شعار قسم ميدان

أكراد تنظيم الدولة.. طعنة في خاصرة القومية الكردية

ميدان - جندي كردي وخلفه علم تنظيم الدولة
مقدمة المترجم

يمكن النظر إلى أكراد تنظيم الدولة على أنهم الاستثناء الوحيد في منطقة تعج بالصراعات الطائفية. ويمكن في الوقت نفسه، النظر إلى المادة التالية باعتبارها تمييزية. إذ أنها تتناول الأكراد ههنا، بنبرة فيها تفضيلٌ على جيرانهم العرب. لكنها أيضا تقول لنا، أن الأكراد هم أبناء هذه المنطقة، وأبناء تعقيداتها الداخلية. وأنهم ليسوا بالاستثناء الكبير إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وجود مئات الأكراد في صفوف تنظيم الدولة. لكن لماذا ينضم الأكراد، وربما حتى العرب كمكوِّنٍ أساسي؛ إلى تنظيم الدولة؟ هل هي دوافع دينية وحسب؟ هذا ما سنتعرف عليه في المادة التالية من الفورين أفيرز.

 

نص المادة

"لقد أقامت الجهادية بيننا لعقود، وستُهزم تنظيم الدولة كما هُزم سواها"، هكذا أخبرنا ضابط استخباري كبير بنبرة واثقة. يكون الأكراد على وجه الثقة لاسيما إن تعلق الأمر بتهديد يشكله تنظيم الدولة الإسلامية على حدود كردستان العراق، الذي توعده التنظيم قبل شروع قوات البيشمركة والقوة الجوية الغربية بتوجيه ضربات مضادة في (أغسطس/ آب) 2014. كنا قضينا أسبوعين في كردستان العراق بهدف استقاء فهم أفضلَ لتنظيم تنظيم الدولة والحرب عليه. تضمن بحثنا إجراء مقابلات مع ضباط في الاستخبارات الكردية، وقادة في البيشمركة، وضبّاط استخبارات، وسجناء أكراد كانوا قد انضموا إلى تنظيم الدولة. وتشكلت لدينا معرفة أوسع عن الظروف التي قد تذهب بشخص بعيدا عن بيته وعائلته وأصدقائه، للانضمام إلى دولة الخلافة المزعومة.

 

خلال جولة بقيادة البيشمركة إلى تازة خورماتو، وهي مستوطنة تقع على تخوم كركوك وتمثل إحدى خطوط الجبهات ضد تنظيم الدولة في العراق، بدا وأن الأمن مستتب لضباطِ البيشمركة. أخبرنا مدير القاعدة هناك بأن التنظيم كان عاجزا عن تنفيذ أي هجمات تذكر منذ بداية الحملة الجوية بقيادة الولايات المتحدة في المنطقة. وأضاف "ما نواجهه في الوقت الحالي لا يعدو إطلاق بضع قذائف هاون هنا وهناك، لتذكيرنا وحسب بأنهم موجودون". وكانت تنظيم الدولة قد لجأت إلى استخدام قذائف ملقمة بغاز الكلور والخردل. قبل أسبوع على زيارتنا، كانت تازة موقعا لإحدى هذه الهجمات، التي أوقعت مئات الخسائر. وبرغم الاضطراب الذي أثاره الهجوم، إلا أنه كان برهانا على اليأس المتفاقم للتنظيم أكثر من أي شيء آخر.

 

ليست تنظيم الدولة، مع ذلك، مجرد حركة تمردية تهدد حدود كردستان العراق. إنها معضلة داخلية أيضا، وقد بذلت أجهزة الأمن الداخلي لحكومة كردستان الإقليمية جهدا حثيثا في العمل على وقف هجمات التنظيم على أراضيها، إذ اعتقلت أعضاء أكراد وعرب "وحتى مقاتلين غربيين، كما أُخبرنا" وفككت التجنيد الاستثنائي للتنظيم وشبكته اللوجيستية.

