شعار قسم ميدان

المجتمع العسكري.. كيف اخترق الجيش المصري الحياة المدنية؟

ميدان - الجيش المصري
اضغط للاستماع
   
بخلاف معظم الجيوش العربية -التى تَرافق تأسيسها مع إنشاء الدولة الوطنية عقب الاستقلال عن الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين(1)– يعود تأسيس الجيش المصري إلى عهد محمد علي باشا  في أوائل القرن التاسع عشر (1840-1805) حيث قام الجيش المصري بدور كبير في تأسيس الدولة المصرية الحديثة(2). منذ ذلك التاريخ شهدت مصر حدثين فارقين(3) بخصوص الدور السياسي للجيش: الأول، ثورة أحمد عرابي في 9 سبتمبر 1881. والثاني، حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.

 

ففي الأول بادر عرابي ومجموعة من الضباط الوطنيين إلى مطالبة الخديوي توفيق بإدخال إصلاحات عسكرية ووطنية، الأمر الذي أدى إلى تدخل القوات البريطانية التي احتلت مصر في عام 1882 بعد الهزيمة العسكرية الكبيرة للجيش المصري، وأما الحدث الثاني فيُعد أهم نقطة تحول في تاريخ مصر الحديث؛ إذ أنها جسدت المرة الأولى -في تاريخ مصر- التي يتولى فيها الجيش إدارة الحكم بشكل مباشر.

 

ورغم ذهاب العديد من الباحثين إلى أن ما حدث في 23 يوليو هو انقلاب عسكري في أصله وحقيقته؛ إلا أنه وُصف بالثورة؛ نظرًا إلى التغيير الاجتماعى والاقتصادي ومن ثم السياسي الجذري الذي أحدثه حكم الضباط الأحرار، والتأييد الذي لقيه من قطاعات واسعة من المجتمع المصري؛ إلى حينٍ على الأقل. (4)

  

مجموعة من الضباط الأحرار عام 1952. من اليسار إلى اليمين: زكريا محي الدين، عبداللطيف البغدادي، كمال الدين حسن (واقفا) جمال عبدالناصر، عبدالحكيم عامر (واقفا)، محمد نجيب، أحمد شوقي  (مواقع التواصل)
مجموعة من الضباط الأحرار عام 1952. من اليسار إلى اليمين: زكريا محي الدين، عبداللطيف البغدادي، كمال الدين حسن (واقفا) جمال عبدالناصر، عبدالحكيم عامر (واقفا)، محمد نجيب، أحمد شوقي  (مواقع التواصل)

  

نحاول هنا تتبع السمات العامة لعلاقة المؤسسة العسكرية بالسياسة في مصر منذ (ثورة/انقلاب) 23 يوليو 1952، والتحولات في هذه العلاقة في كل حقبة تاريخية حتى ثورة 25 يناير 2011.

 

المجتمع العسكري

يصف أنور عبد الملك (5) مصر في الحقبة الممتدة بين عامي 1952 إلى 1967 بـ(المجتمع العسكري) نتيجة "سيطرة النخبة من الضباط والتأثير الكبير لهذه السيطرة في المجتمع المصري، فقد اتصف العمل السياسي لمجموعة الضباط في تلك الفترة التاريخية بالاستيلاء الكامل على جهاز الدولة وتشكيل برنامج التغيير الوطني الجذري، وإجراء تغيير واضح في شكل الدولة".

 

مضيفًا أن "التوسع العسكري ازداد ليمتد للسيطرة على المجال السياسي المصري كله، وليس مجرد السيطرة على جهاز الدولة، وتأكيد السيطرة على مجمل القرارات في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية"(6)، مع التشديد الأمني والسياسي على مُجمل المجتمع المدني، والمجابهة مع التيارات الأيديولوجية الأخرى.

