وفي الجامعة، درستُ بالأساس التاريخَ الأوروبيّ مع كيث توماس -وهو تلميذٌ سالفٌ لــ "كريستوفر هيل". إذ تعرّفت، من خلاله، على المؤرّخين ذوي العلاقة بمجلّة "الماضي والحاضر" (journal Past and Present)، مثل "جورج رودي" و"إيريك هوبزباوم" و"لورانس ستون" و"فيكتور كيرنان" و"بريان مانينغ" و"رودني هيلتون".
وتخرّجت بحلول الوقت، وعرفتُ وأردتُ أن أدرس إيران الحديثة، لكنّ الجامعات الأوروبيّة في ذلك الوقت لم تكن تعترف بالتاريخ المعاصر باعتباره تخصّصاً مشروعاً. لذلك تقدّمت لقسم العلوم السياسيّة في جامعة أميركا الشماليّة، غير مدركٍ بأنّ أقساماً كهذه كانت معنيّة حصراً بكيف يمكن "تحديث" المجتمعات وكيف يمكن أن يُؤمَّن العالمُ لصالح المصالح الأميركيّة. وبما أنّ أيّاً من هذين السؤالين لم يكونا يعنيانني، فقد واصلتُ اهتمامي باستكشاف إيران الحديثة من تلقاء نفسي، وذلك من خلال عدسة مجلّة الماضي والحاضر.
كتبَ ثومبسون للقارئ الذكيّ العادي متجنّباً الرطانة السياسيّة والهراء الأكاديميّ والغموض الفكريّ
وبإدراكه ذلك، فقد كان واعياً أيضاً بأنّ الثقافةَ، بما فيها الدينُ، هي نفسها ليست سكونيّة ولكنها متطورة باستمرار بمقتضى التغيّرات الاجتماعيّة. ثالثاً، على خلاف الكثير من المؤرّخين الاجتماعيين، رفضَ ثومبسون أن يخلي السياسةَ من التاريخ. رابعاً، كتبَ ثومبسون للقارئ الذكيّ العادي، متجنّباً الرطانة السياسيّة، والهراء الأكاديميّ، والغموض الفكريّ.
باختصار، لقد كان مؤرخاً لمؤرّخ، غامساً نفسه في زمكان محدّد، قارئاً كلّ شيء يخصّ الحقبة التي يدرسُها، وبالتالي يخرج بعملٍ مدهش غنيّ بالمعلومات الإمبريقية. وكان المثقفون مثل إحسان طبري وجازاني نشطاء سياسيين في المقام الأوّل، وليسوا مؤرّخين غمسوا أنفسهم في حقبة معيّنة من التاريخ. فلم يكن لديهم لا الوقت ولا الفرصة -ولا الميلُ، ربّما- للغوص في الأعماق الأرضيّة للتاريخ.
وقد حاولتُ أن أختبر نتائجه الثلاث على الحشود في إيران؛ دورهم، وعقلانيّتهم في مقابل لاعقلانيتهم، وبنيتهم الاجتماعيّة. ومن الواضح أنّ هذه النظريّة لم يكن لها كبير تأثير في إيران. فمثقفو المؤسّسة، لا سيّما المستفيدون من ثورة 1979، لا يزالون ينساقون وراء فكرة " لوبون"، غافلين فيما يبدو لرودي. فهم يفضّلون أن ينظروا إلى الحشود باعتبارها رعاعاً خَطِرة، ويتم التلاعب بهم بسهولة من قبل "أيدٍ خفيّة أجنبيّة".
