شعار قسم ميدان

من عجائب الأوقاف الإسلامية!

ميدان اوقاف

"وينتصبُ كل معيد ممن عُيّن في جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج الشرح درسه ويصحح له مستقبله، ويرغّب الطلبة في الاشتغال، ولا يمنع فقيهًا أو مستفيدًا ما يطلبُ من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة فى غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث فى كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس فى طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء".

(السلطان المنصور قلاوون في وقفيته على مدرسته وبيمارستانه "مستشفاه" بالقاهرة)

 

الوقف هو الصدقة الجارية، وفي الاصطلاح الفقهي: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة أو الثمرة. وهو نظام ارتبط، منذ فجر الإسلام، بمجموعة من المؤسسات الاجتماعية والخيرية التي كانت رافداً هاماً في الحياة، سواء على مستوى الأسرة أو الجماعة أو الأمة. والمتتبع لمسيرة المجتمعات الإسلامية في التاريخ المعاصر، يلاحظ أن تحولاً جذريا أصاب مؤسسة الوقف؛ فبعد أن كانت مؤسسة أهلية ذات درجة عالية من الاستقلال الإداري والمالي والوظيفي -ارتبطت بها مهام اجتماعية واقتصادية متعددة كالتعليم والصحة والمساجد وغير ذلك- أصبحت مؤسسة الوقف مؤسسة حكومية تحكمها أنظمة وسياسات الحكومات وخططها؛ وبالتالي فقدت هذه المؤسسة توهجها ودورها والتفاف الناس حولها[1].

 

من غرائب الأوقاف في حضارتنا!
لقد تشعّبت وتنوعت مصارف الأوقاف الإسلامية في عصورها المختلفة؛ لكننا نجد أن هذه المصارف والمؤسسات الوقفية كانت انعكاسًا لافتًا لمدى ذوق وسموّ الحضارة الإسلامية، ولدينا عشرات -إن لم يكن مئات- النماذج التي تُدلل على ذلك الرقي والإبداع والإنسانية، ولقد وقف الرحالة الأشهر ابن بطوطة منبهرًا بما رآه في أوقاف دمشق في القرن الثامن الهجري في ظل حكم المماليك البحرية قائلاً: "والأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها؛ فمنها أوقاف على العاجزين عن الحجِّ، يُعطى لمن يحجّ عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهنَّ، وهنَّ اللواتي لا قدرة لأهلهنَّ على تجهيزهنَّ، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل؛ يُعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزوَّدُون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقَّة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمرُّ عليهما المترجِّلُون، ويمرُّ الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير"[2].

 

من أغرب ما تناوله ابن بطوطة
من أغرب ما تناوله ابن بطوطة "أوقاف الأواني" (مواقع التواصل)

ومن أغرب ما تناوله ابن بطوطة "أوقاف الأواني"؛ إذ قال عن تجربة شخصيَّة له بخصوص هذا الوقف: "مررتُ يومًا ببعض أزقَّة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يُسَمُّونها الصَّحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إيَّاها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيِّدَ الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو -أيضًا- ينكسر قلبه، ويتغيَّر لأجل ذلك؛ فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت همَّته في الخير إلى مثل هذا"..![3]

 

وأبدع المسلمون في وقف المستشفيات؛ حتى إننا وجدنا في ذلك العصر شروطًا تدلُّ على مدى التقدم والرحمة التي بلغتها هذه الحضارة آنذاك؛ فلقد كان يُذكر في نصِّ الوقفيَّة وجوب تقديم طعام كلِّ مريض في إناء مستقلٍّ خاصٍّ به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، وقد خُصِّص في البيمارستانات "المستشفيات" قاعات مستقلة للمؤرَّقين من المرضى؛ إذ كانوا يُعزلون فيها، فيُشَنِّفون آذانهم بسماع الأناشيد، والاستماع إلى القصص التي يرويها عليهم القُصّاص حتى يغلبهم النوم؛ وقد ظَلَّتْ هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسيَّة إلى مصر عام (1798م)، فشاهدها العلماء الفرنسيون بأنفسهم وكتبوا عنها[4].

ومن الأوقاف الغريبة والنافعة في عهد العثمانيين ما ذكره الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أنه حُكي له عن وقف غريب في مدينة طرابلس الشام؛ كان ريعه مخصَّصًا لتوظيف اثنين يمرَّان في المستشفيات يوميًّا؛ فيتحدَّثان بجانب المرضى حديثًا خافتًا؛ ليَسْمَعَه المريض بما يوحي له بتحسُّنِ حالته، واحمرار وجهه، وبريق عينيه![5]

 

 بيمارستان قلاوون (مواقع التواصل )
 بيمارستان قلاوون (مواقع التواصل )

لم يقف إبداع هذه الحضارة عند الأوقاف الخيرية التي خُصّصت لبني البشر المحتاجين، وإنما تعدى الإبداع إلى إنشاء أوقاف خُصِّصت لعلاج الحيوانات ورعايتها؛ وقد وُجدت نصوص وقفيَّة تُدَلِّل على وجود أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف أخرى لرعي الحيوانات المسنَّة والعاجزة، ومنها أوقاف المرج الأخضر الذي حُوِّل فيما بعد إلى ملعب لكرة القدم في دمشق؛ ووُجد وقف آخر للقطط تأكل منه وتنام فيه.[6]