 

أفراد من قوات الأمن الكردية يعتقلون شخص يشتبه بانتماءه لتنظيم الدولة (رويترز)
أفراد من قوات الأمن الكردية يعتقلون شخص يشتبه بانتماءه لتنظيم الدولة (رويترز)

 

تاريخ موجز للحركات الإسلامية الكردستانية

على مر التاريخ كان من الصعب على الجماعات الجهادية نيل قبول واسع ضمن الثقافة الكردية، التي تحدَّدَت معالمها بقرون من النضال القومي العلماني ضد الأنظمة العربية الديكتاتورية. لكن يظل لهذه الجماعات حضور تاريخي في المنطقة. فقد ظهرت جماعات جهادية كردية كَبُرادةٍ عن جماعات إسلامية سابقة كانت أشد اعتدالا. من بين طلائع هذه الحركات الحركة الإسلامية في كردستان (IMK)، والتي تأسست عام 1987 على يد عدد من المعارضين العراقيين الذين حاربوا ديكتاتورية صدام حسين البعثية، والذين تدرب وحارب بعضهم في أفغانستان إبان الغزو الروسي.

 

وقد لجأ أبناؤها تقليديا إلى شرق ما سيطلق عليه لاحقا كردستان العراق مؤسسين قاعدة قوية في حلبجة، وهي محافظة يعرف سكانها بالحفاظ الديني. لقد ضمن الموقع للجماعة أيضا أن تكون على مقربة من داعميها في النظام الإيراني، الذي كان في ذلك الوقت في حرب ضروس استمرت ثمانية أعوام مع العراق.  

 

تعرف حلبجة بصورة أقوى كموقع هجمات الأسلحة الكيميائية التي شنها صدام في 1988، وهي مأساة أودت بحياة نحو 5.000 كردي. وبما لا يثير الدهشة، فقد لعب القصف دورا بارزا في اتجاه العديد من الأكراد إلى التطرف، الأمر الذي استغلته الحركة الإسلامية في إعلان الجهاد على الحكومة العراقية ردا عليها.

 

استمرت الحركة، على امتداد بواكير التسعينات، بتلقي التدريب والدعم المالي والإسناد اللوجستي من خصوم صدام.  انضم إلى الإيرانيين نظام البعث السوري في مساعيه لزعزعة كل من ديكتاتورية صدام والحكومة القومية العلمانية المنتخبة حديثا وقتذاك، والتي أدارها قطبان في السياسة والمجتمع الكردستاني العراقي، هما الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK).

 

شكل الدعم نقطة ارتكاز لأبناء الحركة الإسلامية، الذين نظموا عددا من الهجمات ضد أهداف للاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي. على الرغم من اندلاع قتال متقطع بين الأكراد العلمانيين والحركة الإسلامية، إلا أنه سرعان ما التفت الحزبان إلى الحرب الأهلية التي نشبت بينهما، والتي استحوذت على اهتمام كليهما بين 1994 و1998.

 

شعار الحركة الإسلامية في كوردستان/العراق (الجزيرة)
شعار الحركة الإسلامية في كوردستان/العراق (الجزيرة)

 

عندما وضعت الحرب أوزارها، انضمت الحركة الإسلامية إلى حكومة كردستان الإقليمية (KRG) ذات التوجه العلماني، ما أثار سخط عناصر أشد تزمتا ليؤدي الأمر نهاية المطاف إلى نشوء أولى جماعات السلفية الجهادية في البلاد. كان أكبر هذه الجماعات جماعة "جند الإسلام"، التي بدأت أواخر التسعينات في إنشاء مخيمات تدريبية قتالية وأيديولوجية في منطقة حلبجة أملا في تأسيس أرضية صلبة لثورةِ سلفية جهادية في العراق.

 

بحلول 2001، كانت الجماعة قد غيرت اسمها إلى "أنصار الإسلام"لتبدأ في تلقي الدعم من تنظيم القاعدة. كانت تلك الفترة التي بدأت فيها الجماعة بلفت أنظار أبي مصعب الزرقاوي، مؤسس تنظيم القاعدة في العراق. ورأى هذا الأخير في شمال العراق ملاذا آمنا وفعالا لتمكين حركته، جند الشام، التي أسسها في أفغانستان عقب الغزو الأميركي في 2001.

 

بعد الغزو التالي للعراق في 2003، وبمساعدة الزرقاوي، أصبحت الجماعة إحدى أبرز التنظيمات الجهادية التي تشن هجمات ضد الغرب والقوات الكردية. وقعت أسوأ فظاعاتها في كردستان العراق عام 2004، عندما قتل انتحاري في هجوم سيارة مفخخة 109 أشخاص، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء، سامي عبد الرحمن. من هنا نمت جذور تنظيم الدولة.

