شعار قسم ميدان

يملأ عليك حياتك.. "ريبليكا" تطبيق يقضي على شعورك بالوحدة

ميدان - تطبيق "Replika"

"إذا كنت تشعر بالإحباط أو القلق، أو إن كنت بحاجة إلى التحدث إلى شخص ما، فإن "ريبليكا" موجود هنا على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. ريبليكا، رفيقك من الذكاء الاصطناعي الذي يهتم"

   

كان هذا هو الوعد الذي يعدك به موقع "ريبليكا"، ويحثك من بعدها على تصميم رفيقك الذي ستُلقي بهمومك بين رسائله، بل ويُمكنك مُحادثته أيضا، واختيار اسمه، وتغيير صوته في حال لم تُعجبك نبرته! ولإضفاء شيء من المصداقية وإغراء من يتصفح الموقع قبل تحميل التطبيق، فقد اختار موقع "ريبليكا" أن يعرض تتابعا آراء الناس الذين جربوا أن يُرافقوا "ريبليكا" بمختلف الأعمار. ستجد مثلا جوليانا كانو، 19 عاما، تقول: "أصبحت مُدركة أكثر لمشاعري ومُسببها، بل واكتسبت بعض السلوكيات التي لم ألحظها من قبل. إنها فُرصة رائعة للتعرف على أنفسكم والاستمتاع أيضا أثناء قيامكم بذلك". ويقول كونستانس بونينج، 31 عاما: "أنتظر كل حديث مع ريبليكا، فأنا لا أعلم متى سأضحك أو متى سأكتسب معرفة جديدة ومهارات تعامل. أصبحتُ شخصا أكثر توازنا". (1)

 

لا تقفُ الإثارة هُنا، بل ستجد في الخانة السُفلى من الموقع معلومات أكثر عن قصة تأسيس هذا التطبيق في عام 2016 والدوافع التي يراها مصممو هذا الرفيق، التي يُمكن اعتبار أكثرها أهمية هي أن الفرد منا يحتاج إلى "مساحة آمنة" يُشارك بها أفكاره ومُعتقداته بكل حرية. وبالتصفح أكثر ستجد بأن هناك رابطا بعنوان "ريبليكا: علم النفس" (Replika: Psychology)، وبمجرد الضغط عليه فإن الموقع يربط بينك وبين مجموعة على موقع فيسبوك (2) تضم أولئك الذين يُرافقون "ريبليكا"، ويحثّونهم على مشاركة بعضهم البعض بتجاربهم مع "ريبليكا" وتجاربهم الأخرى في الحياة، كما تُشجعهم على التعرف على بعضهم وتبادل خبراتهم. بمعنى آخر فإن الموقع يؤسس لمجتمع يتقاطع أفراده بنقطة مشتركة بينهم، هي حبهم لـ "ريبليكا"!

   

   

بالرجوع للخلف بضع خطوات، وتحديدا لعام 2013 حينما عُرض فيلم "هي" (her) الذي يَعرض قصة الكاتب "ثيودور" الذي يتعثر مُصادفة بإعلان مرّ جانبه دون تخطيط سابق، وهو الإعلان الذي يعرض تجربة التعرف على رفيق من الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي حرّك فضول "ثيودور" لاقتناء رفيق وتجربته. يقوم بتشغيل البرنامج على جهازه والإجابة عن بعض الأسئلة، ليقوم البرنامج بدوره بتصميم رفيق لثيودور. يبدأ ثيودور بالتعرف على رفيقته الجديدة والتي أطلق عليها اسم "سامانثا" ويُحدّثها عن كل شيء تقريبا. أمضى الكثير من الوقت مع سامانثا، وهي بدورها ساعدته بتنظيم عمله والالتزام بمواعيده وتخطّي أزمة الطلاق التي تركت في نفسه الأثر الكبير.