 

أسبقية وتفنن!
اهتمَّ العثمانيون بوقف المدارس والمكتبات العامَّة، فقلما خلت مدينة تابعة للدولة العثمانيَّة من إنشاء مدرسة موقوفة لكافة طلابها من أبناء الفقراء والأغنياء؛ فمن أشهر هذه المدارس: مدرسة السلطان مراد ببلدة مغنيسا، ومدرسة السلطان سليم الأول بقسطنطينية، ومدرسة السلطان أحمد، فهذه المدارس وغيرها كانت في العاصمة وحواليها؛ ووُجدت مدارس أخرى؛ مثل: المدرسة السلطانيَّة المراديَّة بمكة، ومدرسة السلطان عبد الحميد[7].

 

ومن المدارس المتخصِّصة الموقوفة في ذلك العصر وُجدت المدارس الحربيَّة، وهو نظام جديد لم يكن يعرفه العالم الإسلامي من قبل؛ ولقد كان السلطان مصطفى الثالث (ت 1187هـ=1774م) من أكثر سلاطين العثمانيين اهتمامًا بإنشاء هذه المدارس؛ إذ اهتمَّ بإنشاء مدارس الطُبجية[8] و"إنشاء مدرسة حربيَّة لتخريج الضباط على مثال مدرسة سانسير الفرنساويَّة، التي أسسها نابليون الأول بفرنسا"[9].
 

وتنوَّعت الأوقاف العلميَّة في ذلك العصر؛ حيث إن هناك مَنْ أَوْقَفَ أوقافًا عجيبة للجامع الأزهر -كان بمثابة جامعة كبرى – لتضمن حُسْنَ سَيْرِ العمليَّة التعليميَّة، وتوفُّر أكبر قسط من الراحة للمدرِّسين؛ ومن هذه الأوقاف وقف البغلة! وهو وقف خُصِّصَ للإنفاق على البغال التي يركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضمان الراحة لهم[10].

 

ومن الأوقاف الغريبة واللافتة في ظل الدولة العثمانية، وجدنا أوقافًا لإعارة الحليِّ والزينة في الأعراس والأفراح؛ فيستفيد من هذا الوقف الفقراء والعامَّة بما يلزمهم من الحليِّ لأجل التزيُّن بها في الأعراس والحفلات، حتى إذا انتهت تلك المناسبات أعادوها إلى موضعها، فيتيسَّر للفقير أن يكون يوم عرسه بحلَّة لائقة، ولعروسه أن تُحَلَّى بحلية جميلة لا تكلفها شيئا؛ مما يدخل عليهما السرور والسعادة، وينسيهما ألم الفقر والفقد.

 

وفي المغرب العربي أوقاف الأندلسيين؛ وهي من النماذج الراقية والجميلة التي تكشف لنا البعد الإنساني التكافلي بين أبناء هذا الإقليم المفقود، فقد قامت تلك الأوقاف بعد محنة الأندلسيين (الذين نزحوا إلى المغرب العربي، واستقروا في المدن الساحليَّة المغاربية، وساهموا في الحرب ضد الإسبان منذ القرن السادس عشر الميلادي) قامت بإعانة الأندلسيين اللاجئين الفارِّين من جحيم الاضطهاد الإسباني الكاثوليكي؛ وذلك تخفيفًا لمعاناتهم، وجبرًا لخواطرهم من ألم الفقد والطرد والحرمان.
 

أندرو كارنيجي أوَّل مؤسس للأوقاف الغربيَّة ذات النفع العامِّ (مواقع التواصل )
أندرو كارنيجي أوَّل مؤسس للأوقاف الغربيَّة ذات النفع العامِّ (مواقع التواصل )

ومن اللافت أن المسلمين قد سبقوا العالم الغربي بثلاثة عشر قرنًا في ميدان الأوقاف، ذلك الميدان الذي ضمن لهم قدرة غير مسبوقة لإشراك المجتمعات المدنية الإسلامية، ومساهماتها الفاعلة والمؤثرة في مسيرة حضارتنا، وجدير بالذكر أن أوَّل الأوقاف الغربيَّة ذات النفع العامِّ كان وقف كارنيجي؛ الذي أَسَّسه السيد أندرو كارنيجي عام (1911م) في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، ووقف روكفلر؛ الذي تأسَّس عام (1913م)[11].

 

وبالرغم من التقدُّم السريع الذي وصل إليه الغربيون في مجال الأوقاف، إلاَّ أن الوقف الغربي قد اختلف عن الأوقاف الإسلاميَّة اختلافًا جذريًّا؛ فالمؤسَّسات الاجتماعيَّة الغربيَّة كثيرًا ما يقتصر الانتفاع بها على أبناء بلادها أو مقاطعاتها، بينما كانت مؤسَّساتُنَا الاجتماعيَّة الوقفيَّة تفتح أبوابها لكل إنسان على الإطلاق، بغض النظر عن جنسه أو لغته أو بلده أو مذهبه[12]، وهذا ما لا يزال مسطورًا في كُتب رحّالاتنا وجغرافيينا الذين وصفوا أوقاف العالم الإسلامي، ومصارفها، وخدماتها التي كانت تقدمها لعموم الناس دون تمييز.

المصدر : الجزيرة