شعار قسم ميدان

الصعود غير المتوقع للصين.. هل اقتربت بكين من تسيُّد العالم؟

ميدان - الصين رئيس الصين

منذ نهاية الحرب الباردة، تنظر بكين إلى واشنطن باعتبارها منافسها الجيوسياسي الرئيس، ومع ذلك لم تنتبه واشنطن رسميا لهذه المنافسة الإستراتيجية إلا في الآونة الأخيرة. وفي الوقت الذي بدأت تتبدّى فيه طموحات الصين للمراقبين الأميركيين بشكل أكثر وضوحا، فإنهم قد بدؤوا أيضا يخطئون في تقدير التحديات التي تُشكّلها هذه الطموحات؛ فقد ركز الاختصاصيون في العلوم السياسية خلال مناقشتهم على "نظرية تحول القوة"، و"فخ ثوسيديدس"، كما لو أن الصين على وشك تخطّي الولايات المتحدة في الثروة والقوة، وأخذ مكانها على الساحة العالمية، بيد أن هذا الرأي به مُشكلتان متناقضتان.

 

أولاهما أنّ الصينيين أنفسهم لا يفهمون نهضتهم بهذه الطريقة. فعندما يدعو الرئيس الصيني شي جين بينغ الشعب الصيني إلى إدراك "أنّ تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية هو أعظم حلم لجميع الصينيين"، فهو بذلك يبلور الاعتقاد بأن الصين تستعيد ببساطة أهميتها السياسية والثقافية الطبيعية. فالصين ليست كألمانيا الاستعمارية حين قيل عنها بعد توحيدها إنها "تبحث عن مكان لها تحت الشمس"؛ بل هي تستعيد مكانتها اللائقة بوصفها هذه الشمس. أما المشكلة الثانية، فهي مسألة ما إذا كانت الصين ستتمكّن من تحقيق تلك النهضة في مواجهة ما يبدو ركودا اقتصاديا وانقسامات حزبية، وهي مسألة لا تزال مطروحة للنقاش.

 

إنّ "شي" أكثر قوة من أسلافه، لكن حكمه أكثر هشاشة وضعفا. لقد واجه الحزب الشيوعي الصيني منذ فترة طويلة أزمة تتعلق بالشرعية، بيد أن عملية التحول التي شهدتها الصين على يد شي، إلى دولة بوليسية متطورة، قد تعجّل من تداعيات هذه الأزمة، هذه العوامل مجتمعة تجعل الصين أكثر خطورة على المدى القصير، ولكن أيضا أقلّ قدرة على المنافسة على المدى البعيد، وهذا يعني أنّ جمهورية الصين الشعبية تدرك وجود فرصة لتحقيق "نهضة عظيمة"، على الرغم من أنها ستكون أقل قوة مما كان متوقعا. إذن، فمحاولة تقدير وضع الصين تقديرا صحيحا لا تؤدي إلى تقديرات بسيطة؛ ولذا سيتعيّن على واشنطن أن تتعامل مع الصين القوية والثرية، التي تشهد أيضا ركودا اقتصاديا محتملا واضمحلالا داخليا.

الرئيس الصيني شي جين بينج (وكالة الأناضول)
الرئيس الصيني شي جين بينج (وكالة الأناضول)

لا يبدو "شي" زعيما لدولة تُعاني من الاضمحلال السياسي أو الركود الاقتصادي؛ ففي عام 2012، بعد فترة وجيزة من توليه منصبَ الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني ورئاسة جمهورية الصين الشعبية، ألقى خطاب التجديد في معرض تاريخي داخل المتحف الوطني الصيني، في بكين.

 

سلّط المعرض المُسمّى بـ"الطريق نحو التجديد"، الضوءَ على "قرن الإذلال" الذي شهدته الصين، بداية من حروب الأفيون، وصولا إلى سقوط إمبراطورية تشينغ العظيمة في عام 1911. وأبرز المعرض سوء المعاملة التي تعرضت لها الصين على يد القوى الأجنبية، كما حمل رسالة أخرى مفادها أنّ الصين تتقدم نحو نهضة جديدة.