 

بالنسبة للسلطات الكردية، لا يعدو التنظيم كونه حركة أثبتت مرارا قدرتها على إعادة تنظيم وبعث نفسها من جديد في المنطقة. إن ما تعنيه هذه الخبرة الطويلة للأكراد مع الجهادية أيضا هو أن كلا الأجهزة الأمنية والجيش متمرسون في قتال، وهزيمة، هكذا جماعات. وقد يفسر هذا، جزئيا، الثقة التي أبداها كافة المسؤولين الذين تكلمنا معهم.

 

فقد تنظيم الدولة حوالي 40% من أراضيه في العراق، وحوالي 20% في سوريا. وانسحب في الشهور التي تلت هجمات باريس، من أكثر من سبع بلدات ومدن كبرى. وأخبرنا مسؤولون في الجيش الأميركي في كردستان أن التحالف الدولي بحضورهِ المؤثر جوا وبرا كان عاملا حاسما في إنهاك التنظيم، حيث عمل مع القوات المحلية التي من بينها البيشمركة الكردية.  

 

لم يتمكن تنظيم الدولة منذ (مايو/أيار) 2015 من تدشين عملية ناجحة واحدة في كردستان العراق. إلا أن الأمر باعث على رضا التنظيم، طالما أن شبكة تنظيم الدولة الممتدة في أرجاء المنطقة تستفيد من الجذور الجهادية في تلك البقاع وتعتمد عليها.

 

تتنوع أسباب انضمام الأكراد إلى تنظيم الدولة ولا تتفق بالضرورة مع العوامل التي أثرت على أقرانهم العراقيين العرب (رويترز)
تتنوع أسباب انضمام الأكراد إلى تنظيم الدولة ولا تتفق بالضرورة مع العوامل التي أثرت على أقرانهم العراقيين العرب (رويترز)

 

وفق تقديرات مسؤولين، ثمة في الوقت الحالي 400-450 مقاتلا كرديا في صفوف تنظيم الدولة، على أراضي حكومة إقليم كردستان أو ضمن رتب تنظيم الدولة المحورية للتنظيم. وتتمكن هذه الشبكة من النجاة، بنسبة كبيرة، بفضل تنظيم الدولة، التي تنشط في المنطقة الرمادية ما بين كونها حركة تمردية وتنظيمًا مافيويًّا، قادرٌ على الاعتماد على الضعفاء واستغلالهم.

 

أخبرنا كبير وكلاء الأمن الداخلي بإحدى الطرق التي تتمكن فيها تنظيم الدولة من إحكام قبضتها على الضعفاء، قائلا "يتوجه تنظيم الدولة إلى سائق شاحنة في سوريا أو العراق يعتمد مصدر رزقه على قيادته إيابا وذهابا بين مناطق يسيطر عليها التنظيم ومناطق كردستان. وعند تخييره بين العمل كفتى توصيل لدى تنظيم الدولة، وفقدان عائلته فإنه لن يتردد في اختيار الأول بالطبع".

 

وما هذا إلا غيض من فيض لوجستيات أوسع تدبر التنظيم تأسيسها. وبما لا يثير الدهشة، فقد لجأ تنظيم الدولة بشكل موسع لاستثمار الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ملقيًا بشباك فيسبوك على مجندين أكراد محتملين من بين المستضعفين في صفوف شبان المنطقة.

 

استغلال الشبان اليافعين

تتنوع أسباب انضمام الأكراد إلى تنظيم الدولة ولا تتفق بالضرورة مع العوامل التي أثرت على أقرانهم العراقيين العرب. حيث ينضم الكثير منهم كنوع من الاحتجاج على الحكومة ذات الغالبية الشيعية في بغداد. والتي تُرى على أنها طائفية وتقدمها تنظيم الدولة -ومن قبلها القاعدة- على أنها مناهضة للسنة. لا يلقى هذا النوع من تبادل الخطابات صدى ضمن الغالبية العظمى لأكراد العراق، المنفصلين إلى حد كبير عن التقسيمات السنية الشيعية المنتشرة في بقية مناطق البلاد.

