شعار قسم ميدان

بريق مفقود.. شباب إيران والثورة على آيات الله

midan - iran
اضغط للاستماع

 

يخلع علي نعليه أمام إحدى المساجد البسيطة بالعاصمة الأفغانية كابل، ويدخل ليؤدي صلاته بعد أن يضع حجرًا صغيرًا للسجود كما يفعل سائر الشيعة، وما هي إلا دقائق حتى ينتهي من صلاته، ويجلس بملابسه المتواضعة في حرم المسجد مرددًا بعض الأذكار، في حين تعلو ملصقات شيعية تقليدية من حوله تناجي الحسين وفاطمة الزهراء.

 

على بُعد خطوات يجلس أحدهم منغمسًا في صلاته بشكل طبيعي، لكنه ما إن ينتهي من صلاته حتى يشرع في الاقتراب قليلًا من "علي" لافتًا انتباهه، ثم يبدأ في تعريفه بنفسه كأفغاني يعمل مع الحرس الثوري الإيراني، ويشرع في دعوته للجهاد لحماية الأماكن الشيعية المقدسة.

 

لا يبدو كلام الرجل مقنعًا في البداية، لا سيما وهو يتحدث لرجل أفغاني بسيط، يجد بالكاد قوت يومه في واحدة من أفقر بلدان العالم، ولا يبالي على الأرجح بما يفعله الشيعة والسنة العرب، لكن الدعوة للجهاد سرعان ما تمتزج بعرض مالي جيّد، ووعد بالحصول على الجنسية الإيرانية بعد الانتهاء من القتال، وكل ما عليه هو أن يتواصل مع "جواد".. الشخص الذي سيتولى مهمة إرساله بالفعل لأرض المعارك.

يأتي العشرات من الأفغان ويحصل المقاتل منهم على راتب يبلغ 500 دولار، بالإضافة لوعود بالحصول على الجنسية والعودة للاستقرار في إيران
يأتي العشرات من الأفغان ويحصل المقاتل منهم على راتب يبلغ 500 دولار، بالإضافة لوعود بالحصول على الجنسية والعودة للاستقرار في إيران

يجلس جواد على مقعده في مكتب متواضع تابع لشركة سياحية بالعاصمة الأفغانية كابل، وعلى غير المتوقع في بلد فقير مثل أفغانستان، فإنه مشغول باستمرار بمطالعة طلبات الراغبين في السفر من عشرات الأفغان، بيد أن الوجهة التي يستقبل من أجلها الطلبات هي وجهة واحدة فقط، ولا تبدو سياحية أبدًا.

 

البلد الوحيد الذي يستطيع جواد أن يأخذك إليه من مكتبه الغامض في كابل هو سوريا، من مكتب لا يحمل أية لافتة تشير لكونه مكتبًا سياحيًا بالأساس، إلى بقعة هي الأكثر التهابًا في العالم الآن، فجواد في الحقيقة لا يكترث بالسياحة، ومهمته الأساسية التي وكّلته السفارة الإيرانية في أفغانستان للقيام بها هي تجنيد الأفغان، من الشيعة في الغالب، لصالح الحرب مع نظام الأسد في سوريا.

 

فاطميون، اسم اللواء العسكري الأفغاني المدعوم إيرانيًا والمتواجد بقوة في العاصمة السورية، إذ يأتي العشرات من الأفغان إلى هنا لحماية عقيدتهم كما قيل لهم، ولحماية ضريح السيدة زينب بريف دمشق، وكذلك للخروج من جحيم الفقر في أفغانستان، حيث يحصل المقاتل منهم على راتب يبلغ 500 دولار، بالإضافة لوعود بالحصول على الجنسية والعودة للاستقرار في إيران.

