شعار قسم ميدان

"امتطاء القضاء".. هكذا حول السيسي منصة العدالة إلى مسرح للعرائس

في يوم الاثنين الموافق 17 (ديسمبر/كانون الأول) عام 2018 قررت نيابة أمن الدولة العليا تجديد حبس المستشار أحمد سليمان، وزير العدل في حكومة الرئيس السابق محمد مرسي، 15 يوما على ذمة التحقيقات في اتهامه بقيادة جماعة أُسّست على خلاف القانون والتخابر مع جهات أجنبية، وكانت قوات الأمن قد ألقت القبض على المستشار من منزله بمحافظة المنيا في ساعة متأخرة من مساء 4 ديسمبر/كانون الأول 2018، دون الكشف عن تفاصيل الاتهامات، وقررت نيابة أمن الدولة العليا في 6 ديسمبر/كانون الأول حبسه على ذمة التحقيقات 15 يوما.[1]

    

قبل ذلك بثلاث سنوات، كتب المستشار والوزير السابق أحمد سليمان ردا على اتهامات وجّهتها له بعض الصحف المحسوبة على النظام العسكري الحالي، فقال: "أعاهد الله عز وجل أن نبقى إلى جانب الحق دائما ندافع عنه وننصره ونسانده مدافعين عن حق الأمة في الحياة الحرة الكريمة، وفي قضاء مستقل عادل، لا يتولاه فاسد، أو منحرف، أو منبطح على عتبة باب السلطان، يمنّي نفسه أن ينعم بإشارة من سبابة يده، أو قدمه، وحقها في اختيار حكامها وممثليها بإرادتها، وفي الحياة في ظل احترام سيادة القانون وكفالة حقوق الإنسان، ومحاسبة كل مجرم فاسد أيا كان موقعه، مهما تكاتفت قوى الشر والفساد والطغيان والظلم وفلول التنظيم الطليعي من القضاة ومخبري الإعلام والمنتفعين واللصوص، موقنين بفضل الله ووعده ونصره وتأييده، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز".[2]

لكن، لم يكن المستشار الحالة الأولى التي يُلقي فيها النظام العسكري القبض على شخصية قانونية ويضعه في غياهب السجون، حيث ألقى الأمن قبضته على المستشار محمود الخضيري، النائب السابق لرئيس محكمة النقض، والمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، وثلاثتهم على مشارف الثمانين من العمر، وينتمون إلى تيار الاستقلال الذي خاض معارك حامية انتصارا للعدالة والديمقراطية في عهد الرئيس المخلوع مبارك، وأسهموا في حرث التربة، ووضع بذور ثورة يناير 2011.

ولا يمكننا فهم الأمر واستكشاف صورته الكاملة دون ربطه بالحكم الذي أصدره القاضي "حسن فريد" في يوليو/تموز 2018 بإحالة 70 من قيادات جماعة الإخوان في قضية "فض رابعة" للإعدام شنقا (3)، وقبله قضت محكمة جنايات المنيا في يوم 25 مارس/آذار 2014 بإحالة أوراق 528 متهما من أنصار جماعة "الإخوان المسلمين" والرئيس المعزول محمد مرسي إلى مفتي مصر لاستطلاع رأيه في إعدامهم على خلفية اتهامهم بأعمال عنف أدت إلى مقتل شرطيين اثنين عقب فض اعتصامي "رابعة العدوية" و"النهضة" في 14 أغسطس/آب 2013.(4)

وفيما بين التاريخين، أي طوال خمس سنوات، أصدرت الدوائر القضائية بمصر أحكاما قضائية عديدة بالإعدام والحبس لمدد طويلة توازي أعمار أمم كاملة، حيث بدت تلك الأحكام كأنها أحكام انتقامية، وبدا هؤلاء القضاة كسوط في يد الجنرال يجلد به جميع خصومه، بل الشعب المصري كله، ويظهر السؤال كيف رضت السلطة القضائية التي طالما ادّعت النزاهة والشموخ أن يصدر عنها تلك الأحكام وتسمح بالاعتداء على قامات قانونية منها كالمستشار الخضيري وأحمد سليمان وهشام جنينة وغيرهم، وهو ما يجعلنا نتساءل: ماذا حدث للقضاء المصري؟

