شعار قسم ميدان

نفق لبنان المظلم.. هل بات اقتصاد البلاد رهينة ثنائية الفساد وحزب الله؟

ميدان - البنك المركزي لبنان

تعاني الدولة اللبنانية من أزمات اقتصادية ومالية تجعلها عرضة لاهتزازات بنيوية داخلية خطيرة. وتترافق هذه الأزمات مع محيط مشتعل ما بين حروب مدمرة وصراعات عسكرية وعقوبات اقتصادية؛ الأمر الذي يجعل الكيان اللبناني بصيغته الحالية عرضة للتأثر بارتدادات التحولات في المنطقة بأكملها. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الأزمة الاقتصادية في لبنان هي وليدة أسباب آنية ومرحلية، فالانكماش الاقتصادي وارتفاع الدَّيْن العام والعجز المالي هو نتاج تراكمات لنظام سياسي يحمل في طياته بذور التناقضات والصراعات، ولنهج اقتصادي ريعي غير منتج تمتد جذوره منذ نشأة الجمهورية اللبنانية. وقد أسهمت الأحداث في سوريا، في العام 2011، في كشف هشاشة واهتراء الوضع الداخلي اللبناني بفُسيفسائه الطائفية والمذهبية، وأظهرت فشل النموذج الاقتصادي اللبناني في مواجهة التحديات بل وفي الوقاية من الأزمات.

  

واليوم تبدي الطبقة السياسية اللبنانية أنها تعي خطورة المرحلة وتداعياتها وتحاول تفادي الوصول إلى الانهيار، خاصة بعد التصنيفات من وكالات التصنيف الدولية: فيتش التي خفضت تصنيف لبنان إلى CCC، وموديز فكان تصنيفها بمستوى C، وبانتظار ستاندرد آند بورز والتي يعتبر تصنيفها بمنزلة الإنذار الأخير وستكون له انعكاسات سلبية على المالية العامة وعلى سعر الليرة. والتصنيف المنخفض يعني انعدام الثقة بسندات الخزينة اللبنانية وبقدرة الدولة على سداد مستحقاتها المالية ما يُحدث مزيدًا من ارتفاع الفوائد وبالتالي ارتفاع كلفة الدين العام، وأيضًا مزيدًا من الضغط على الليرة اللبنانية.

  

وإذ تعالج الورقة الأزمة الاقتصادية فإنها تطرح أهم الأسئلة المتصلة بها: ما واقع الأزمة الاقتصادية والوضع المالي؟ هل ستنجح الخطط والمقاربات الرسمية في معالجتها؟ وكيف ستكون تداعيات الأزمة الاقتصادية على المشهد السياسي الداخلي؟

  

واقع الأزمة الاقتصادية

undefined

  

لم يتجاوز نمو إجمالي الناتج المحلي في لبنان، بحسب البنك الدولي، 0.2% في عام 2018، وارتفع معدل التضخم في العام نفسه ليبلغ في المتوسط 6.1%. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض النمو نحو 0.3% في العام الماضي (2018) تأثرًا بانخفاض مستوى الثقة، وارتفاع عدم اليقين، وتشديد السياسة النقدية، والانكماش الكبير في قطاع العقارات. وارتفع في نفس العام عجز الحساب الجاري إلى أكثر من 25% من إجمالي الناتج المحلي بسبب اقتران النمو المنخفض للصادرات مع ارتفاع واردات المحروقات، وتراجع صافي تحويلات العاملين في الخارج إلى لبنان.

  

وصرَّح حاكم مصرف لبنان لرويترز على هامش مؤتمر "يوروموني"، في25 يونيو/حزيران 2019، في بيروت، أن معدل النمو في البلاد بلغ صفرًا بالمئة منذ بداية 2019. ولكن في حقيقة الأمر، وبحسب المعطيات الاقتصادية، فإن النمو الاقتصادي الحقيقي قد يصبح سلبيًّا. وهنا تكمن مكامن الخلل الحقيقي وهو في حجم الاقتصاد الصغير الذي لا يتناسب مع متطلبات الناس، وفي معدلات النمو الاقتصادي المنخفضة أو السلبية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على حياة الناس وحاجاتهم اليومية ومستوى معيشتهم حيث تزداد معدلات البطالة وتقل الاستثمارات وتزداد الحاجة إلى الاستيراد ويزداد الطلب على الدولار.