 

ذكَّر شي الحاضرين بأنّ الحزب الشيوعي الصيني كافح طويلا من أجل أن تستعيد الصين مركزها التاريخي في الشؤون الدولية، قائلا: "أمتنا أمة عظيمة، عانت كثيرا من المصاعب والمِحن التي لا توصف". وأردف: "ولكن الحزب الشيوعي واصل تقدّمه، وبالتالي فتح آفاقا جديدة تماما للتجديد العظيم للأمة الصينية".

 

كما تتمتع الصين بقوة هائلة. فقد طوّر جيش التحرير الشعبي الصيني قدراته بسرعة فائقة، متسبّبا في تغيير ميزان القوى في آسيا لصالحه. إذ يُقدّر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية أنه منذ عام 2014، أطلقت القوات البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي عددا من الغواصات والسفن الحربية، وسفن الحرب البرمائية، وفرق الإِغاثة العسكريَّة، يفوق العدد الإجمالي للسفن التي تخدم حاليا في القوات البحرية لكل من ألمانيا، والهند، وإسبانيا، وتايوان، والمملكة المتحدة. كما يفوق برنامجها لبناء السفن نظيره في الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى أنّ الصين تنفق مبالغ طائلة على التقنيات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي، والطائرات الأسرع من الصوت، والروبوتات، مما قد يُرجّح كفة طبيعة الحرب لصالحها. ما حققه جيش التحرير الشعبي منذ نهاية الحرب الباردة، سيُقارَن يوما ما بما حققته اليابان خلال فترة ميجي، الفترة الأولى من تاريخ اليابان المعاصر، في العقود التي سبقت انتصارها في الحرب الروسية اليابانية.

 

وفضلا عن ذلك، ربّما يكون حجم الصين وحده أمرا مثبطا لعزيمة البلدان الأصغر، حتى وإن لم تكن مبادراتها في مجال الجغرافيا الاقتصادية كبيرة كما تبدو. على سبيل المثال، لا تبدو مبادرة شي "حزام واحد، طريق واحد" هي النظام الجغرافي الاقتصادي الجديد الذي أراد أن يُنشئه.  ومع ذلك، بالنسبة للدول الأصغر والأقل تقدما التي ستستفيد، لا تزال تلك المبادرة واسعة النطاق. وما قد يبدو تافها من الناحية الاقتصادية بالنسبة للولايات المتحدة، لا يزال يحمل فوائد جيوسياسية عظيمة بالنسبة للصين.

 

وخلاصة القول إنه حتى الصين التي قد تبدو أضعف نسبيا مما يتصوره الكثيرون يُمكن أن تُغيّر الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية. وقد يُبطئ شي من نمو الصين بدرجة أكبر؛ إذ إنه سارع إلى إحداث تغيير سياسي في الصين أدّى إلى تركيز الحزب بشكل أكبر على اتباع سياسات "الحفاظ على الاستقرار"، وتقليل النمو.

 

ذلك التحوّل من الإصلاح والانفتاح إلى الحفاظ على الاستقرار يعود إلى ما قبل عهد شي، بدأ ذلك التحول بمجرد أن أنهى جيانغ زيمين وزو رونجي اللذان خلفا دينج شياو بينج عملهما في إصلاح الاقتصاد وضمان انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. في حين لم يستطع خلفاؤهما، "هو جينتاو" و"ون جيا باو"، الصمود أمام الهجمات على الإصلاح والانفتاح التي قادتها حركة اليسار الجديد، وهو ائتلاف من الماركسيين الرجعيين، والمحافظين من الحزب الشيوعي الصيني، وبدأ هو جينتاو في عكس مسار الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية. وقد سمح ذلك للقطاع الحكومي بإعادة تأكيد هيمنته على الاقتصاد الصيني.

