شعار قسم ميدان

هل يبدأ انهيار أوروبا من شرقها العنصري؟

midan - أوروبا
اضغط للاستماع
    
مقدمة المترجمة

مع توجه أنظار العالم تجاه أوروبا والولايات المتحدة، والنجاح الظاهري للنظم الديمقراطية فيهما، تلمع شرارة ثورة جديدة في الأفق وهذه المرة في دول أوروبا الشرقية تهدد بالإطاحة بوجه السياسة في القارة وتماسك دول الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الثورة الصاعدة تتلاعب يد التاريخ المرير وحاضر الهجرة وأزمة اللاجئين كعوامل مؤججة للتغيير القادم.

  

نص التقرير

في عام 1991، بينما انشغل الغرب بالاحتفال بانتصاره في الحرب الباردة وانتشار الديمقراطية الليبرالية في كافة أنحاء العالم، حذر عالم السياسة صموئيل هنتنغتون من ذلك التفاؤل المفرط؛ ففي مقال في مجلة الديمقراطية بعنوان "الموجة الثالثة من الديمقراطية"، أشار هنتينغتون إلى أن الموجتين السابقتين من التحول إلى الديمقراطية -من 1820 إلى 1920 ومن 1945 إلى 1960- تبعتهما "موجات عكسية"، تم فيها استبدال الأنظمة الديمقراطية بأشكال جديدة من الحكم الاستبدادي. وأن هناك موجة عكسية أخرى ممكنة، إذا كان بإمكان القوى العظمى الاستبدادية الجديدة أن تثبت قابلية استمرار الحكم غير الديمقراطي أو" إذا رأى الناس في كل أنحاء العالم الولايات المتحدة -منارة الديمقراطية- باعتبارها قوة متلاشية يكتنفها الركود السياسي وعدم الكفاءة الاقتصادية والفوضى الاجتماعية"، وفقا لقوله.
      
توفي هنتنغتون عام 2008  لكنه لو كان حيا لتفاجأ من رؤية التهديد الذي تتعرض له الديمقراطية الليبرالية الآن، وهو لا يحدث في الدول التي تحولت إلى الديمقراطية حديثا مثل البرازيل وتركيا فحسب، بل في قلب ديمقراطيات الغرب الأكثر رسوخا كذلك. وبينما تتعرض الديمقراطية للتهديد والهجوم، تعود السلطوية إلى الظهور في روسيا وتثبت أقدامها في الصين، بعد أن أدت المغامرات الأجنبية والاستقطاب السياسي المحلي إلى إلحاق أضرار كبيرة  بنفوذ و"هيبة" الولايات المتحدة.
    
ربما كان التطور الأكثر إثارة للقلق هو تغير موقف أوروبا الشرقية؛ حيث شهدت المجر وبولندا إحراز الشعبويين المحافظين انتصارات انتخابية كاسحة بالتزامن مع تشويه المعارضة السياسية والتضحية بالأقليات، وزعزعة الضوابط والتوازنات الليبرالية. و يبدو أن دولاً أخرى في المنطقة -بما فيها الجمهورية التشيكية ورومانيا- على وشك أن تحذو حذوها.

    

رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان
   

 ففي خطابٍ في عام 2014، أوضح أحد الشعبويين الجدد وهو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، موقفه من الليبرالية قائلا:"إن الدولة الديمقراطية ليست بالضرورة ليبرالية، ويمكن لغير الليبرالي أن يظل ديمقراطيا". وللمحافظة على القدرة التنافسية العالمية، تابع قائلاً "علينا التخلي عن الأساليب والمبادئ الليبرالية في تنظيم المجتمعات". ورغم أن أوربان يحكم بلدًا صغيرًا، إلا أن الحركة التي يمثلها تحمل أهمية عالمية؛ ففي الغرب، حيث تظل إرادة الشعب هي المصدر الرئيسي للشرعية السياسية، من المرجح أن يصبح أسلوبه -الديمقراطي غير الليبرالي- البديل الرئيسي لليبرالية في العقود المقبلة.
    