  

وبحسب البنك الدولي، فإن محركات الاقتصاد اللبناني المتمثلة بالقطاعات الثلاث -العقارات والبناء، والتمويل، والسياحة- ما زالت بطيئة بسبب الأزمة السورية منذ العام 2011. ولا تتعدى مساهمة القطاعات المنتجة من الناتج المحلي الإجمالي الـ14%، ويعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على الاستهلاك؛ إذ بلغ متوسط الاستهلاك الخاص 88.4% من الناتج المحلي خلال الفترة 2004-2016. ولا تنتج القطاعات الرئيسية (العقارات، والتجارة، والإدارة العامة، ..إلخ) البضائع الاستهلاكية المطلوبة؛ إذ يتم استيراد الجزء الأكبر منها، في حين تتركز الاستثمارات الإجمالية بنسبة 23% من الناتج المحلي الإجمالي في قطاع العقارات غير المنتج والريعي، وهذا الأخير يشهد تراجعًا ما ينذر بتفاقم أزمة البطالة على اعتبار أن هذا القطاع يؤمِّن واحدة من أصل كل عشر وظائف بالبلاد. 

  

undefined

   

وازداد عجز الميزان التجاري، 8431 مليون دولار في النصف الأول من العام 2019. وهذا يعني أننا نأكل مما نستورد أكثر مما ننتج. وسجَّل ميزان المدفوعات عجزًا تراكميًّا كبيرًا لغاية يونيو/حزيران 2019 وصلت قيمته إلى 5.4 مليارات دولار. كما سجَّل ميزان المدفوعات عجوزات متتالية بين يونيو/حزيران 2018 ومايو/أيار 2019، بلغ مجموعها التراكمي أكثر من 10.4 مليارات دولار، ولم تعد الدولارات التي يحصل عليها لبنان كافية لتسديد ما يتوجب عليه للخارج، وبلغت العجوزات التراكمية حتى الآن 18351 مليون دولار، وهذا يعني استنزافًا متواصلًا لصافي الأصول الأجنبية في لبنان، التي يعد حجمها واستقرارها والقدرة على التحكم بها من الشروط الأساسية لتثبيت سعر صرف الليرة الاسمي إزاء الدولار، فأحدث هذا العجز مزيدًا من الطلب على الدولار وتهديدًا لاستقرار سعر الليرة. وفضلًا عمَّا سبق فقد تدهورت في الآونة الأخيرة بيئة الأعمال بشكل عام مع تراجع لبنان 46 رتبة خلال 10 سنوات من حيث البنية التحتية؛ إذ هي دون المستوى وتبلغ المرتبة 113 بين 137 دولة.

   

الواقع المالي المأزوم

تدهور وضع المالية العامة تدهورًا حادًّا عام 2018، واتسع عجز الموازنة العامة ليصل إلى 11.5% من إجمالي الناتج المحلي، وبلغ الدَّيْن العام 085.3 مليار دولار في نهاية يناير/كانون الثاني 2019، ووصل إلى 85.7 مليار دولار في نهاية يونيو/حزيران 2019، أما خدمة الدَّيْن العام بالنسبة إلى المدفوعات الإجمالية فقد بلغت في مايو/أيار 2019 حوالي 34.3%. وتُقدَّر كلفة خدمة هذا الدين أو ما يعرف بالفوائد حوالي 8312 مليار ليرة لبنانية أي حوالي 5.51 مليارات دولار في قانون موازنة العام 2019، وهو يستنزف حوالي 44.2% من الإيرادات العامة. يُعتبر ارتفاع الدين العام والعجز المالي ونسبتهما إلى الناتج المحلي من أخطر ما تعانيه المالية العامة في لبنان، وما يستتبعه من تداعيات اجتماعية ومعيشية خطيرة تُرهق المواطن اللبناني بالضرائب والرسوم المرتفعة وسياسة التقشف كما هو مطروح حاليًّا، وهو انعكاس لحالة الفساد المستشرية في الدولة اللبنانية وإداراتها العامة.