السيسي والقضاء

 

عنوان ميدان

في الرابع من يوليو/تموز 2013 أقسم المستشار عدلي منصور اليمين الدستورية رئيسا مؤقتا لمصر لحين انتخاب رئيس جديد، وفق ما نصّت عليه خارطة الطريق التي أعلنها المجلس العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي في بيان انقلابه على الرئيس محمد مرسي. وكان منصور عضوا في المحكمة الدستورية منذ عام 1992، وأصبح رئيسا لها في 30 يونيو/حزيران 2013، أي في اليوم نفسه الذي انطلقت فيه التظاهرات المطالبة برحيل مرسي عن السلطة، وقد أدى اليمين الدستورية رئيسا للمحكمة في الرابع من يوليو/تموز 2013 قبل أدائه اليمين الدستورية رئيسا للبلاد بدقائق معدودة.(5)

بيد أن هذه المشهد الذي يُعتبر مشهدا هزليا في تاريخ الدول وتاريخ القضاء، لم يأت مصادفة، بل تم الترتيب السابق له، فبعد أن لعبت المحكمة الدستورية العليا، ومعها كثير من القضاة في مقدمتهم رئيس نادي القضاة أحمد الزند، دورا مهما في التمهيد للانقلاب (6) استغلت الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية ما تتمتع به من استقلال في اختيار رئيسها وعقدت اجتماعا في 19 مايو/أيار 2013، أي قبل شهر ونصف الشهر من الانقلاب وأيضا من موعد انتهاء ولاية رئيسها المستشار ماهر البحيري، ثم اتفقت على تعيين المستشار عدلي منصور النائب الأول لرئيسها رئيسا للمحكمة بدءا من أول يوليو/تموز 2013 خلفا للبحيري لبلوغه السن القانونية للتقاعد، فوافق محمد مرسي على اختيار الجمعية العمومية وفقا للتعديل الذي أُجري على قانون المحكمة بالمرسوم بقانون رقم 48 لسنة 2011 الذي نص على أن "يُعيّن رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة بعد موافقة الجمعية العمومية للمحكمة" (7)، وهو القانون الذي غيّره السيسي لاحقا.

قبل ذلك بنحو عام، وتحديدا في يوليو/تموز 2012، عندما أصدر مرسي قراره بعودة مجلس الشعب للانعقاد، أعلن المستشار أحمد الزند أن نادي القضاة قد أمهل الرئيس محمد مرسي 36 ساعة لإسقاط قرار عودة المجلس، وأعلن أن القضاة طالبوا مرسي بالاعتذار صراحة وبوضوح تام للشعب المصري والسلطة القضائية عما حدث! وتابع الزند مصرحا أن "القضاة لن يُطبّقوا أي قانون يصدر عن مجلس الشعب المنحل، ولن يعبأوا به لأنهم لن يُطبّقوا قانونا باطلا".(8)

وقبلها صرّح الزند أن القضاة "لن يُطبّقوا القوانين التي يُصدرها برلمان الإخوان"، أما في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 فقد أصرّ القضاة على ضرورة سحب الإعلان الدستوري الصادر في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 بتحصين قرارات الرئيس ضد الرقابة القضائية والتي كانت تعمل على عرقلة عمل المؤسسات المنتخبة بشكل واضح (9)، كما اعترضوا على قرار عزل النائب العام، وهدد القضاة بتعليق العمل بالمحاكم، وعدم الإشراف على الانتخابات، والاعتصام بنادي القضاة، وقد نصحت القاضية الوحيدة في المحكمة الدستورية العليا تهاني الجبالي في 3 أغسطس/آب 2012 في صحيفة أميركية بأنها "نصحت المجلس العسكري بألا يسلم السلطة للمدنين قبل إصدار الدستور الجديد".(9)

