شعار قسم ميدان

لغز اختفاء الطائرات.. يمكن تتبعها بالهاتف فكيف تختفي فجأة؟

ميدان - الطائرة الإثيوبية 111

أصبحت الأجهزة الذكية، والتطبيقات عليها، أول ما يلجأ إليه المحقّقون لفك طلاسم قضيّة ما نظرا للسجل الذي توفّره، فتلك الأجهزة تقوم بتعقّب نشاط المُستخدم وموقعه الجغرافي. لكن في الوقت ذاته، ومنذ أكثر من خمسة أعوام، وتحديدا منذ 8 مارس/آذار 2014، لا تزال قضيّة اختفاء طائرة الخطوط الماليزية ذات الرقم "إم إتش 370" (MH370) لُغزا عصيًّا على الجميع(1)، فكيف يُمكن للتقنية العثور على جهاز بطول راحة الكفّ وفقدان طائرة طولها 64 مترا؟

  

نُقاط عمياء

اعتمدت أنظمة الطيران العالميّة منذ أربعينيات القرن الماضي على نظام الرادار الأرضي الذي تقوم بموجبه مجموعة من مُرسلات الإشارة ببثّ موجات راديو باتجاه السماء مع انتظار ارتدادها مرّة أُخرى لالتقاطها عبر مُستقبلات موجودة على الأرض أيضا للتعرّف على الجسم الموجود في السماء، الطائرة، وتحديد موقعه الجغرافي ونقله إلى مراكز المُراقبة العالميّة. وهذا يعني ضرورة وجود أجهزة على الأرض لإتمام هذه المهمّة، وإلا فإن نظام التتبّع لن يعمل بالشكل الأمثل(2).

 

ما سبق يعني أيضا وجود نُقاط عمياء، ميّتة، (Blind Spots) لا تتوفّر فيها تلك المُرسلات والمُستقبلات، ولعلّ المُحيطات والبحار خير مثال على ذلك، فإمكانية تثبيت مُرسل ومُستقبل للإشارة فيها شبه مُستحيلة، وهذا يُفسّر بشكل أو بآخر صعوبة العثور على الطائرة الماليزية المنكوبة التي اختفت عن شاشات الرادار بعد 40 دقيقة تقريبا من إقلاعها. السؤال الأبرز الذي يجول في خاطر البعض هو الرادار الموجود على الطائرة ذاتها داخل قُمرة القيادة، فالطيّار قادر على رصد موقعه الجغرافي من جهة، وعلى معرفة الطائرات المجاورة له من جهة أُخرى، فلماذا لا يتم اللجوء لهذا النظام لتعقّب نشاط الطائرة لتحديد موقعها الجغرافي وإرساله للمحطّات الأرضيّة؟

 

     

الأمر في هذه الحالة يُشبه تماما الهواتف الذكية المزوّدة بتطبيقات للعثور عليها مثل "العثور على آيفون" (Find my iPhone) في هواتف آبل الذكيّة على سبيل المثال لا الحصر، صحيح أن الهاتف الذكي مزوّد بشريحة "جي بي إس" (GPS) لتحديد موقعه، إلا أن تلك الشريحة غير قادرة على إرسال الإحداثيّات إلى خوادم آبل، بل يجب أن يكون الجهاز مُتّصلا بشبكة الإنترنت لإتمام هذه المهمّة. وهذا يعني أن الطائرة وعلى الرغم من احتوائها على شريحة لتحديد موقعها الجغرافي على الخارطة داخل قُمرة القيادة، فهي لن تكون قادرة على إرسال الموقع لمحطّة أرضيّة إذا ما تعطّلت أنظمة الإرسال لسبب ما، أو بفعل فاعل.

 

معايير جديدة

قرّرت هيئة الطيران المدني العالميّة (ICAO) التحرّك سريعا بعدما أيقنت أن العثور على هاتف ذكي أسهل من العثور على طائرة، لتُعلن عن معيار جديد في أمن وسلامة الطائرات يُعرف باسم (Global Aeronautical Distress and Safety System)، واختصارا (GADSS)، مهمّته إرسال موقع الطائرة الجغرافي بشكل آلي كل 15 دقيقة دون وجود إمكانية لإيقافه من قِبل الطيّار، أو طاقم الطائرة. وفي حالات الخطر، سيقوم النظام بإرسال الموقع الجغرافي كل دقيقة تقريبا، وبهذا الشكل تضمن كوادر الإغاثة الاستعداد للوصول إلى موقع الكارثة قبل حدوثها لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه.

 

وبحسب مُسوّدة النظام(3)، فإن جميع شركات الطيران دون استثناء، تحتاج مع حلول عام 2021 إلى استخدام النظام الجديد، المعروف أيضا بنظام إرسال الموقع بشكل آلي (Automatic dependent surveillance-broadcast)، الذي سيُصبح حينها قادرا على إرسال بيانات الموقع كل نصف دقيقة تقريبا، وبالتالي تحديثات آنية ظاهرة لدى جميع مراكز المُراقبة وشركات الطيران.

  

     

لتحقيق هذه الطفرة في أنظمة تعقّب الطائرات تم الاعتماد على نظام من تطوير شركة "آيرون" (Aireon)(4)، الشركة التي قامت بتطوير أنظمة تعقّب متوزّعة في الفضاء لتغطية الكرة الأرضية بشكل كامل، وهذا عبر 66 مُرسلا ومُستقبلا يتواصلون مع الطائرة من جهة، ومع مراكز استقبال موجودة على الكرة الأرضيّة من جهة أُخرى، مع وجود نظام يعمل كمستودع لتخزين بيانات أي طائرة بشكل آني بحيث يُمكن للأفراد والشركات والحكومات الدخول إلى النظام وتتبّع أي طائرة أولا بأول.

