شعار قسم ميدان

إعلانات التبرعات بمصر.. أن تغطي فشل الدولة ولا تعالجه

midan - egypt
اضغط للاستماع

   

إعلانات كثيرة تحاصرنا على شاشات التلفاز، لكن ما يثير الانتباه هو تزايد إعلانات التبرعات، إذ باتت تحتل مساحة واسعة من الدقائق على الشاشات في الآونة الأخيرة، لتحث المشاهد على التبرع، وتناديه للمشاركة في عمل الخير، وتحفزه للمساهمة في حل مشكلات الفقر، وتخفيف معاناة المرضى.

  

فحضور إعلانات التبرع بصورة مكثفة في شهر رمضان تحديدا لتزاحم إعلانات العقارات، يثير العديد من الأسئلة حول الأسباب التي قادت إلى ازديادها إلى هذا الحد خاصة بعد عام 2013، كما يدفعنا إلى البحث فيما وراء الصورة، في محاولة الكشف عن شبكة العلاقات بين الأطراف المستفيدة، فما القصة؟

 

ابتداء، لا يقتصر الإعلان على كونه وسيلة دعائية لمنتج أو خدمة، بل يمتد ليصبح مؤشرا فعليا للتغير في المجتمع، وساحة خصبة لمعرفة الكثير عن التحولات الاجتماعية فيه. فقد بلغت نسبة الإنفاق على الإعلانات في مصر رمضان عام 2017 ما يقرب من 800 مليون جنيه وفقا لتقدير محمد السعدي الشريك المؤسس لشركة أنيميشن للإعلانات "سعدي جوهر" التي نفّذت كثيرا من الإعلانات الخيرية والتجارية.

 

تحضر إعلانات مستشفى 57357 ومستشفى 500 500 كعلامات فارقة في حضور إعلانات التبرعات، والتي تشهد على التغير الحادث في المشهد الإعلاني وما يعكسه من مؤشرات على التحولات السياسية والاجتماعية في مصر منذ السبعينيات وحتى الآن. فكيف ظهرت فكرة التبرع لمستشفى 57357 ومن ثم مستشفى 500 500؟

    

   

مسار تراجع الدولة عن تقديم الخدمات العامة

في ستينيات القرن العشرين ازداد عدد المرضى المصابين بالسرطان، وخاصة سرطان المثانة نتيجة للإصابة بالبلهارسيا المنتشرة في مصر آنذاك، فاقترح الدكتور لطفي أبو النصر إنشاء المعهد القومي للأورام، وتحمّلت الدولة تكاليف الإنشاء، وافتُتح المعهد في عام 1969 واستمر في أداء مهامه حتى اليوم.

           

مع الوقت، وبتزايد الطلب عليه، قلّت جودة الخدمة المُقدمة منه كحال أي مشفى حكومي آخر، وبتدهور حالته تدريجيا اقترحت السيدة علا غبور زوجة رجل الأعمال رؤوف غبور "رئيس مجلس إدارة شركة جي بي غبور أوتو" إنشاء مستشفى لرعاية الأطفال المرضى بالسرطان وذلك بالتنسيق مع مجموعة من الأطباء العاملين بالمعهد القومي للأورام منهم د. شريف أبو النجا رئيس مجلس إدارة مستشفى 57357 الحالي، فقد رأوا أن تدخل الدولة لإنقاذ المرضى وكفالة الحق في العلاج لم يعد مجديا، وأحسنوا الاستفادة من شبكة علاقاتهم ببعض رجال الأعمال من خلال جمعية أصدقاء معهد الأورام لتولي عملية جمع التبرعات لبناء مستشفى 57357 لتُفتتح في يوليو/تموز 2007 مقدمة نموذجا لمستشفى عالمي قام تأسيسه بالكامل على التبرعات فقط.
 

بعد عشر سنوات من افتتاح 57357 تجدد النداء من داخل المعهد القومي للأورام مرة أخرى من خلال إعلانات التلفاز للدعوة للتبرع لإنشاء صرح آخر لمواجهة مرض السرطان ويستكمل المسيرة وهو مستشفى 500 500 الذي يُعرّف نفسه بالمعهد القومي للأورام الجديد. فما بين المعهد القومي للأورام الأول وما بين معهد الأورام الجديد رحلة ومسار يحمل كثيرا من الدلالات عن التحولات التي مرت بها مصر منذ السبعينيات حتى الآن.
 