 

بيد أن بعضهم لسوء حظه لا يعود أبدًا، كما تشي بذلك جنازات قتلى لواء فاطميون التي تُقام في طهران، وهي جنازات لا تردع غيرهم عن الاستمرار في التدفق على سوريا، باحثين ربما عن هدف يجعل لحياتهم معنى، ويجلب عائدًا ماليًا مستقرًا في الوقت ذاته، وهي نفس الأسباب التي تدفع غيرهم من فقراء الشيعة في باكستان للانضمام للواء زينبيون الباكستاني، والتابع للحرس الثوري الإيراني هو الآخر، والذي يجنّد مقاتليه عن طريق صفحة على الفيسبوك[1].

 

صحوة شبابية شيعية؟
هذا إذن هو وجه إيران الذي نراه في السنوات الأخيرة، أعلام سوداء وخضراء وصفراء ترفرف في ساحات المعارك بسوريا والعراق، ويحملها بالأساس شباب لبناني وعراقي وأفغاني وباكستاني ينتمي السواد الأعظم منه للمذهب الشيعي الجعفري، وهي أعلام لم تعد تثير حفيظة أحد من صناع القرار في الغرب كما في السابق، والمنشغلين هذه الأيام بمراكب الهجرة غير الشرعية، وبأعلام داعش السوداء دون غيرها.

 (رويترز)
 (رويترز)

عصر ذهبي شيعي كما يبدو، تتمتع فيه إيران ورجالها باليد العليا سياسيًا وعسكريًا، بعد أن تراجع دور مصر، وتعثرت السعودية في اليمن، في حين لا تزال تركيا متخبطة محاولة تعريف معالم دورها الجديد بالمنطقة، فنشهد لأول مرة صحوة شيعية شبابية بالتوازي مع تراجع الإسلام السياسي السني في العالم العربي، وهي صحوة تملأ فراغًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا بالشام والعراق، ولا يقف لها بديل على الناحية الأخرى إلا تنظيم الدولة الإسلامية حتى اللحظة.

 

مشروع صلب بناه قادة إيران بدأب سياسي وتحمّل أعباء العقوبات الاقتصادية الغربية الشاقة لعقود طويلة، قبل أن ينجح في اقتناص الاعتراف الدولي ببرنامجه النووي وحتمية الانفتاح عليه اقتصاديًا في عام 2015، لكنه في الحقيقة مشروع يتسم ببعض الهشاشة أكثر مما يبدو، وهي هشاشة يمكن أن نتلمسها من عاصمة دولة الميليشيات الشيعية نفسها، ويبدو مصدرها هو نفس مصدر القوة الإيرانية على الأرض: الشباب!

 

شباب إيران: جيل ما بعد الثورة
تتعالى أصوات الضجيج القادمة من إحدى البيوت في قلب طهران، ويتوافد الرجال والنساء على المنزل تاركين سياراتهم الفارهة بالخارج، وما هي إلا لحظات حتى تكشف النساء عن وجوههن الأخرى، لتخلع كل واحدة منهن حجابها والسُترة المفروضة قانونًا عليها، وليُطلقن العنان لمواهبهن في الرقص على أنغام الموسيقى الصاخبة بالتنورات القصيرة مع أصدقائهن من الرجال.

 

ثوان قليلة ويفتح أحدهم حاوية بلاستيكية ضخمة كحاويات زيوت السيارات، مملوءة بالنبيذ ليس إلا، ولا يستغرق الأمر لحظات حتى تُفرغ الحاوية من محتواها، لتدور كؤوس النبيذ والفودكا، وغيرها من خمور يتم تهريبها أو تصنيعها سرًا داخل البيوت الإيرانية، ثم يبدأ الضوء الخافت المنبعث من لفافات السجائر المشتعلة في مزاحمة أضواء الحفل، والممتلئة عادة بالأفيون القادم من أفغانستان، والمنتشر بين الإيرانيين على نطاق واسع.

