شعار قسم ميدان

"غزة أم غروزني؟".. ثورة إدلب والبحث عن المصير

ميدان - إدلب سوريا الثوار ثوار
اضغط للاستماع

  

كان الأمر بالنسبة إليه أبسط بكثير من كل تلك الأهداف الكبرى المألوفة للجميع، والجًا في المدينة بسلاحه المعد جيدًا كعادة مقاتلي المعارضة ليوم كهذا، شاعرًا بالكثير من الراحة مثل جميع الداخلين، وربما كانت بالنسبة له هي راحة الثأر المنتظر طويلًا، متجهًا إلى ساحة مدينة إدلب الرئيسية أمام قصر المحافظ، حيث يتربع تمثال حافظ الأسد الضخم، أحد أيقونات النظام السوري النحتية.

 

ربما يجوز قول إن المسألة بين "علي" وبين حافظ الأسد شخصية[1]، وأنه ربما انتظر طويلاً حتى يأتي موعد تصفية الحسابات. مر حوالي 40 سنة على ذلك اليوم، حين خرج والد "علي" من بلدتهم الصغيرة "تفتناز" لكنه لم يعد أبداً، تاركًا "علي" ووالدته لا يعرفان حتى محل قبره على وجه الدقة، إلا أن الأخبار أتت حينها بأن الوالد قتل في مواجهة مسلحة، ثم تم جر جثمانه بواسطة عربة عسكرية لأكثر من 15 كم، من بلدتهم "تفتناز" وحتى مدينة "إدلب".

 

يتجمع عدد من المقاتلين حول التمثال الضخم محاولين تحطيمه دون جدوى، إلا أن ملامحه قد تشوهت بالكلية، تشوهٌ يعيدهم إلى ذاكرتهم الروائية مسترجعة صورة آباءهم وهم يقذفون الأسد الأب بالثمار المختلفة، بينما يحشد هو الأنصار حوله في ساحة "إدلب" استعدادًا لصعوده من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية بعد الانقلاب الشهير. دقائق وتندفع الجرافة التي وصلت سريعًا للمكان لتنهي المسألة، ولتسقط التمثال ولتعلن المعارضة المسلحة في "إدلب" تمام النصر.

 

 

الخضراء

لمحافظة "إدلب" تاريخ نضاليٌ طويل، واشتهرت دائمًا بجبل الزاوية، أحد الأماكن التي استعصت على الاستعمار الفرنسي لسوريا بداية القرن الماضي، وكان الجبل منطلقًا للاحتجاجات وللثورات المسلحة، وهو ما استمر مع قدوم حافظ الأسد للسلطة، فكانت إدلب عصية على نظامه، وشهدت مجازرًا متعددة في ثمانينات سوريا الدموية أشهرها مجزرة "جسر الشغور"، ومقابل عصيانها عانت المدينة من إهمالٍ وتهميشٍ لدرجة أنها عرفت بـ"المحافظة المنسية"، منسيةٌ حتى بالنسبة للسوريين من المحافظات الأخرى، وقبل عام 2011 لم تكن إدلب شيئًا بالنسبة للكثير منهم، ولم يزوروها في حياة أغلبهم إلا عابرين، ولم يتعرفوا على أهلها إلا من وجوه العمال الحرفيين أو من أفراد الشرطة، إذ شكلت المحافظة خزانًا وموردًا بشريًا لهم.

 

تقع محافظة إدلب شمال سوريا وهي تمثل بوابتها الشمالية إلى تركيا وأوروبا، وتتربع على مساحة 6100 كم محاطةً بـ"حلب" من الشرق وبـ"اللاذقية" من الغرب وبـ"حماة" من الجنوب. وإدلب هي الثامنة من حيث المساحة بين المحافظات السورية، والخامسة من حيث عدد السكان بحسب آخر إحصاء رسمي قبل الثورة، وقدر عدد سكانها بمليون ونصف المليون نسمة. وتشكل مناطق "حارم، أريحا، معرة النعمان، جسر الشغور"، بالإضافة إلى إدلب المدينة، مناطقها الإدارية الرئيسية.

 

يغلب على إدلب الطابع الريفي معيشة ومواطنين، ويغلب فيها العرب السنة مع حضور محدود للغاية للشيعة في "كفريا، الفوعة، معرة مصرين"، وللدروز في "جبل السماق"، وللمسيحيين في "إدلب المدينة، جسر الشغور"، وتعتمد بشكل رئيس على الزراعة التي تشكل العمود الفقري لاقتصادها، خاصة زراعة الزيتون.