لقد كانت الدولة الفاعل الرئيسي في تحمل علاج المرضى وتوفير الخدمات العامة، حيث قامت ببناء معهد الأورام، ثم انسحبت الدولة تدريجيا من دورها الاجتماعي، وبرز فاعلون آخرون على الساحة سواء كانوا أفرادا أو جمعيات أهلية أو جمعيات رجال الأعمال، لنرى بناء صرح طبي متكامل كـمستشفى 57357 معتمد كليا على أموال التبرعات، ومن بعده مستشفى 500 500 الذي ينتهج مسار 57357 نفسه في التعويل على التبرعات ليصبح أكبر مستشفى عالمي لعلاج السرطان بالمجان.

     

مبنى مستشفى 57357  (مواقع التواصل الاجتماعي)
مبنى مستشفى 57357  (مواقع التواصل الاجتماعي)

   

هذا التحول [1]، لم يحدث بين عشية وضحاها، ولم يشمل فقط القطاع الصحي الذي انخفضت نسبة التخصيص المادي له من الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي 2017-2018 إلى 1.34% أي أقل من نصف الاستحقاق الدستوري البالغ 3%، ولم يقتصر على قطاع الصحة فقط، وإنما برز في كثير من القطاعات الخدمية الأخرى، لتجد نفسك أمام إعلانات لا تخلو من مطالبتك بالتبرع ودفع زكاتك لمساعدة الفقراء وبناء المستشفيات وتوصيل المياه والخدمات للقرى الفقيرة وإلخ.
  

فبينما يقل إنفاق الدولة على الخدمات الاجتماعية، تزداد دعوات التبرعات، فقد وصلت التبرعات من خلال رسائل الهاتف إلى قرابة ٦٠٠ ألف جنيه في ٢٠١٢، وتضاعفت لتصل إلى قرابة ٤ ملايين جنيه في ٢٠١٣، ثم ارتفعت لما يزيد على ١١ مليون جنيه في ٢٠١٤، وبلغ إجمالي ما تم جمعه من تبرعات خلال رمضان 2017 ٣٠ مليار جنيه وفقا للأرقام الرسمية[2]، فما السبب وراء ذلك؟

  

من عبدالناصر حتى السيسي.. من دولة التأميم حتى دولة التبرعات

قدمت الدولة الناصرية نفسها للشعب باعتبارها المنقذ والمنفذ لكل المشروعات، فأمّمت الحياة الاجتماعية كاملة وسيطرت على الوقف وتحكمت في إدارة أعمال الخير، وقاد الضباط بأنفسهم من خلال جهاز الدولة الإداري جمع التبرعات من المواطنين في بعض مشروعاتها في سنوات الثورة الأولى[3]، ومع حلول السبعينيات وجدت الدولة نفسها فاشلة وعاجزة عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لمواطنيها، فبدأت بالتراجع عن سياسات الدعم لصالح سياسات الباب المفتوح وتحرير الاقتصاد مع تولي السادات الحكم[4].

  

ساهمت تدفقات المال من تحويلات العاملين بالخليج في دعم الاقتصاد المصري جزئيا في هذه الفترة، ثم عانى الاقتصاد المصري من أزمة طاحنة خلال عام 1986 لتراجع أسعار البترول ومقاطعة الدول العربية لمصر بعد توقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل، فازداد التضخم وارتفع الدين العام إلى ما يزيد عن 40 بليون دولار، مما دفع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى التدخل بسياساتهم بدعوى إصلاح الاقتصاد المصري.

  

وقد قام مبارك بتوقيع اتفاق لتثبيت الاقتصاد مع صندوق النقد الدولي في 1991[5].لترتفع يد الدولة عن تقديم أدوارها الخدمية تدريجيا، محولة تركيزها نحو تشجيع الاستثمارات وفتح السوق أمام الشركات الكبرى. فلا عجب أن تبدأ الدعوة للتبرع لإنشاء مستشفى آخر غير المعهد القومي للأورام خلال التسعينيات بدعم من رجال الأعمال.

     

مبنى صندوق النقد الدولي (رويترز)
مبنى صندوق النقد الدولي (رويترز)

            

فلقد كان رجال الأعمال الفئة الأكثر استفادة من قوانين التحرر الاقتصادي وتطبيق سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث ساعدتهم تلك السياسات في مراكمة مزيد من الثروات، بينما ما زال الفقراء يزدادون فقرا بتراجع الدولة عن دورها الاجتماعي.
         