"هو جينتاو" (إلى اليسار) و "ون جيا باو"( إلى اليمين) (رويترز)
"هو جينتاو" (إلى اليسار) و "ون جيا باو"( إلى اليمين) (رويترز)

مع ذلك، أخفى زخم الإصلاح والانفتاح التوقف الذي حدث في الإصلاحات، فقد نمت الصادرات بنسبة 30 % سنويا بين عامي 2001 و2006، في أعقاب انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وشهد الاقتصاد الصيني ازدهارا في الاستثمارات وقطاع العقارات والصناعات التحويلية، واحتاجت الصين إلى المزيد من السلع الأساسية لتغذية إستراتيجيتها الخاصة بالبناء والاستثمار الرامية إلى تحقيق النمو.

 

جعل هذا الازدهار الحاصل في أوائل الألفية الثانية الصينَ تبدو كما لو أنها صاعدة بلا هوادة، وأخذت تتفاخر بوجود قوة عاملة ضخمة، واستثمارات رأسمالية كبيرة، ومؤسسات عملاقة مملوكة للدولة تجوب الأرض بحثا عن الموارد، وتغزو الأسواق الغربية بالسلع الصينية. بيد أن ما غاب عن العديد من المراقبين حينها هو تراكمُ الديون الكبيرة في الصين، غالبا بسبب القروض المعدومة والاستثمارات غير المربحة. وهذا ما جعل الاقتصاد أكثر اعتمادا على الائتمان المحلي لتمويل الاستثمار، وعلى الاستهلاك الأجنبي لشراء السلع التي ينتجها الاستثمار المفرط الذي يعاني من سوء التخصيص.

 

لقد ازداد سوء النموذج الاقتصادي الجديد للصين، القائم على الإفراط في الاستثمار المموَّل من الديون، جرّاء الأزمة المالية العالمية عام 2008. في ذلك الوقت، اعتقد معظم المراقبين الأميركيين أن الصين على وشك أن تتفوق على الولايات المتحدة، ولكن غاب عنهم كيف كانت الصين مضطربة خلال هذه الأزمة؛ إذ جفّت أسواق صادراتها العالمية، فلجأت إلى الائتمان المحلي كإجراء لتحفيز النمو. وتراكمت على الصين المزيد من الديون من خلال برامج التحفيز الضخمة. ويبدو أن التجربة أقنعت قادة الصين بأن الوقت لم يعد في صالحهم، وأن عليهم تحقيق بعض المكاسب السريعة. ومنذ الأزمة المالية وما بعدها، لم يعكس إصرار الصين الثقة في مصيرها، بل بالأحرى الافتقار إلى الحد الأدنى من الأمان. وقد نمت مطامع الصين الإقليمية المدعومة بالقوة نتيجة الاضطرابات الاقتصادية، والانقسامات السياسية، وتطبيق سياسات الحفاظ على الاستقرار واسعة النطاق.

لم يرث شي اقتصادا ضعيفا فحسب، بل ورث أيضا نخبة سياسية ممزقة. فقد صاحب ظهوره باعتباره خليفة هو جينتاو في عام 2012 مواجهةَ الحزب الشيوعي الصيني لأحد أكبر أزماته السياسية. فقد قام بو شيلاي، الزعيم المؤثر لمقاطعة تشونغتشينغ، بمحاولة مستقلة لقيادة الحزب الشيوعي الصيني. وتحرك الحزب بسرعة للتخلص منه، ومعاقبة زوجته بتهمتي الفساد والقتل. وفي خضم هذه العملية، تكشّفت للرأي العام المستويات غير العادية من الفساد في المناصب العليا من الحزب الشيوعي الصيني.