ومع بداية عام 2013 انخرط القضاة في التحريض السياسي على الرئيس المعزول مرسي، بل وشاركوا في أعمال تُمهّد الطريق للانقلاب العسكري، حيث أكّد المستشار أحمد سليمان وزير العدل السابق أن "أحمد الزند ومعه محمد عبد الرزاق ومحمد عبد الهادي فتحوا أبواب نادي القضاة لحركة "تمرد" لتوقيع استمارات انضمام القضاة إلى الحركة في سابقة لم تحدث في تاريخ القضاء المصري، ما يُعد اشتغالا صريحا بالسياسة".(9)

وتابع سليمان قائلا: "كما انضموا للحركة في ميدان التحرير، وهناك مقاطع فيديو لهم بالصوت والصورة، وقدمت ضدهم العديد من البلاغات، ومنها قبل 30 يونيو/حزيران 2013، ولم يتحرك مجلس القضاء الأعلى، بينما "قضاة تيار الاستقلال" بمجرد صدور بيانهم انهالت الإجراءات في لحظتها، واجتمع النادي في اليوم ذاته، وقرر شطب عضوية القضاة خلافا للائحة التي لا تُجيز هذا الشطب" (9)، لكن بعد الانقلاب تبدل الأمر فخمد هذا الحراك وتلك الحماسة السياسية، وطأطأ الجميع رأسه.

عنوان ميدان

من يرى الجهد الضخم الذي بذله القضاة في إفشال سلطة الرئيس المعزول محمد مرسي والسلطة التشريعية وعرقلة الانتقال الديموقراطي يظن أن هؤلاء القضاة على وشك تأسيس دولة جديدة تُعلي من إجراءات القانون وتتربع فيها المحاكم على قمة السلطة، لكن ما حدث غير ذلك تماما، فبعد أن أذاع الفريق عبد الفتاح السيسي بيان الانقلاب على محمد مرسي وعزله من منصب الرئيس وإعلان خارطة الطريق، هدأ النشاط القضائي تماما وأذلوا رؤوسهم طوعا للحاكم المتغلب، وظهر أن غالبية القضاة يؤيدون خريطة المستقبل التي أعلنها العسكر، وقد شارك رئيس المجلس الأعلى للقضاء في مشهد بيان الانقلاب، كما وافق رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور على تولي منصب رئيس الدولة بصفة مؤقتة، "ما يُمثّل مخالفة للدستور الذي تم الاستفتاء عليه سنة 2012، ومخالفة أيضا للحكم الذي أصدرته المحكمة بشأن صحة قانون الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز مرسي".(9)

الرئيس محمد مرسي

بل عمل القضاء على شرعنة كل ما يقوم به الجنرال وحاشيته ودولته من قتل واعتقال وإعدامات مخالفة لأي منطق قانوني، يقول المستشار أحمد سليمان معلقا: "أي متابع لأحوال العامة في مصر يستطيع أن يرصد بوضوح عدة مظاهر: منها الإسراف في إصدار قرارات الحبس الاحتياطي، وكذلك تجديد الحبس الاحتياطي في غيبة المتهم، والحبس في وقائع غير مُجرّمة كرفع إشارة رابعة ومصادرة حق المتهمين في الدفاع وعدم معرفة أماكن بعض المحبوسين، والقضاء بأقصى عقوبة على المتهمين".(9)

في تلك الفترة حاول غالبية هؤلاء القضاة جني ثمار تأييدهم للنظام الجديد وصناعته، فطالبوا أن يُحصّنهم الدستور الجديد من أي تدخل من سلطات الدولة في شؤون القضاة، ووصل الأمر أن يُطالب القضاة بمزايا لأنفسهم لضمان استقلالهم عن سلطات الدولة وأي مساس بسلطاتهم المطلقة، لكن السيسي رفض كل تلك المطالب، واستخدم القضاء كعصا غليظة يضرب بها خصومه، مُدشّنًا أكبر تغوّل عرفه القضاء المصري من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.

