تحقيق قفزة كبيرة في مساحة العملات الرقمية، لكنها إن فشلت في التوفيق بين وجهات النظر، والإجابة عن الأسئلة الخطرة التي تمس البشر تحديدا، فسينكشف وجه جديد لـ "زوكربيرغ"، وستكون "ليبرا" مُجرّد محاولة جديدة لرقمنة البشر وإبقائهم تحت رحمة الخوارزميات.

المصدر : الجزيرة