شعار قسم ميدان

كيف دمرت الرأسمالية نظرة الإنسان لنفسه والعالم من حوله؟

midan - human
اضغط للاستماع
     

حين سُئل ساراماغو عن الأسباب التي دفعته لكتابة روايته (الكهف) قال: "في صحيفة إسبانية قرأت أن امرأة قد كتبت في وصيتها أنها أرادت أن يُذرى هشيمها حول مركز تسوق بعد أن تموت، لأنها قضت أسعد لحظات حياتها هناك." وهنا يعلق ساراماغو على هذه القصة "هل يمكن أن يجعل التسوق أحداً سعيداً؟ هل يمكن أن يكون الاستهلاك سبباً للحياة!" [1]

 

في رواية الكهف، يقوم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998، يقوم بتأمل النفس البشرية في أحوال الفقد والخوف من المستقبل ومواجهة الزمن الحديث بتطوراته الصناعية المتسارعة والتقدم التقني الهائل الذي يختزل قرون من الوجود الإنساني في فترة زمنية وجيزة! [2]

 

تقع أحداث الرواية في عالمين مختلفين، عالم المدنية الحديثة والأبراج الشاهقة، وعالم الريف والطبيعة بهدوئه ورتابته، مقدمةً نقداً للرأسمالية وتغولها على أنماط الحياة الريفية وعلاقة المركز بالأطراف من جهة، ومن جهة أخرى يمكن قراءتها باعتبار أنها تقدم نقداً لنمط الحياة التقنية الحديثة وثقافة الاستهلاك التي استشرت في جسد المجتمع الحديث.

 

عن الرواية وأحداثها
undefined

تدور أحداث الرواية حول رجل في الرابعة والستين من عمره، يُدعى سيبريانو ألغور، ويعمل منذ سنوات بعيدة في صناعة الأواني الفخارية كالفناجين والجرار ونحوها، وذلك وفقاً لتقاليد الحرفة وأعرافها التي يبدو أنه قد توارثها عن أسلافه الذين عملوا بهذه الحرفة أيضا.

 

يعيش السيد ألغور في بيت ريفي متواضع مع ابنته مرتا وصهره مارسال غاشو الذي يعمل حارساً في مركز تجاري في المدينة الواقعة على مقربة من الريف، هذا المركز البالغ ارتفاعه أكثر من ثمانية وأربعين طابقاً بحيث يبدو وكأنه يمثل عالماً مستقلا بحد ذاته، طالما وُجد فيه كافة متطلبات الحياة سواء تلك الضرورية منها أو الرفاهية، من مواد غذائية ومطاعم ومركز صحي ومراكز ترفيه.. الخ.

 

يقوم السيد ألغور ببيع منتجاته الخزفية التي يصنعها إلى المركز-في المدينة بالجملة، وعلى هذه الحال استمرت حياة الرجل مع ابنته وزوجها بهدوء وسعادة ودون ضجيج يذكر، حتى جاء ذلك اليوم الذي سيصحو فيه ليرى أن عالمه كله الذي اعتاد عليه ونشأ بداخله قد بات مهدداً بالانهيار التام، هذا عندما سيخبره المركز أن منتجاته الخزفية لم تعد تشبع رغبة المستهلكين ولا ذائقتهم، ذلك أنهم باتوا يفضّلون الأواني المصنّعة من مواد اخرى مثل البلاستيك والتي تعرض عليهم بأسعار أقل وتلبي رغباتهم الاستهلاكية المتجددة والمتسارعة.

 

هنا تبدو أن حياة السيد ألغور وابنته قد باتت على المحك، فأن يجد المرء نفسه وقد انهار عالمه الذي ألفه بفعل طغيان آلة انتاج ضخمة لا يستطيع مجاراتها مهما أوتي من قوة، فإن هذا يعني أن يصبح الإنسان – كما يقول السيد العجوز- "خارج نطاق الحياة"، إنه شعور قاسٍ ومؤلم هذا الذي يتجرعه المرء وهو يرى أن الزمن قد تجاوز كل شيء عرفه وانتمى له، وهو شعور تمكن ساراماغو من وصفه بدقة متناهية من خلال تأمله الكثيف في النفس البشرية واغترابها عن الزمان ومخاوفها من الحاضر والمستقبل!