 

كانت الخطوط الجويّة الماليزية أول من سعى لاعتماد النظام الجديد لتجربته وتحسين أنظمة التعقّب الموجودة لديها. واليوم، يُستخدم النظام الجديد في أكثر من 70٪ من الطائرات الأوروبية والأسترالية(5). لكن بنظرة سريعة على متاجر التطبيقات، أو في مُحرّك بحث غوغل، يُمكن العثور على تطبيقات مثل "فلايت رادار 24" (Flightradar24) التي تُتيح للمُستخدم، ومنذ فترة طويلة جدا، تتبّع حركة أي طائرة مدنية بشكل آني، فما السر؟

  

تطبيقات ثورية

إلى جانب "فلايت رادار"، تبرز تطبيقات مثل "فلايت أوير" (FlightAware)، أو حتى مُحرّك بحث غوغل، كوسيلة لمعرفة موقع الطائرة الجغرافي مع الوقت المُحدّد لوصولها. وتجدر الإشارة هُنا إلى أن تلك التطبيقات مُستقلّة وغير تابعة لجهة مُعيّنة. لكنّ زبائنها في الوقت ذاته هم شركات طيران ومطارات نظرا للكم الهائل من البيانات القادرة على مُعالجته بسرعة كبيرة جدا.

  

    

يستلم القائمون على تلك التطبيقات بيانات الرحلات الجويّة قبل عام تقريبا من موعدها لأنها تكون مُجدولة بعد توقيع اتفاقيّات بين شركات الطيران والمطارات، وهذا يعني أن الرحلة شبه مؤكّدة ما لم يحدث أي أمر طارئ. وقبل الإقلاع بساعات قليلة، يُرسل الطيّار خط الرحلة مع تحديد الارتفاع والسرعة، وهنا يتم تحديث البيانات المُخزّنة للمرّة الأولى.

 

تتّصل تلك التطبيقات بشكل مُباشر مع مراكز المُراقبة، أو مع المطارات، أو حتى مع شركات الطيران بشكل مُباشر، وهذا للحصول على بيانات آنية كإغلاق باب الطائرة بعد صعود الرُكّاب إليها. ومع بدء تحرّك الطائرة على المُدرّج للإقلاع، يتم تحديث قواعد بيانات تلك التطبيقات لتبدأ حركة الطائرة داخل الخارطة الظاهرة للمُستخدمين على أجهزتهم الذكية. وبفضل بعض الخوارزميات، يتم حساب الموعد المتوقّع للوصول بناء على خط الرحلة الذي أرسله الطيّار سابقا. وعندما يتم رصد تغيّر في سرعة الطائرة أو ارتفاعها، تتدخّل الخوارزميات من جديد لمعرفة نوع التغيّر لتغيير حالة الطائرة إلى تتجهّز للهبوط(5).

 

باختصار، تعمل تلك التطبيقات على هيئة وسيط، فهي تجمع البيانات من أكثر من مصدر، وتقوم بمعالجتها باستخدام بعض الخوارزميات لتقديمها على هيئة بيانات بسيطة للمُستخدم. لكنها في الوقت ذاته، تُقدّم دقّة لا مثيل لها وهذا بفضل تطوير مُستقبلات خاصّة من جهة، وبفضل عُشّاق الطيران من جهة أُخرى.

 

    

بالعودة إلى نظام إرسال الموقع بشكل آلي، المعروف اختصارا بـ (ADS-B)، فإن القائمين على تلك التطبيقات قاموا بتطوير مُستقبلاتهم الخاصّة التي يُمكن لأي شخص استخدامها(6)، وبالتالي إرسال المزيد من البيانات لمُعالجتها، وهذا يعني إمكانية تحديد موقع الطائرة ضمن نطاق 10 أمتار فقط، في وقت تكون فيه دقّة أنظمة المُراقبة التقليدية ضمن نطاق 500 متر تقريبا.

 

شركة مثل "فلايت أوير" طوّرت نظاما لاستقبال الإشارة مفتوح المصدر يُمكن لأي شخص تجميعه ووضعه على نافذة أو سطح منزله لاستقبال الإشارة الواردة من الفضاء وتمريرها إلى قواعد بيانات التطبيق. وبحسب آخر الإحصائيات، فإن أكثر من 26 ألف مُتطوّع قاموا بتركيب تلك المُستقبلات لتحسين جودة تتبّع الطائرات على مستوى العالم أملا في تقليل الأضرار الناجمة عن الحوادث قدر الإمكان.

 

أما طائرة الخطوط الجويّة الماليزية المنكوبة، فإن اختفاءها عن شاشات أنظمة المُراقبة جرى بسبب فشل في نظام إرسال الإشارة، سواء أكان مُفتعلا أم طبيعيا، إلا أنها حادثة لم تمر مرور الكرام ودفعت الجميع للعمل على تطوير نظام قادر على مُراقبة خط سير الطائرة بشكل آني لتجنّب فقدانها، ولمراقبة بيانات أنظمتها لتحليل الحوادث دون الحاجة إلى صرف ملايين الدولارات للعثور على الصندوق الأسود.

المصدر : الجزيرة