 

تمثّل حل شي لمواجهة الأزمة الاقتصادية والسياسية المزدوجة في شنّ حملة شرسة لمكافحة الفساد، بهدف تطهير الكوادر بطريقة لم يسبق لها مثيل منذ ماو تسي تونغ، وقد عزّز تنظيمُ تلك الحملة من سياسات الحفاظ على الاستقرار. بدأت عملية إضفاء الطابع الأمني الجماعي للدولة الصينية في أواخر التسعينيات ومطلع العقد الأول من الألفيّة الثانية، حين أصبح الحزب الشيوعي الصيني أكثر اهتماما بتداعيات تغيّر الأنظمة في القوقاز والشرق الأوسط وصربيا والعراق وأفغانستان على مدة بقائه في الحكم. وكما يقول الباحث القانوني كارل مينزنر، شملت سياسات الحفاظ على الاستقرار "ازديادَ المكانة البيروقراطية للشرطة، وظهور الاستقرار الاجتماعي كعنصر أساسي في آليّات تقييم القيادات".

 

حوَّل شي حملتَه لمكافحة الفساد إلى أداة إضافية للسيطرة الاجتماعية والسياسية؛ إذ ذهبَ إلى أبعد من مجرّد استهداف القيادات ورجال الأعمال الفاسدين، ودعا إلى إجراء "تطهير شامل للتخلّص من ثلاثة أساليب عمل غير مرغوب فيها: الشكلانيّة (التمسك بالشكليّات)، والإجراءات البيروقراطية، والبذخ في الإنفاق". أدّى هذا إلى التوسع في تحديد أي من القيادات يُمكن أن "يُعاقَب"، غالبا بوسائل خارج نطاق القضاء. وأصبح لدى الموظفين الحزبيين والبيروقراطيين الآن كافة الدوافع لتجنب تطبيق السياسات، لأن أي إجراء يمكن تفسيره على أنه يتعارض مع قواعد "مكافحة الفساد".

اتسمت الحملة، بحكم طبيعتها، بالصبغة السياسية، لكونها تُدار من قِبل أعضاء الحزب ولا تخضع للمساءلة إلا من قِبَلهم. وقد أضفى شي الطابع المؤسسي على هذه السياسة الجديدة من خلال تعزيز اللجنة المركزية لفحص الانضباط، ووضع خلايا تأديبية في جميع أجهزة الحزب الوطنية والإقليمية. وبعد ذلك، نظّم الحزب عمليات التطهير الجماعية بقانون جديد للإشراف الوطني، يُعيِّن لجنة تتقلد مرتبة أعلى من المحكمة الشعبية العليا، وتُشرف على سلوك أكثر من 90 مليون عضو في الحزب الشيوعي الصيني، فضلا عن مُديري المؤسسات المملوكة للدولة، وعلى قطاع عريض من المؤسسات، من المستشفيات إلى المدارس.

 

سَنَّ شي أيضا قانونَ الأمن الوطني لسنة 2015 للتصدّي لما أسماه "أسوأ بيئة أمنية واجهتها الصين على الإطلاق". نظّم هذا القانون الجديد رؤيةَ شي الواسعة للغاية حيال الأمن، التي تشمل كلَّ شيء بداية من أعماق البحار مرورا بالإنترنت وصولا إلى الفضاء؛ إذ إنّها تدعو إلى "الهيمنة الأيديولوجية الراسخة" للحزب الشيوعي الصيني، وإلى مواصلة "تعزيز توجيه الرأي العام"، بالإضافة إلى "تطبيق الثقافة الاستثنائية للقوميّة الصينية".

 

كما سَنَّ الحزب الشيوعي الصيني "مذكرة مجلس الدولة المتعلقة بإصدار ملخّص تخطيط إنشاء نظام ائتمان اجتماعي". بموجب هذه المذكرة، تُنشَأ قاعدة بيانات شاملة لجميع المواطنين الصينيين، بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها من أدوات التكنولوجيا المتطورة، وتقوم بتصنيفهم بناء على ولائهم للحزب الشيوعي الصيني. سيؤثر هذا النظام على طلبات الناس للالتحاق بالمدارس والوظائف، وعلى إمكانية حصولهم على السكن والقروض المصرفية.