 تكمن الإجابة في الطبيعة الغريبة لثورات عام 1989 التي شهدتها المنطقة، عندما حررت دول أوروبا الشرقية نفسها من الإمبراطورية السوفييتية. فعلى عكس الثورات السابقة، لم تكن تلك التي حدثت في عام 1989 معنية باليوتوبيا ولكن بفكرة الحياة الطبيعية، حيث أعرب الثوريون عن رغبة في عيش ذلك النوع من الحياة الطبيعية المتوفر لسكان أوروبا الغربية.

 

 وبمجرد سقوط جدار برلين، كان الأوروبيون الشرقيون الأكثر تعلماً والأكثر تحرراً هم أول من غادر بلدانهم، الأمر الذي أثار أزمات ديموغرافية و مشكلات هوية كبرى في المنطقة. وبينما هاجرت الدوائر المحلية المؤيدة للديمقراطية الليبرالية إلى الغرب، أصبحت الجهات الفاعلة الدولية مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هي وجهة الليبرالية في أوروبا الشرقية. لكن في الوقت نفسه، فإن تأثيرهم كان يتضاءل، وهو ما مهد الطريق للثورة القومية ضد الليبرالية التي تسيطر على المنطقة اليوم.
 

قوة الشعب

وجد الكثيرون صعوبة في تفسير صعود الشعبوية في أوروبا الشرقية؛ فبعد أن فاز حزب العدالة الشعبي البولندي (PiS) بأغلبية برلمانية في عام 2015، كتب آدم ميشكنك -وهو أحد الرموز الليبرالية في البلاد- في رثاءٍ قائلا: "في بعض الأحيان تفقد امرأة جميلة عقلها وتتزوج من وغد". ومع ذلك، فإن الانتصارات الشعبوية ليست مفاجئة أو مبهمة، بل هي خيار واعٍ ومتكرر؛ حيث فاز الحزب الشعبي اليميني فيديز بانتخابات برلمانية  مرتين على التوالي  في المجر، وفي استطلاعات الرأي، يتضح أن حزب PiS  يحافظ على تقدم كبير على منافسيه، ويبدو أن أوروبا الشرقية عازمة على الزواج من الوغد.
         

ويمكن أن تعزى بعض انتصارات الحركة الشعبوية إلى المشاكل الاقتصادية؛ فقد انتُخب أوربان في عامم 2010، بعد أن تقلص الاقتصاد المجري بنسبة 6.6 في المائة في عام 2009. غير أن المشاكل المماثلة لا يمكن أن تفسر لماذا صوتت الجمهورية التشيكية -التي تتمتع بأحد أقل معدلات للبطالة في أوروبا- لصالح عدد كبير من الأحزاب الشعبوية في الانتخابات البرلمانية العام الماضي، أو لماذا يتزايد التعصب في سلوفاكيا الناجحة اقتصاديا. وتعد بولندا هي الحالة الأكثر إثارة للحيرة، حيث يتمتع البلد بأسرع نمو اقتصادي في أوروبا بين عامي 2007 و 2017 ، وقد شهد تحسناً اجتماعياً في السنوات الأخيرة. وأظهر بحث أجراه عالم الاجتماع البولندي ماسيج جدولا يبيّن أن المواقف السياسية للبولنديين لا تتعلق بالاستفادة الفردية من مرحلة الانتقال ما بعد الشيوعية. وتضم قاعدة الحزب الحاكم العديد من الأشخاص الذين يشعرون بالرضا عن حياتهم ويتقاسمون الرخاء الذي تتمتع به بلادهم.

  
undefined

      

وتختلف تفاصيل التحول الشعبوي في أوروبا الشرقية من بلد إلى آخر، وكذلك طبيعة وسياسات الحكومات الشعبوية الفردية؛ ففي المجر، استخدم  حزب فيديز أغلبيته الدستورية لإعادة كتابة قواعد اللعبة حيث حوّل ترقيع أوربان للنظام الانتخابي في البلاد "من التعددية إلى الأغلبية العظمى"، وفقا لتعبير عالم الاجتماع كيم لين شيبلي. وبالإضافة إلى ذلك ينتشر الفساد بشدة في أنحاء أوروبا الشرقية، ففي مقال صدر في آذار /مارس 2017  في مجلة "الأتلانتيك"، استشهد الكاتب ديفيد فروم بمراقب قال عن حكومة حزب فيديز: "إن الفائدة من السيطرة على دولة حديثة لا تكمن في القدرة على اضطهاد الأبرياء بقدر الاستحواذ على القوة اللازمة لحماية المذنبين".

   

 وقد سعت الحكومة البولندية أيضا إلى تفكيك الضوابط والتوازنات خصوصا من خلال تغييراتها في المحكمة الدستورية. وعلى النقيض من الحكومة المجرية لا تمس الحكومة البولندية شبهة فساد، ولا تتركز سياساتها على التحكم في الاقتصاد أو خلق طبقة وسطى داعمة بقدر ما تتركز على إعادة التأهيل الأخلاقي للأمة. وحاولت الحكومة البولندية إعادة كتابة التاريخ، بإصدار قانون يجعل من غير القانوني إلقاء اللوم على بولندا في محرقة اليهود. وفي الوقت نفسه، قاد رئيس الوزراء أندريه بابيس حزبه في الجمهورية التشيكية في العام الماضي بالتوعُّد بإدارة الدولة كما تُدار شركة. ولكن تحت هذه الاختلافات تكمن القواسم المشتركة؛ ففي جميع أنحاء أوروبا الشرقية، يظهر إجماع غير ليبرالي جديد، يتميز بوطنية  قائمة على كراهية الأجانب ومدعومة -بشكل غير متوقع- من الشباب الذين بلغوا سن الرشد بعد زوال الشيوعية.

     

 إذا كان الليبراليون الذين كانت لهم اليد العليا في التسعينيات مشغولين الآن بحقوق الأقليات العرقية والدينية والجنسية، فإن هذا الإجماع الجديد يدور حول حقوق الأغلبية. وحيثما حازوا السلطة، يستخدم الشعبويون المحافظون الحكومة من أجل تعميق الاستقطاب الثقافي والسياسي وتأييد ما وصفه المؤرخ الأمريكي ريتشارد هوفستاتر "بالأسلوب المرتاب" في السياسة. ويتاجر هذا الأسلوب بكثافة في نظريات المؤامرة مثل الاعتقاد – الذي يتشاركه العديد من ناخبي PiS-  بأنّ تحطم الطائرة عام 2010 الذي أودى بحياة الرئيس ليخ كازينسكي – شقيق زعيم الحزب ياروسلاف كازيسنكي – كان نتاج اغتيال وليس حادث. كما يبرز هذا الارتياب في تأكيدات فيديز بأن بروكسل – بمساعدة من الملياردير المولود في المجر جورج سوروس – تخطط سراً لإغراق المجر بالمهاجرين.

  

وينشر الشعبويون في أوروبا الشرقية مفردات سياسية مماثلة، منصبين أنفسهم صوتا أصليا للأمة ضد أعدائها الداخليين والخارجيين. وكما قال عالِم السياسة جان فيرنر مولر: "إن الشعبويين يدعون أنهم هم وحدهم يمثلون الشعب"، وهو إدعاء غير مثبت بالتجربة ولكنه "افتراضي دائمًا". ولا يتظاهر كل من فيديز وPiS بالتعبير عن كل المجريين أو البولنديين، لكنهم يصرون على أنهم يتكلمون نيابة عن جميع "المجريين الحقيقيين" وجميع "البولنديين الحقيقيين". إنهم يحولون الديمقراطية من أداة للجمع والتضمين إلى أداة استبعاد وإقصاء، نازعين بذلك الشرعية عن المؤسسات غير المستقلة باعتبارها عقبات أمام إرادة الشعب.

    

والشكل المشترك الآخر للشعبوية الأوروبية الشرقية هو التناقض الشديد تجاه الاتحاد الأوروبي. وفقًا لآخر استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب، فإن الأوروبيين الشرقيين هم من بين أكثر الجماهير المؤيدة للاتحاد الأوروبي في القارة، ومع ذلك فإنهم يصوتون لبعض من أكثر الحكومات المشككة في أوروبا. وهذه الحكومات بدورها تهاجم الاتحاد الأوروبي لفظا وتستفيد في الوقت ذاته في سخائه المالي. حيث نما الاقتصاد المجري بنسبة 4.6 في المائة بين عامي 2006 و 2015، إلا أن دراسة أجرتها شركة KPMG وشركة الأبحاث الاقتصادية المجرية GKI قدرت أنه بدون أموال الاتحاد الأوروبي، كان من الممكن أن تتقلص بنسبة 1.8 في المائة. كما تعتبر بولندا أكبر متلق لأموال من الصناديق الهيكلية والاستثمارية الأوروبية  في القارة، وهي الصناديق التي تعمل على تعزيز التنمية الاقتصادية في الدول الأقل تقدمًا في الاتحاد الأوروبي.

      

     
 استمر دعم الشعبوية غير الليبرالية في التزايد في جميع أنحاء القارة منذ سنوات، غير أن فهم جاذبيتها في أوروبا الشرقية يتطلب إعادة النظر في تاريخ المنطقة في العقود التي تلت نهاية الشيوعية. إنه إرث ثورات عام 1989، مقترنًا بالصدمات الأكثر حداثة نتيجة تراجع القوة الأمريكية وأزمة الاتحاد الأوروبي التي أدت إلى الانفجار الشعبوي اليوم. 
  
  
الحرية والأخوية والحياة الطبيعية

 رغم أن الشعبوية في أوروبا الشرقية كانت قد بدأت بالفعل مع بداية العقد الحالي، جعلتها أزمة اللاجئين في 2015-16 القوة السياسية المسيطرة في المنطقة. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الغالبية العظمى من الأوروبيين الشرقيين يشعرون بالقلق حول المهاجرين واللاجئين. وكشفت دراسة أجراها إيبسوس في سبتمبر / أيلول 2017 أن 5٪ فقط من المجريين و 15٪ من البولنديين يعتقدون أن الهجرة كان لها تأثير إيجابي على بلادهم وأن 67٪ من المجريين و 51٪ من البولنديين يعتقدون أن حدود بلادهم  يجب أن تغلق تماما أمام اللاجئين.

  

أثناء أزمة اللاجئين، أثارت صور المهاجرين المتدفقين إلى أوروبا الذعر الديموغرافي في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، حيث بدأ الناس يتصورون أن ثقافاتهم الوطنية كانت تحت تهديد التلاشي. تتكون المنطقة اليوم من مجتمعات صغيرة ومتقدمة في السن ومتجانسة عرقياً، على سبيل المثال ، 1.6٪ فقط من الذين يعيشون في بولندا ولدوا خارج البلاد، و 0.1٪ فقط هم من المسلمين. والواقع أن التنوع الثقافي والعرقي وليس الثروة هو الفرق الرئيسي بين شرق أوروبا وغربها اليوم.  خذ عندك مثلا النمسا والمجر، البلدان المجاورة ذات الحجم المماثل التي كانت موحدة ذات يوم تحت إمبراطورية هابسبورغ؛ يشكل فيها المواطنون الأجانب نسبة تقل قليلاً عن اثنين في المائة من السكان المجريين؛ وفي النمسا، 15 في المئة.  كما أن ستة في المائة فقط من المجريين هم من أصل أجنبي، وهم مهاجرون مجريون من رومانيا، و16 بالمائة من النمساويين هم من أصل أجنبي.

 

في الخيال السياسي لأوروبا الشرقية، يُنظر إلى التنوع الثقافي والعرقي على أنه تهديد وجودي، وتشكل معارضة هذا التهديد جوهر اللاليبرالية الجديدة. وقد يرجع سبب هذا الخوف من التنوع إلى الصدمات التاريخية، مثل تفكك إمبراطورية هابسبورغ متعددة الثقافات بعد الحرب العالمية الأولى والاحتلال السوفييتي لأوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن الصدمة السياسية لأزمة اللاجئين لا يمكن تفسيرها من خلال تاريخ المنطقة لوحدها؛ بل أدرك الأوروبيون الشرقيون أثناء أزمة اللاجئين أنهم كانوا يواجهون ثورة عالمية جديدة، ولم تكن هذه ثورةٌ للجماهير بل كانت ثورة  المهاجرين. ولم تكن مستوحاة من الرؤى الأيديولوجية للمستقبل بل من خلال صور للحياة الواقعية على الجانب الآخر من الحدود.

 

إذا جعلت العولمة من العالم قرية، فقد أخضعته أيضا لاستبداد المقارنات العالمية. ففي هذه الأيام، نادراً ما يقارن الناس في الأجزاء الفقيرة من العالم حياتهم مع جيرانهم، بل يقارنوها مع سكان أكثر سكان العالم ازدهاراً، الذين تظهر ثروتهم بشكل كامل بفضل الانتشار العالمي لتكنولوجيا الاتصالات. وكان الفيلسوف الليبرالي الفرنسي رايموند آرون محقا عندما لاحظ – قبل خمسة عقود- أنه "مع اتجاه الإنسانية للتوحد، تأخذ عدم المساواة بين الشعوب أهمية عدم المساواة بين الطبقات التي كانت موجودة  في يوم من الأيام". ما يعني أنك إذا كنت شخصًا فقيرًا في إفريقيا تبحث عن حياة آمنة اقتصاديًا لأطفالك، فأفضل ما يمكنك فعله لهم هو التأكد من أنهم يولدون في بلد غني، مثل الدنمارك أو ألمانيا  أو السويد، أو -في حالة فشلك- جمهورية التشيك أو بولندا. إن التغيير يعني هنا تغيير بلدك، وليس حكومتك. وقد شعر الأوروبيون الشرقيون بالتهديد من هذه الثورة وهذه الرؤية.

       

سقوط جدار برلين 1989 (مواقع التواصل)
سقوط جدار برلين 1989 (مواقع التواصل)

    

 إن المفارقة الكبرى هي أنه على الرغم من أن أوروبا الشرقية اليوم تشعر بالذعر تجاه  موجات الهجرة الجماعية هذه، فإن ثورات عام 1989 كانت  هي الثورات الأولى التي كانت فيها رغبة الخروج من الدولة بدلاً من كسب صوت أكبر داخلها هي العامل الأساسي للتغيير. فبعد سقوط جدار برلين، أعرب الكثيرون في الكتلة الشيوعية السابقة عن رغبتهم في التغيير بالهجرة إلى الغرب بدلاً من البقاء في البلاد للمشاركة في السياسة الديمقراطية. وفي عام 1989، لم يكن الأوروبيون الشرقيون يحلمون بعالم مثالي. بل كانوا يحلمون بحياة طبيعية في بلد طبيعي. وإذا كان هناك يوتوبيا يتقاسمها كل من اليسار واليمين أثناء انتقال ما بعد الشيوعية في المنطقة، فقد كانت يوتوبيا الحياة الطبيعية.

   

 حلم الأوروبيون الشرقيون أن الوحدة الأوروبية ستمضي قدما على نفس خطوات إعادة توحيد ألمانيا، وفي أوائل التسعينات، كان العديد من التشيك والمجريين والبولنديين يحسدون الألمان الشرقيين ، الذين كانوا يصدرون جوازات سفر ألمانية بين عشية وضحاها وأصبح بإمكانهم التعامل بعملة ألمانيا على الفور.

  

  من المعروف كقاعدة أن الثورات تسبب اضطرابات ديموغرافية كبيرة؛ عندما اندلعت الثورة الفرنسية، هرب العديد من معارضيها. وعندما استولى البلاشفة على السلطة في روسيا، فر الملايين من الروس. لكن في تلك الحالات، كان  الفارين هم الأعداء المهزومين -أعداء الثورة- الذين رأوا مستقبلهم في حياتهم خارج بلدهم. ولكن في حالة ثورات عام 1989  في شرق أوروبا، كان صناع الثورة الأكثر حرصا على العيش في الغرب، الذين نفد صبرهم لرؤية بلدانهم تتغير، هم أول من غادر.

  

 بالنسبة للعديد من الأوروبيين الشرقيين ذوي التفكير الليبرالي، فإن انعدام الثقة في الولاءات القومية واحتمالية الانضمام إلى العالم الحديث جعلت الهجرة خيارًا منطقيًا وشرعيًا. ونتيجة لذلك، كان للثورات التي حدثت في عام ١٩٨٩ اﻷثر المعاكس للإسراع في انخفاض عدد السكان في البلدان المحررة حديثا في أوروبا الشرقية. فمن عام 1989 إلى عام 2017، خسرت لاتفيا 27 في المائة من سكانها، وخسرت ليتوانيا 23 في المائة، وبلغاريا 21 في المائة تقريبا.  كما خسرت المجر ما يقرب من ثلاثة بالمائة من سكانها في السنوات العشر الأخيرة فقط. وفي عام 2016، كان حوالي مليون بولندي يعيشون في المملكة المتحدة وحدها.  وعندما يهاجر الشباب وأصحاب المهارات من دول تعاني بالفعل من شيخوخة السكان وانخفاض معدل المواليد. فإن  ذلك يمهد الطريق للذعر الديموغرافي. وبالتالي فإن كلا من هجرة الشباب للخارج والخوف من هجرة اللاجئين للداخل هو أفضل تفسير لظهور الشعبوية في أوروبا الشرقية.

  

إن نجاح النزعة الشعبوية القومية -التي تغذي الشعور بأن هوية بلد ما معرضة للتهديد- هو نتيجة للنزوح الجماعي للشباب من المنطقة مع احتمال الهجرة على نطاق واسع، ما دق ناقوس خطر ديموغرافي. حيث كان الانتقال إلى الغرب يعني الارتقاء في الوضع الاجتماعي، ونتيجة لذلك، بدأ الأوروبيون الشرقيون الذين بقوا في بلدانهم يشعرون وكأنهم  فاشلون قد خُلفوا.

      

undefined

  

وفي البلدان التي يحلم فيها معظم الشباب بالرحيل، تراجعت نسبة النجاح في الوطن. و في السنوات الأخيرة، تسببت الرغبة المتزايدة في تأكيد الذات في جعل الأوروبيين الشرقيين يتذمرون من تلقي الأوامر من بروكسل. على الرغم من أنه -خلال التسعينات- كان السياسيون في المنطقة المتلهفون للانضمام إلى حلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي  مستعدين لاتباع الارشادات الليبرالية، إلا أنهم يرغبون اليوم في تأكيد حقوقهم الكاملة كأعضاء في النادي الأوروبي.

 

 ويعكس اندماج أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي على المستوى الوطني التجربة المألوفة لقصص المهاجرين في جميع أنحاء العالم. والتي فيها يرغب المهاجرون من الجيل الأول في الحصول على القبول من خلال استيعاب قيم البلد المضيف؛ ويخشى المهاجرون من الجيل الثاني المولودون في البلد الجديد من معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية وكثيراً ما يعيدون اكتشاف اهتمامهم بتقاليد وقيم ثقافة والديهم. وشيء مشابه هو ما حدث لمجتمعات أوروبا الشرقية بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. حيث اعتاد كثير من الناس في تلك الدول على النظر إلى تدخل بروكسل في سياساتهم المحلية على أنه عمل من أعمال الخير. وبمرور الوقت، بدأوا يرونها إهانة لا تطاق لسيادة دولهم.

    

عائد التغيير الجيوسياسي

 إن المكون النهائي في المنعطف غير الليبرالي لأوروبا الشرقية هو التيار العميق لشعور بانعدام الأمن الجيوسياسي الذي لطالما ابتليت به المنطقة. في عام 1946، نشر المفكر المجري استفان بيبو كتيبًا بعنوان "مأساة الدول الصغيرة في أوروبا الشرقية"، وقال فيه إن الديمقراطية في المنطقة ستظل دائمًا رهينة للآثار العالقة للصدمات التاريخية، ومعظمها مرتبط بتاريخ دول أوروبا الشرقية وهيمنة القوى الخارجية عليها. فمثلا، لم تعد بولندا دولة مستقلة بعد تقسيمها على يد النمسا وبروسيا وروسيا في أواخر القرن الثامن عشر. في غضون ذلك ، شهدت المجر ثورة قومية تم سحقها في عام 1849، قبل أن تخسر أكثر من ثلثي أراضيها ونصف سكانها في معاهدة تريانون عام 1920. ولم تقتصر هذه الصدمات التاريخية على جعل المجتمعات الأوروبية الشرقية تخاف القوى الخارجية وتمقتها. حيث زعم بيبو أن هذه البلدان تؤمن بأن "تقدم الحرية يهدد القضية الوطنية". لقد تعلموا أن يكونوا متشككين حول أي أيديولوجية عالمية تعبر حدودهم، سواء كانت عالمية الكنيسة الكاثوليكية أم الليبرالية في إمبراطورية هابسبورغ المتأخرة، أو الأممية الماركسية.

    

 وقد أحسن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا التعبير عن هذا الشعور بانعدام الأمن عندما عرف الأمة الصغيرة بأنها "شخص قد يكون وجوده موضع شك في أي لحظة". حيث يعتبر مواطن دولة كبيرة أن بقاء بلاده أمراً مفروغاً منه؛ وتحكي كل الأناشيد الوطنية عن العظمة والخلود في حين يبدأ النشيد البولندي قائلا:"بولندا لم تهلك بعد". وإذا كان أحد آثار الهجرة من شرق أوروبا بعد عام 1989 هو إطلاق الذعر الديموغرافي الذي سيأخذ شكلاً كاملاً في وقت لاحق خلال أزمة اللاجئين  فإن أحد الآثار الأخرى-التي لا تقل أهمية- هو حرمان البلدان في المنطقة من المواطنين الذين كانوا على الأرجح سيدافعون محليا عن الديمقراطية الليبرالية. ونتيجة لذلك  أصبحت الديمقراطية الليبرالية في أوروبا الشرقية تعتمد أكثر فأكثر على دعم الأطراف الخارجية مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي أصبحت مع مرور الوقت قيودًأ حقيقية على قوة الأغلبيات في المنطقة.
        

   

كانت رغبة بوخارست في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال مسؤولة في المقام الأول عن قرارها بحل نزاع طال أمده بشأن حقوق المجريين ذوي الأصل العرقي في رومانيا. كما أن قواعد الأهلية بعضوية الاتحاد الأوروبي والمعروفة باسم معايير كوبنهاجن، تجعل الحماية القانونية للأقليات شرطا مسبقا للعضوية في الاتحاد. إن الدور المركزي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ترسيخ الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا الشرقية يعني أن هذه الديمقراطيات تظل آمنة ما دامت هيمنة بروكسل وواشنطن في أوروبا غير قابلة للنقاش بالنسبة لهم. لكن على مدار العقد الماضي، تغير الوضع الجغرافي السياسي. فقد تعثرت الولايات المتحدة بالفعل بسبب الحروب الأجنبية باهظة الثمن والأزمة المالية قبل انتخاب دونالد ترمب الذي أثار بدوره شكوكًا خطيرة حول التزام واشنطن مع حلفائها.

  

وفي الوقت ذاته في أوروبا جعلت الصدمات المتتالية لأزمة الديون  اللاجئين وبريكسيت مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه موضع شك. جاء ذلك في الوقت الذي بدأت فيه روسيا -في ظل حكومة الرئيس فلاديمير بوتين الاستبدادية- بإعادة تأكيد نفسها باعتبارها قوة إقليمية، حيث استولت على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014 ودعمت تمرد انفصالي في شرق البلاد. تنبأ هنتنغتون في عام 1991 بأن روسيا القوية غير الديمقراطية ستشكل مشاكل للديمقراطيات الليبرالية في أوروبا الشرقية، وقد أدى نهوض روسيا بوتين في الواقع إلى تقويض هذه الديمقراطيات. فبالنسبة لقادة أوروبا الشرقية الذين سئموا بالفعل من الليبرالية -مثل أوربان- كان مزيج بوتين من الحكم الاستبدادي والأيديولوجية المعادية للغرب بمثابة نموذجا يحتذى به، وبالنسبة للعديد من البولنديين كانت عودة التهديد الروسي حجة أخرى للتصويت لصالح حكومة غير ليبرالية قادرة على حماية الأمة. وفي دول شرق أوروبا الأخرى، مثل البلطيق كان لروسيا دور تخريبي من خلال محاولة نشر المعلومات المغلوطة. وساهمت عودة انعدام الأمن الجيوسياسي- في جميع أنحاء المنطقة- في تغيير وضع  جاذبية الديمقراطية الليبرالية.
       

أوروبا غير الليبرالية؟

 مع أن شعوبية أوروبا الشرقية ظاهرة حديثة، إلا لها جذور عميقة في سياسة المنطقة، ومن غير المرجح أن تختفي في أي وقت قريب. فوفقا للصحفي النمساوي المولد مجري الجنسية بول ليندفي:"إن ما يقلق بشأن ديمقراطية أوربان غير الليبرالية هو عدم القدرة على رؤية نهايتها". في الواقع، أصبحت الديمقراطية غير الليبرالية الشكل الجديد للاستبداد الذي حذر منه هنتنغتون منذ أكثر من عقدين. ما يجعلها خطيرة بشكل خاص هو أنها سلطوية ولدت في إطار الديمقراطية نفسها.

    

وليس الشعبويون الجدد بفاشيين؛ فهم لا يؤمنون بالقوة التحويلية للعنف، وهم ليسوا قمعيين مثلما كان الفاشيون. لكنهم لا يبالون بالضوابط والتوازنات الليبرالية ولا يرون ضرورة للقيود الدستورية على سلطة الأغلبية، وهي القيود التي تشكل جزءا أساسيا من قانون الاتحاد الأوروبي. ولذلك فإن التحدي الرئيسي الذي تفرضه الشعبوية الأوروبية الشرقية ليس تحديا للديمقراطية على مستوى الأمم فحسب بل إنه تهديد لتماسك الاتحاد الأوروبي. ومع تحول المزيد من دول المنطقة نحو اللا ليبرالية، سيشتعل الصراع بين أوروبا الشرقية والاتحاد الأوروبي وسترتفع موجة اختبار قوة الاتحاد الأوروبي، كما فعلت بولندا بالفعل مع إصلاحاتها القضائية. وفي نهاية الأمر يبقى الخطر الأكبر هو تفكك الاتحاد الأوروبي، وتحول أوروبا لقارة مقسمة لا تتمتع بالحرية التي تتباهى بها.

———————–

  

مترجم عن (أم سي تي انترناشونال)