 

قرر أراز الانضمام لتنظيم الدولة. سرعان ما تأكد له أن كردستان أرض فاسدة، وأنها تزداد تورطا في سياسات قومية حقيرة، ومع استمرار الولايات المتحدة في إذلال المسلمين واحتلال أراضيهم وقتلهم

على الرغم من أن العينة التي تواصلنا معها من أكراد تنظيم الدولة أقل من أن تساعدنا في استخلاص استنتاجات شاملة، إلا أن حواراتنا معهم، رغم ذلك، ساعدتنا في كسب فهم أفضل لكيفية عمل التنظيم ومعرفة شريحة مجنّديه. كان لقاؤنا الأول مع "أراز" -تم تغيير أسماء كافة السجناء- وهو سجين في أواخر سنوات المراهقة. مضى على استخدامه فيسبوك أسبوعان وحسب قبل تواصله مع أحد مجنِّدي تنظيم الدولة وبدء انزراقه في عالمهم الافتراضي.

 

بصفته يافعًا يسهل التأثير فيه، كان فريسة سهلة لمجنِّدي التنظيم. عندما سألناه عن كيفية عثور تنظيم الدولة عليه، أخبرنا أنه، لارتباطه بالإسلام، نشر صورا لنصوص ورموز إسلامية. كانت صورة ملفه الشخصي للمسجد الأقصى في القدس. ولفت هذا أنظار مجنِّدي تنظيم الدولة، الذين تقربوا منه واستهلوا معه حوارا سيكون من شأنه تحديد مدى واقعية فرصه في الانضمام إلى التنظيم.

 

وفقا لـ أراز، على مدى ثلاثة أشهر، تدبر معارفه من تنظيم الدولة في الفضاء الافتراضي إقناعه بمشروعهم الطوباوي، ليقرر حزم حقائبه والاتجاه إلى الجانب الذي يسيطر عليه التنظيم من مدينة الموصل العراقية. على الرغم من أنه حظي بحياة مريحة إلى حد ما، وبعلاقةٍ طيبة جمعته بعائلته، إلا أنه اقتنع بتركِهم وراءه في بحث عن المغامرة ولإمكانية كونه جزءا مما يقدمه التنظيم للمجندين على أنه أشد اللحظات محوريةً في تاريخ الإسلام قاطبة.

 

"لقد أخبروني أنهم سيوفرون لي المكان والمكانة في مجتمعهم، والفرصة للقتال في سبيل الله"، أضاف أراز. وسرعان ما تأكد له أن كردستان أرض فاسدة، وأنها تزداد تورطا في سياسات قومية حقيرة، كل هذا مع استمرار الولايات المتحدة في إذلال المسلمين واحتلال أراضيهم وقتلهم. في أرض الخلافة، لم تكن لتشكل الخلفية المهنية أو الديمغرافية فارقا "قالوا بأننا سواسية طالما أننا مستمسكون بالقضية ذاتها".

 

قصوا عليه قَصَصَ البطولة، والشهادة، ومجد الحياة الجديدة التي سيحظى بها في ربوع دولة الخلافة. وحذّروه من أشرارِ المسلمين الشيعة وبقية السنة الذين لم يتّبّعوا هدي تنظيم الدولة
قصوا عليه قَصَصَ البطولة، والشهادة، ومجد الحياة الجديدة التي سيحظى بها في ربوع دولة الخلافة. وحذّروه من أشرارِ المسلمين الشيعة وبقية السنة الذين لم يتّبّعوا هدي تنظيم الدولة
 

سألناه كيف أمكن له الثقة بأشخاص لم يلتق بهم من قبل قط. حسب أقواله، فإنه افتقد أي خبرة سابقة في التعامل مع الجماعات الجهادية، فضلا عن أنه لم يمتلك أدنى اهتمام بهذه التنظيمات من قبل. لكن، بوصفه وافدا جديدا على فيسبوك، فإن قائمة أصدقائه خلت ممَّن يمكن أن ينخرط معهم في الشبكة العنكبوتية. أخبرنا أراز أنه، تكلم بواسطة برنامج "ماسنجر" الخاص بفيسبوك، مع ثلاثة أشخاص مختلفين قبل الموافقة على الانضمام.

 

سرعان ما بدأت أواصر الصداقة بالتشكل بينهم، واصفًا، بشيء من الحنين ربما، كيف بدأوا بالإحالة إلى بعضهم بعضا كـ"إخوة".  لم يعن ذلك، بالطبع، أنهم كسبوه إلى صفهم على الفور عند المناقشات الأولى حول أساليب المواجهة والتفجيرات الانتحارية، "لم أقبل بما كانوا يقولونه لي، لم أكن مقتنعا"، قال.  رغم ذلك، استمرت التبادلات بينهم، وبدأ، بمرور أشهر، يشعر بالقرب منهم.

 

إن العمل الافتراضي ضمن أراضيهم يعني أنهم لا يعرضون أنفسهم لأي خطر اعتقال على أنشطتهم. وإن ألقت السلطات القبض على على مجندين جدد في اتجاههم للانضمام إلى التنظيم، لن يكون لديهم معلومات استخباراتية كافية حول الموقع أو الهوية الحقيقية لأفراد تنظيم الدولة

قصوا عليه قَصَصَ البطولة، والشهادة، ومجد الحياة الجديدة التي سيحظى بها في ربوع دولة الخلافة. وحذّروه من أشرارِ المسلمين الشيعة وبقية السنة الذين لم يتّبّعوا هدي تنظيم الدولة، لكن النقاش الفقهي لم يكن محوريا في أية محادثة. لم يشعر مطلقا أنهم يحاولون إقناعه بقبول رسالتهم، وهذا النهج الناعم أتى بثماره "لم يأمروني أن أقبل بـ البغدادي، لكنهم أخبروني ماذا يعني أن أكون أحد أتباعه..، قلّما ظهر الفقه في نقاشاتنا بالتفصيل. لقد شرحوا لي بأن القرآن بمثابة مرشد في كافة نواحي الحياة وأن قوانين الخلافة مستقاة منه، لا من دساتير الفسَدة، وأن قوانين الدولة الإسلامية عُليا إلهية".

 

على الرغم من خوضهم أحاديث أولية حول الإسلام، إلا أن أراز اقتنع باستحقاقات الهجرة من أجل القتال من أجل "قضية الإسلام". لكن القوات الكردية التي كانت ترصد نشاطاته على الانترنت، اعتقلته عند استعداده لمغادرة موطنه إلى أراض يسيطر عليها تنظيم الدولة. لقد حدثت هذه العملية كليا في الفضاء السيبراني. وبينما أشارت غالبية الأبحاث المتصلة بما يسمى "التطرف الرقمي" إلى أهمية درجة ما من التواصل مع شبكة ملموسة على الأرض، إلا أنها أقرت أيضا بأن أعدادا لا يستهان بها من الأفراد هم استثناء لهذه القاعدة. في بعض الحالات، برهنت قوة الشبكة الافتراضية على أنها كافية لإقناع من يرجح انضمامهم من المقاتلين بالتحرك.

 

واتضح لنا، في مقابلات مع آخرين، أن تجنيدهم تم أيضا من خلال فيسبوك وأنهم بدورهم لجأوا إلى استخدام واتساب وتلغرام -كتطبيق رسائل له ميزة "محادثة سرية" مشفرة تجعل استخدامه رائجًا من قبل أنصار التنظيم حول العالم- للتواصل مع مجنِّدي وحراس تنظيم الدولة. بالنسبة إلى مجنِّدي تنظيم الدولة، فالتجنيد عبر الانترنت لا يكلف شيئا تقريبا. مما يمكنهم التعرف على المقاتلين المحتملين الذين يكونون على مقربة من أراضي تنظيم الدولة بناء على منشوراتهم في منصات التواصل الاجتماعي، ملقين بشِباكهم أسرع وأوسع ما أمكن.

 

إن العمل الافتراضي ضمن أراضيهم يعني أنهم لا يعرضون أنفسهم لأي خطر اعتقال على أنشطتهم. وإن ألقت السلطات القبض على على مجندين جدد في اتجاههم للانضمام إلى التنظيم، لن يكون لديهم معلومات استخباراتية كافية حول الموقع أو الهوية الحقيقية لأفراد تنظيم الدولة المتعاونين معهم عبر الانترنت.

 

شبكات الأصدقاء

undefined

 

في مقابلة أخرى، تكلمنا إلى سجين يدعى عليّ، تختلف تفاصيل حكايته عن حكاية أراز. فقد جمعته أواصر قوية بشبكات جهادية كردستانية، وأصبح عدد من أصدقائه أعضاء في تنظيم الدولة. كان علي، قد اتجه للعمل معهم إثر مقتل أحد أصدقائه في إحدى معارك التنظيم مع القوات العراقية في 2015.  بعدها بفترة وجيزة، نشر عليّ صورة لصديقه مرفقة بإشارة أنه "استشهد دفاعا عن الخلافة" وأنه نال بركة الموت في شهر رمضان. لكن موت صديقه الحقيقي كان، وفقا له "عندما أسررت لأول مرة الرغبة في الانضمام لتنظيم الدولة".

 

أثارت منشوراته انتباه مجندي تنظيم الدولة على الإنترنت، وسرعان ما تواصل مع أحدهم عبر فيسبوك وتلغرام. على الرغم من أنه لم يتلق تعليما رسميا إسلاميا، إلا أنه اعتبر نفسه، طوال حياته كبالغ، مسلما ملتزما دينيا. لكن تنظيم الدولة شكلت فرصة مغرية له، عندما بدأ آخرون يعرفهم بالانخراط فيها.

 

أخبرنا بأن محادثاته مع أصدقاء ومجنِّدين عبر الانترنت لتنظيم الدولة قادوه إلى الاستنتاج بأن التنظيم كان يمارس وينفذ الإسلام بشكله الأصيل والأنقى. عندما سألناه عن كيفية انضمامه إلى تنظيم يمثل أسوأ أعداء الأكراد، فسر لنا كيف تم تضليله من قبل "أشخاص عرفتهم سلفًا، أكراد ذهبوا إلى أرض الخلافة وتواصلوا معي من هناك، أصدقاء، أبقيت على تواصل معهم. إن صداقتي بأشخاصٍ عرفتهم، والتلاعب بالآيات والأحاديث، كلها أمور ساهمت في إقناعي بالانضمام إلى تنظيم الدولة".

 

رتب له أصدقاء كانوا قد انضموا إلى تنظيم الدولة سلفًا لقاء مع أحد معارفهم في كردستان. خلال اللقاء، تم حثه على السفر مع مجندين آخرين إلى الموصل، لكنه تردد، لأنه لم يشأ ترك عائلته خلفه. فأخبره أحد أعضاء تنظيم الدولة أن يظل في بلاده على أن ينتظر منهم تعليمات إضافية، إثر إدراكهم إمكانية توسعة شبكتهِم ضمن أراضي حكومة إقليم كردستان. بعكس الفتى أراز، الذي لم يكن لديه أطفال يحولون دون ذهابه للموصل، كان عندَ علي التزام بعائلته.

 

عندما سألناه عن سبب تفضيله عائلته على الهجرة، أجاب "لأنهم عرضوا علي فرصة أن أكون جزءًا من الخلافة من موقعي هذا؛ لم يكن يتوجب علي الذهاب إلى الموصل ولم أشأ ترك عائلتي". لقد وفر له المجنِّدون المال، غير أنه قال "لم يكن المال المحفز الرئيسي عندي". وبما أنه قد تخلى عن آرائه المتطرفة الآن، أفاد قائلا "كنت اعتدت الإيمان بالإسلام بالطريقة التي أملوها علي، والإيمان بالخلافة والبغدادي أيضا، لكن ليس بعد الآن. وحتى في أوقات اعتناقي تلك الآراء، كانت تساورني شكوك حيالها".  

 

زار علي الموقع المُراد تفجيره تاركا العبوة الناسفة في البيت، دون أن يغفل عن حمل الحقيبة التي أعطاها تنظيم الدولة له، مخافة أن يكون مراقبا من قبلهم. وكان يأمل في إقناعهم أنه أحجم عن زرع القنبلة
زار علي الموقع المُراد تفجيره تاركا العبوة الناسفة في البيت، دون أن يغفل عن حمل الحقيبة التي أعطاها تنظيم الدولة له، مخافة أن يكون مراقبا من قبلهم. وكان يأمل في إقناعهم أنه أحجم عن زرع القنبلة
 

كما فسر لنا ضباط استخبارات أكراد، فإن تنظيم الدولة يقوم بدس سُعاة ورسل ضمن مناطق كردستان كجزء من شبكته اللوجستية. وكما قال لنا علي فإنهم "أرادوا مني التقاط المعلومات، وأن أجمع عتاد السلاح وأساعد أولئك القادمين من الموصل ومدن أخرى إلى كردستان". وفي ثلاث مناسبات منفصلة على الأقل، كان قد قابل سائقي شاحنات يعملون سُعاةً لدى تنظيم الدولة. ليأخذ منهم حقائب ممتلئة بالأسلحة والذخيرة التي سيتركها في مواقع معينة، بأسلوب "الإخفاء بالتّمويه"، بحيث يتركها في أماكن معينة من أجل أحدهم، ويراقب من بعيد ليضمن أنه أخذها بأمان.

 

ومع ذلك، كانت الشحنة التي وصلته تحوي شيئا مختلفا: لقد كان عبوات ناسفة، تعين عليه زرعها في حسينية شيعية محلية بمدينة السليمانية في أثناء احتفال الشيعة بشعائر يوم عاشوراء. وفقا لعلي، كان الخيار واضحا: "حسينية الشيعة دائما ما تكون مكتظة، فضلا عن أنهم مرتدُّون وهم بالتالي، أهداف مشروعة".  وكان أيضا مندفعا في إظهار ندمه، "لم أكن أفكر بوضوح في كل الأوقات ولا شك أنه قد تم التلاعب بي"؛ على الرغم من أن معرفة مدى حقيقة ندمه كان أمرا متعذرا بالنظر إلى الظروف التي أحاطت لقائي به. غير أن، قراره في النهاية بعدم تنفيذ تلك الهجمات يشي بدرجة ما من الندم.    

 

زار علي الموقع المُراد تفجيره تاركا العبوة الناسفة في البيت، دون أن يغفل عن حمل الحقيبة التي أعطتها تنظيم الدولة له، مخافة أن يكون مراقبا من قبلهم. وكان يأمل في إقناعهم أنه أحجم عن زرع القنبلة بسبب الحضور المكثف لقوات الأمن. لكنه كان بحلول هذا الوقت، قد لفت أنظار الاستخبارات الكردية، ليتم اعتقاله عند اقترابه من الحسينية.

 

تتوافق حكاية علي مع حكايات آخرين انضموا إلى الجماعات الإرهابية. حيث تم التأثير عليهم بخليط من المشاعر الدينية والتورط بشبكة أصدقاء لها صلات مع تنظيم الدولة تساعد في تشجيعه على الانضمام. على الرغم من أن أنشطته في فضاء الانترنت لعبت دورا، إلا أنه من غير المرجح أن يكون قد اهتم بتنظيم الدولة لولا عضوية صديقه في التنظيم وموته.

 

استغلال العاطلين عن العمل

كان فهم واستيضاح قصة السجين الأخير الذي قابلناه أعصى ما في هذه المقابلات. لقد أظهر اهتماما أكبر بقصّ الرواية التي تفيد تنصله وبراءته منهم، وكان قد قُوطع في عدة مناسبات من مسؤولين في الأمن الكردستاني لتَشكيكِهم في الحقائق التي تلاها على أسماعنا.  

 

بوصف
بوصف "جمعة" عاطلا عن العمل فقد عرض عليه العمل مع التنظيم بمقابل مادي (رويترز)

 

بعكس آخرين، أبان "جُمعة" عن معرفة أو اهتمام شحيح بتنظيم الدولة وأيديولوجيتها، زاعما أنه تصرف بمزيج من الجهل ووعود المكافآت المالية. بوصفه عاطلا عن العمل تلك الفترة، وضعه زوج شقيقته على تواصل مع رجل أراد مساعدته، على ما يبدو، في الحصول على عمل. ولم يكتشف، جمعة، إلا في وقت متأخر أن الرجل كان رجل عمليات لدى تنظيم الدولة. عُرِضت عليه سيارة جديدة، كان في وسعه استخدامها كسيّارة أجرة، وهو أمر أخبرنا أنه لم يستطع مقاومته. وطُلب إليه، في المقابل، رفدُ تنظيم الدولة بالمعلومات.

في وسع سائقي سيارات الأجرة توفير شتى الخدمات لتنظيم الدولة، بما فيها القدرة على استطلاع أماكن اختطاف وهجمات ممكنة دون إثارة الشكوك. وبرغم إنكاره اضطلاعَه في أي من هذا، أفصح مسؤولون أكراد أنه سرب معلومات إلى تنظيم الدولة تتصل بأماكن سجون رئيسية ومواقع حساسة أخرى. وفقا لِجمعة، فقد أيقن بأنه يتعامل مع تنظيم الدولة بعد مرور شهرين على اتصاله الأول بهم، عندما طُلب إليه استلام سيارة جديدة.