  

المقاربات الرسمية لعلاج الأزمة

انطلاقًا من الواقع الاقتصادي والمالي المتردي، تداعت القوى السياسية اللبنانية بمختلف مشاربها وتوجهاتها إلى اجتماع طارئ دعا إليه رئيس الجمهورية اللبنانية في قصر بعبدا (سميت الورقة باسمه، ورقة بعبدا)، في 2 سبتمبر/أيلول الجاري (2019)، لدرس ورقة اقتصادية إصلاحية تحت عنوان: " مقترحات إجراءات إصلاحية أولية لمواجهة الأزمة"، لتكون نواة لخطة إنقاذية مالية واقتصادية. وفي اليوم التالي، أعلن رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، أن لبنان سيعلن حالة طوارئ اقتصادية وبدأت الحكومة العمل على خطة لتسريع إصلاحات المالية العامة. وتراهن الحكومة كثيرًا، للخروج من عنق الزجاجة، على مؤتمر سيدر الذي عُقد في أبريل/نيسان 2018، وتعهد بموجبه المشاركون بتقديم 11 مليار و800 مليون دولار.

  

أ- ورقة بعبدا الاقتصادية

  

دعت الخطة الاقتصادية الإصلاحية إلى ضرورة الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، وتضمنت سياسات مالية واقتصادية واجتماعية، وإجراءات لمعالجة الخلل في الحساب الجاري الخارجي وبالتالي في ميزان المدفوعات، والخطة شاملة وتهدف لمعالجة جميع الأزمات، على الأقل كما تقدم نفسها.

   

دعت الخطة إلى التنسيق بين السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية لما فيه مصلحة الاقتصاد بشكل عام ودعم الإنتاج بشكل خاص، وأقرَّت بالانعكاس السلبي لارتفاع سعر الفائدة على خدمة الدَّيْن العام وعلى الاقتصاد والاستثمار، وتحولت المقاربة في سعر الصرف إلى "حماية الليرة بالإنتاج لا بالدَّيْن". ولحظت الخطة إجراءات وأهدافًا تدخل في التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية المستدامة؛ حيث تسعى إلى بناء "نموذج اقتصادي مؤنسن"، مع الحرص على حماية البيئة وتكريس احترامها عبر فرض ضرائب أرباح مرتفعة على الامتيازات والأنشطة المضرة بالبيئة، واقتراح خطة مستدامة لإدارة النفايات الصلبة، وزيادة الرسوم على السجائر، وإعادة النظر بتخمين الأملاك العمومية البحرية وتحصيل أموالها وإخضاعها للضريبة على الأملاك المبنية.

  

وبالرغم من إيجابيات هذه الخطة واعتراف السلطة السياسية لأول مرة في التاريخ اللبناني بفشل النموذج الاقتصادي الريعي المعتمد، إلا أن العبرة الأولى والأخيرة بالتنفيذ إذ يُخشى أن تكون هذه الخطة هي وثيقة رسمية فحسب تُقدَّم للدول المانحة في مؤتمر سيدر للحصول على الأموال الموعودة. بالإضافة إلى أن هذه الخطة تتضمن فرض ضرائب ورسوم جديدة تتحمل عبئها الطبقة الفقيرة بالدرجة الأولى، وبعضها يُحبط الاستثمارات وبالتالي يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي.

  

ب- مؤتمر سيدر:

  

قدمت الحكومة في مؤتمر سيدر خطة اقتصادية تسمى "البرنامج الاستثماري الوطني للبنية التحتية"، تضمنت مشاريع في 8 قطاعات، وهي: النقل، والري والمياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، والنفايات الصلبة، والتراث الثقافي، والمناطق الصناعية. أما مؤتمر سيدر فإنه قام على الركائز التالية: 

 

أولًا: برنامج إنفاق استثماري بالبنى التحتية.

ثانيًا: إصلاح مالي بمعدل واحد بالمئة سنويًّا.

ثالثًا: إصلاحات هيكلية لتحديث الإدارة ومكافحة الفساد وتحديث التشريعات لعمل القطاع الخاص، وإصلاحات قطاعية لتحقيق الفائدة القصوى من الاستثمارات بالقطاعات.

رابعًا: استراتيجية لتطوير القطاعات الإنتاجية وزيادة حجم الصادرات.