 

تغير حال المحافظة كثيرًا مع الثورة السورية، ويقدر عدد سكان إدلب في الوقت الحالي بمليونين و300 ألف، بينهم حوالي مليون نازح من مناطق أخرى[2]. واقتصاديًا لم تعد المحافظة تعتمد على الزراعة وحسب، إذ برز اقتصاد الحرب[3]. أما من ناحية الأهمية فقد صعدت المحافظة ثوريًا بشكل سريع لتشكل حاليًا أهم وآخر معاقل المعارضين السوريين غير المحاصرة، ولا يكاد يمر اجتماع دولي حول سوريا أو مفاوضات أو تصريح بدون أن تشكل إدلب جزءً أساسيًا منه.

 

 مظاهرات إدلب بداية الثورة السورية 2011 (رويترز)
 مظاهرات إدلب بداية الثورة السورية 2011 (رويترز)

 

الثورة: البداية

انضمت مدن وبلدات "إدلب" سريعًا إلى الجموع الغاضبة والمحتجة في (مارس/آذار) 2011، وكان في إدلب من الأسباب والدوافع ما يكفي لأن تنتفض: فذاكرة من الظلم والتهميش جاء موعدها للثأر، ومع طبيعتها الريفية لم يكن لديها ما منع المدن الكبيرة مثل حلب ودمشق من الانتفاضة، لا من ناحية شكل العلاقات الاجتماعية داخل المدينة، ولا من جانب المصالح الاقتصادية، بينما تمتعت بمزية ضعف قبضة قوات الأمن والجيش المحكمة على المحافظات الأخرى.

 

في يوم "جمعة العزة" في (مارس/آذار) لعام 2011 خرجت أولى مظاهرات المحافظة في "أريحا" و"معرة النعمان"[4]، وتصاعدت الوتيرة في "جمعة الشهداء" التالية، وخلال وقت قصير كانت إدلب تتربع على قمة المناطق السورية المتظاهرة من ناحية عدد وحجم نقاط التظاهر[5] التي تجاوزت 170 مظاهرة في المحافظة خلال يوم واحد. خلدت إدلب مشاهدًا استثنائية للثورة السلمية، كلافتات مدينة "كفرنبل" جنوب إدلب[6]، وجدران مدينة سراقب الشهيرة[7] شمالها، ومسرحيات مدينة بنش[8].

 

في (يونيو/حزيران) من نفس العام كانت مدينة "جسر الشغور" في ريف المحافظة على موعد مع تصعيد مختلف[9]، إذ هاجم مدنيون غاضبون بالأسلحة فرع الأمن العسكري في المدينة، على إثر عدة أيام متتالية من المجازر بين المتظاهرين، فيما شكل أوسع حادثة اشتباك مسلح في تلك الأشهر الأولى من الثورة. قتل العشرات من الفرع، واستهدفت أرتال الجيش التي جاءت للمؤازرة، هذا النصر المبكر شكل دافعًا رئيسًا لبداية المرحلة المسلحة في المحافظة، وفي تلك الأيام بالتحديد بدأت طلائع النازحين واللاجئين بالتوجه نحو الحدود التركية القريبة للاحتماء واللجوء.

 

في الأسابيع التالية تصاعدت الأحداث في "إدلب"، وبدأت المجموعات المدنية المنتقلة للسلاح تكبر شيئًا فشيئًا، بينما اعتمد الجيش النظامي على التجمع والتمركز في معسكرات تحولت إلى قلاع عسكرية، مثل معسكر "المسطومة" ومعسكر "وادي الضيف"، وأيضًا على تسيير أرتال عسكرية مدججة تمر بالبلدات والمدن لعقابها، مثل اجتياح "جبل الزاوية" في (يونيو/حزيران) 2011، واجتياح ريف "إدلب" الشمالي في (أبريل/نيسان) 2012. وأمام هذه الحملات العسكرية لم يكن الصمود خيارًا ممكنًا لمجموعات المعارضة المسلحة، فكانت تنسحب حينها من البلدات والمدن إلى الأراضي الزراعية، وتبدأ هناك بتنظيم المعسكرات وإقامة ورش التصنيع العسكرية استعدادًا للمرحلة التالية.

 

undefined

 

undefined

 

يروي "جيفري وايت"، متخصص الشؤون الأمنية وأحد باحثي معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في إحدى دراساته[10] أن الموقف العسكري للنظام في "إدلب" كان "مختلًا للغاية" منذ عام 2012، ويرى أنه كان من المنطقي بالنسبة لنظام الأسد أن يتخلى عن المحافظة ككل ويقصر خطوطه القتالية وموارده للدفاع عن محافظتي "حماة" و"اللاذقية"، لكن السيطرة على ما يمكنه الحصول عليه في "إدلب" شكل بالنسبة له أهمية سياسيةً تتعلق بتمركزه في مراكز المحافظات، وعسكرية لتمثل أماكن سيطرته فيها قاعدة عسكرية متقدمة لمهاجمة قواعد المعارضة المسلحة في المحافظة.

 

إذن ومنذ البداية كان الواقع الميداني العسكري في "إدلب" الأكثر تماسكًا وقوة لصالح المعارضة المسلحة، وذلك لعوامل عديدة، أولها نسبة التسلح الشخصي المرتفعة بين أبناء المحافظة التي تمثل أحد أهم الخزانات العسكرية للمعارضة، فنجد أن أبناء إدلب قاتلوا في كل المحافظات التي استطاعوا الوصول إليها، وسيرت الأرتال العسكرية منها حتى دمشق، وبها مدن يتجاوز عدد ضحاياها في المعارك نسبة من قضوا حتفهم إثر القصف المستمر. وعلى عكس المعتاد، نجد أن المحافظة فقدت خلال عام 2016 فقط حوالي 1200 من مقاتليها، برواية "مسلم السيد عيسى" أحد المراسلين التلفازيين في المحافظة.

 

أما ثاني تلك العوامل فهو النسبة المرتفعة من "الجهاديين" من أبناء المحافظة ومن المهاجرين، بما لديهم من خبرة حربية وعلاقات شديدة الاتساق وتفاهم عالي بينهم، وصلابة "عقيدتهم القتالية" إن جاز القول في استمرارهم العسكري أمام قوات النظام. بينما يتمثل ثالثهم في تمكن المعارضة المسلحة من محاصرة مناطق عسكرية حيوية للنظام، وقطع الإمدادات عنها وبالتالي الحد من فعاليتها في المعارك، مثل حصار مطار "تفتناز"، ومطار "أبو الظهور"، ومعسكري "وادي الضيف" و"الحامدية"، ثم تأتي حدود إدلب الممتدة مع تركيا، ما يعنيه ذلك من إمداد لوجستي وعسكري بديهي وإن لم يثبت، ثم هدوء المحافظة النسبي وقلة هجمات النظام المستمرة عليها مقارنة بمحافظات أكثر أهمية بالنسبة له، مثل "ريف دمشق" و"حلب"، ما يعنيه هذا من توافر قاعدة شبه ثابتة لا تخضع لمتغيرات الحرب بشكل عنيف.

 

صعود الهوامش

رغم دورها في الحراك العسكري للثورة السورية منذ بدايتها، ومساحات سيطرتها أيضًا، إلا أن "إدلب" لم تكن تشكل أي أهمية سياسية، إذ أنها حتى (مارس/أذار) لعام 2015 لم تكن عبارة عن أكثر من أرياف متصلة وممتلئة بمقاتلي المعارضة، إلا إنها بدأت في الصعود سياسيًا بشكل تدريجي، ابتداء من تحرير مدينة "إدلب" نفسها في الشهر المذكور، وبذلك كان مركز المحافظة الوحيد بيد المعارضة، والثاني ترتيبًا في سلسلة التحرر بشكل كامل بعد مدينة الرقة الواقعة في قبضة "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف إعلاميًا بـ"داعش".

  

برزت المحافظة باعتبارها الوحيدة المحررة بالكامل والتي يمكن أن تشكل ضغطًا عسكريًا وورقة في أي مفاوضات قائمة أو قادمة
برزت المحافظة باعتبارها الوحيدة المحررة بالكامل والتي يمكن أن تشكل ضغطًا عسكريًا وورقة في أي مفاوضات قائمة أو قادمة
 

تشكل صعود "إدلب" السياسي أيضًا مع دخولها في المفاوضات الطويلة[11] بين المعارضة المسلحة وبين إيران، بعد حصار "الفوعة" و"كفريا"، وهما بلدتين شيعيتين فيهما قوة لـ"حزب الله" اللبناني، بعد انسحاب النظام من عموم المحافظة بين (مارس/آذار) و(مايو/أيار) عام 2015. وبالتزامن مع هجوم ميليشيات "حزب الله" وقوات "الأسد" النظامية على بلدة "الزبداني"، أقصى غرب سوريا منتصف عام 2015 أيضًا، بدأت قوات المعارضة المحاصرة للفوعة وكفريا بتنفيذ هجوم مدفعي وصاروخي وبري عليهما، بهدف تضييق الخناق والضغط لإيقاف الهجوم على "الزبداني". أثمر ذلك عن اتفاق "الفوعة الزبداني" الشهير في (سبتمبر/أيلول) من العام نفسه، وأقر الاتفاق القيام بتسوية من عدة مراحل، تبدأ بإيقاف المعارك على الجبهتين وإيقاف القصف عليهما وعلى محيطهما، وذلك حد قصف النظام على مدينة إدلب، وتنتهي بإجلاء "الزبداني" و"الفوعة".

 

برزت "إدلب" كذلك مع انحسار سيطرة المعارضة عن مساحات ضخمة من سوريا بداية من عام 2014، لصالح "تنظيم الدولة" بشكل رئيس في البداية، ثم لصالح النظام وخصوصًا خسارة أجزاء كبرى من "ريف دمشق" وخسارة "حلب" كاملة، وقتها برزت المحافظة باعتبارها الوحيدة المحررة بالكامل والتي يمكن أن تشكل ضغطًا عسكريًا وورقة في أي مفاوضات قائمة أو قادمة. ترافق ذلك مع تحولها إلى قبلة للمهجرين من مقاتلي المعارضة والمدنيين من المناطق المهزومة شمال ووسط وغرب سوريا.

 

بدأت قوافل التهجير الخضراء تصل إلى المحافظة بشكل مركز مع اتفاق "الفوعة الزبداني"، وارتفعت وتيرة وصولها وزادت مع خسارة المعارضة في أكثر من منطقة، واتجاه النظام للحسم في بعض المناطق بدل أسلوب الهدن المحلية المتبع سابقًا.

 

"في فترات الصراع، حتى الخدمات البلدية البسيطة مثل إصلاح الطرق أو التخلص من القمامة لا يعود من الممكن فصلها عن قضايا السيطرة السياسية والعسكرية"

 

النفوذ

برزت منذ وقت مبكر، على مستوى النفوذ الإدلبي الداخلي، حركة "أحرار الشام" وتنظيم "جبهة النصرة" سابقًا هيئة "تحرير الشام" حالياً، كاثنتين من أهم وأكبر الفصائل المعارضة في المحافظة، ومع حملة[12] "جبهة النصرة" ضد فصائل "الجيش الحر" نهاية عام 2014، والتي عادت بداية عام[13] 2017، صار النفوذ الأساسي في المحافظة بين هاذين التنظيمين ومتنازعٌ عليه بينهما.

 

لم تستطع المجالس السياسية المعارضة مثل الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة تشكيل نفوذ داخل "إدلب"، بسبب غلبة "الجهاديين والإسلاميين" ورفضهم لوجودها بشكل مطلق، بينما تجد الحكومة المؤقتة مساحتها مثلاً في "ريف حلب" الشمالي، حيث النفوذ الغالب لفصائل "الجيش الحر" أو ما يعرف بفصائل "درع الفرات". في ظل كل ذلك يدفع واقع النفوذ والسيطرة داخل المحافظة بعض "ناشطي الثورة السورية" وحتى مقاتليها لعدم اعتبارها جزءً من مناطق "الثورة"، معتبرين أن امتلاء المحافظة برايات الفصائل وبالشعارات "الإسلامية والجهادية" بدلًا من "أعلام الثورة السورية ومشتقاتها" سببًا كافيًا لذلك.

 

أُنشأت في إدلب هيئات للحكم المحلي، مثل المجالس المحلية و"الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة"، وبلغت أكثر من مئة هيئة ومجلس على مستوى المدن والبلدات. حافظت هذه الهيئات بمختلف أنواعها على الحد الأدنى اللازم للعيش وعلى تنظيم احتياجات السكان، ومثلت تجربة أولى في الحكم المحلي التشاركي خارج سلطة "الأسد" المركزية، إلا أن الفصائل العسكرية كانت على الخط دومًا بما يتعلق بهذه الهيئات المدنية، إما بالتدخل لتشكيلها أو إيقافها، أو حتى بتشكيل هيئات تتبع لها بشكل تام ومباشر، مثل "هيئة جيش الفتح" المعنية بتنظيم الأمور في مدينتي "إدلب" و"أريحا" بشكل رئيس.

 

يعتقد[14] "سام هيلر" الباحث المهتم بالشؤون السورية أن ما حدث في "إدلب" بما يتعلق بالحكم والحوكمة أثبت بلا شك أنه "في فترات الصراع، حتى الخدمات البلدية البسيطة مثل إصلاح الطرق أو التخلص من القمامة لا يعود من الممكن فصلها عن قضايا السيطرة السياسية والعسكرية"، ويرى أن تجارب الإسلاميين للحكم في "إدلب" "ستبقى درسًا وتجربة ملهمة للجماعات الإسلامية حول العالم مهما كان مصير المحافظة والثورة ككل".

 

جندي من النظام السوري يراقب المغادرين من مدينة إدلب بعد حصولهم على إذن من النظام (رويترز)
جندي من النظام السوري يراقب المغادرين من مدينة إدلب بعد حصولهم على إذن من النظام (رويترز)

 

ومثلها مثل غيرها، ما إن تحررت بلدات ومدن "إدلب" حتى برزت الحاجة لحكمها مع انسحاب النظام بكامل أجهزته السياسية والخدمية، هذه الحاجة خلقت تجاربًا مختلفة ومتنافسة للحكم، ما أعاق إقامة حكم موحد ومنتظم للمحافظة. ويحيا سكان إدلب في ظروف صعبة ومعقدة، ونجد أن معبر "باب الهوى" هو نافذة المحافظة الوحيدة على العالم، وهو مغلق بشكل شبه كامل منذ بداية عام 2014 إلا من حالات استثنائية ومحددة، ليصير واقع سكان إدلب سجن ضخم لا يمكنهم الخروج منه بسهولة.

 

وإلى جانب "باب الهوى" هناك معابر مؤقتة غير رسمية تنظمها الدولة التركية لأغراض محددة، مثل معابر "أطمة" و"خربة الجوز"، كما أن الحدود الطويلة تشكل منافذًا للتهريب يلجأ إليها المدنيون بشكل يومي، إلا أنها تحمل خطورة شديدة قد تفضي إلى الموت للذي يحاول الهروب عبرها، كما حدث مع عشرات الذين حاولوا الهروب قبل أن تنهي رصاصات قناصي الجيش التركي حياتهم، ومع تلك الخطورة فإن عبورها عالي التكلفة، إذ تتراوح للشخص الواحد من 300 إلى 1500 دولار بحسب مكان التهريب ودرجة المشقة والخطورة، ومع الوقت تقل فرصة هذا الهروب بالنسبة لسكان المحافظة، مع سعي الحكومة التركية لبناء جدار عازل على طول الحدود.

 

تغيب الخدمات الحكومية من ماء وكهرباء وبلدية وشبكات اتصال عن محافظة إدلب بشكل شبه كلي، ليلقى حمل تأمينها على الأهالي والمنظمات غير الحكومية والهيئات الحاكمة في المحافظة. ويحيا نسبة كبيرة من السكان بالكامل بشكل ريعي معتمدين على إغاثة المنظمات وكفالتها للأيتام مع غياب عائليهم، وانهيار الحياة الاقتصادية الاعتيادية في المحافظة، وبينما ما زال هناك من يعمل في مجال الزراعة، شكل صعود المحافظة أسواقًا كبيرة نشطت الحركة التجارية، بينما كون ازدحامها وكثافتها المليونية السكانية سوقًا عقاريًا صاعدًا. وتمتلئ أرياف "إدلب" بالمخيمات التي تأوي النازحين منذ 2011، أشهرها وأضخمها مخيمات "أطمة" الحدودية، التي تحولت إلى حالة أشبه بالمخيمات الفلسطينية، بمساحات هائلة من الخيام وأسقف الزنك، وعائلات تحولت المخيمات بالنسبة لها لموطنٍ جديد، وأطفال لم يعرفوا في حياتهم غير مخيمهم.

 

ومع ارتفاع تكاليف الحياة وانخفاض مستوى الدخول كثيرًا كما هو بديهي، تمر المحافظة منذ اتفاق "الفوعة الزبداني" بفترات هدوء وهدنة مرتبطة بالمسار السياسي، لكن لا يكاد شبح الموت يغيب عن ملامحها حتى يعود من جديد. بين شهري (مارس/آذار) و(أبريل/نيسان) الماضيين شهدت المحافظة تصعيدًا روسيًا وسوريًا كبيرًا[15] دمر أغلب مراكزها الحيوية، خاصة المستشفيات والمراكز الطبية، وأهم نقاط التصعيد كان الهجوم الكيماوي الشهير على مدينة خان شيخون. 

 

غزة أم غروزني؟

"لدينا انطباع بأن مشاهدًا تجري الآن كما لو كانت بالتصوير البطيء لوقوع كارثة في إدلب"[16]

(باولو بينيرو، رئيس لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا)

 

السكان فروحون بتسلم هيئة تحرير الشام إدلب  (رويترز)
السكان فروحون بتسلم هيئة تحرير الشام إدلب  (رويترز)

 

تمتلئ إدلب اليوم بالثوار مقاتلين وفصائل وهيئات مدنية، وصارت كأنها ثقب أسود يبتلع الجميع في سجن كبير مغلق، وبشكل مستمر تطل الصراعات الداخلية برأسها مع سعي "هيئة تحرير الشام" للسيطرة على المشهد بشكل كلي.

 

لا يبدو لأحد أن إصرار النظام السوري وروسيا على تهجير الثوار والمدنيين إلى محافظة إدلب دون غيرها مسألة بريئة، يمكن ببساطة مشاهدة الموضوع بالشكل التالي: تُؤجل روسيا جهدها لدفع الجميع فيما يبدو إلى محرقة واحدة، وبدلًا من استهلاك الوقت والجهد في عشرات المعارك تدخر كل ذلك لمعركة واحدة ربما تقضي بها على المعارضة المسلحة بشكل نهائي، ومنذ بداية التدخل الروسي ومع كل تهجير تبرز الأصوات المتبنية للرأي السابق، مشيرة إلى أن "المحرقة قادمة"، وأن روسيا "تريد أن تكرر في إدلب ما ارتكبته في غروزني الشيشانية"، لكن من يمكنه أن يفعل شيئًا أمام ذلك؟

 

اختتم اجتماع "الأستانة" الرابع في الرابع من (مايو/أيار) في العاصمة الكازاخستانية، وتمخض عنه اتفاق "مناطق وقف التصعيد"[17] من بينها "إدلب"، وعلى الفور بدأ الحديث عن أن الاستعدادات العسكرية التركية على الحدود إنما هي من أجل دخول المحافظة لتنفيذ الاتفاق وخلق واقع جديد، في الوقت نفسه بدأت "هيئة تحرير الشام" بالتحرك ميدانيًا بعدما أصدرت فتوى[18] تعارض فيها الدخول التركي و"تخون" من يتعاون معه، ذلك التحرك فُسر على أنه محاولة لجعل مهمة التدخل التركي شاقة، ولإجبار الأتراك على التفاوض مع الهيئة بدلًا من تجاوزها إلى الآخرين.

 

تريد المعارضة المسلحة أن تحافظ على محافظة إدلب معقلاً لها، يتيح لها التحرك عسكريًا وسياسيًا، وهو هدف عام ينطوي على عشرات الأهداف "الذاتية"، وتريد تركيا أن تضمن نفوذها في "إدلب" وأن تحميها من تمدد القوات النظامية أو الميليشيات الكردية إليها، وتريد الولايات المتحدة ألا يستمر صعود "هيئة تحرير الشام" في المحافظة، وقد أعلنت مؤخرًا عن جائزة مالية ضخمة لمن يرشد واشنطن إلى مكان "الجولاني"، الشخصية الأبرز في الهيئة، ويريد النظام إعادة السيطرة على المحافظة، إذ أن ذلك سيعني بالنسبة له القضاء النهائي على المعارضة المسلحة، وربما الثورة السورية بنسبة شبه تامة، أما بالنسبة لسكان إدلب فمطلبهم أبسط من كل ذلك، وهو أن يحيوا حياة آدمية وطبيعية في منطقة كل الحروب، بأمان وحسب.

المصدر : الجزيرة