 

"ذهبنا إلى الموقع لاستلام سيارة بصحبةَ ثلاثة رجال آخرين. عندما وصلنا إلى هناك أخبرني أحدهم أنهُ من تنظيم تنظيم الدولة وأنه يريد استخدام هذه السيارة في عملية تفجير مفخخة". كان هذا، بحسب زعمه، عندما "تراجعت عن العمل معهم وأخبرتهم أن يتركوني وشأني، وبأنّني لا أريد أن تجمعني أي صلة بهم. لقد خشيت على حياتي وحياة عائلتي وأخبرتهم أنني لن أشي بهم إن تركوني أعود من حيث أتيت".

 

لقد قدم نفسه لنا كضحية لخداع تنظيم الدولة. "أنا أُمِّيّ وأردت كسب رزقي باستخدام السيارة. لقد تلاعبوا بي بالمال. وفور إدراكي أنهم دواعش أخبرتهم أن يدعوني وشأني. تركتهم لكن تم اعتقالي، قال مصرا.. ومرة أخرى، دحضت السلطات الكردية هذه الرواية، حيث توفر لديها دليل دامغ على أن شقيقته وعددا من أفراد عائلته أعضاء في تنظيم الدولة في العراق، مضيفين بأن هذا يفسر كيفية تمكن زوج شقيقته من وصله بشبكة تنظيم الدولة في كردستان.  

 

في كلا الحالتين ثمة العديد من علامات الاستفهام، وليس من الممكن الحصول على صورة واضحة لكيفية تورط جمعة بتنظيم الدولة. برغم ذلك، حكاية جمعة "على ضبابيَّتها"، وحكايا أولئك الذين تكلمنا إليهم، ساعدتنا على البدء في تشكيل فهم أفضل لكيفية عمل التنظيم في المنطقة، وفهم دوافع الأكراد المنضوين تحت لواء التنظيم.  

 

لماذا يظل الأكراد الأقل تعرضا للإغراء؟
بالنظر إلى قرب كردستان من أراض يسيطر عليها تنظيم الدولة، وحقيقة أن غالبية أكراد العراق مسلمون سنة، فإن عدد الأكراد المنضمين إلى تنظيم الدولة منخفض بما يثير الدهشة
بالنظر إلى قرب كردستان من أراض يسيطر عليها تنظيم الدولة، وحقيقة أن غالبية أكراد العراق مسلمون سنة، فإن عدد الأكراد المنضمين إلى تنظيم الدولة منخفض بما يثير الدهشة
 

ينبغي أن تكون قصص أعضاء التنظيم من كردستان تذكيرا بتعقيدات قضايا المنطقة. ليس ثمة كأس مقدسة، وينبغي على المرء أن يكون حذرا من أولئك الذين يعدون بها. لا سبب واحد، أو نظرية، يمكنها تفسير كيفية وقوع التطرف، لكل مسلك يتخذه الأفراد خصوصيته ويمكن أن يخضع لتأثير عوامل شخصية بقدر ما هي خارجية.

 

بالطبع، يمكن المجادلة بأننا أنفقنا الكثير من الوقت في محاولة الإجابة عن سؤال لماذا يندفع الناس إلى الإرهاب، في الوقت الذي يتعين علينا فيه طرح سؤال آخر هو: لِمَ لا؟ إن كنا قادرين على فهم الأسباب التي تقف وراء مقاومة بعض الأشخاص النداء للعنف الجهادي فإن معرفتنا حول ظاهرة تنظيم الدولة ستتَّسع.

 

بالنظر إلى قرب كردستان من أراض يسيطر عليها تنظيم الدولة، وحقيقة أن غالبية أكراد العراق مسلمون سنة، فإن عدد الأكراد المنضمين إلى تنظيم الدولة منخفض بما يثير الدهشة. إن من الصعب القول بشكل قاطع سبب، مقاومة الأكراد بشكل أكبر جذب الجهادية العالمية، بعكس جيرانهم العرب.

 

من ضمن التفسيرات الممكنة، أن النضال الكردي للنجاة والانتماء لكيانٍ مشترك قد ضمن لهم تعريف الثقافة والهوية من خلال القومية، لا الدين. ومع ذلك، كما يظهر بحثنا، فحتى في هذه الحالة نجح تنظيم الدولة في جذب أعداد لا يستهان بها من الأشخاص. ما يشي بأن بحثنا عن إجابات ممكنة سيستمرُّ لبعض الوقت. 

================================

هذه المقالة مترجمة عن الفورين أفيرز من: هذا الرابط

المصدر : الجزيرة