شعار قسم ميدان

سرقة الآثار في العراق تكشف عن كنوز جلجامش

midan - آثار
مقدمة الترجمة

من أشد النكبات التي مرت على بلاد الرافدين، كانت عندما ألقى التتار كتب العلم والعلماء في نهر دجلة ببغداد سنة 656. حتى جاء الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 حيث عاثوا فيها خرابا. تركت سرقة المتحف الوطني العراقي غصة في قلب العراقيين وكل من عرف -ولو القليل- عن حضارة بلاد الرافدين وإنجازاتها. ثم جاء تصدع بعض الآثار في مدينة بابل الأثرية بسبب المروحيات الأميركية التي هبطت على المدينة الأثرية. تلا ذلك سلسلة لا نهائية لها من سرقة المتاحف التي كانت تتغنى العراق بها وبما تحويه من عبق ذاكرة الحضارات الماضية.

   

نص التقرير

 قد يعتقد المرء أنه وسط كل المذابح البشرية في الشرق الأوسط فإن تدمير المواقع الأثرية بالكاد يُؤخذ بالحسبان، لكن تحطيم متحف الموصل من قِبَل تنظيم الدولة وتفجيرهم مدنا قديمة رفيعة المستوى في العام الماضي -مثل النمرود (كالح) ومملكة الحضر (عربايا) في العراق، وتدمر في سوريا- استحوذ على اهتمام إعلامي أكثر من ذبحهم الرجال والنساء والأطفال بأعداد هائلة.

 

هناك شيء حول الإبادة المتعمدة للتراث الثقافي الذي يوجه ضربة قوية ضد هوية البشر الجماعية والفردية. عندما هاجم أحد المجانين تمثال "بيتتا" للفنان مايكل أنجلو في الفاتيكان في عام 1972 وكسر ذراع التمثال الذي يجسد مريم العذراء، تجاوز الغضب العام الجريمة التي ارتكبت في عملية البتر الجماعي للأيدي [البشرية] الحية في محاكم الشرق الأوسط القمعية. ترمز الأعمال الفنية القديمة والآثار التاريخية إلى بقاء الإنجازات البشرية، ولعل هذا هو السبب في أن خسارتهم تبدو أكثر صدمة من تدمير الأرواح التي لا تسكن إلا لفترة وجيزة من الزمان والمكان.

      

تمثال
تمثال "بيتتا" للفنان مايكل أنجلو في الفاتيكان
   

تدمير التراث الثقافي في الشرق الأوسط ليس من ابتكار تنظيم الدولة، فمنذ أن فقد صدام حسين السيطرة على جنوب العراق بعد طرد جيشه من الكويت في عام 1991، كان هناك جهد متضافر لنهب العشرات من المواقع الأثرية في مدن تُعتبَر مهد الحضارة المدنية. شجعت الظروف القاسية للحياة السكان المحليين على البحث عن الكنز في الأرض تحت أقدامهم، حيث عانت العراق أولا العقوبات الدولية، ثم من تفكك الدولة العراقية منذ عام 2003. إن التجارة غير المشروعة في آثار بلاد ما بين النهرين -التي تم قمعها بشراسة من قِبَل حكومة حزب البعث- عادت إلى الحياة وتستمر إلى يومنا هذا. لقد جلبت إلى السوق عدة آلاف من القطع الصغيرة التي لا يمكن تخمين منشأها الأثري الدقيق، وتنتشر هذه القطع الآن بين المتاحف والمجموعات الخاصة في جميع أنحاء العالم. بالنسبة لعلماء الآثار، فإن تدمير المواقع القديمة عن طريق النهب أمر مروع إلى حد كبير مثله مثل تحطيم المنحوتات في الموصل وتفجير تدمر. لكن ليست جميع الأخبار سيئة: من الدمار والنهب -وجزئيا بسببه- تظهر مكاسب مذهلة في معرفة أقدم تراثنا الأدبي.

 

من بين القطع التي مرت عبر أسواق الآثار في السنوات الخمس والعشرين الماضية، هناك أعداد كبيرة من الألواح الطينية ذات الكتابة المسمارية. هذه هي الوثائق التي تشهد على كل جانب من جوانب الحياة في بلاد ما بين النهرين القديمة -العامة والسياسية والدينية والروحية والأدبية والقانونية والاقتصادية والإدارية- عبر 3000 سنة من التاريخ القديم. لأن الألواح المسمارية تحتوي على نصوص مكتوبة، وغالبا ما تكشف كتابتهم والهجاء والمحتوى عن عمر اللوح ومصدره. علماء الآشوريات (مؤرخو بلاد ما بين النهرين الذين قاموا بدراسة علم الآشوريات والحضارات المتعلقة التي استعملت الكتابة المسمارية)، يستخدمونها لإعادة بناء التفاصيل المدهشة لتاريخ وثقافة وعلم الشرق الأدنى قبل الإسكندر المقدوني.

 

منذ ستينيات القرن التاسع عشر، كان استرجاع الثقافة المكتوبة لبلاد ما بين النهرين القديمة أحد أقل أعمال البحث العلمي لفتا للأنظار في العصور الحديثة ولكنها جديرة بالذكر. إن أعرق الآداب في العالم البالغة من العمر 4000 عام والتي كانت مفقودة ما يقرب من نصف ذلك الوقت، أصبحت الآن في طور استرجاعها وتجميعها من الألواح المسمارية المكسورة المنتشرة في جميع أنحاء العالم.