وفقا لتقديرات بنك كريديه سويس في 2015 يتبين أن مصر ضمن 24 دولة شهدت زيادة في ثروات الطبقة الأكثر ثراء خلال الفترة 2000-2015. فقد ارتفع نصيب الــ10٪ الأغنى من إجمالي الثروة إلى 73.3٪ في عام 2014، مقابل 61٪ من الثروة في عام 2000. ويمتلك 1٪ من السكان نحو (48.5٪) من الثروة، ولم تكن تلك الشريحة تملك سوى ثلث الثروة (32.3٪) في مطلع القرن الحادي والعشرين.

  

لم ينتج عن تدخل المؤسسات المالية الدولية إعادة هيكلة الاقتصاد المصري فحسب، وإنما ساعدت هذه المؤسسات على الترويج لثقافة العمل الاجتماعي والتطوعي باعتباره قاطرة التنمية، وظهرت في هذه الفترة نقاشات مكثفة حول ضرورة الانتقال من مجرد العمل الخيري إلى العمل الاجتماعي التنموي[6].
  

بالفعل، قدمت هذه المؤسسات كثيرا من برامج التنمية والدعم والتدريب في مصر، ولكنها كانت برامج مسيسة وتتبع أجندة غير محايدة، ويبرز ذلك في الفئات التي توجه لها الدعم والفئات التي تستبعدها، وجغرافية عملها، وتوجيهها الدعم للأقباط خاصة، وتركيزها على القاهرة دون الصعيد يثير كثيرا من الأسئلة حول غايات عملها التنموي.
  

على الرغم من عيوب برامج التنمية لهذه المؤسسات العالمية فإنها ساهمت في انتشار أفكار إيجابية مثل المسؤولية الاجتماعية للشركات، ونادت بإعادة إحياء دور الوقف الإسلامي، وعودة دور المجتمع لمواجهة تداعيات سياسات الخصخصة والتحرر الاقتصادي السلبية على الفقراء، فأوجدت هذه البيئة المنفتحة نسبيا خلال التسعينيات والألفية ساحة خصبة للحراك الاجتماعي في مساحة العمل التنموي الخيري(7).

     

undefined

        

نجد أن أولى المؤسسات الخيرية التي يظهر فيها هذا التأثر البالغ بالسياسات العالمية للمؤسسات الدولية خلال الألفية هي مؤسسة ساويرس الخيرية (افتُتحت في أكتوبر/تشرين الأول 2001)، فقد تبلورت فكرة المؤسسة من خلال لقاء السيدة يسرية لوزا ساويرس التي عملت في بعض مؤسسات التنمية العالمية كمؤسسة فورد مع د. إبراهيم شحاتة الذي عمل كنائب أول ومستشار قانوني للبنك الدولي، وتحظى المؤسسة بوضع استشاري خاص في المجلس الاقتصادي والاجتماعي في هيئة الأمم المتحدة منذ 2005 لعملها على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
  

منذ 2001 اتخذ العمل الخيري النمط المؤسسي، وظهرت بعد مؤسسة ساويرس مؤسسات خيرية أخرى تدمج كذلك بين الفكر الإداري لرجال الأعمال والرأسمال العائلي ومتأثرة بالفكر التنموي العولمي المؤسسي، كمؤسسة الألفي للتنمية لصاحبها معتز الألفي رئيس التنفيذي لشركة "EK" القابضة وشركة أمريكانا مصر، ومؤسسة محمد فريد خميس لتنمية المجتمع التي افتُتحت في 2002 لمحمد فريد خميس صاحب شركة النساجون الشرقيون وغيرهما.

  

نقلت هذه المؤسسات نمط إدارة العمل الخيري والاجتماعي إلى نمط إدارة شركات القطاع الخاص، وتوالى إنشاء المؤسسات الخيرية التي تروج إعلاناتها في التلفاز حتى الآن، مثل: مؤسسة بنك الطعام المصري الذي تأسس في 2006 من قِبل نيازي سلام صاحب شركات أوليمبيك جروب وإيديال وفروع "B-TECH"، ومؤسسة مجدي يعقوب للقلب 2007 التي يشارك في مجلس أمنائها عدد من رجال الأعمال، ومؤسسة مصر الخير (2007) التي يأتي على رأس مجلس أمنائها المفتي السابق علي جمعة والتي تعمل بالشراكة مع عدد من كبرى الشركات الخاصة وبعض المؤسسات الخيرية الخليجية والمؤسسات الدولية.