زادت تلك التنظيمات السياسية والمؤسسية الجديدة من الصعوبات التي تواجهها الصين للعودة إلى الإصلاحات القائمة على السوق، إذ تتطلب هذه الإصلاحات قدرا أقل من السيطرة على تدفق المعلومات والأفكار والأشخاص ورأس المال. كذلك تُعَد التغييرات التي طرأت على نظام تقييم القيادات أساسية أيضا؛ فستكون هناك دوافع أقل لإصلاح السوق إذا ما جرى تقييمهم وفقا لسياسات الحفاظ على الاستقرار، بدلا من تحقيق الأهداف ذات النمو المرتفع.

 

لم تكن هذه السياسات نتيجةَ ازدهار الحزب الشيوعي الصيني، بل على العكس تماما، يبدو أن الحزب يشعر بالحصار أكثر من أي وقت مضى منذ مظاهرات ساحة تيانانمن. وربّما زاد شي من زعزعة استقرار النظام من خلال تتويج نفسه بعشرة ألقاب، بما في ذلك رئيس الدولة، ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، والأمين العام للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، ورئيس "المجموعات القيادية" الجديدة للإشراف على سياسة الإنترنت والأمن القومي والإصلاحات العسكرية وسياسات الصين تجاه تايوان. وقد سيطر فعليا على المحاكم والشرطة والقوات شبه العسكرية السرية الداخلية وغيرهم من أجهزة الرقابة الداخلية. هذا يعني أن جميع النجاحات والإخفاقات ترجع إلى شي وحده. وما مِن شك في أنه خلَق لنفسه أعداءَ أقوياءَ بين النخب، الذين يقفون على أهبة الاستعداد للنيل منه إذا ما سنحت لهم الفرصة.

 

على الرغم من ضعف الاقتصاد الصيني والمشاكل السياسية المتنامية، زعَمَ شي في عام 2012 أنّ البلاد على أعتاب "آفاق جديدة لتحقيق التجديد العظيم للأمة الصينية". وضَعَ خطابُ شي الحزبَ الشيوعيّ الصينيّ بشكل راسخ في إطار تاريخ الحضارة الصينية التي امتدت على مدار 5000 عام، وحدَّد هدفَه في مواصلة النضال من أجل التجديد العظيم للصين بعد سقوط إمبراطورية تشينغ. بذل الحزب الشيوعي الصيني دائما جهودا مضنية بشأن سبل التعامل مع الماضي الإمبراطوريّ للصين، الذي سيطر عليه عادة نظام أخلاقي وسياسي قائم على الفكر الكونفوشيوسي. قاد ماو تسي تونغ، على سبيل المثال، ثورة هدفت إلى حدّ ما إلى مناهضة الإقطاعية التي اتّسم بها النظام الماضي. ومع أن شي لم يتخلَّ عن الأساليب الماوية، فقد تخلَّى عن هذا التفسير للتاريخ. وبدلا من ذلك، لم يُقدِّم الحزب الشيوعي الصيني باعتباره تطورا ثوريا، بل كجزء من التاريخ الطويل والمستمر للصين التي قدمت "إسهامات لا تُمحَى في تقدّم الحضارة الإنسانية". وبذلك أصبح شي أكثرَ استعدادا ورغبة من أسلافه لتسليط الضوء على المركزية الطبيعيّة للصين جيوسياسيّا.

 

تتجسَّد طموحات شي المميَّزة في هذا الصدد في "مبادرة الحزام والطريق"، التي روَّج لها القادة الصينيون من أمثال وزير الخارجية وانغ يي على أنها خطوة تدفَع "بتقدُّم المكانة الدولية للصين بشكل لم يسبق له مثيل من قبل"، إذ إنّ "الأمة الصينية، التي تتمتع بوضع جديد كُلّيًّا، تقف الآن موقفا شامخا وراسخا في الشرق". يتمثل الهدف الرئيسُ من مبادرة الحزام والطريق في توسيع الشبكات السياسية والاقتصادية العالمية الصينية، وضمان القيام بدور أكثر فاعلية في "إدارة الشؤون العالمية"، دون انتظار أن يمنح الغرب المزيد من الأدوار والمسؤوليات إلى الصين في المؤسسات القائمة.