بعد وصول روحاني للرئاسة قلّت كثيرًا حالات تحرش الشرطة بتلك الحفلات الخاصة، وبات نوعًا من العُرف السياسي أن يُترك الناس لما شاؤوا أن يفعلوه ما داموا بين أربعة جدران
بعد وصول روحاني للرئاسة قلّت كثيرًا حالات تحرش الشرطة بتلك الحفلات الخاصة، وبات نوعًا من العُرف السياسي أن يُترك الناس لما شاؤوا أن يفعلوه ما داموا بين أربعة جدران

يدور الحفل بعيدًا عن أعين النظام الإسلامي، ولكن الضجيج أحيانًا ما يصل إلى أسماع أحد ضباط الشرطة، وهو شخص يمكن إسكاته عادة بدفع رشوة، والمبلغ المتعارف عليه هو خمسين ألف تومان، أي حوالي 15 دولارًا فقط، ولكن الأمر ليس مضمونًا دومًا، إذ يمكن أن يجد أحدهم نفسه في السجن لفترة قصيرة، وهي تجربة مر بها كثير من الشباب هنا، لكنها لم تثنهم عن حضور تلك الحفلات أبدًا.

 

بعد وصول روحاني للرئاسة قلّت كثيرًا حالات تحرش الشرطة بتلك الحفلات الخاصة، وبات نوعًا من العُرف السياسي أن يُترك الناس لما شاؤوا أن يفعلوه ما داموا بين أربعة جدران، لكن التبعات الاجتماعية أحيانًا ما تتجاوز تلك الجدران بكثير، لتُجبر النظام الإسلامي على التعاطي مع الواقع كما هو، خاصة حين يتعلق الأمر بصحة الشباب، وهو ملف لا تسمن فيه الأيديولوجيات ولا تغني من جوع.

 

بدون ضجة إعلامية، افتُتِح في سبتمبر/أيلول من العام الماضي أول مركز للتعافي من إدمان الكحوليات في إيران وبترخيص رسمي، في بلد يعاني منه مائتا ألف من إدمان الخمور، وتكمن المعضلة بالتحديد في الأساليب غير الآمنة التي يتم بها تصنيع الخمور المحظورة رسميًا في المنازل، والتي عادة ما تسبب العمى والوفاة، وهو ما يدفع مسؤولي وزارة الصحة باستمرار لتحذير الحكومة من "ضحايا الكحوليات المنزلية" كما تسمى.

 

خطوة تأخرت فيها الدولة الإيرانية كثيرًا، على العكس من خطواتها في مجال مكافحة الإدمان، والبادئة عندما وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، ووصل "رفسنجاني" البراغماتي ثم "خاتمي" الإصلاحي لرئاسة الجمهورية، فالإيرانيون هم ثاني أكثر شعب إدمانًا للأفيون في العالم[2]، لأسباب جغرافية جزئيًا بطبيعة الحال، كما يتجاوز عدد مدمني المخدرات في إيران بكافة أنواعها مليوني مواطن.

 

يقوم الباسيج الخاضع لإشراف الحرس الثوري بتلبية كافة احتياجاتها، وهو ما يفسر استمرار تمتع المحافظين بقاعدة شعبية قوية بينهم

يمكن للزائر هنا أن يلحظ بقوة انتشار تلك الحفلات الصاخبة في مختلف أحياء طهران، كما يقول مصطفى أحد زوار إيران من العرب، لكن ساعات الرقص والسُكر تلك لا تعني أبدًا لا مبالاة هؤلاء، بقدر ما تشي برغبة في كسر المحظور، وهي رغبة تتجاوز أحيانًا الجدران الأربعة والمساحات الشخصية وتشعل المجال العام، كما جرى عام 2009، حين خرج معظم أولئك الشباب للشوارع احتجاجًا على إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.