  

ومن الملاحظ أن حكومة رجال الأعمال برئاسة أحمد نظيف، قد صعدت في 2004 لتشير إلى أن ثمة توازيا بين تنامي أدوار رجال الأعمال في السلطة والمجال السياسي وبين مسار العمل الخيري والمجتمعي. ومن الملاحظ كذلك، الاتصال الوثيق بين المصارف والجمعيات الخيرية ورجال الأعمال، حيث يشارك في مجالس أمناء بعض هذه المؤسسات كثيرون من مديري البنوك التجارية الكبرى، وهو ما يتضح جليا في مجلس أمناء مؤسسة مصر الخير، والتي تضم عددا كبيرا من المصرفيين، ويشارك فاروق العقدة محافظ البنك المركزي الأسبق في مجلس الأمناء لكل من مؤسسة مستشفى 57357 ومؤسسة بيت الزكاة والصدقات المصري.

     

أحمد نظيف (رويترز) 
أحمد نظيف (رويترز) 

     

كما يُعدّ الائتمان المصرفي مؤشرا مهما على وزن الشركة الاقتصادي، فهو معبر عن وزنها النسبي في العمل الخيري أيضا. فخلال الفترة 2001-2014 بلغت نسبة القروض الموجهة للقطاع الخاص 41.2% من إجمالي القروض، والتي اتجهت لخدمة حفنة ضئيلة من الشركات الكبرى التي تساهم معظمها في مؤسسات العمل الخيري الكبرى[8]

  

بذلك، يصبح لدينا شبكة علاقات مترابطة بين المؤسسات الخيرية بمؤسسيها من كبار رجال الأعمال تحظى شركاتهم الخاصة ومؤسساتهم الخيرية بفرص أكبر في الانتشار، وتمتلك القدرة على إدارة عملية التبرعات وضخ مزيد من الأموال لصالحها في مقابل شركات صغيرة ومتوسطة ما زالت تصارع من أجل بقائها كتلك الجمعيات الخيرية والاجتماعية الصغيرة والمتوسطة.

  

كذلك، لا يمكن التغافل عن تعدد دوافع رجال الأعمال للانخراط في العمل الاجتماعي والخيري، سواء كانت دوافع إنسانية أو منطلقات دينية أو منافع مادية كالإعفاء الضريبي أو الجمركي، أو وسيلة لتحسين صورتهم أمام الشعب، فقد لجأ رجال الأعمال الذين أحاطت بهم شبهات الفساد لاقترانهم بنظام مبارك وانتسابهم للحزب الوطني إلى مضاعفة العمل الخيري لدرء موجة العداء ضدهم بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني مباشرة.
  

بعد 3 يوليو/تموز 2013، وبصعود النظام العسكري الحالي، تحولت النظرة إلى العمل الخيري من قِبل رجال الأعمال من الاقتصار على دورها التكميلي ونوع من الوجاهة الاجتماعية أو الدعاية السياسية، لتصبح واجبا وطنيا وإعلانا للانتماء وتأييدا لسياسة النظام القائم.

  

هذه العلاقة التبادلية، توطدت حين أوجد النظام العسكري الحالي تحت مظلة حكم السيسي علاقة مع رجال الأعمال تختلف عن تلك التي أدارها مبارك، حيث تعمد الجيش في عصر السيسي إقصاء الشركات الخاصة الكبرى المرتبطة بشبكات المحسوبية القديمة، لصالح رجال أعمال وشركات جديدة أوثق علاقة بالجيش ونظام الحكم [9].

    

إعلانات الحديد.. لماذا ظهرت إعلانات أخرى غير حديد عز؟

هذا التحول في العلاقة بين رجال الأعمال ونظام السيسي واختلافه عن علاقتهم بمبارك، نجده بارزا في ساحة الإعلانات، ففي إعلانات الحديد مثلا مؤشر كبير على هذا التحول، فبعد عام 2013 ظهرت إعلانات حديد لشركة المصريين وشركة الجارحي للصلب، وقد كان غريبا منذ سنوات الألفية الأولى حتى قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 أن يظهر إعلان لأي شركة من شركات الحديد سوى حديد عز المملوكة لرجل الأعمال أحمد عز عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، والذي يعد قطبا رئيسيا في صناعة الحديد.