 

يبدأ السيد ألغور رحلة صراع جديدة مع الزمن، إنه صراع لأجل التحرر من نمط الحياة الحديثة الذي يسلب الإنسان حريته وتفاعله مع العالم الطبيعي.
يبدأ السيد ألغور رحلة صراع جديدة مع الزمن، إنه صراع لأجل التحرر من نمط الحياة الحديثة الذي يسلب الإنسان حريته وتفاعله مع العالم الطبيعي.
 

والحال هذه، لا يجد السيد ألغور بُداً من مغادرة عالمه الريفي الصغير والدافئ، إلى المدينة تحت إلحاح ابنته وزوجها الذي كان دائم التطلع إلى حياة المدينة وصخبها وسرعتها، وهناك في المركز النابض بالحياة العصرية وحيث سيسكن في إحدى الشقق في مجمع سكني ضخم، يجد السيد ألغور نفسه وقد حُوصر بجدرانٍ أربع، منقطعاً عن التواصل الحي مع البشر والطبيعة والهواء والشمس، وحيث لا يجد ما يتعامل معه داخل هذه الشقة/ الكهف، سوى تلكم الآلات الإلكترونية.

 

عندئذ يبدأ السيد ألغور رحلة صراع جديدة مع الزمن، إنه صراع لأجل التحرر من نمط الحياة الحديثة الذي يسلب الإنسان حريته وتفاعله مع العالم الطبيعي، ويختزل وجوده في مجموعة تفاعلات تقنية لا روح فيها، وأمام هذا "التشييء" للوجود الإنساني، هذه الحياة العصرية التي تتضاءل فيها قيمة الإنسان إلى حد الاندثار أمام تعاظم مفردات الحياة التكنولوجية، يختار السيد ألغور أن يتحرر من عبودية المركز وأن يعود إلى حياة الريف مجدداً، وهو قرار تبعه فيه ابنته وزوجها.

 

لكنهم وبعد عودتهم إلى الريف سيجدوا أن الحياة قد تغيرت كثيراً بفعل التغول الرأسمالي، وهو ما يعني صعوبة البقاء فيه، فيقرروا مواصلة السعي والتنقل بحثاً عن حياة تشبههم، لم يَــعِد ساراماغو شخوص روايته بطمأنينة من نوع ما ولا بحياةٍ سعيدة، ولم يكافئهم بالأمان مقابل اختيارهم التحرر، وكأنه أراد أن يقول إن ثمن الانعتاق من نمط الحياة الحديثة التي استطاعت أن تصبغ العالم بصبغتها لن يكون وردياً وهانئاً.

 

التغول الرأسمالي وتدمير العوالم التقليدية
(pexels.com)
(pexels.com)

من خلال قصة هذه العائلة الصغيرة، استطاع الروائي البرتغالي ساراماغو أن يقبض على الآثار المؤذية للاحتكار الرأسمالي وتطلعه المستمر لغزو أسواق جديدة، ماينتج ظاهرة العولمة – وهي ظاهرة مرتبطة بالرأسمالية تماماً- بكل جوانبها المدمرة لكافة أشكال الحياة ما قبل الصناعية. [3]

 

صوّر ساراماغو في رائعته هذه قساوة الاقتلاع ومأساويته، وقصد اقتلاع الإنسان من قريته/ إنسانيته حيث ترعرع ونشأ وعاش انتصاراته وخيباته[4]، وراكم خبراته وتشكلت لديه ذاكرة وهوية مرتبطة بالمكان تماما، إلا أن هذه العلاقة بالمكان وما تمثله من أبعاد شعورية وعاطفية لم تكن ضمن الحسابات الرأسمالية وهي تتغول على الحياة الريفية وتقوم بتحطيم العوالم التي عرفها الإنسان الريفي وعاش ردحاً من الزمن بداخلها.