ومع ذلك، فالأموال الفعلية المُخصّصة لمبادرة الحزام والطريق أقلّ بكثير مما كان متوقعا. قد تساعد مبادرة الحزام والطريق الصين على تنويع مصادر الطاقة، وتطرح تعبيرا مبالغا فيه بشكل كبير عن رغبة الصين طويلة الأمد في تجنّب الحصار من خلال شراء نفوذ في باكستان، وبنغلاديش، وآسيا الوسطى. بيد أن مبادرة الحزام والطريق ستعجز عن بلوغ هدفها الأكبر في ربط آسيا مع أوروبا، نظرا إلى أن الصين لا تمتلك احتياطيات النقد الأجنبي اللازمة للاستثمار في العديد من الصفقات غير المربحة. على الرغم من ذلك، ساهم المدى الذي تنسّق به الصين مع آلياتها وأجهزتها الدعائية العالمية في جعلها في الواقع أكثر مركزية من الناحية الجيوسياسية.

 

سعى شي جاهدا إلى استعادة الممتلكات السابقة لسلالة تشينغ الحاكمة، وتوسيع نطاق حدودها البحرية لتأمين خطوط الإمداد الرئيسة، باعتبارها جزءا من جهوده للترويج إلى التجديد. كما شيّد الجزر الصغيرة، وزوّد بحر الصين الجنوبي بالنظم العسكرية، وواصل الضغط على اليابان في بحر الصين الشرقي. وفي الوقت الذي يتولى فيه شي الإشراف على التأمين الشامل للسياسة الداخلية الصينية، وإصدار تعليمات للحزب الشيوعي الصيني كي ينفق المال على الدول القارية المجاورة من خلال مبادرة الحزام والطريق، زادت الصين من وتيرة تطوّرها البحري. وأعلن شي في عام 2012 أنّ الصين أصبحت "قوة بحرية عظيمة"، وأنّ نجاحها في تحقيق "حلم الصين" مرهون بنجاحها في أن تصبح قوة بحرية عالمية أكبر. تقوم القوات البحرية الصينية الواسعة النطاق بمهامّ يومية لدفع المصالح الصينية في بحري الصين الجنوبي والشرقي، وكذلك حول تايوان.

 

سيظل الإرث الجيوسياسي العظيم لشي وهو متمثلا في أنهم وجّهوا الصين، وهي إمبراطورية قارّية تبدو خريطتها الحالية مشابهة للغاية لخريطة إمبراطورية تشينغ العظيمة، إلى إيلاء اهتمام أكبرَ بالبحر. تبلغ مساحة الصين 3.7 مليون ميل مربع، وتتشارك في الحدود البرية مع 14 دولة، أي أكثر من أي دولة أخرى -بما في ذلك روسيا والهند وفيتنام وكوريا-، وجميعهم كانوا أعداء عسكريين في القرن العشرين. وهي الآن تطالب بفعالية بحقها في كامل بحري الصين الجنوبي والشرقي. وإذا ما تمكّنت الصين من إحكام سيطرتها على هذه المسطّحات المائية فستستطيع توسيع امتدادها الجغرافي، من الحدود الغربية البعيدة مع طاجيكستان إلى الروافد البحرية الشمالية الشرقية لليابان، وإلى الجنوب نحو مشارف إندونيسيا.

مسلمو الأويغور (رويترز)
مسلمو الأويغور (رويترز)

وبالنظر إلى استمرار المشاكل التي تواجهها في الغرب، واستجابتها المروعة لما تصفه بالاضطرابات مع شعب الأويغور وشعب التبت، والتنافس المتواصل مع الدول الأخرى على حدودها البرية، فقد يُثبت اهتمام الصين المتزايد بفرض سيطرتها على البحار أنّ له تداعيات مدمرة للعالم، تماما كما كان لقرار ألمانيا الاستعمارية بالدخول في منافسة بحرية مع إنجلترا. يمكن للصين التي تشهد حالة متردية أن تعجِّل بهذه العملية لعدد من الأسباب، بما في ذلك رغبتها في إعادة بناء الشرعية الوطنية.