     

    

فبينما بزغ نجم أحمد عز كنجم سياسي في الحزب الوطني الحاكم، وكمحتكر لصناعة الحديد في مصر في عهد مبارك، ظهر أحمد أبو هشيمة بشركته حديد المصريين وجمال الجارحي صاحب شركة الجارحي للصلب ليكسرا احتكار الحديد لصالح دورهما في العمل الخيري والاجتماعي، فأحمد أبو هشيمة وُضع في أعلى قائمة متبرعي صندوق تحيا مصر، وعُرف بنشاطه الخيري لكثير من القرى الفقيرة وغيرها من المشروعات الخيرية التي نال على إثرها تكريما من دار الإفتاء في 2014 حيث دعمت شركته سفر عدد من رجال الأزهر لأربع دول أفريقية، وحصل على عدة جوائز من مؤسسات عالمية لدوره التنموي. كذلك الحال عند جمال الجارحي الذي كان من بين حضور لقاء رجال الأعمال بالسيسي، والذي حثهم على التبرع لصندوق تحيا مصر الذي أُطلق أواخر 2014.
  

يعد الجارحي من أبرز المساهمين في صندوق تحيا مصر، وتروج إعلانات حديد الجارحي للمنتج بمفردات وطنية تدعو لقيم العمل لبناء مستقبل البلد، ويظهر ذلك في إعلان حديد الجارحي رمضان 2017 عبارات مثل: "واخدين على التحدي، جايين عشان نعدي، ونوصل بالبلاد دي لأعلى مكانة، إرادة من حديد جايين عشان نعيد من أمجادنا من جديد ويعلى بنانا، ابني على أرض مصر ابني عشان ابنك وابني مستقبل البلاد دي أمانة".

    

     

رأى الجيش في رجال الأعمال، المحفظة التي تدعم دور الدولة المتخاذل في المجال الاجتماعي، فقد حثّ السيسي رجال الأعمال على رد جميل البلد عليهم، والمسارعة في الإقرار بوطنيتهم من خلال التبرعات، وفي الوقت نفسه أدرك رجال الأعمال خطورة العمل السياسي وعدم جدوى المكاسب التي يجنيها هؤلاء من ورائه بقدر ما يهدد مصالحهم، وخاصة مع إغلاق المجال السياسي، ليصبح العمل الخيري هو الورقة الرابحة لمساندة النظام الحالي الذي ينسحب من الدعم الاقتصادي ودوره الاجتماعي، لننتقل من مرحلة تزاوج السلطة بالمال كما حدث في حكومة نظيف إلى التزاوج بالسلطة من خلال العمل الخيري، ليصبح العمل الخيري والتبرع بمثابة صك الغفران المقدم لنيل رضى النظام.

  

لذلك، تضاعفت حاجة رجال الأعمال إلى الإعلان عن حضورهم ومساندتهم للنظام القائم من خلال العمل الخيري، فتزايدت الحاجة إلى الإعلانات، وأخرجت جريدة اليوم السابع قائمة شرف تحتوي على أهم رجال الأعمال المتبرعين لصندوق تحيا مصر، وكرمت مجلة "Business Today" ضمن احتفالية BT100 أفضل 50 شخصية مؤثرة فى الاقتصاد المصرى لعام 2017، حيث ضمت القائمة 41 رجل أعمال ومصرفيين وشخصيات عامة، يرأس معظمهم مؤسسات خيرية.
  

إدارة العمل الخيري بآليات العمل التجاري

دخول الشركات ورجال الأعمال إلى ساحة العمل الخيري، جعل منطق السوق هو الناظم والمتحكم في ميدان الأعمال الخيرية، ليصبح العمل الخيري منتجا لـ"بضاعة" يتم الترويج لها بنفس أدوات الترويج الإعلاني للبضائع الأخرى، وليتحول العمل الخيري لذات الصيغة التي يدار بها العمل التجاري؛ وعليه يزداد منطق المنافسة فيه، وقد يشوبه علاقات المحسوبية كما ظهر في الدعاوى والشكوك التي وجهها الكاتب وحيد حامد ضد مستشفى 57357. 

  

بتلك الآليات، تحول العمل الخيري في ذاته إلى عمل دعائي لبعض المنتجات للشركات الكبرى الداعمة للمؤسسة الخيرية، مثل إعلان مستشفى 57357 الذي ينتهي بتوجيه الشكر لشركة كابسي والتي رعت وتحملت تكلفة إنتاج الإعلان. وهي الشركة (كابسي للدهانات) التي يديرها م. لطفي البدراوي رئيس مجلس إدارة جمعية أصدقاء المبادرة القومية ضد السرطان.