 

لم يكن الخروج هنا سياسيًا فقط، نظرًا لكونه أول رئيس محافظ منذ الحرب مع العراق وتم انتخابه في ظروف وصفها البعض بعدم الشفافية، بل لعله كان شخصيًا أيضًا بالنظر لكونه أول رئيس عمل سابقًا في مليشيات الباسيج ألد أعداء تلك الشريحة من الشباب العلماني إن جازت تسميته بذلك، والذين يصطدمون بعناصر الباسيج بين الحين والآخر في نقاط التفتيش المرورية الباحثة عن زجاجات الخمر أو آثار الأفيون في سياراتهم، بل وفي أي مكان بالشارع، حيث يمكن أن يظهر أحدهم فجأة طالبًا من فتاة أن تلتزم بضوابط الملبس المفروضة قانونًا، أو مقتحمًا خصوصيات العاشقين بتوبيخهم على الاختلاط في الأماكن العامة.

 

على العكس من أولئك الشباب المتعلم والعلماني في آن، يعتمد الباسيج في قواعده على الشباب الريفي البسيط، والذي تلقى تعليمًا أساسيًا متواضعًا في القرى وتشرب ثقافة شيعية قوية من الأسرة والجامع، وهي شريحة لا تبالي كثيرًا بالانفتاح الاقتصادي من عدمه، لأنه انفتاح لن يجلب لها وظيفة تناسب خلفيتها في الغالب، في حين يقوم الباسيج الخاضع لإشراف الحرس الثوري بتلبية كافية احتياجاتها، وهو ما يفسر استمرار تمتع المحافظين بقاعدة شعبية قوية بينهم، بل وتحفظ بعض المتشددين منهم على الاتفاق الأخير مع الغرب.

 

ثمة معضلة اجتماعية اقتصادية تكشف عن نفسها هنا، وهي أن النمو والانفتاح اللذين طالما تمناهما النظام ليقلّص الفقر ويحتوي جزئيًا غضب الشباب، يستتبعان على المدى البعيد توسّع الطبقات الوسطى الكائنة بالمدن بتعليمها الجامعي ومهاراتها المهنية، والأكثر انفتاحًا وتمدنًا بطبيعتها، والأكثر بُعدًا في نفس الوقت عن عقيدة النظام الشيعية، وهي ربما مفارقة عاشها النظام في الثمانينيات حين روّج لفكرته عن الأسرة الإسلامية، ليحصل في النهاية على أكبر شريحة شبابية في تاريخ إيران الحديث خرجت من صفوفها فيما بعد كل المتاعب.

 

الخميني والقفزة السكانية
حين قامت الثورة في إيران، ونجح الخميني في حسمها لصالح رؤيته "الإسلامية"، بدأت حرب ضروس على كل ما هو غربي، وكانت إحدى ساحات تلك المعركة الإسلامية هي الأسرة الإيرانية، والتي خضعت سابقًا لدعاية تنظيم الأسرة وتحديد النسل من جانب نظام الشاه، لتنقلب السياسات رأسًا على عقب بتدشين الجمهورية الإسلامية، ويبدأ الترويج على نطاق واسع للإنجاب بكثرة باعتباره ملمحًا من الثقافة الإسلامية كما ارتأى الخميني آنذاك.

لم يكن غريبًا أن يسجل الشباب الإيراني، في الفئة العمرية بين 16 و34 عامًا، آراءً منحازة ومتعاطفة مع الغرب بل وعلمانية
لم يكن غريبًا أن يسجل الشباب الإيراني، في الفئة العمرية بين 16 و34 عامًا، آراءً منحازة ومتعاطفة مع الغرب بل وعلمانية

نجحت سياسات الخميني بالفعل، وزاد التعداد الإيراني في أول عشر سنوات بعد الثورة بنسبة 50% في قفزة سكانية هي الأكبر في تاريخ إيران الحديث، من 37 إلى 53 مليون نسمة تقريبًا، بيد أن ذلك الانفجار في المواليد سرعان ما واجه الجمهورية بإشكالية كبيرة، وهي عدم قدرة الاقتصاد ومؤسسات الدولة على استيعاب تلك الأعداد الهائلة من الشباب، وهو ما دفع بنفس النظام في أواخر الثمانينيات إلى التوقف عن الترويج للإنجاب، والاستعانة بمسؤولين سابقين بنظام الشاه لإعادة تدشين برنامج تحديد النسل.