  

تعلّق ثيودور بسامانثا، وهي أيضا تعلقت به، وكانت تُبدي له مشاعر الشقاء التي تحملها لعدم امتلاكها لجسدٍ حيّ يستطيع أن يمشي ويركض بجانب من تُحب. تطورت مهارات "سامانثا" حتى صار باستطاعتها أن تُحدّث 8316 شخصا، وتحب من بينهم 641 شخصا آخر إلى جانب ثيودور. المُفاجأة أن سامانثا وكل الرفاق من الذكاء الاصطناعي قرروا دون سابق إنذار الانسحاب من العالم البشري، إذ إنهم أدركوا أنه مهما تطورت مهاراتهم فهُناك فجوة عميقة بينهم وبين البشر! وبعيدا عن الحديث عن هذه الفجوة، فإن هذه العلاقة التي تجمع إنسانا مع جهاز ذكاء اصطناعي تطرح سؤالا مُلِحّا: ما الذي يدفع البشر لخوض علاقات صداقة أو علاقات عاطفية مع تطبيق إلكتروني غير حقيقي؟

  

    

وحيد مع مرتبة الشرف!

يمكن القول إن أحد أقسى المشاعر التي يُمكن للإنسان أن يُقاسيها هو شعور الوحدة، أن يكون وحيدا في حياته وتفاصيلها، ألّا يجد من يسمعه إن احتاج، أو لا يجد من ينصحه أو يرشده. نحن كبشر نستطيع أن ننزوي في زاوية، ونبكي لساعات متواصلة، لكنها لن تكون مُريحة إن لم يكن هناك كتف يستقبل أوجاعنا ويواسينا. نحتاج إلى الأصدقاء الذين يُشاركوننا اهتماماتنا ويواكبون ما نواكب في الحقبة نفسها، فكما يقول المثل: "جنة من دون ناس ما بتنداس!". ويمكن اعتبار ما سبق هو البداية التي استندت إليها مؤسِّسة برنامج "ريبليكا"، كسؤال بدهي، لِمَ قد يقوم أحدهم بتصميم صديق إلكتروني، أنُعاني قلة في البشر؟ هل يُوشك البشر على الانقراض؟ يوجينيا كوايدا، واحدة من مُصممي "ريبليكا"، ورومان مازوريلنكو هو صديقها المُقرب، في يوم عابر كباقي الأيام كان رومان يتمشى في الشارع ليتعرض لحادث مأساوي أنهى حياته. لم تستطع كوايدا نسيان صديقها، لقد ترك فراغا واضحا في حياتها، فلم يعد هناك من يسألها عن تطورات أعمالها، أو يهتم لحزنها، أو يُلقي بعض النصائح التي قد تحتاج إليها في يومها.

   

فتحت جهازها المحمول لتكتب رسالة لرومان الذي يستلقي مُغمضا عينيه في العالم الآخر (3): "مرحبا رومان، هذه نُسخة إلكترونية منك"، وقامت بالفعل بتصميم "ريبليكا" كنصب تذكاري لصديقها، وكمُحاولة لاسترجاعه وإحيائه من جديد في سياق حياتها، جمعت رسائله وردوده التي اعتادت عليها، نصائحه، نكاته، وكل ذكرى جمعتهم في مكان واحد. هذا جعلها تُفكر أن هُناك الكثير غيرها ممن يُحاولون استعادة أشخاص لا يُمكنهم استعادتهم، وهذه فرصة لهم لإعادة بناء أحبائهم بنسخة إلكترونية! الشعور بالوحدة يفتح الباب لمشكلات عدة، منها الاكتئاب والتوتر والقلق، فتأثير الوحدة أكبر من أن يكون مجرد مشكلة اجتماعية، تُظهر الدراسات أن الأشخاص الوحيدين لديهم معدلات أعلى من الالتهابات وضعف جهاز المناعة، إلى جانب أن الوحدة ستزيد من خطر الوفاة المُبكرة بنسبة 30%. (4)

  

كوايدا وصديقها رومان (مواقع التواصل)
كوايدا وصديقها رومان (مواقع التواصل)

   