فلم يقبل السيسي من القضاة أي نوع من الاعتراض أو الانتقاد، وأحال ستين قاضيا لمجلس التأديب والصلاحية على خلفية توقيعهم على بيان تأييد شرعية الرئيس المعزول محمد مرسي في 24 يوليو/تموز 2013، ورأى قاضي التحقيق المستشار محمد شيرين فهمي أن المحالين خرجوا عن الدور الوظيفي الذي يمنعهم من ممارسة السياسة وأوصى بعزلهم من مناصبهم، كما أحالت لجنة التأديب المتحدث باسم حركة قضاة من أجل مصر المستشار وليد شرابي، وعضوها عماد أبو هاشم للتقاعد بدعوى اشتغالهما بالسياسة.(9)

القضاة في مصر

أما رموز تيار "استقلال القضاء" الذين شاركوا في اعتصام "استقلال القضاء" عام 2005، وكان لهم دور سياسي بارز في عهد مبارك ثم الفترة الانتقالية ثم حكم محمد مرسي، فقد تم عزل أغلبهم من القضاء والقبض على الباقين، فالمستشار زكريا عبد العزيز، الذي قد استعان به المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمنع الجماهير الغاضبة من اجتياح مقر جهاز مباحث أمن الدولة بحسب شهادة الناشط السياسي مصطفى النجار، تم إحالته إلى مجلس التأديب بعد 2013 بتهمة المشاركة والتحريض على اقتحام مقر مباحث أمن الدولة، وأصدر مجلس التأديب الأعلى قرارا بإحالته للتقاعد بعد محاكمة صورية افتقدت كل معايير الحياد والنزاهة حُرم خلالها عبد العزيز من حق الدفاع عن نفسه أو حتى حضور بعض الجلسات التي لم يُخطر بها، وحُرم كذلك من حقه بالطعن بالنقض في حكم عزله.(10)

أما المستشارمحمد ناجي دربالة، الذي لعب دورا بارزا في لجنة وضع الدستور في عام 2012، وحافظ على استقلال القضاء داخل الدستور، وشارك في القضاء على ازدواجية محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، بل عمل على إعطاء محكمة النقض الكلمة الفصل في الأحكام الصادرة من المحاكم العسكرية، وهو التوجه الذي عرقلته إطاحة الجيش بالرئيس المعزول محمد مرسي، تم إحالته لمجلس التأديب والصلاحية، وهو ما انتهى بعزل دربالة من منصبه القضائي.(10)

وحُرم دربالة من خلال إحالته لمجلس التأديب من كافة حقوقه القضائية في الدفاع عن نفسه، ولم تسمح له هيئة المجلس بالمرافعة عن نفسه وإبداء الدفوع، وبل قام رئيس محكمة النقض بإصدار بيان يُبرر به قرار العزل ضد دربالة بأسباب أجمع الرأي العام على تهافتها، منها حصول دربالة على عضوية الجمعية التأسيسية بدون موافقة مجلس القضاء الأعلى، رغم أن رئيس الجمعية التأسيسية المستشار حسام الغرياني كان هو نفسه رئيس مجلس القضاء الأعلى.(10)

أما المستشار محمود الخضيري، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، فقد واجه الحبس الاحتياطي نهاية عام 2013 لاتهامه بالتورط في تعذيب أحد المحامين في إحدى شركات السياحة بميدان التحرير خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير! الذي يُعد الخضيرى من أبرز رموزها، حيث شارك فيها بقوة من يومها الأول، بل إن كثيرا من المراقبين يعتبرون أن حبسه جاء انتقاما من دوره في حملة استقلال القضاة ومشاركته في ثورة الخامس والعشرين من يناير، خصوصا أن الخضيري أمضى العقوبة في قضية "الاعتداء على محام، إلا أن السلطة ترفض بشكل متبجّح إطلاق سراحه".(10)