 

تبلغ قيمة البرنامج الإجمالية نحو 23 مليار دولار، ينفذ على ثلاث دورات، تمتد الواحدة أربع سنوات (مبدئيًّا). الدورة الأولى قيمتها حوالي 11 مليارًا، والثانية 6.5 مليارات، والثالثة 5.5 مليارات. تقتصر تعهدات سيدر على المرحلة الأولى فقط. يتلازم تقديم هذا البرنامج مع التزام الحكومة اللبنانية بتنفيذ عدد من الإجراءات والإصلاحات تتقاطع مع مطالب الجهات المانحة المزمنة.

   

لا شك في أن تنفيذ مقررات وإصلاحات مؤتمر سيدر سوف يكون له الأثر الإيجابي الفعال على النهوض بالاقتصاد اللبناني وتحفيز النمو عبر توفير البيئة المناسبة للاستثمارات ويزيد من التنافسية الاقتصادية، وما للأمر أيضًا من تأمين فرص عمل وبالتالي مكافحة البطالة والتخفيف من حدة الفقر وتحسين مستوى المعيشة. ومن إيجابيات هذا المؤتمر، حالة التضامن الدولي مع لبنان والوقوف إلى جانبه لمساعدته في أزماته. ولكن المشكلة دائمًا هي تكريس حالة من التبعية بين الممول والمقترض التي يفرزها هذا النوع من المؤتمرات والقروض القادمة منه، ويُخشى أيضًا من أن يقوم بعض القيمين على هذه الأموال "بسرقة" بعضٍ منها كما جرت العادة في المشاريع السابقة. لذلك، سيقوم المبعوث الفرنسي، دوكان، بالإشراف شخصيًّا على مشاريع سيدر.

  

والأخطر من ذلك كله الخوف من أن يكون هذا البرنامج تكريسًا للجوء السوري في لبنان كحالة أصيلة لا علاج لها، أقله على المدى المنظور. فإذا غُصنا في البرنامج المقترح في مؤتمر سيدر، نجد في مقدمته وفي بداية الصفحة الأولى الحديث عن اندلاع الأزمة السورية وعن توافد حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري إلى لبنان في الفترة 2011- 2017. بل وفي بداية الحديث عن الأسباب الموجِبة لمشاريع مؤتمر سيدر تكرر ذكر اللجوء السوري، وتجد أيضًا في بداية ذكر المشاريع اللازمة لتطوير كل قطاع من القطاعات الثمانية الواردة أعلاه أيضًا نفس الحديث عن اللجوء السوري.

  

ت- خطة ماكينزي:

  

كلَّفت الحكومة اللبنانية الشركة العالمية "ماكينزي" بإعداد خطة اقتصادية، بقيمة مليون و300 ألف دولار. ووفق وزير الاقتصاد السابق، فإن الدراسة "تبحث معمقًا في القطاعات الإنتاجية القادرة على خلق فرص العمل". وقد أصدرت الشركة في يوليو/تموز 2018، دراسة "الخطة الاقتصادية للنهوض". تركز الخطة على تنمية وتطوير 6 قطاعات أساسية: الصناعة، والزراعة، والسياحة، والقطاع المالي، واقتصاد المعرفة، وقطاع الانتشار.

  

تهدف الخطة إلى زيادة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي من 1.6 مليار دولار عام 2017 إلى 2.2 مليار عام 2025، ورفع حصة الصناعة من الناتج المحلي من 4.6 مليارات دولار عام 2017 إلى 8 مليارات دولار عام 2025. وتتوقع الدراسة أن تؤدي توصياتها للقطاع المالي إلى رفع حصته من الناتج المحلي من 4.8 مليارات دولار عام 2017 إلى 7.8 مليارات دولار عام 2025. وتقترح الدراسة التحول إلى اقتصاد رقمي عالي الإنتاجية ورائد في مجال الابتكار، بما يؤدي إلى رفع مساهمة هذا القطاع من الناتج المحلي من 1.4 مليار دولار إلى 3.8 مليارات دولار، ورفع عدد الوظائف فيه من 44 ألفًا إلى 105 آلاف وظيفة، ورفع عدد الشركات الناشئة من 200 إلى ألفي شركة. وتقترح تفعيل سياسة الهجرة وتفعيل نظام لتتبع المهاجرين ونسج علاقات متينة معهم.

    

تكمن أهمية هذه الخطة في أنها صادرة عن شركة عالمية وأنها قامت بوضعها بعيدًا عن الضغوطات أو المنافع السياسية وهي تلامس خصائص المجتمع اللبناني والموارد الداخلية ما يجعلها -إذا ما طُبِّقت- تُحدث تغييرًا جوهريًّا في بنية الاقتصاد اللبناني وامتلاكه مقومات ذاتية تحصنه في مواجهة الأزمات.

  

وفي المحصلة، ومهما تعددت الخطط العلاجية، فإنه تجب معالجة مكامن الخلل الأساسية، وهي الفساد وإهدار ونهب المال العام، والذي تناهز كلفته 5 مليارات دولار سنويًّا، وكذلك يتسبب في إهدار ما نسبته تقريبًا 45% من مداخيل الدولة و27% من الموازنة و10% من إجمالي الناتج المحلي ناهيك عن الخسائر غير المباشرة. لذلك، كان تأكيد من الرئيس الفرنسي، ماكرون، لرئيس الحكومة اللبنانية على ضرورة مكافحة الفساد، وطلب الفرنسيون منع رجال أعمال ومقاولين محسوبين على قوى سياسية من العمل في المشاريع المقبلة. وكذلك، تجب معالجة العجز الناجم عن مشكلة الكهرباء حيث تتجاوز الكلفة الإجمالية لاستهلاك الكهرباء في لبنان الـ3.35 مليارات دولار تتحمل منها خزينة الدولة 39%.

        

العقوبات الاقتصادية الأميركية لم تلق بظلالها على حزب الله وعلى بيئته فحسب، وإنما على الداخل اللبناني بمجمله؛ إذ أسهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية والمالية للبلد
العقوبات الاقتصادية الأميركية لم تلق بظلالها على حزب الله وعلى بيئته فحسب، وإنما على الداخل اللبناني بمجمله؛ إذ أسهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية والمالية للبلد
    
التداعيات على المشهد السياسي الداخلي

منذ اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، في العام 2005، ويشهد الداخل اللبناني انقسامات عمودية، ما بين قوى 8 و14 آذار، طبعت ولا تزال تطبع المشهد السياسي الداخلي. فانقلبت توترات ومشاكل داخلية عنيفة بدءًا من أحداث 7 مايو/أيار 2018 في بيروت، إلى جولات قتال في طرابلس العاصمة الثانية في لبنان (تكررت بتقطع بين 2008-2014) إلى اغتيالات وغيره من الأحداث. ومما زاد الطين بَلَّة الحروب الدامية في المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية. هذه التناقضات والاختلافات جعلت لبنان بيئة مهترئة وغير محصنة في مواجهة أية أزمة، بل على العكس أصبحت بيئة هي بحد ذاتها منتجة للأزمات.

  

تُوجت هذه الأزمات بالاستقالة الإجبارية لرئيس الحكومة، سعد الحريري، التي أعلنها من الرياض، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، مما دفع مصرف لبنان للقيام بهندسات مالية كبَّدت خزينة الدولة أكثر من 5 مليارات دولار في سبيل الحفاظ على سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية. واتبع المصرف المركزي سياسة رفع معدلات الفوائد للإبقاء على الاستقرار النقدي مما زاد من أعباء كلفة الدَّيْن العام، لأن الفوائد المرتفعة كانت عاملًا محبطًا للاستثمارات، خاصة إذا أُضيف إليها غياب الاستقرار السياسي، ليصبح الاقتصاد والسياسة في علاقة تبادلية يؤثر كل منهما على الآخر ويتأثر به.

  

وفي مايو/أيار 2018، دخل عامل جديد في حلبة الصراع الدولية وما له من ارتدادات لبنانية، هو نقض واشنطن للاتفاق النووي الإيراني والعقوبات الاقتصادية على إيران وأذرعها في المنطقة وفي مقدمتهم حزب الله، لاسيما أن هذا الأخير خرج قويًّا من الحرب الإسرائيلية على لبنان، في يوليو/تموز 2006، كما لم تضعفه الحرب السورية التي انخرط فيها منذ عام 2012. ومن الواضح أن العقوبات الاقتصادية لم تلق بظلالها على حزب الله وعلى بيئته فحسب، وإنما على الداخل اللبناني بمجمله؛ إذ أسهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية والمالية للبلد. هذا، وتهدف الولايات المتحدة من وراء العقوبات، إلى تحميل حزب الله مسؤولية الوضع الاقتصادي المتردي، محاولة بذلك -أولًا- سلخ بيئته عنه، وثانيًا، تأليب الداخل اللبناني وحتى بيئة حلفائه عليه. وهذا ما أكده مساعد وزير الخزانة الأميركية، مارشال بيلينغسلي، خلال زيارته إلى لبنان في 23 سبتمبر/أيلول: "إننا سنعاقب كل من يدعم "حزب الله" عينيًّا وبالأسلحة أو المال أو أي وسائل أخرى".