      

إحدى الألواح الطينية ذا ت الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين(مواقع التواصل الإجتماعي)
إحدى الألواح الطينية ذا ت الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين(مواقع التواصل الإجتماعي)

      

منذ البداية، ظهر نص واحد -دونا عن جميع النصوص- كأفضل ممثل لهذا الأدب: ملحمة جلجامش. هذه القصيدة البابلية -التي أُعيد بناؤها من أكثر من 200 قطعة من البقايا الأثرية [للوح مسماري]- تحكي قصة سعي رجل محكوم عليه بالخلود. تعكس القصيدة نضال جلجامش مع الشواغل الوجودية نفسها التي نواجهها: ما الذي يعنيه أن نكون بشريين في عالم أبدي؟ وكيف تختلف الطبيعة البشرية عن الطبيعة الحيوانية والسماوية؟ كما تناقش أخلاقيات السلطة السياسية والقوة العسكرية. إنها تعكس أنفسنا؛ لأننا جميعا جلجامش، وهنا تكمن قوتها في تحريك مشاعرنا.

   

تستمر ملحمة جلجامش بمفاجأتنا عبر طرح أفكار كنا نعتقد أنها حديثة، حيث نكتشف أنها ليست كذلك على الإطلاق. في عام 2011، عُرضت مجموعة من الألواح المسمارية على فاروق الراوي -وهو عالم عراقي مختص بعلم الآشوريات، يعيش الآن في بريطانيا- من قِبَل تاجر آثار في الجزء الكردي من العراق. وقد اكتشف بينهم قطعة كبيرة غير عادية الشكل، وحثّ متحف السليمانية على الحصول على المجموعة بأكملها. عندما جلس لتنظيف قطعة غريبة وشرع في فك رموز النص، أدرك أنه كان ينظر إلى قطعة من ملحمة جلجامش. في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، قضيت أنا [كاتب المقال آندرو جورج] وفاروق أربعة أيام في وضع فك رموز نهائي، ونُشرت النتائج في مجلة الدراسات المسمارية بعد ذلك بعامين.

   

عادة ما يبتعد عالم الآشوريات عن الأضواء بتواضع شديد، حيث لم يكن هناك بيان صحفي. فقط في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، أدركت وسائل الإعلام ما توصّلنا إليه وأعلنت عن اكتشافنا إلى غير المتخصصين وللعامة. ارتفع عدد التنزيلات للبحث الأكاديمي -الذي قمنا بنشره- من حفنة تنزيلات كل شهر إلى 150 تنزيلا في اليوم. إن ذلك ليس ببطولة كبيرة ولكنه مثير للإعجاب بالنسبة لمقالة غامضة في مجلة علمية ليست واسعة الانتشار.

  

منقوشة تعبر عن عركة جلجامش
منقوشة تعبر عن عركة جلجامش
  

تأتي القطعة المكتشفة حديثا من مغامرة يقوم بها جلجامش وصديقه أنكيدو بغزو غابة الأرز البعيدة لقتل الغول -الذي يحرس الغابة للآلهة- ولنهب أخشابه. نص الملحمة ثابت إلى حد بعيد -بمعنى أن المخطوطات المختلفة تحمل النص نفسه تقريبا- ولكن بعض الخطوط تعاني من الضرر وبعضها مفقود تماما. تملأ القطعة الجديدة فجوة كبيرة في القصيدة، ففي بداية المغامرة، عندما يقترب البطلان من غابة الأرز ويقفان في ظلالها العميقة؛ هناك وصف حيوي للضوضاء التي تصم الآذان والتي تصل إلى قمم الأشجار الكثيفة في الغابة: إن نعيق الطيور وتغريدها وأزيز الحشرات وطنينها وصيحات القردة تشكل سيمفونية غير متناغمة لتسلية حارس الغابة.

 

هذه ليست الغابة المألوفة للفلكلور الشمالي -والتي تجدها في قصة ليلى والذئب أو قصة بيت الحلوى "هانسيل وجريتل"- بل إنها أدغال، حيث تعكس قلب الظلام إذ تُقدّم المعضلات الأخلاقية نفسها التي قدمها جوزيف كونراد في روايته "قلب الظلام". هل من الصواب على قوى الحضارة أن تغزو وتقتل الحارس "الولي" وتسرق أخشاب البلاد التي غزتها؟ ومن خلال تدمير الغابة تتضح لنا ازدواجية القصيدة. يقول أنكيدو لجلجامش: "صديقي… لقد قمنا بتقليص الغابة إلى أرض قاحلة، كيف يجب أن نجيب على آلهتنا عند العودة لبلدنا؟". إن نهب الطبيعة لم يخلُ من الشعور بالعار حتى في ذلك الحين.

 

تؤكد ملحمة جلجامش على بقاء القيم الحضارية في وجه البربرية. إنها نصب تذكاري قديم مثل النمرود والحضر وتدمر، لكن جوهرها هو الكلمات والأفكار؛ لذلك لا يمكن تدميرها كالأشياء المادية. وما زالت هذه الملحمة لم تكتمل بعد، هنالك المزيد من الألواح المسمارية -كالموجودة في متحف السليمانية- التي سوف تُكتشف إما في السوق وإما خلال عمليات التنقيب المنتظمة. حينها، في أحد الأيام في المستقبل، سنعيد بناء أعظم القصائد البابلية "ملحمة جلجامش". كل ما نحتاجه هو أخصائيون في علم الآشوريات، وإرادة المجتمع الليبرالي للحفاظ على هذا المجال الأكاديمي الصغير الذي لا يزال لديه الكثير لتعليمه عن أحوال البشر وظروفهم.

—————————-

  

مترجم عن (أيون)