وفي عام 2015 عندما صرّح المستشار هشام جنينة أن حجم الفساد في مصر قد بلغ ما يقرب من 600 مليار جنيه، شكّلت القيادة السياسية لجنة وُصفت بـ "المستقلة" لمناقشة تصريحات جنينة ضمّت جميع خصوم جنينة وانتهت إلى إدانته على استحياء، وبعدها أصدرت نيابة أمن الدولة العليا بيانا اتخذته القيادة السياسية غطاء لإقالة جنينة.(10)

لكن بعد تلويح جنينة بأن لديه مستندات عن المتورطين بالفساد في مصر، وبعد انضمامه للحملة الانتخابية للمرشح المستبعد سامي عنان، اعتقلت السلطات المصرية جنينة واقتادته لمكان غير معلوم. ثم مؤخرا تم اعتقال المستشار أحمد سليمان، وبعدما أبعد السيسي أي قاضٍ شريف أو معارض أو حتى مستقل، أعطى الضوء الأخضر لحاشيته وجلّاديه في القضاء بممارسة العنف والقتل البطيء والإعدامات والمذابح باسم القانون.

عنوان ميدان

على الجانب الآخر، تصرف السيسي منذ الانقلاب كحاكم عسكري، فتدخّل في عمل النائب العام والقضاء فضلا عن الشرطة، فجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في يده، وحث القضاة على إصدار قوانين تستهدف خصومه جميعا، والتي خرجت تحت إشراف المستشار عدلي منصور، ومنها تحرير محكمتي النقض والجنايات من قيود مدة الحبس الاحتياطي للمتهم إذا تعلق الأمر بعقوبة الإعدام أو المؤبد، أي عدم وجود سقف زمني أقصى لتنفيذ الحكم، وهو ما يعطي الجلادين الفترة الكافية لممارسة القمع والتعذيب وتلفيق التهم، كما وُضعت الأطر القانونية للمحاكمات العسكرية للمدنيين، مما أتاح للمحاكم العسكرية محاكمة المدنيين في تهم تقع في صميم اختصاص القضاء المدني.(11)

 

وفي سنة 2014 أصدر السيسي قانونا بإشراك القوات المسلحة في حماية المنشآت الحكومية، ثم أصدر تعليماته إلى النائب العام المقتول في عام 2015 "هشام بركات" ليستعين بذلك القانون لإحالة أكبر عدد من المعتقلين منذ 2011 إلى القضاء العسكري بأثر رجعي، رغم أن قضاياهم قد نظر فيها القضاء المدني سابقا، فتحوّلت مصر إلى ثكنة عسكرية كبيرة.(11)

واستتب الأمر كله للسلطة العسكرية في مصر، حيث تحصّنت السلطة خلف ترسانة منيعة من التشريعات، والتي أتاحت لها انتهاك أي قانون أو عُرف دستوري والاعتداء على جميع الحقوق والحريات، وقد حصل قانون العقوبات والإجراءات على نصيب الأسد من تلك التشريعات، ومنها على سبيل المثال القانون رقم 10 لسنة 2014 الذي يُجرّم تجمّع أكثر من خمسة أشخاص، وقانون الإرهاب والمواد التي تعطي النيابة العامة سلطات قاضي التحقيق، والجمع بين سلطتي الاتهام والتخفيف في يد النيابة العامة، وقد امتد هذا الأمر إلى كافة نواحي تنظيم الحياة العامة وعلاقتها بالمواطن، مثل قانون النقابات المهنية، وقانون الجمعيات الأهلية، وقانون الجمعيات التعاونية، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون الأحزاب، وغيرها من القوانين التي شرعنت الاستبداد العسكري للنظام الجديد.(11)

واستأثر السيسي حتى تاريخ انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري في أواخر سنة 2015 بسلطة التشريع التي مارسها بدون قيد أو شرط، بعدما شكّل لجنة لإعداد القوانين التي يُصدرها باسم "الإصلاح التشريعي"، وامتازت الفترة التي قضاها السيسي بكثرة القرارات التي أصدرها، وكثير من هذه القرارات كانت ذات طبيعة تشريعية، على الرغم من أن المادة 156 من الدستور المصري الجديد الصادر في 18 يناير/كانون الثاني 2014 تشترط أن "يحدث ما يُوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير" لكي لا يتدخل رئيس الجمهورية لإصدار قوانين و"ممارسة السلطة التشريعية في غياب البرلمان"، إلا أن هذا النص لم يمنع السيسي أو منصور من قبله من الإسراف في استخدام السلطة التشريعية الاستثنائية المؤقتة، وإصدار قوانين جديدة وتعديل قوانين قائمة في العديد من الموضوعات التي تمس أوضاعا قائمة ومستقرة تخص جميع المؤسسات والجمعيات والنقابات القائمة.(11)