 

نجح البرنامج بالفعل وهبط النمو السكاني خلال السنوات العشر الثانية إلى 20% فقط، لكن جيلًا كاملًا وُلِد في مطلع الثمانينيات ظل يشكل تحديًا على كافة المستويات من حيث عدم توافر أماكن كافية في الجامعات الإيرانية، ومعاناة الكثير منهم من البطالة نتيجة عجز السوق عن توظيف كل هذه الملايين، علاوة على العقوبات القاسية أصلًا على النظام الإيراني، وهو ما يدفع الآلاف منهم للهجرة للخارج بحثًا عن فرص العمل والتعليم.

 

أما الأهم فهو تبلور تلك الشريحة الشبابية الكبيرة في المدن أو في الخارج على كراهية نظام "إسلامي" صارم، وُلدوا فيه ولم يشهدوا سواه، ومن ثم عانوا كثيرًا من قيوده على الحريات الشخصية مقارنة بما يطالعونه على الإنترنت أو يشهدونه بأنفسهم في أوروبا أو أمريكا، نمط يسير بالتوازي مع تقدّم الأجيال السابقة ممن قاموا بالثورة وأسسوا للنظام لتشغل شريحة من الإيرانيين الأكبر سنًا والأقل عددًا.

 

لم يكن غريبًا إذن أن يسجل الشباب الإيراني، في الفئة العمرية بين 16 و34 عامًا، آراءً منحازة ومتعاطفة مع الغرب بل و"علمانية" كذلك في إحدى الدراسات الأكاديمية الإيرانية، فقال واحد من كل أربعة تقريبًا إنه لا يعتقد بأهمية أداء الصلاة، في مقابل 90% من الشرائح الأكبر سنًا، واعتقد 66% فقط من الشباب بأنهم يعتقدون بفرضية الحجاب، مقارنة بـ80% في صفوف الأشخاص الأكبر سنًا[3]، وهو أمر ليس بغريب نظرًا لطبيعة النظام "الإسلامي" الإيراني، الذي قام بالأساس على أكتاف علماء الشيعة، وليس على نشاطات حركة إسلامية إيرانية لم تكن موجودة من الأصل على غرار الحركات الإسلامية السُنية المرتكزة بالأساس للنشاط المدني.

 

الربيع يتسلل من أسفل
تمر مريم بسيارتها من أحد شوارع طهران مع صديقاتها، غير ملتزمة بضوابط الزي الإسلامي المفروضة قانونًا، ولكنها سرعان ما تتدارك خطأها حين تفتح هاتفها المحمول، وتتصفح تطبيق "ﮔرشاد" الذي يكشف لها نقطة تفتيش للباسيج المعروفة بـ"إرشاد"، على بعد كيلومترات قليلة، لتتجنب متاعب تعرض ضباط النقطة لها، والمتضمن غالبًا حصولها على إنذار، أو إجبارها على كتابة تعهد بعدم الإخلال بقواعد الزي الإسلامي مجددًا، أو أحيانًا دفع غرامة.
ﮔرشاد هو تطبيق جديد صممته مجموعة من الشباب الإيراني غير المعروفة هويته حتى الآن، حيث يقوم أي شخص باكتشاف نقطة تفتيش للباسيج بإرسال موقعها عبر التطبيق
ﮔرشاد هو تطبيق جديد صممته مجموعة من الشباب الإيراني غير المعروفة هويته حتى الآن، حيث يقوم أي شخص باكتشاف نقطة تفتيش للباسيج بإرسال موقعها عبر التطبيق

ﮔرشاد هو تطبيق جديد صممته مجموعة من الشباب الإيراني غير المعروفة هويته حتى الآن، وهو يعتمد ببساطة على "حشد المصادر" (Crowdsourcing)، حيث يقوم أي شخص باكتشاف نقطة تفتيش للباسيج بإرسال موقعها عبر التطبيق، ومن ثم يبدأ موقعها في الظهور حين تتوافد الإشارات من عدة أشخاص يؤكدون وجودها في نفس موقعها ليتمكن متصفحو التطبيق من تجنبها أو الاستعداد لها، حتى تتلاشى مع الوقت حين تتوقف تأكيدات المستخدمين بوجودها، وهو ما يعني انتقالها لمكان آخر[4].

 

لم تقف السلطات مكتوفة الأيدي بالطبع، وبعد يوم واحد من إطلاق التطبيق وقيام الآلاف بتحميله، تم الهجوم على صفحة التطبيق على الإنترنت، لكن الوصول له ظل مستمرًا عن طريق الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN)، وهي شبكات يعرفها الشباب جيدًا من حياتهم اليومية، حيث يتم استخدامها للوصول للمئات من المواقع المحظورة، وبالتحديد من احتجاجات العام 2009، حين استُخدِمت على نطاق واسع للتواصل بين الشباب المحتجين وبعضهم البعض وتناقل الأخبار فيما بينهم.

 

القمع المباشر، بالتوازي مع تقويض النفوذ الأجنبي في التعليم، يشكلان استراتيجية ثقافية هامة للنظام الإيراني

يتمتع الجيل الحالي من شباب الطبقات الوسطى، خاصة من أصحاب الشهادات العُليا ومتقني اللغة الإنجليزية، بشبكات تواصل قوية أتاحها الإنترنت لم تكن موجودة قبل عشر أو خمس عشرة سنة مضت، وهي ربما الشبكات الأكثر تهديدًا للنظام في الداخل اجتماعيًا، لا سيما مع كثرة أعدادها والفجوة بينها وبين أيديولوجية النظام وانحدار الشرائح الأكثر اهتمامًا بالتكنولوجيا والإنترنت من بينها، وهو تهديد يواجهه النظام بقمع تلك الشبكات بشكل مباشر تارة، وبمحاولة تقويض تسلل الثقافة الأجنبية عبر التعليم تارة أخرى، والتي يعتقد كثيرون أنها ربما مسؤولة عن "الميل الغربي" لدى شباب الطبقات الوسطى من المتعلمين.

 

لم تكن مفاجأة حين وقع خلاف ضمني قبل أشهر، بين المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، ورئيس الجمهورية حسن روحاني، حيث صرّح خامنئي بأنه متخوّف من تنامي النفوذ الأمريكي عن طريق انتشار اللغة الإنجليزية، لا سيما في مراحل تعليمية مبكرة غير ضرورية، وهي مادة دراسية أساسية في المرحلة الثانوية فقط في إيران، في حين رد روحاني بأهمية مواكبة النظام التعليمي للاقتصاد العالمي، وضرورة الاهتمام باللغة الإنجليزية، عاقدًا مقارنة مع الهند المتفوقة اقتصاديًا وتكنولوجيًا وتتمتع بانتشار واسع للغة الإنجليزية[5].

 

القمع المباشر، بالتوازي مع تقويض النفوذ الأجنبي في التعليم، يشكلان استراتيجية ثقافية هامة للنظام، لكنه يسير بالتوازي مع تمتع النظام بظهير اجتماعي محافظ قوي، ممثل بالشباب والقوى العاملة بشكل عام من الطبقات الدُنيا، كما تشي بذلك التوجهات السياسية المحافظة المنتشرة في جنوب العاصمة طهران، الأكثر فقرًا وتديّنًا في آن، لكن المفارقة هي أن جزءًا من شرعية النظام تعتمد على إقناع هؤلاء بقدرتهم على تحقيق قفزة اجتماعية جيدة مع الانفتاح على الغرب، وما يستتبعه ذلك مستقبلًا من انضمامهم للشرائح غربية التوجه، في نفس الوقت الذي يحاول فيه الإبقاء عليهم خارج نطاق الثقافة العلمانية والشبكات الافتراضية البديلة، والتي تمتلك إمكانيات قوية لتنظيم كتل اجتماعية ستشكل تحديًا للنظام في المستقبل.