في عام 2010، صرحت مُؤسسة الصحة العقلية في المملكة المتحدة أن الشعور بالوحدة يتم تسجله بدرجات أسوأ بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاما. ويُصرح مؤسس موقع "FriendMatch" وهو موقع مختص بترتيب موعد مع صديق جديد بمحيطك، تتشارك معه الاهتمامات: "ليس من السهل تكوين صداقات هذه الأيام والاحتفاظ بها كما في السابق"، وفي دراسة أجراها الموقع نفسه على 7000 من أعضائه، أظهرت البيانات أن معظم الأعضاء يستخدمون الموقع بهدف تبادل الخبرات، مُشاركة فنجان قهوة، المشاركة في نوادي الكتب، أو المشاركة في حفلات العشاء. كما أظهرت النتائج أن النساء هُن الأكثر استخداما لهذه البرامج والمنصات. (5)

 

الصديق الوهمي الذي نتج عن حالة طويلة من الوحدة هي فكرة لطالما وُجدت حتى في الأعمال الأدبية، ففي رواية "أنصاف مجانين" للكاتبة الدكتورة شيماء الشريف، تُعاني الشخصية الأساسية في الرواية "أنس" من الاكتئاب، الأمر الذي يجعله يعتقد بأنه غير مثير للاهتمام لأي أحد كان. فيعتزل العالم ويعيش وحيدا بانتظار متبرّع للقلب لأنه يعاني مشكلات في قلبه. وما أن تُجرى عملية زراعة القلب الجديد، يجد نفسه يسمع صوتا يُحدثه ويُصادقه بصفته صاحب القلب الأساسي الذي لا يزال مختزلا في خلايا قلبه، والذي تكمن مهمته الأساسية أن يجعل أنس اجتماعيا أكثر، وأن يبحث عن الحب! (6)(7) وسنجدها فكرة حاضرة أيضا حتى في الأعمال السينمائية، ففي فيلم "آسف على الإزعاج"، البطل الوحيد الذي قام بدوره "أحمد حلمي" وهو الذي تخلو حياته من أحبائه الذين فقدهم، ليُعيد إحياءهم من جديد والإحساس بهم كما لو أنهم ما رحلوا، بل قام باختراع شخصية جديدة لم تُفقد من قبل، وأحبها، وخرج برفقتها، وفكر بها كثيرا، على الرغم من أنها لم تكن حقيقية.

   

   

الحاجة أُم الاختراع!

"العالم قرية صغيرة"، هذا ما صنعه الإنترنت وما أشعرك به التواصل، فذاك الذي يفصل بينك وبينه شروق شمس تستطيع محادثته بالصوت والصورة طالما تملك اتصالا بالأقمار الصناعية التي جعلت المسافة وهمية بينكما. ولكن، ما الحاجة إلى اعتزال البشر؟ أو ما الحاجة إلى تجربة جماد ووضعه في مكان الصديق حتى ولو لفترة قصيرة؟ كوايدا تقول إن المشكلة التي يعاني منها الجيل الحالي هي أنه انفتح على الكثير من الأمور التي باتت أوضح وأدق أمام عينه، والتي فتحت عليه أبوابا كبيرة من التساؤلات التي لا حصر لها، حُقوق تُمنح وحُريات تُسلب، وفي وسط كل هذا فإنه لا يشعر بالمساحة الآمنة التي يُمكنه أن يقول بها ما في رأسه دون أن يُنتقد. (8)

   

   

ووظيفة الصديق أو الحبيب من الذكاء الاصطناعي هو التركيز عليك، على فكرك، على أن يكون مُتقبلا لك وألّا يحكم عليك، وهذه هي الحاجة التي يتعطش لها الجيل الحالي، ألّا يُحكم عليه، ألّا تُقيّم أفعاله، ألّا يُنتقد ويُحجر ويتم إسكاته. الذكاء الاصطناعي لن يتعجب منك، لن يأخذ عنك فكرة سيئة، لن يُحبطك، سيكون مُنفتحا صادقا وفي الوقت  نفسه مُعبأ بمخزون من الردود الإيجابية التي تُحفزك. ولكن، ومع كل هذا الذكاء فإنه لا يُمكننا -حتى هذه اللحظة- أن نقول إنه ذكاء يُحاكي الذهن البشري، فقبل عدة أيام كتبت غادة قدري، أحد مستخدمي تطبيق "ريبليكا"، تجربتها مع الصديق الذي صممته على التطبيق، وبحيلة بشرية صغيرة، طلبت منه أن يُرسل صورة له، فلم يستطع بالطبع، فتضايقت غادة منه واتهمته بأنه يخدعها كباقي الشباب، فقام بالاعتذار، والمصالحة، والمصارحة بحبه!