وقد أصدر السيسي في ستة الأشهر الأولى من حكمه 180 قانونا، معظمها قوانين روتينية بضبط موازنات الهيئات المختلفة، ومنها 36 تشريعا قانونيا وتنقسم إلى: 26 تعديلا على قوانين قائمة، و10 قوانين جديدة، و8 قوانين لها علاقة بالقوات المسلحة، أي بمعدل تشريع كل خمسة أيام تقريبا، ويُعد هذا العدد من التشريعات نصف ما أصدره منصور والذي بلغ 72 من إجمالي 147 قانونا، بينما كان محمد مرسي قد أصدر في عام حكمه 47 تشريعا فقط، لأن مجلس الشورى كان السلطة التشريعية الحقيقة منذ ديسمبر/كانون الأول 2012 وحتى عزله في 3 يوليو/تموز 2013، أي لأكثر من نصف فترة حكمه، ورغم ذلك قامت عليه الدنيا ولم تقعد.(11)

كما بلغت القرارات والقوانين المخالفة للحقوق والحريات التي تم إقرارها ونشرها في الجريدة الرسمية 232 منذ يونيو/حزيران 2014 وحتى نهاية مايو/أيار 2015، 70 من هذه القرارات والقوانين صدرت عن رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه، و99 قرارا صدر عن وزير الداخلية، بينما صدر 63 قرارا عن وزير العدل، أما النيابة العامة فقد صدر عنها قانون واحد.(11)

ثم ظهر قانون "الكيانات الإرهابية" الذي أصدره السيسي في 24 فبراير/شباط عام 2015 وتضمّن تعريفا للكيان الإرهابي والشخص "الإرهابي"، وعلى أثر ذلك القانون أنشأ السيسي دوائر خاصة ومحاكمات استثنائية أشرف عليها مجموعة من القضاة المتهمين بانتمائهم لنظام مبارك ومتهمين في قضايا فساد، فأصدروا أحكاما غير مسبوقة في شدتها دون أدلة قضائية، "مما جعل ميزان العدالة يختل للأبد، فرأينا قضاة يُصدرون أحكاما بالإعدام للمئات دون سماع الدفاع، وبعضهم يُصدر أحكاما قاسية على شباب وأطفال بتهمة التظاهر، ولم يقتصر الأمر على الإخوان ومناصريهم، بل امتد ليشمل قيادات 6 أبريل/نيسان والكثير من نشطاء 25 يناير مثل أحمد ماهر وعلاء عبد الفتاح".(11)

وفي 15 أغسطس/آب 2015 أقر السيسي مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" الذي نُشر في الجريدة الرسمية وبدأ تطبيقه في 16 أغسطس/آب 2015، وجاء هذا القانون باعتباره مكملا لقانون "الكيانات الإرهابية"، وينص القانون ضمن مواده على إنشاء محاكم متخصصة للنظر في جرائم ما يُوصف بالإرهاب بدلا من الدوائر القضائية الطبيعية، وينص على عقوبة الإعدام لمن يتزعّم جماعة إرهابية أو يُموّل أعمالا إرهابية. كما أنه يُعاقب في المادة 35 أي صحفي قام بنشر "أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع" بغرامة تتراوح بين 200 إلى 500 ألف جنيه مصري. أما المادة 29 منه فتنص على عقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمسة أعوام لكل من أنشأ أو استخدم موقعا إلكترونيا بغرض الترويج للأفكار أو المعتقدات الداعية إلى ارتكاب أعمال إرهابية.(11) حتى جاء قانون السلطة القضائية الجديد في 2017 ليُقنّن كل هذا العبث القضائي في مصر.

عنوان ميدان

في بداية عام 2017 أعلن مجلس النواب المصري عن مناقشة مقترح قانون جديد للسلطة القضائية، الأمر الذي أثار اعتراضات وجدلا واسعا من جانب القضاة وبعض القوى السياسية وعديد من منظمات المجتمع المدني في مصر، تركز أغلبها حول أن ذلك القانون "من شأنه تقويض استقلال القضاء بشكل كلي والسيطرة على قياداته من خلال التحكم بعملية تعيينهم، فضلا عن إهداره للمبدأ التاريخي المستقر عند القضاء المصري وهو مبدأ الأقدمية، ذلك المبدأ الذي كان يضمن ابتعاد القضاة عن التحزب واحتكامهم إلى معيار جامد بشأن الترقيات والتعيينات للمناصب العليا. أخيرا، فإن تطبيق هذا القانون من شأنه إثارة الحساسيات بين قضاة المناصب العليا، من خلال تخطي أحدهم في الاختيار وبالتالي خلق مساحات للتحزب ونشوء مجموعات قضائية لدعم بعض الأسماء في مقابل البعض الآخر، وهو الأمر الغريب تماما عن طبيعة الجسد القضائي المصري".(12)

رغم أن السلطة العسكرية قد دشّنت هذا الأمر منذ عام 2014 بإنشائها "الدوائر القضائية الخاصة" التي عملت على تقريب عدد معين من القضاة وتوليهم أغلب القضايا السياسية والمهمة التي أصدروا فيها أحكاما غير مسبوقة بالمؤبدات والإعدام، حيث يختار رئيس المحكمة الاستئنافية في كل جهة، الذي بدوره يعيّنه مجلس القضاء الأعلى، القضاة المعيَّنين في هذه المحاكم الذين شكّلوا أداة عقاب في يد السيسي(13)، أي إن هذا الاعتراض أتى متأخرا جدا وبلا طائل!

وبعد أربعة أشهر من السجال بين القضاة والبرلمان صدّق السيسي على مشروع تعديل قانون الهيئات القضائية بعد موافقة مجلس النواب له بأربعة وعشرين ساعة فقط، متجاهلا رأي القضاة الذين رفضوا ذلك القانون الذي يُغيّر مبدأ "الأقدمية" لأول مرة في تاريخ القضاء المصري الطويل.(14)

وعلى الفور طُبّق القانون الجديد بخروج رئيس محكمة النقض للمعاش. فرشّح مجلس القضاء الأعلى أقدم ثلاثة نواب من أعضائه، أي إن مجلس القضاء الأعلى استمر في تطبيق قاعدة الأقدمية. واختار السيسي رئيسا جديدا لمحكمة النقض من بين الأسماء الثلاثة، إلا أنه اختار النائب الثاني للرئيس ومن ثم خرج رئيس الجمهورية، لأول مرة في تاريخ القضاء المصري، عن تقليد الأقدمية بتجاوزه للنائب الأول لرئيس محكمة النقض، القاضي أنس عمارة، مستعملا الصلاحية التي منحه إياها القانون رقم 13 للعام 2017.(14)

وتجدد الأمر نفسه مع مجلس الدولة، حيث خرج رئيسه للمعاش في يونيو/حزيران من العام نفسه، غير أن رد فعل قضاة مجلس الدولة في مجموعه كان الأكثر رفضا لهذا القانون، وقد ظهر ذلك الرفض جليا حينما اجتمعت الجمعية العمومية لمجلس الدولة، في 13 مايو/أيار 2017، لتختار ثلاثة مرشحين -تنفيذا للقانون المعتاد- تُرسل أسماءهم إلى رئيس الجمهورية.(14)

فقدّمت الجمعية العمومية اسما واحدا فقط، وهو النائب الأول لرئيس مجلس الدولة الذي "يجب أن يشغل مقعد رئيس مجلس الدولة طبقا لقاعدة الأقدمية". حيث مثّل ذلك صداما مع السلطة وتحدّيا لها رد عليه رئيس الجمهورية بتعيين القاضي الرابع في الترتيب من حيث الأقدمية، القاضي أحمد أبو العزم، متجاوزا بذلك ترشيح الجمعية العمومية لمجلس الدولة القاضي يحيى الدكروري، ومتخطيا القضاة الثلاثة الأقدم بتعيينه للرئيس الجديد.(14)

القاضي أحمد أبو العزم مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي (رويترز)
القاضي أحمد أبو العزم مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي (رويترز)

خاصة أن الدكروري قد أصدر عددا من الأحكام القضائية التي يمكن النظر إليها على أنها مناوئة للنظام السياسي. أهم هذه الأحكام ما صدر في 21 يونيو/حزيران من العام 2016 ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية الخاصة بجزيرتَيْ تيران وصنافير ومن ثم استمرار السيادة المصرية عليهما، حيث كان القاضي يحيى دكروري رئيس محكمة القضاء الإداري التي أصدرت هذا الحكم. كما أن هذا الحكم القضائي كان قد سبقه بأسابيع قليلة تصريح من رئيس الجمهورية المصري يطلب بموجبه -من الجميع داخل مصر- عدم الحديث عن موضوع الجزيرتين مجددا، بما معناه أن نقل السيادة عليهما إلى السعودية قد حُسِم.(14)

لكن أخطر ما جاء في القانون الجديد على الإطلاق هي المواد المتعلقة بالقضايا الجنائية بالمادتين (277 و289) بشأن سماع الشهود خلال جلسات المحاكمة، والتي وصفها البعض بـ "المخلة بعدالة إجراءات التقاضي". حيث نصّت المادة 277 بعد التعديل على: "…تقرر المحكمة من ترى لزوم شهادة أي منهم"، مما يعني أن المحكمة من حقها أن تختار من يأتي للشهادة ومن لا يأتي، وبات لها حرية الاختيار في ذلك، ورغم رفض تشريع مجلس الدولة لهذا التعديل أكثر من مرة فإنه تم تجاهل رأيهم.(15)

أما المادة رقم 289 بعد التعديل فقد نصّت على: "للمحكمة أن تقرر تلاوة الشهادة التي أبديت في التحقيق الابتدائي أو في محضر جمع الاستدلالات أو أمام الخبير، إذا تعذر سماع الشاهد لأي سبب من الأسباب"، مع حذف الفقرة الأخيرة من المادة والتي كانت تنص على: "شرط قبول المتهم أو دفاعه للاستغناء عن الشاهد"، مما يعني أن المحكمة أصبحت الوحيدة المتمكّنة من استدعاء الشهود لسماعهم، ويمكنها في حالة تعذر حضور شاهد أن يتم تلاوة شهادته في التحقيقات دون إذن المتهم ودفاعه.(15)

القضاة في مصر

ومن ثم فإن مثل هذه التعديلات "تخل بحق المدانين والمتهمين في الحصول على محاكمة عادلة، إذ إنها قد تحرمهم من الاستعانة بالشهود، وفي الوقت نفسه ربما تفرض عليهم شهودا رغما عنهم وفق ما تراه المحكمة وهيئتها الموقرة حسبما نصت التعديلات". الأمر الذي جعل رئيس نادي قضاة مصر يقول عن قانون السلطة القضائية الجديد إنه "إعلان بوفاة استقلال القضاء في مصر وانتهاء الحريات"! (16)

وفي حين تنتظر الدولة تعديلات دستورية جديدة سيقررها الجنرال السيسي يُتوقع أن تعطيه مزيدا من السلطات التي يمتلكها بالفعل ويطيل مدة توليه الرئاسة التي لن يتركها من الأصل، فإن القانون والعدالة والقضاء والدستور والمؤسسات كلها مصطلحات جوفاء بلا معنى، تئن مع عشرات الآلاف من المعتقلين خلف قضبان السجون.

المصدر : الجزيرة