 

في ظل التباطؤ الذي يشهده الاقتصاد الصيني، وتوحيد سياساته حول دولة بوليسية جديدة ذات تقنيات متطورة، فإنه لن يكون بوسع الحزب أن يحافظ على كل هذه الطموحات. كما ستستنفد سياسات الحفاظ على الاستقرار وجهود مكافحة الفساد البيروقراطية، بينما يقضي الحزب على نفسه. ويمكن أيضا لواشنطن أن تجعل من الصعب للغاية على تلك الإمبراطورية القارية أن تحقق طموحاتها في البحر. وعلاوة على ذلك، في حين نجح النهج السياسي الذي اتبعه شي في معالجة الأزمة قصيرة الأجل، فقد ضاعف من المخاطر السياسية التي قد تواجهها الصين على المدى الطويل؛ إِذْ ألغى شي الإصلاحات المؤسّسية التي قام بها دينج شياو بينج التي حافظت على قدر من الاستقرار في نظام إدارة الحزب الشيوعي الصيني.

 

شهدت الصين صعود وسقوط العديد من الأسر الحاكمة في تاريخها، وقد سقطت آخر إمبراطورية نتيجة مجموعة من الأسباب المعقدة، بما في ذلك تطلعاتها الاستعمارية التي أنهكت قدراتها، وإثارة غضب الغرب، ومقاومة سلسلة هائلة من التحدّيات الداخلية كالحرب الأهلية وانتفاضة المسلمين، والفشل في التعامل مع الاقتصاد المتدهور، والإهانات التي تعرضت لها على صعيد السياسة الخارجية، والإيمان بأن الأباطرة فقدوا "ولاية السماء" (ما يُمكن أن نسميه اليوم "الفراغ العقائدي").

إنّ "شي" غيّر تفاعلات القوى الداخلية للأمة الصينية؛ والنتيجة هي أنّ المملكة الوُسطى ستتّخذ مسارا تعدّ إمكانية التنبؤ به أقلّ بكثير مما قد تتوقعه نظريات العلوم السياسية المادية
إنّ "شي" غيّر تفاعلات القوى الداخلية للأمة الصينية؛ والنتيجة هي أنّ المملكة الوُسطى ستتّخذ مسارا تعدّ إمكانية التنبؤ به أقلّ بكثير مما قد تتوقعه نظريات العلوم السياسية المادية

بينما يقف صناع السياسات والباحثون في رهبة مما حققته الصين منذ عام 1978، فإنه يتعيّن عليهم أيضا الاستمرار في دراسة الإجراءات الداخلية للنظام بحثا عن علامات تُنذر باضطرابات مستقبليّة. في عام 1993، حذر الباحث تشارلز فيربانكس، في طبعة خاصة من مجلة ناشيونال إنترست بعنوان "الموت الغريب للشيوعية السوفياتية" (The Strange Death of Soviet Communism)، من أنّ الكثيرين قد أغفلوا التدهور الذي عانى منه الاتحاد السوفياتي لفترة طويلة، لأنهم لم يركزوا على فقدان الاتحاد السوفياتي للشرعية الأيديولوجية بين نخب الحزب الشيوعي.

 

تسعى الصين اليوم إلى التعويض عن غياب المبادئ السياسية أو الأيديولوجيات الجذابة عن طريق خلق إمبراطورية الخوف الجديدة، وتقديم دعوات للنزعة القومية الإمبريالية هي أكثر حِدّة من أي وقت مضى. لا يعني هذا أنّ الصين ستنهار، إلا أنّ شي غيّر تفاعلات القوى الداخلية للأمة؛ والنتيجة هي أنّ المملكة الوُسطى ستتّخذ مسارا تعدّ إمكانية التنبؤ به أقلّ بكثير مما قد تتوقعه نظريات العلوم السياسية المادية.

———————————————————————

ترجمة: فريق الترجمة

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة