شعار قسم ميدان

كيف يمكن إقناع أطفالنا بالأخلاق إذا كنا مختلفين حولها؟

midan - تربية
مقدّمة الترجمة

 في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، يتم التشكيك بكل شيء، بما في ذلك طبيعة ومبرّرات المبادئ الأخلاقية، لكن في حين أن العديد من الخلافات حول هذه المعايير هي وجيهة وتستحق النقاش، فإن هذا يطرح مشكلة تتمثل في كيفية تعليم الأخلاق للأجيال الصاعدة. يقول الكاتب إن هناك مبادئ أخلاقية تتمتع بالحجة الحاسمة التي لا تسمح بالاختلاف عليها، مثل حرمة القتل وضرورة النزاهة، ويشدد أنه يجب شرحها وشرح الفائدة منها -لا تلقينها- للأطفال لحملهم على تبنّيها بشكل قوي.

  

نص التقرير

يختلف الناس حول طبيعة الأخلاق وحول ما تحظره الأخلاق، وتسمح وتطالب به. كما أنهم يختلفون حول الأسباب الذي تحظر الأخلاق وتسمح وتطالب من أجلها بهذه الخلائق والأفعال. بعض الخلافات حول هذه الأمور معقولة، ولا تعزى إلى التفكير المتذبذب أو الجهل أو عدم الانتباه إلى اعتبارات معيّنة ذات الصلة. ولكن مع ذلك فإن العديد من الأشخاص الوجيهين والمخلصين والمسلحين بتجارب في الحياة والمطلعين على نفس الحقائق تقريبا قد يتوصلون إلى استنتاجات مختلفة بشكل مذهل حول مضامين الأخلاق ومبرراتها!

 

كمثال على الاختلاف حول مضمون الأخلاق، فلنأخذ عبارات مثل "التصويت في الانتخابات الديمقراطية واجبك"، "لا تضرب أطفالك"، و"لا تأكل اللحم". يعتبر بعض الأشخاص الوجيهين أن التصويت هو واجب أخلاقي، وأن تأديب الأطفال باستعمال الصفع غير مقبول أخلاقيا، والأمر ذاته بالنسبة لتناول اللحوم، لكن البعض الآخر قد لا يتفقون معهم. لمعرفة عمق الاختلاف حول التعليل الكامن وراء الأخلاق، فلننظر أيضا إلى المجموعة المتنوعة من الحجج التي يتم تقديمها حول القاعدة الأخلاقية المقبولة على نطاق واسع أي بتحريم الكذب، مثل أن يقال: يجب أن نتوقف عن الكذب لأن الله يأمرنا بذلك، أو لأن الصدق يخدم مصلحة العدد الأكبر من الناس، أو لأنه عند خداع الآخرين نحن نعاملهم على أنهم مجرد وسيلة لتحقيق غاياتنا، أو لأن الأمانة هي شرط ضروري لنجاحنا. إن كل هذه الأسباب قد تكون مقنعة للبعض لكنها في الوقت نفسه قد لا تقنع البعض الآخر.

  

undefined

 

يشكّل الخلاف المنطقي هذا حول الأخلاق تحدّيا للمعلمين، فمن الصعب أن نرى كيف يمكننا أن نقنع الأطفال بالالتزام بالمعايير الأخلاقية والقبول بعللها إلا بتعليمهم شكلا من أشكال التربية الأخلاقية. ولكنه من الصعب أيضا رؤية كيف يمكن لمعلّمي الأخلاق أن يزرعوا هذه المبادئ بشكل مطلق في مواجهة الخلافات الوجيهة جدا حول مضامين ومبرّرات الأخلاق. ويبدو لنا أن أي محاولة لإقناع الأطفال بسلطة قانون أخلاقي معيّن دون آخر قد تكون بمنزلة غسيل للأدمغة.

 

إن الردود المعتادة حول هذه المشكلة هي مألوفة بقدر ما هي غير مقنعة. قد ننكر أن هناك حاجة إلى تعليم الأخلاق، ونضع إيماننا في الخير الفطري لدى الأطفال أو ميلهم إلى اكتشاف وتبنّي المعايير الأخلاقية من تلقاء أنفسهم. أو قد نعض على أصابعنا ونقوم بالتلقين ونصمّم على ترسيخ قانون أخلاقي معيّن معتمدين على التلاعب والتشويه لمنع التفكير النقدي في البدائل. أو قد نرفض تعليم الأخلاق مباشرة وبدلا من ذلك قد نقوم بالتعليم "عنها"، وندعو الأطفال إلى التفكير بشكل نقدي حول مجموعة من القواعد الأخلاقية ثم اتخاذ القرار بأنفسهم حول أي منها تستحق امتثالهم.

 

لكن الاعتراضات على كافة هذه الطروحات واضحة وجادة، فأنا أعتقد أنه يمكننا أن نحقّق أفضل من هذه الطروحات المعروفة. صحيح أن المجال الأخلاقي مليء بالخلافات البنّاءة، لكن ليس صحيحا أنه لا توجد معايير أخلاقية ذات تعليلات قوية بما فيه الكفاية. فحتى الخلاف الوجيه حول الأخلاق لا يجب أن يشمل كل شيء فيها، إذ تتمتع بعض المعايير الأخلاقية الأساسية التي يؤيدها الجميع تقريبا بقوة "الحجّة التعليلية" الحاسمة. ويمكن لمعلمي الأخلاق أن يسعوا بشكل مناسب إلى زرعها في الأطفال لكي يتبنّوا هذه المعايير ويفهموا مبرّراتها؛ ويمكنهم تحقيق هذا الهدف دون اللجوء إلى أي شيء يشبه التلقين الإجباري وغسيل الأدمغة.

  

من الصعب أن نرى كيف يمكننا أن نقنع الأطفال بالالتزام بالمعايير الأخلاقية والقبول بعللها إلا بتعليمهم شكلا من أشكال التربية الأخلاقية
من الصعب أن نرى كيف يمكننا أن نقنع الأطفال بالالتزام بالمعايير الأخلاقية والقبول بعللها إلا بتعليمهم شكلا من أشكال التربية الأخلاقية
 

تستند الحجّة التعليلية هذه إلى طرحين أساسيين: الأول هو أن جميع البشر، أو على الأقل جميع البشر الذين يعيشون جنبا إلى جنب مع الآخرين في الجماعات الاجتماعية، يواجهون مشكلة عملية لا يمكن تجنبها، وهي تلك التي وصفها ديفيد كوب في عام 2009 بمشكلة "المُخَالَطِيَّة الاجْتِمَاعِيَّة". والثاني هو أن البشر يمكن أن يخففوا من هذه المشكلة بفعالية من خلال إجبار أنفسهم وبعضهم البعض على الامتثال لبعض معايير السلوك الأساسية.

 

تنشأ مشكلة المُخَالَطِيَّة الاجْتِمَاعِيَّة عند ظهور وتكرّس ثلاث سمات للاجتماع البشري. هذه السمات، التي توصف أحيانا بأنها "ظروف العدالة"، هي: (1) المساواة التقريبية، (2) التعاطف المحدود، (3) "الندرة المعتدلة" للموارد. ويمكن الاطلاع على مناقشات حول هذه السمات أو الظروف في كتابات العديد من الفلاسفة، بما في ذلك "اللفياثان" لتوماس هوبز (1651)، و"أطروحة حول الطبيعة البشرية" لديفيد هيوم (1739)، و"مفهوم القانون" لـ أه. أل. أي هارت (1961)، و"هدف الأخلاق" لوارنوك (1971)، و"نظرية العدالة" لجون راولز (1971) و"الأخلاقيات" لماكي (1977).

 

ليس من الصعب أن نتصوّر كيف يؤدّي مجموع هذه السمات إلى المشاكل. أولا لأننا كلنا متساوون تقريبا في القوة والذكاء، فنحن ندرك أن كلا منا لديه فرصة معقولة للفوز في أي صراع مادي أو إستراتيجي، كما أن كلا منا يدرك أن الأشخاص الآخرين حولنا سوف يستنتجون الشيء نفسه عن فرصهم. ولأن تعاطفنا مع الغرباء محدود، بمعنى أنه أضعف بشكل ملحوظ من حب الذات وحب العائلة، فنحن نميل إلى إعطاء الأولوية لسلامة وسعادة أنفسنا وأحبائنا على حساب سلامة الآخرين وسعادتهم. ولأن الموارد ليست وفيرة بما فيه الكفاية لتلبية احتياجات الجميع ورغباتهم، فنحن مضطرون إلى التنافس مع بعضنا البعض من أجل الحصول على تلك الموارد الشحيحة. وينتج عن هذه الظروف مجتمعة ميل واضح لدى الجماعات الاجتماعية البشرية نحو الصراع وعدم التعاون.

  

غالبا ما يكون الدافع المباشر للتعاون والامتناع عن إلحاق الأذى ببعضنا البعض هو التعاطف أو المصلحة الذاتية
غالبا ما يكون الدافع المباشر للتعاون والامتناع عن إلحاق الأذى ببعضنا البعض هو التعاطف أو المصلحة الذاتية
  

في حين أنه غالبا ما يكون الدافع المباشر للتعاون والامتناع عن إلحاق الأذى ببعضنا البعض هو التعاطف أو المصلحة الذاتية، فإن هذه الدوافع ليست كافية لإدامة التعاون وتجنب الصراع. فهي لا تنتج السلام والازدهار بشكل موثوق به. لمعالجة هذه المشكلة نحتاج إلى نوع إضافي من الحوافز للحفاظ على الاتفاقيات التعاونية ولكي نستمر بالتعامل مع بعضنا البعض بطرق غير ضارة. نحن بحاجة إلى نوع من الحافز الذي يمكن أن يوفره الامتثال للمعايير الأخلاقية.

 

تشتمل المعايير الأخلاقية الأساسية التي تبررها هذه الحجّة على: حظر القتل والتسبب في الأذى والسرقة والابتزاز والكذب والغش. فيما تطلب منا: التعامل مع الآخرين بطريقة عادلة، والحفاظ على العهود ومساعدة المحتاجين. للتعامل مع الخطر الذي تشكله المنافسة على الموارد وأن يكون المرء معرّضا للهجوم، يجب أن تكون هناك معايير توفر الحماية للأشخاص وممتلكاتهم. وللتغلب على انعدام الثقة الذي يهدد بإحباط مساعينا التعاونية، يجب أن تكون هناك معايير تلزمنا بأن نكون عادلين وصادقين ونزيهين في تعاملاتنا مع بعضنا البعض، وأن نمد يد المساعدة لبعضنا البعض في أوقات الحاجة.

 

إذا كان للتربية الأخلاقية أن تكون عقلانية، فإن عليها أن تأخذ شكل نقاش غير إملائي حول المعايير الأخلاقية المثيرة للجدل والحجج التبريرية ولكن بعضها، على أقل تقدير، يمكن، بل ويجب، أن يتخذ شكل تشجيع الأطفال على تبنّي المعايير الأخلاقية أعلاه ومساعدتهم على معرفة العلل الكامنة وراءها.

 _________________

 

مترجم عن (ايون)