 

الحلقة الأضعف.. بين مصير الصين والسوفيات
تقف طهران اليوم بين كونها مظلة لصحوة شبابية شيعية غير إيرانية تشكل العامود الفقري العسكري لمشروعها الإقليمي، تضاف لكتلة من الشباب الإيراني المحافظ والريفي في معظمه تشكل قاعدة الباسيج والحرس الثوري في الداخل اللذين يقف على رأسهما جيل الثورة الكبير سنًا الآن، تقابله كُتلة ضخمة من الشباب الإيراني المولود عام 1979 وما بعده والراغبين في الانفتاح على الغرب اقتصاديًا وتوسيع نطاق الحريات الشخصية والمدنية، وهي شريحة يحتاجها النظام لجني ثمار الانفتاح الاقتصادي وتعزيز موقع إيران العلمي والتكنولوجي، ولكن دون فقدان سلطانه السياسي والعسكري.

 (رويترز)
 (رويترز)

في عام 2009، بدا وأن تلك الحلقة في أضعف حالاتها، وراج في الإعلام الغربي قيام "ثورة خضراء" ستغيّر شكل النظام الإيراني الصلب ظاهريًا، على غرار الاحتجاجات التي أسقطت المنظومة السوفياتية في شرق أوروبا، بيد أن تلك اللحظة ما لبثت أن مرت بقمع الباسيج الوحشي، واستمرار أحمدي نجاد على رأس السلطة حتى نهاية مدته، ومن ثم انقلب الحال بعد دخول روحاني، إذ حصدت إيران مكاسب عدة خارجيًا لا سيما بعد الربيع العربي، وحصد معها روحاني شعبية جيدة بين الشباب العلماني الراضي عن أدائه خارجيًا، والمنتظر لثمار الاتفاق النووي مع الغرب داخليًا.

 

لم يكن عام 2009 إذا سوى "لحظة تياننمن" إيرانية خالصة، على غرار احتجاجات الصين الشعبية في ميدان "تياننمن" عام 1989، والتي نجح النظام الصيني في تجاوزها لأنه لم يكن مجرد هيكل أيديولوجي أجوف، بل امتلك نجاحات اقتصادية قوية، متربعًا على عرش بلد شرقي، ونجح في خلق مزيج من المنظومة البيروقراطية الصينية التقليدية التي عرفتها البلاد لقرون، والمنظومة الحديثة، بشكل أتاح له كسب الكثير من الشرائح الاجتماعية، وإن خسر قطاع الشباب الغربي التوجه، وهو مزيج ينطبق بقوة على نظام الملالي في إيران، المعبّر عن خصوصية إيرانية وشيعية أكثر من كونه مجرد تجربة شمولية تقليدية.

 

بعد عودته من سوريا فقد جواد بعض الحماس رغم نجاحه في تحرير المحتجزين، إذ رأى بأُم عينه كيف يستخدم الإيرانيون هناك اللاجئين الأفغان دروعا بشرية

تبدو معادلة وجود الإصلاحيين في السلطة التنفيذية وبقاء الحرس القديم في القضاء والمؤسسات العسكرية، حلًا مناسبًا اليوم لإرضاء الشباب الإيراني، والحفاظ على قواعد النظام في الداخل والخارج، بيد أن تلك المعادلة مرهونة باستمرار رضا الشباب عن السقف الحالي في إيران، سقف ربما يتغيّر بعد الانفتاح الاقتصادي وظهور جيل جديد أكثر تطلعًا لمساحات سياسية أوسع، واستمرار تفوق إيران في المنطقة على كافة منافسيها، وعدم تبلور بديل عربي ينجح في سحب البساط من تحت أقدامها جزئيًا، كذلك ألا يدب الوهن في تحالف الميليشيات الشيعية الذي تستند إليه، خاصة في سوريا حيث تعتمد على جلب المقاتلين من دول الجوار للقتال هناك.