    

   

في ذات السياق، نجد شركة الاتصالات "موبينيل" تقدم في أحد إعلاناتها الدعائية حملة لدعم قيمة "فعل الخير ومكسب فاعل الخير" على الرغم من كونها تعمل على ترويج لمنتج وخدمة مدفوعة الأجر، حيث نجد كلمات الأغنية تردد: "مش مهم مين بيعمل الخير، المهم انت تبدأ وتعمل الخير، لأنه أكيد هيرجعلك طول ما انت فاعل خير".

           

يتجلى حضور المنطق التجاري في العمل الدعائي في جمع التبرعات للأعمال الخيرية، بالحرص على وجود نجوم المجتمع ومشاهيره، سواء كانوا لاعبي كرة أو فنانين وإلخ، وتصدرهم لحملات التبرع الدعائية تلك، ليكتسب الإعلان جماهيرية أوسع، كما يحدث في الإعلانات التي تروج للبضائع والخدمات الأخرى. لذلك، لا غرابة أن تظهر الفنانة يسرا في إعلان مستشفى 500 500 كما تظهر في إعلان شركة مراسم العقارية لتروج بنغمة طبقية للسكن في المجتمعات الميسورة، وتحرص على الانعزال عن الفقراء في مجتمع "العلامة التجارية".
  

وبينما رأى البعض أن هذين الإعلانين يعكسان التناقض في المجتمع المصري، فإنهما في واقع الأمر لا يحملان تناقضا في سياقهما، وإنما يكملان المشهد ويفسران ظهور هذا الكم الكثيف من إعلانات التبرعات. لتتضح بذلك الكيفية التي سيطرت بها الشركات الكبرى على مؤسسات العمل الخيري، ولينعكس ذلك على حرص تلك المؤسسات الخيرية بتوجيه نسبة كبيرة من أموال التبرعات لإنفاقها على الإعلانات.

    

   

قد نجد الكثير من وجهات النظر التي ترى أن دخول رجال الأعمال في العمل الخيري مزية من مزايا الرأسمالية ووجه من أوجهها الرحيمة ومشاركتها المجتمعية الفعالة، ولكن، ما يمكن ملاحظته، أنه وبالرغم من وجود هذه المؤسسات ودعمها للفقراء وعملها المتزايد في مناطق كثيرة على الجغرافيا المصرية، فإنها في جوهرها، لا تعد مجدية بالقدر الذي يؤهلها لقيادة عملية التنمية في مصر، باعتبارها لا تحمل مؤشرا على قوة المجتمع وتكاتفه الاجتماعي بقدر ما تعكس هشاشة البنية الاجتماعية وضعفها وخضوعها لمنطق المال والسلطة وشبكة المصالح.
  

وكتجلٍّ لذلك، أعلن بنك الطعام في حملته الإعلانية عام 2015 قطار 2020 تحت شعار "مصر للجوع تاني مش راجعة" بحلول 2020، ولكن مع تزايد معدلات الفقر في مصر خلال السنوات الأخيرة، وما يتلازم معه من زيادة معدلات الجوع، تعلن مؤسسة بنك الطعام عجزها عن تحقيق هذا الهدف.
  

حيث بلغت نسبة الفقر في 2015 27.8% وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أي رزوح نحو 25 مليون مصري تحت خط الفقر، مع دخل يقل عن 482 جنيها شهريا، لترتفع هذه القيمة خلال العامين 2017-2018 مع سياسات التعويم، ليشمل خط الفقر تلك الشرائح التي يتراوح دخلها ما بين 700-800 جنيه شهريا.

   

مما يطرح تساؤلا هاما عن الجدوى الحقيقية وراء هذه التبرعات، وهل يمكن أن تمثل حلا في مواجهة الفقر ومساندة الفقراء الذين يزدادون فقرا مع تخبط السياسات الاقتصادية وزيادة معدلات التضخم والاستدانة؟

  

حيث إن استمرار ضخ التبرعات، لن يغلق مجرى العوز المضطرد بتخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية لصالح التعويل على الشركات الكبرى ورجال الأعمال، والتي تعمل على تحميل المواطن وزر الفقر الذي يدفع المواطن ضريبته، بصورة يبدو أنها لن تنتهي في الأفق المنظور، وغير المنظور!

    

undefined