 

استمرت هيمنة العسكر بهذا النمط على الحكم والسياسة والمجتمع طوال الفترة الممتدة بين عام 1955 حتى هزيمة يونيو 1967، كان الجيش طوال تلك الفترة أقوى العناصر المؤسسية داخل النظام السياسي بلا منازع(7)، في مقابل ضعف المؤسسات المدنية للدولة أو غياب فاعليتها في المجال العام أمام المؤسسة العسكرية، لا سيما وأن النظام قد قام بحل الأحزاب والمنظمات واستبعد النخبة السياسية المدنية (8)، وبحلول نهاية عام 1955، كانت المنظمات السياسية كلها حُلت رسميًا أو رُوضت، وبدأت -لأول مرة في تاريخ الدولة المصرية- الفترة التاريخية  التي يسيطر فيها العسكريون على جهاز الدولة بداية من منصب رئيس الجمهورية ومنصب نائب رئيس الجمهورية. وشغل العسكريون -أيضا- أهم الوزارات فضلأ عن مقاعد المحافظين، مؤلفين الأغلبية العظمى من شاغلي المناصب الرسمية والسياسية التنفيذية والدبلوماسية وغيرها.

 

اتبع نظام يوليو سياسة موسعة في التجنيد وفتح الفرص للالتحاق بالجيش لفئات مستحدثة: كموظفي الدولة، والمتعلمين من أبناء الفلاحين، وخريجي المدارس الثانوية والجامعات
اتبع نظام يوليو سياسة موسعة في التجنيد وفتح الفرص للالتحاق بالجيش لفئات مستحدثة: كموظفي الدولة، والمتعلمين من أبناء الفلاحين، وخريجي المدارس الثانوية والجامعات

 

صاحب هذا التغول العسكري على الدولة والمجال العام، تحول سيسيولوجي جذري في بنية الجيش المصري والذي أحدثته ثورة يوليو، فالثورة لم تكتف بإحداث ثورة اجتماعية في المُجتمع المصري فحسب؛ بل أحدثت تغييرًا كبيرًا في السمات الاجتماعية للقوات المسلحة قبل الثورة (9)، كانت الجذور الاجتماعية للجيش تتكون من أبناء العائلات المصرية الميسورة والكبيرة من هواة ركوب الخيل والرياضة والنوادي المُميزة وأعضاء الأرستقراطية المصرية؛ لكن نظام يوليو اتبع سياسة موسعة في التجنيد وفتح الفرص للالتحاق بالجيش لفئات مستحدثة: كموظفي الدولة، والمتعلمين من أبناء الفلاحين، وخريجي المدارس الثانوية والجامعات، وأبناء الطبقة الوسطى المصرية الصاعدة في ذلك الوقت.

 

مثلت المؤسسة العسكرية في تلك الفترة الأفق الاجتماعي والسياسي للمجتمع المصري ككل، وإحدى وسائل الترقي داخل أجهزة الدولة وطبقات المجتمع.

 

نصر عسكري.. هزيمة أيديولوجية

بحسب الباحث هاني سليمان(10) فقد خضع المركز السياسي والأيديولوجي للجيش في مصر لانزياح كبير بعد هزيمة 1967؛ حيث فرضت الهزيمة نقاشًا علنيًا لمساوئ تغول العسكريين على الحياة المدنية؛ بالإضافة لأخطاء القيادات العسكرية أثناء الحرب، وأصبح احتلال الجيش موقعًا مسيطرا في السياسة المصرية مرفوضا بشكل عميق من أغلب الطبقات والمجموعات الشعبية؛ فظهرت تعديلات جوهرية من داخل النظام من خلال انسحاب الجيش من العديد من المساحات المدنية(11)، وإعادة صياغة البنية المؤسسية  للقوات المسلحة؛ لا سيّما إثر إزاحة عبد الحكيم عامر وشبكة أنصاره من الضباط وزيادة الصِّفة المدنية للحكم.