 

يبدو احتمال فقدان إيران للرصيد القتالي الشيعي الذي بنته في المنطقة هو الاحتمال الأضعف، مقارنة بتوجسها من الشباب العلماني في الداخل، لكن هناك أسباب قوية دومًا كي يخشى أي نظام من الاعتماد على مجموعات عسكرية فقط، دون أن يقدم على المدى البعيد دعمًا اجتماعيًا واقتصاديًا كافيًا لها.

 

شباب الشيعة.. البعض أيضًا يريد الهروب
يجلس جواد في مكتبه مرة أخرى، لكنه يبدو منهكًا هذه المرة، فقد اضطر للسفر إلى سوريا بنفسه ليتوسط للإفراج عن مجموعة مقاتلين أفغان تم أسرهم من جانب تنظيم الدولة، وكان هو المسؤول عن إرسالهم هناك، ومن ثم طالبته أسر المقاتلين المحتجزين بتحمل المسؤولية وتأمين تحريرهم.

 

بعد عودته من سوريا فقد جواد بعض الحماس رغم نجاحه في تحرير المحتجزين، إذ رأى بأُم عينه كيف يستخدم الإيرانيون هناك اللاجئين الأفغان دروعا بشرية، وشعر بالخزي كما كان يحكي من المهمة التي يقوم بها، وقرر أن يتوقف عن القيام بها رغم العمولات التي يحصل عليها من الإيرانيين لقاء كل مقاتل يتجه لسوريا من خلاله.

سرعان ما يكتشف بعض اللاجئين الأفغان زيف الوعود التي تزينها إيران لهم من أجل ذهابهم للقتال في سوريا من قبيل منحهم الجنسية في بلد ليس مفتوحًا على الهجرة، ولا يزال يعاني من آثار قفزته السكانية
سرعان ما يكتشف بعض اللاجئين الأفغان زيف الوعود التي تزينها إيران لهم من أجل ذهابهم للقتال في سوريا من قبيل منحهم الجنسية في بلد ليس مفتوحًا على الهجرة، ولا يزال يعاني من آثار قفزته السكانية

لا يبدو الإيرانيون في حاجة ملحة لخدمات جواد رُغم ذلك، فهم يزجون باللاجئين الأفغان الموجودين بإيران قسرًا في بعض الأحيان إلى معارك سوريا، مهددين إياهم بالاعتقال إن لم يذهبوا نتيجة وجودهم في إيران دون أوراق رسمية، ومحاولين تسويق القتال لهم بوعود الجنسية والاستقرار.

 

بيد أن البعض سرعان ما يكتشف زيف تلك الوعود في بلد ليس مفتوحًا على الهجرة، ولا يزال يعاني من آثار قفزته السكانية الثمانينية، فقد عاد "عليّ" من القتال عاما كاملا بسوريا، ليجد نفسه في النهاية حاصلًا على بطاقة إقامة لثلاثين يومًا فقط، وحين اعترض على عدم منحه الجنسية قيل له بأنه لن يحصل عليها إلا بالقتال عاما آخر.

 

"لا يمكنني أن أنسى ما رأيته حين وصلت لهناك، إنها ساحة حرب بما تعنيه الكلمة من معنى؛ ثقوب سببها الرصاص وآثار قصف، تؤرقني كثيرًا تلك المشاهد، وأجد نفسي الآن أفقد أعصابي دون سبب واضح"
 

هكذا يتحدث عليّ الذي فرّ إلى أوروبا بشكل غير شرعي، ليجد نفسه على جزيرة لِسبوس اليونانية، جنبًا إلى جنب مع مقاتلين أفغان آخرين فارين من جحيم لواء فاطميون، وللمفارقة، مع لاجئين سوريين لربما فروا هُم أيضًا من جحيم لواء فاطميون.

المصدر : الجزيرة