 

إن هذه المأساة التي طالت عائلة السيد ألغور يمكن عدّها نموذجاً مصغراً لما قامت به الرأسمالية في أنحاء المعمورة كلها، فالآليات الداخلية للإنتاج الرأسمالي يجعلها دائمة السعي إلى الموارد والمواد الخام التي تضمن استمرارية انتاجها، ونحو أسواق جديدة لغزوها، ومستهلكين جدد لمنتجاتها، الأمر الذي أدى إلى بزوغ الإمبريالية والعولمة التي قامت بتدمير كافة الهياكل والبنيات الاجتماعية ما قبل الصناعية، معيدةً تشكيل العالم على صورتها وثقافتها التي تخلقها، وهي ثقافة السوق وما يرتبط بها من قيم فردانية مادية استهلاكية، جردت العالم من مخزونه الصوفي وأفقرته من أي معنى ودلالة. [5]

 

الرأسمالية وكهف أفلاطون
 (pexels.com)
 (pexels.com)

في مقدمة الرواية يستعير ساراماغو من أفلاطون أمثولته – التي نقلها عن معلمه سقراط- حول سكان كهف ما، والتي يريد من خلالها أفلاطون أن يشرح لطلابه ومحاوريه نظريته حول الإنسان ورؤيته للحقيقة، فيقول لهم:
"لنفترض أن مجموعة من البشر، رجالا ونساء، ولدوا وعاشوا داخل كهف مظلم. واستقروا طيلة حياتهم في وضعية الجلوس المستقيم، وقُيِدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال، بحيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم أو رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم لأن السلاسل منعتهم من إدارة رؤوسهم. ولنفترض أن نارا تشتعل خلف هؤلاء الأشخاص، فينعكس ظلها على حائط أمامهم. ثم يتخلل هذا الظل خيالات كائنات غريبة، وأصوات غير مفهومة.. وبالتالي فإن ما يراه هؤلاء المكبلون طيلة حياتهم، سوف يشكل المصدر الوحيد لمعارفهم. ثم لنفترض أن أحدهم قد تحرر وخرج إلى الدنيا، وعاد بمعارف جديدة، أعمق وأوسع وأوضح، فهل سيتقبل المكبلون معارفه على أنها حقائق؟" [6]

 

بعد قرون طويلة، سيأتي ساراماغو ليقول بأن البشرية ما زالت تقبع على حالها في كهف أفلاطون، وتحتفي وفق العادة القديمة بما تراه من صور وتهويمات بصرية جاعلةً منها حقائق أزلية، بحيث تسلب هذه الصور البراقة والتمثلات البصرية التي يتم إنتاجها وفقاً لأجندات مسبقة، ويتم عرضها عبر جهاز التلفاز، تسلب عقل الإنسان ولبّه، وتخطف سمعه وبصره وتبقيه رهينة لها.

 

ما إن ينتقل السيد ألغور إلى السكن مع ابنته وصهره داخل تلك الآلة الجهنمية المسماة "المركز" حيث يعمل الصهر بصفة حارس. حتى يكتشف ما أعدته الحياة العصرية للإنسان، فبعد بحثه في أعماق "المركز" يجد السيد ألغور بقايا عظام وجماجم يكتشف أنها ليست سوى بقايا الإنسان المعاصر الذي سلبته الرأسمالية وعيه الذاتي[7]، وجعلته لا يستشعر حياته إلا عبرها،" فالشركات والنظم الدعائية الجبارة قامت بنسخ وعي الإنسان، وسربت إليه وعياً جديداً، خلق منه كائناً نهماً وجائعاً إلى منتجاتها في كل موسم". [8]

 

ينهي ساراماغو روايته، ربما بالطريقة التي أرادها أفلاطون. فعند الخزاف وأسرته باتت الحقائق الجلية والمفاهيم واضحة، الأمر الذي أكسبهم قوة مكّنتهم من الانعتاق من أسر الرأسمالية والخروج من كهفها الذي ابتلع الإنسان بداخله جاعلةً منه مجرد مادة استعمالية كغيره من المنتجات التي تستثمر فيها، وهو ما سيتجسد في نهاية الرواية عندما يقوم المركز – بصورة فيها الكثير من الاستخفاف بالإنسان- بوضع إعلان ضخم يقول فيه: "سيجرى قريباً افتتاح مغارة أفلاطون أمام الجمهور، تسلية استثنائية، لا نظير لها في العالم، لا تنتظروا طويلاً، اشتروا بطاقات الدخول." [9]

 

على الرغم من أن الخزاف وعائلته مضوا في طريق لم يجربوها من قبل، إلا أن معرفتهم كانت أقوى من الرفاهية الخادعة والأمان الكاذب الذي وعدهم به المركز، وكأن ساراماغو أراد قول ماقاله دوستويفسكي من قبله، "أن يعيش الإنسان عارفاً وشقياً، خير له من أن يعيش جاهلاً.. وسعيداً". [10]

المصدر : الجزيرة