   

  

خاتمة ومآلات

لا يمكن إغفال واقع الأزمة الاقتصادية ولا وضع المالية العامة المتردي، ولكن العامل المستجد الذي يساهم مساهمة كبيرة في تأزيم الوضع وانزلاقه نحو الهاوية هو العقوبات، التي لا تمس حزب الله فحسب بل امتدت شظاياها لتطول القطاع المصرفي برمته، عصب الحياة الاقتصادية في لبنان. حيث ابتدأت بفرض العقوبات على "جمال ترست بنك"، وكشفت مصادر أن قرارًا أميركيًّا اتُّخذ بوضع 3 مصارف لبنانية على لائحة العقوبات، إلا أن المصادر لم تحدد توقيت صدور هذا القرار. وإذا ما استمر هذا المسار، فلا شيء يحول دون أن تتدحرج الأزمة نحو الانهيار، لاسيما أنه من المتوقع في فبراير/شباط المقبل (2020) أن تصدر وكالة ستاندرد آند بورز تقريرها المرتقب والذي سيكون خبرًا سيئًا على لبنان في حال تم تخفيض تصنيف لبنان الائتماني. هذا فضلًا عن انخفاض سعر الليرة أمام الدولار في السوق الموازي للمصارف، حيث تخطى الـ1625 ليرة للدولار الواحد بسبب شح الدولارات في القطاع المصرفي (مع أن السعر الرسمي 1507.5)، رغم كل محاولات مصرف لبنان لتجنُّب ذلك. 

  

يقف لبنان أمام سيناريوهات متعددة لحجم الانهيار: ما بين انهيار جزئي يتمثل بتدهور سعر الليرة وتوقف الدولة عن سداد مستحقاتها كليًّا أو جزئيًّا، أو انهيار كامل على الطريقة اليونانية، وهذا الأخير مستبعد بسبب عدة عوامل في طليعتها أزمة اللاجئين السوريين في لبنان والخوف من هجرتهم إلى أوروبا والإسلاموفوبيا، ولأن أكثر من 86% من الدَّيْن العام هو للمصارف اللبنانية وبسبب الموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان والتي بلغت 38.7 مليار دولار في نهاية أغسطس/آب 2019. والأطراف السياسية في البلاد تتجنب حدوث الانهيار كل بحسب مصلحته. فالتيار الوطني الحر لا يريد أن يُسجَّل على رئيس الجمهورية، ميشال عون، حدوث هذا الانهيار في عهده، وكذلك حزب الله الذي تشغله قضايا إقليمية ويحرص على عدم الانشغال بالقضايا الداخلية. والانهيار إن حدث يعني تقليص حجم ودور تيار المستقبل إذ ستتحمل الحريرية السياسية منذ بداية التسعينات وزر نهجها الاقتصادي الريعي والاستدانة في سبيل الإعمار.

  

لذلك، سيبقى المشهد السياسي الداخلي كما هو عليه الآن بانتظار الترتيبات الجديدة والتشكلات الناجمة عن مخاض المنطقة. وبدون أدنى شك ستنعكس تبدلات في موازين القوى الداخلية وحجمها في التأثير على الساحة الداخلية. وستنتهي مشهدية الانقسام القائم بين 8 و14 آذار وستنشأ تسويات جديدة وستتبدل التحالفات، والتي ستكون مرآة للتطورات في الميدانَين، السوري واليمني، ومرتبطة بمدى نجاعة العقوبات الأميركية وفعاليتها في تحقيق أهدافها المنشودة. وفي الوضع الاقتصادي، سيبقى لبنان معرضًا لخطر الانهيار ما لم يحدث تغيير جذري في بنية الاقتصاد الريعي وانتقاله نحو الاقتصاد الإنتاجي.

—————————————————————

هذا المقال مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات.

المصدر : الجزيرة