شعار قسم ميدان

سلوك الفُرجة.. لماذا يمتنع الناس عن تقديم المساعدة؟

ميدان - المساعدة
اضغط للاستماع

  

استفتح الأردنيون عام 2017 على وقع جريمة جديدة من مسلسل جرائم الشرف الذي بات مشهداً يكاد يتكرر أسبوعيا؛ حيث قام شاب عشريني، بطعن شقيقته عند مدخل مستشفى خاص شمالي العاصمة عمان، وقام بمنع أي شخص من إسعافها بعد أن وجه لها 4 طعنات في صدرها. وجلس بعدها على كرسي منتظراً آخر نفسٍ تأخذه شقيقته من هذه الحياة؛ غير آبهٍ بقدوم رجال الشرطة، الذين قبضوا عليه دون أيّة مقاومة منه، تمهيداً لترحيله إلى المركز الأمني للتحقيق معه وإحالته إلى القضاء.

وبعيداً عن فظاعة الجريمة، وقسوتها؛ فإنّه من الملفت حقيقةً في هذه الجريمة تجمهر مجموعة من الناس حول الضحية مراقبين الفتاة في نشوة، متحصنين خلف كاميرا جهازٍ ذكي، يرصد الفتاة وهي تسبح بالدم الرعاف وتنتفض انتفاضتها الأخيرة صارخة "النجدة، المساعدة، أرجوكم.."! (1)
 

تاريخ يتجدد
بعد أن قتل شقيقته جلس على الكرسي ينتظر آخر نفس لها غير مبال للناس أو لمجيء رجال الشرطة  (مواقع التواصل)
بعد أن قتل شقيقته جلس على الكرسي ينتظر آخر نفس لها غير مبال للناس أو لمجيء رجال الشرطة  (مواقع التواصل)

هذه الجريمة تعود بنا إلى منتصف شهر مارس عام 1964، إلى حي من أحياء نيويورك؛ وبالتحديد عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل؛ إذ تعرضت الآنسة "كيتي جينوفيز" لطعنة قاتلة بسكين من " قاتلٍ هاوٍ" يدعى "وينستون موسيلي" وذلك بالقرب من شقتها في حي من أحياء نيويورك. وحين تلقت الطعنة صرخت كيتي: "يا إلهي لقد طعنني.. أنجدوني رجاءً" وقد استيقظ على صراخها 38 شخصاً من جيرانها في العمارة؛ فأُوقدت الأنوار في تلك الشقق، وفتحت النوافذ، واشرأبت الأعناق، وتطاولت الرقاب؛ لروية ما الذي يجري في الشارع.

هرب قاتل "كيتي" فزعاً من صراخها ورؤية الأضواء وهي تشتعل شيئاً فشيئاً؛ لكنّه حين لم يلحظ تحركاً من قبل المتفرجين على كيتي، عاد مرةً أخرى بعد 10 دقائق، لكن هذه المرة ليس قاتلاً فقط؛ إنما قاتلاً ومغتصباً. فبعد أن طعنها في المرة الأولى طعنة أو طعنتين؛ طعنها في المرة الثانية 17 طعنة تحت مرأى ومسمع الجيران من أعلى الشُرف، ولم تأت أي مساعدة لـ"كيتي" إلا بعد 40 دقيقة من الحادث؛ حيث قام أحد جيرانها بإبلاغ الشرطة. وعندما استجوبتهم الشرطة -فيما بعد- لم يستطع الجيران تفسير سبب عدم مد يد العون لكيتي. (2)

هذه الحادثة ومثيلاتها المنتشرة في عالم الجريمة اليوم؛ جعلت علماء النفس والاجتماع يقفون طويلاً في محاولة فهم سلوك الفرجة وأثره على الموقف الحرج من جهة تقديم المساعدة أو الاحجام عنها. وسبب وقوف النفسانيين على هذه الحوادث كما يرى عالم النفس الاجتماعي "ملغرام" في تعليقه على مقتل كيتي جينوفيز: "أنّ مقتل كيتي جينوفيز يمس قضية أساسية في الوضع الاجتماعي للإنسان. عندما نكون بحاجة إلى النجدة هل يقف الناس حولنا يتفرجون، أم ينتفضون لنجدتنا؟". (3) ويمكن تلخيص مجموع النماذج التفسيرية التي تناولها العلماء في تحليل سلوك الفرجة في ثلاثة نماذج أساسية:

النماذج التفسيرية لسلوك الفرجة:
كيتي جينوفيز وقاتلها وينستون موسيلي (مواقع التواصل)
كيتي جينوفيز وقاتلها وينستون موسيلي (مواقع التواصل)
 1- عدم مبالاة المتفرج كسلوك متعلم "آفة المدن الكبرى":
يرى "روزنثال" أن سبب مأساة "كيتي" هي أخلاق الحداثة، والعيش في المدن الكبرى؛ إذ يمكننا القول إنّ لا مبالاة المتفرج هي نوع من لا مبالاة المدن الكبرى. فوجود الإنسان في تدفق مرعب من الوجود البشري يجعله في حالة من الارتداد على الذات؛ ارتداد يستجديه الإنسان كميكانيزم دفاعي للمحافظة على البقاء. فحين تكون محاطاً بملايين من الناس يكون عليك أن تتجاهلهم -في أغلب الأحيان- لكي تمنعهم من فرض أنفسهم عليك. وهذا يجعلنا نقول بأنّ عدم الاكتراث بالآخر وما يعانيه من مصائب ومشاكل؛ هو سلوك متعلم، ورد فعل طبيعي للعيش في المدن الكبرى. (4)

برغم محاولة "روزنثال" توظيف علم النفس التطوري في إدراك سلوك الفرجة؛ إلا أن هذا التحليل ينزع منزعاً تبسيطياً كما يرى "بيب لاتانيه" (5)؛ إذ قد تكون هذه الفكرة صحيحة في حالة المدن الكبرى. لكن سلوك الفرجة ليس وقفاً على المدن الكبرى. فهو موجود في نيويورك كما هو موجود في قرى الجنوب في صعيد مصر -مثلاً- لكن مع ذلك؛ تجدر الإشارة إلى أنّ سلوك الفرجة في المدينة أدعى لعدم التدخل منه في القرية أو المجتمعات المغلقة، وذلك لأنّ المواقف الحرجة والورطات في المدن تحمل قدراً من السعة التأويلية التي تدفع المرء للتردد في التدخل.

 2- نموذج الاستثارة والكلفة والمردود (6)
تواضع "بليافن" وأصدقاؤه على نموذجٍ يتحدد سلوك المساعدة من خلاله بتفاعل مجموعتين من العوامل: 

1- العوامل الموقفية.
 2- ردود الفعل المعرفية والعاطفية.

استعداد الفرد لتقديم المساعدة في حادث طارئ يتأثر بما لديه من مقدرة وكفاءة. لذا فإن قضية تشتت المسؤولية ترتبط بعامل الكفاءة، وقد تتفاعل معه فيحددان من يقدم ومن يحجم على تقديم المساعدة

ويرى "بليافن" أنّ "العوامل الموقفية" تفضي إلى "استثارة الرغبة" في تقديم المساعدة. ولأن حالة الاستثارة مزعجة وملحاحة، تدفع الإنسان إمّا إلى تجاهل الموقف؛ وبالتالي الامتناع عن تقديم المساعدة، أو الانغماس في الموقف؛ وبالتالي تقديم المساعدة. وطريقة تعاطي المتفرج مع شعور الاستثارة يتم عبر تفاعل "مجموعة ردود الفعل المعرفية والعاطفية"، والتي تقوم أساساً على جدلية الكلفة والمردود. (7)

أما العوامل الموقفية فهي جملة خصائص كل من المتفرج والضحية؛ إضافة إلى مدى الحس بالارتباط بالضحية، وهو ما يسميه بلفاين "الشعور بالنحن"؛ أي: الإحساس بالارتباط الوجداني بالشخص الآخر، أو رؤيته كواحد من الفئة الإنسانية، أو الصنف الاجتماعي الخاص بنا، ويتحدد هذا الشعور وفق جملة محددات عامةٍ(8):

المحددات المتعلقة بالضحية:

undefined

1- النوع الجنسي: (ذكر، أنثى) وتشير الدراسات إلى أنّ وقوع الفتاة في مأزق؛ يهيئ الفرصة لتقديم المساعدة لها أكثر من الرجل.
2- المرحلة العمرية: (طفل، شاب، مراهق، كهل.. إلخ) وتشير الدراسات إلى أنّ وقوع الطفل والكهل في مأزق؛ يهيئ الفرصة لتقديم المساعدة لهما أكثر من غيرهما.
3- المظهر العام: (نوع الملابس، جمال الشكل.. إلخ) وتشير الدراسات إلى أنّ وقوع صاحب/ة المظهر الأنيق والوجه الحسن في مأزق؛ يهيئ الفرصة لتقديم المساعدة له أكثر من صاحب/ة المظهر الرثّ والوجه القبيح.
4- المحددات الدينية والعرقية: (الأسود والأبيض، المواطن والعامل المغترب، المسلم والمسيحي.. إلخ)
5- طلب الضحية العون صراحة من المتفرجين.
6- محددات أخرى: مثل وجود إعاقة، حالة معينة مثل السكر، أو الإعاقة العقلية.. إلخ.

تكاليف المساعدة فتتضمن إضاعة الوقت، والجهد، واحتمال التعرض للأذى الجسمي، والحرج، وعرقلة ما كنت تنوي القيام به، والتقزز النفسي كما في حالة إسعاف مخمور أو رجل تبول على نفسه

المحددات المتعلقة بالمتفرج:

تدور المحددات المتعلقة بالمتفرج حول طبائعه الشخصية، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل شخصية بنيوية وأخرى متغيرة: فالعوامل الشخصية البنيوية: كأن يكون الشخص متعاطفاً، شجاعاً، لا مباليا، جباناً.. إلخ. بينما العوامل الشخصية المتغيرة: كأن يكون في مزاج متعكر، أو مزاج إيجابي، أو هل هو مرتبط بموعد مهم؟ هل له تجربة سابقة في عملية تقديم المساعدة… إلخ. (9)

يرى "بليفان" وزملاؤه أنّ جملة المحددات الموقفية تؤدي إلى مستويات معينة من الاستثارة يستشعرها المتفرج للحادث الطارئ، ويأتي هنا دور ردود الأفعال المعرفية والعاطفية؛ حيث يعتمد تقديم العون من عدمه على كيفية تفسير الاستثارة والتعاطي معها. بيد أنّ الأسلوب الذي يلجأ إليه المتفرج على وجه التحديد لتخفيض الاستثارة يعتمد على الموازنة بين كلفة المساعدة وكلفة الاحجام عنها. وبناء على هذا الحساب النفعي الذي يقوم على الفائدة الشخصية؛ يتقرر الإقدام على المساعدة أو الإحجام عنها.

وتتمثل المكافآت -في حالة القيام بالمساعدة- إما بعوائد معنوية ترفع من شأن الذات، أو عوائد اجتماعية كمديح الآخرين أو عوائد مادية. أمّا المكافآت التي يجنيها الفرد من عدم تقديم المساعدة فتتضمن الإفادة من الوقت لتسيير الأعمال الشخصية عوضاً عن صرفه على شؤون الآخرين، والتحرر من قيود وتبعات القيام بالمساعدة.

وأما تكاليف المساعدة فتتضمن إضاعة الوقت، والجهد، واحتمال التعرض للأذى الجسمي، والحرج، وعرقلة ما كنت تنوي القيام به، والتقزز النفسي كما في حالة إسعاف مخمور أو رجل تبول على نفسه.. إلخ. أما تكاليف الإحجام عن تقديم العون فتشمل الشعور بالذنب، وكره الذات، واستياء الآخرين، والضيق الانفعالي الناتج عن خذلاننا للآخرين وقت حاجتهم لنا. وفي ضوء هذه المحددات والتفاعلات كما يرى "بليفان" يمكننا فهم سلوك المساعدة. (10)
 

نموذج شجرة اتخاذ القرار

طوّر "بيب لاتانيه" و"جون دارلي" نموذج اتخاذ قرار يتكون من خمس مراحل للتدخل في المواقف الطارئة. ويصف هذا النموذج عدة قرارات أولية لا بد من اتخاذها قبل أن يَعرض المرء مساعدته لمن هو في موقف طارئ أو محنة، وعند كل مرحلة من المراحل الخمس لا بد من اتخاذ الاختيار المناسب؛ ليتم تقديم المساعدة، وإذا حدث أن اتخذ المرء اختياراً غير مناسب عند أي مرحلة؛ فلن يتطوع المرء لتقديم المساعدة. وبعبارة أخرى؛ ليتم تقديم المساعدة فلا بد من أن يمر المتفرج بالآتي:

1- هل يلاحظ المتفرج الحدث؟
2- هل يفسر المتفرج هذا الحدث بأنه حالة طوارئ؟
3- هل يشعر المتفرج بمسؤولية التدخل؟
4- هل يعلم المتفرج كيفية التدخل، أو ما هو أسلوب المساعدة الأجدى؟
5- هل يأخذ المتفرج المبادرة بالعمل؟ (11)

ملاحظة الحدث وتفسيره بأنّه حالة طوارئ

undefined

بيّن "لاتانيه" و"دارلي" من خلال عدد من الدراسات أنّ تقييمنا لخطورة حادثٍ ما يعتمد بدايةً على ما إذا كان هناك آخرون يشهدون الحادثة معنا؛ إذ أن وجود الآخرين يقلل من تقديرنا لخطورة الحادثة، ولا يهيئ الفرصة لأخذ زمام المبادرة، ويطلق على هذه الظاهرة ظاهرة "التجاهل الجمعي" (Pluralistic Ignorance)؛ لأنّ وجود غير واحدٍ من الأشخاص حول الموقف يدفع باتجاه تفسير الموقف على أنّه موقف آمن ولا يسترعي النظر.(12)
 

وقد يحجم المرء عن تقديم المساعدة، خشية الوقوع في الحرج أو التعرض للسخرية، نتيجة سوء تقدير للموقف، أو عدم فهمه على شكلٍ جيّد؛ فإذا شاهدنا شخصاً يختطف حافظة مالٍ من شخص آخر، على سبيل المثال، فقد نفسر الأمر على أنّه سرقة. ولكن؛ ماذا لو كان الأمر لا يعدو كونه مجرد مزاح وتصابي بين صديقين! (13 )

يبقى الإنسان كائنا معقدا لا سبيل للتنبؤ بأفعاله إلا على سبيل التخمين والتقريب، وقديماً قال الأديب العربي أبو حيان التوحيدي إن "الإنسان أشكل عليه الإنسان"

مسؤولية التدخل

إذا تجاوزنا عقبة التجاهل الجمعي الحائلة دون ملاحظة الموقف وخطورته؛ أي: نجاح المار أو المتفرج في تمييز الموقف وتفسيره بأنّه خطر؛ فإن التفكير في تقديم المساعدة يدخل في طورٍ جديد، متعلق بالدور المنوط به، وهنا تدخل الخصائص البنيوية في تهيئة فرصة القيام بسلوك المساعدة، فمن كان خوّاراً أو جباناً أو لا مبالٍ سيتباطؤ ويرحل سريعاً عن الموقف. ومن كان يمتلك قدراً من الشجاعة والقيم الأخلاقية ستكون فرصة تقديمه العون للضحية أكبر.

لكن تجب الإشارة كما يرى "لاتانيه" و"دارلي" إلى ظاهرة مهمة تحدث في هذه المرحلة؛ ظاهرة "تشتت المسؤولية" (diffusion of responsibility) فكما يرى "لاتانيه" أنّه كلما زاد عدد الشهود، ستقل احتمالية تقديم المساعدة، وذلك لبروز مصطلح "الإحالة"، فكل شخص يحيل سلوك المساعدة إلى الآخر، منتظراً ماذا سيفعله الآخرون، وهكذا حتى يذوب ويتلاشى سلوك المساعدة نهائياً. وظاهرة (تشتت المسؤولية) تفضي بدورها إلى ظاهرة أخرى، أطلق عليها قانون النجدة المعكوس (inverse law of helping behavior)، ويشير "لاتانيه" إلى أنّ مدى تجانس أو تباعد المتفرجين سيؤثر في هذه المرحلة بشكل شبه حاسم؛ فوجود مجموعة من الأصدقاء في الحادث سيرفع من فرصة تقديم المساعدة. (13)

– آلية التدخل:

إن استعداد الفرد لتقديم المساعدة في حادث طارئ يتأثر بلا شك بما لديه من مقدرة وكفاءة. ومن هنا فإن قضية تشتت المسؤولية ترتبط بعامل الكفاءة هذا، وقد تتفاعل معه فيحددان معاً من يقدم ومن يحجم من المشاهدين على تقديم المساعدة؛ حيث يزداد احتمال تقديم الفرد للمساعدة إذا كان يملك المهارات الضرورية للقيام بالمساعدة، كأن يكون طبيباً أو لديه معرفة جيدة بالإسعاف الأولى؛ فإذا كان شخص أو أكثر ممن نعتقد أهليته لتقديم المساعدة؛ فإن ذلك سيزيد من احتمال تشتت المسؤولية. وعليه؛ فإن الأثر الكابح لوجود الآخرين على إغاثة المنكوب لا يدل على لا مبالاة بالضرورة؛ بل يرون بصدق أنّ هناك من هو أقدر وأكثر كفاءة على تقديم المساعدة. وهكذا حتى يتم التدخل.. (14)

وإجمالا، لقد زودتنا البحوث في سلوك الفرجة والمتفرجين بالكثير من المعرفة حول الشروط التي تزيد احتمال مدّنا يد العون للآخرين. وبعد خمسين سنة من مقتل "كيتي جينوفيز" نجد أنفسنا أقرب إلى فهم الأسباب التي تجعلنا نُقدم على مساعدة الآخرين أو نحجم عن ذلك. وفي النهاية يبقى الإنسان كائنا معقدا لا سبيل للتنبؤ بأفعاله إلا على سبيل التخمين والتقريب، وقديماً قال الأديب العربي أبو حيان التوحيدي إن (الإنسان أشكل عليه الإنسان). ( 15)

المصدر : الجزيرة