 

 

بعد تولي السادات الحكم -وفي أعقاب إطاحته في 15 مايو 1971 بما سمّاها مراكز القوى التي نازعته السُلطة، وكان من بينها وزير الحربية الفريق محمد فوزي- سعى إلى تحييد الجيش وتعزيز سياسة تخفيف الطابع العسكري للسياسة المصرية؛ حيث انخفض عدد العسكريين (12) الذين يشغلون وظائف مدنية إلى عِشرين بالمئة مقارنة بما كان عليه الحال في عصر عبد الناصر.

 

ومع أن السادات عمل في أعقاب حرب 1973، على ضمان إشراك المؤسسة العسكرية في مراحل عملية السلام كلها مع إسرائيل؛ مثلا أدى المشير عبد الغني الجمسي والمشير كامل حسين أدوارًا مهمة في مفاوضات فك الاشتباك وفي محادثات السلام على التوالي؛ إلا أن مكانة المؤسسة العسكرية وعقيدتها القتالية تراجعت نتيجة لتوقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1978؛ حيث تزامن تراجع دور الجيش الدفاعي والحربي مع تنامي دوره في المجالات التنموية والنشاط الاقتصادي المدني، وترافق هذا مع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها السادات، وهو ما جعل النخبة العسكرية للدولة تبدأ في التحالف مع النخبة التجارية المزدهرة بحسب نزيه الأيوبي.(13)

 

إلا أنه من أهم المتغيرات التي حملت تأثيرا مستقبليا على العلاقات المدنية العسكرية تبني السادات سياسة الانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية التي كان من نتائجها تقديم الأخيرة مساعدات عسكرية واقتصادية، وصلت قيمتها في نهاية السبعينيات إلى مليار دولار سنويًا. وأتاحت هذه المساعدات للجيش المصري فتح قنوات اتصال مباشرة بالولايات المتحدة ومُؤسساتها العسكرية، الأمر الذي منح الجيش نفوذًا إضافيًا بإقامة روابط خارجية مع قوى عُظمى.(14) 

 

التسوية الهشّة

  

ورث محمد حسني مبارك -بعد تسلمه الحكم في أكتوبر 1981- "جيشًا متضجرًا" بحسب وصف روبرت سبرنغبورغ(15)– فبالإضافة إلى التقليص المُتعمد لعدد أفراد القوات المُسلحة، فقد انكمشت ميزانيته وأتى التضخم الاقتصادي على مرتبات العسكريين، فعمد حسني مبارك  -انسجامًا مع خلفيته العسكرية- إلى إعادة الجيش إلى مكانته ونفوذه، خاصًة أنه بعد خمسة أعوام من حكمه تأكد للجميع مرة ثانية أن الجيش هو حامي النظام الأول، وذلك حين استدعاه مبارك لقمع تمرد أفراد الأمن المركزي.(16)

 

كانت التسوية الضمنية بين الرئاسة والجيش بعد تلك الحادثة، هي أن يكون مبارك من يتولّى "مجمل سلطة القرار السياسي، وليس مجرّد السيطرة على جهاز الدولة"(17). مع  بقاء القوات المسلحة لاعباً أساسياً واليد السُلطوية للنظام في "نظام الحكم متعدّد الأطراف المتصارعة" المؤلّف من قوى مؤسسية وسياسية متنوّعة بإشراف الرئاسة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجماعات الاقتصادية الرئيسة، والحزب الوطني الديمقراطي.

 

فقد وسع الجيش نشاطاته بشكل ضخم في المجالات التي كانت دائمًا من نصيب المدنيين؛ مثل المجالات الصناعية والزراعية وبناء المرافق. أدى هذا النشاط الاقتصادي المتزايد إلى تحقيق مكتسبات مادية كبيرة وتدعيم المصالح المشتركة بين المدنيين والعسكريين ومصالح البرجوازية المصرية بصورة أكثر عمومية.(18)

 

الثورة.. والعودة إلى المجتمع العسكري
ظهر الإرث التاريخي للسيادة العسكرية على المجالين السياسي والاقتصادي بشكل واضح في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ الذي تسلم مقاليد الحُكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك
ظهر الإرث التاريخي للسيادة العسكرية على المجالين السياسي والاقتصادي بشكل واضح في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ الذي تسلم مقاليد الحُكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك

 

بحسب يزيد صايغ (19) فمع تعيين المشير حسين طنطاوي وزيرا للدفاع في عام 1991، جرى إقصاء القوات المُسلحة من المشاركة العلنية في القرار السياسي مقابل السماح بتغلغل العسكريين مرة أخرى إلى داخل جهاز الدولة، اعتبر يزيد صايغ هذا التغلغل العسكري شكّل مسخًا من المجتمع العسكري الذي قام في عهد عبد الناصر؛ لكن بخلاف عبد الناصر لم تمارس المؤسسة العسكرية سلطة مباشرة على مجلس الوزراء؛ بل تغلغلت في الأجهزة البيروقراطية للدولة المصرية وبشكل خاص هيئات رقابية وإدارية منتقاة، وعلى الأجهزة الأمنية بطريقة يشوبها التوتر أحيانا.

 

وفي المحصلة النهائية ارتفع عدد العسكريين الذين يشغلون وظائف مدنية في عهد مبارك حتى وصل عشرين ضعفا عما كان عليه أيام السادات.(20)

 

ظهر ذلك الإرث التاريخي للسيادة العسكرية على المجال السياسي والاقتصادي بشكل واضح في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلّم مقاليد الحكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك في 11 (فبراير/شباط) 2011.

 

ظل النفوذ السياسي للعسكر السمة الرئيسة للحياة السياسية منذ 1952، فلم تعرف مصر قبل ثورة 25 يناير حكمًا مدنيا حقيقيًا؛ فالأنظمة كلها كانت عسكرية بشكل
ظل النفوذ السياسي للعسكر السمة الرئيسة للحياة السياسية منذ 1952، فلم تعرف مصر قبل ثورة 25 يناير حكمًا مدنيا حقيقيًا؛ فالأنظمة كلها كانت عسكرية بشكل "بريتوري"

 

يضيف يزيد صايغ (21) على ذلك موضحًا أنه بعد الثورة عمل المجلس الأعلى جاهداً لإقناع الضباط وضباط الصف والأفراد بأنه يمثّل مصالح القوات المسلحة ككلّ، وليس فقط مصالح كبار الضباط أو الشريحة العليا منهم؛ لكن، في الواقع، سعى المجلس إلى الدفاع عن الموقع المتميّز للمؤسسة العسكرية، التي تمتطي جهاز الدولة واقتصادها من خلال شبكات الضباط العاملين والمتقاعدين التي تتكوّن منها جمهورية الضباط. وإذا ما بدت الفواصل بين القوات المسلحة والمجلس الأعلى وجمهورية الضباط الاقتصادية والسياسية غير واضحة؛ فيعود ذلك إلى حقيقة أنها مغشية وضبابية فعلاً. إن ذلك الغموض، ومعه إمكانية التنفّذ من هيئة إلى أخرى وحرية التصرف بدون رقيب مدني؛ هو بعينه ما كان يسعى المجلس العسكري لإدامته.(22)
 

أخيرًا؛ ظل النفوذ السياسي للعسكر السمة الرئيسة للحياة السياسية منذ 1952، لم تعرف مصر قبل ثورة 25 يناير حكمًا مدنيا حقيقيًا؛ فالأنظمة كلها كانت عسكرية بشكل "بريتوري"؛ أي أنظمة يكون فيها الضباط أطرافًا رئيسين أو مهيمنين عبر ممارسة حكمهم الفعلي أو من خلال تهديدهم باستخدام القوة. هذا النمط الذي قاد في النهاية إلى إجهاض تجربة التحول الديمقراطي في مصر بعد الإطاحة العسكرية بأول رئيس مدني منتخب.(23) 

المصدر : الجزيرة