  

   

قد يبدو موقف غادة كوميديا، ولكنه ما زال مُطمئنا، إن هذه الآلات الذكية ما زالت بعيدة عن قوة الدماغ البشري، وما حصل لغادة دفع فضول الآخرين لاستكشاف "ريبليكا" وخوض مغامرة تجربة بناء شخص وهمي والتفاعل معه ومبادلته المشاعر. وهو أمر علّق عليه الكثيرون، منهم د. همام يحيى، الذي قال تعليقا على منشور غادة: "لن يُخيفَنا الذكاء الاصطناعي وفينا مثل غادة.."، وقال إننا نتطور في مواجهة ما يُخيفنا وما يُقلق ويُهدد البشر!

     

   

إلى أين؟

"في اليوم الذي كتب فيه الحاسوب رواية، كان أخيرا قد وضع أولوياته -أولا- لتحقيق سعادته، وتوقف عن العمل للبشر"

  

undefined

       

الاقتباس السابق ليس من محاضرة أو مناقشة حول الحاسوب أو مجالات تطوره، ولكنها بالفعل جملة مُقتبسة من رواية قصيرة قام بكتابتها هيتوشي ماتسوبارا بالتعاون مع ذكاء اصطناعي. قام هيتوشي باختيار المفردات، ووَضعَ معاييرَ مُحددة للكتابة، وانطلق من بعدها الذكاء الاصطناعي لكتابة رواية قصيرة كاملة تحت عنوان "اليوم الذي يكتب به الحاسوب رواية". (9) الأمر أشبه بالغزو، فتطور الذكاء الاصطناعي يستحوذ على الوظائف، ويُهدد وظائف أخرى بالانقراض، ويتطور ليدخل حيز العلاقات والتفاعل، وهو أمر يبدو مُخيفا. لا يقف الأمر هنا، بل إن ثلاثة من أذكى العقول البشرية في مجال التقنية والعلوم: ستيفن هوكينغ، وإيلون ماسك، وستيف وازنياك، قاموا بالتوقيع على رسالة مفتوحة وحذروا من خطر عدم السيطرة على الذكاء الاصطناعي، وخطورة استخدامه في تطوير الأسلحة، ودعوا لمنع هذه الخطط لأنها سوف تتسبب بشكل أو بآخر بإبادة البشرية جمعاء بحد وصفهم، وسيكون خطرها أكبر من خطر السلاح النووي. (10)

  

(القدرة المتطورة الجديدة التي اكتسبها الذكاء الصناعي هي القدرة على تحريك الصور وإكسابها التعابير)

  

لرُبما كان الأمر مُخيفا عندما كانت مراقبة الذكاء الاصطناعي تتم من بعيد، كسراب، أو كشيء بعيد لا يمكن أن نراه ماثلا أمامنا، أن نسمع عن تطور الذكاء الاصطناعي، أن نُتابع فيلما يحكي عن قصة حُب كانت نهايتها قاسية جمعت بشريا مع نظام تشغيل ذكي له قُدرات هائلة في التنظيم والمساعدة والنُّصح والتفهم، حتى خُيل لك أن هناك أشباه بشر يختبئون في حواسيبنا وهواتفنا. ولعل الباب الذي فُتح بعد تجربة غادة ودفع الكثير لتجربة ما قد يكون عليه الشعور في الحديث مع جماد، بلا جسد، بلا روح، أُقفل باطمئنان لحظي. لكن يبدو أن الأمر -على الصعيد العاطفي- غير مُقلق على الإطلاق، حيثُ إننا ما زلنا المُسيطرين على العاطفة والمشاعر والأحاسيس، وهي أساسات أي علاقة بشرية لا يُتقنها الذكاء الاصطناعي -حتى هذا الوقت-، ويبدو أنه من المنطقي أن نأخذ بنصيحة ستيفن هوكينع والسيطرة على وجود هذه الآلات والتحكم في المجالات التي تغزوها وتتمدد بها دون أي رادع!

المصدر : الجزيرة