الرئيس الإيراني الأسبق محمد مصدق
تغفل هذه الأعمال العياريّة اثنين من التفاصيل الهامّة -والشيطان يكمن في التفاصيل، بالطّبع. فأولاً، كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة على استعداد لقبول "مبدأ التأميم" ما دام المبدأُ لن يطبّق في الممارسة الفعليّة، وظلّت صناعة النفط خارجة تماماً عن أيدي إيران، وسيكون، عوضاً عن ذلك، في "اليد" الصلبة لشركات النّفط الغربيّة. وبالفعل، بعد الانقلاب، حصلت الشركات على السيطرةَ الكاملة في شكل اتّحاد النفط. ثانياً، رفضت المملكة المتحدة التفكير في أي "تعويض" استناداً إلى القيمة الفعلية للمنشآت النفطية في عام 1953، بل، بدلًا من ذلك، فكرت في مبلغ "فلكيّ" يستند إلى الأرباح المتوقّعة الممتدة حتى نهاية القرن.
حقيقة أنّ الأميركيين كانوا على المحكّ مثلهم مثل البريطانيين، هي حقيقة مهملة طوال الوقت في تواريخ الانقلاب
تَقنيّاً، لم "يرفض" مصدق أيّ عرض نهائيّ بتاتاً. ببساطة، كلّ ما طلبه هو توضيحٍ لكيفيّة حساب التعويض -على القيمة الحالية أو الأرباح المستقبليّة. ورفضت إدارة إيزنهاور توضيح ذلك. والحال أنّ كافة التواريخ التقليديّة لتغفل هذه الإشكالات "غير المهمّة". كان الأميركيون مهتمين، بالقدر نفسه الذي يهتمّ به البريطانيون، بمنع التأميم الناجح. وبالأخير، فإن مثالاً ناجحاً قد يكون مثالًا سيئاً في أماكن أخرى، لا سيّما في العراق وإندونيسيا وفنزويلا.
والحال أنّ هذه الحقيقة الصارخة، أي أنّ الأميركيين كانوا على المحكّ مثلهم مثل البريطانيين، هي حقيقة مهملة طوال الوقت في تواريخ الانقلاب. وبدلاً من ذلك، يفضّل الأكاديميّون الأميركيّون موضعة الانقلاب بصورة مباشرة في سياق الحرب الباردة -وليس في سياق صراعات الشّمال مقابل الجنوب أو الصراعات الإمبريالية مقابل الصراعات المعادية للكولونياليّة. لقد كانت الحربُ الباردة تسويغاً جيّداً لأيّ عمل شائن تقريباً. ويمكن للمرء أن يستخدم الحرب الباردة لتبرير الإطاحة بجدّته تحت الحافلة.
من جانبهم، لدى الإسلاميين أسباب أيديولوجيّة خاصة بهم لتقويض مصدق. وبالأخير، كان مصدّق قوميّاً علمانيّاً رفضَ استثمار الدين في السياسة، وكان نتاجاً مباشراً لحركة التنوير -أي إنّه بغيض إلى الذهنيّة الدينيّة. وعلاوة على ذلك، أصبحَ بعض المثقفين الشبّاب الذين نشأوا في ظلّ الجمهوريّة الإسلاميّة متيّمين بالأسواق الحرّة والمشاريع الحرة التي يناصرها المحافظون الجدد والنيوليبراليون الغربيّون. فبالنسبة لهم، ليس النفط مصدراً طبيعيّاً سياديّاً وثميناً، بل "وباءٌ" يموّل دولة استبداديّة. ويبدو أنّهم ينظرون إلى حملة تأميم النفط برمّتها على أنها مضلّلة وبالية.
وبالتالي، لدينا الآن جمهورية لا تزال تتحدث بخطاب الشعوبية الراديكالية، ولكنها تنتهجُ سياسات اجتماعيّة-اقتصاديّة هي، في لبّها، سياسات محافظة. على سبيل المثال، حكمَ النظام بأن الإصلاح الزراعيّ يجب ألّا يحدّ من الملكيّة، لأنّ هذه القيود من شأنها أن تنتهك الحقوق المقدّسة للممتلكات الخاصة المنصوص عليها في الشريعة. والحال أنّ الشعبويّة في إيران لتتقاسم الشيءَ الكثير من الشعبويات في أماكن أخرى من العالم. وتبدو أنّها راديكاليّة من الخارج، ولكنها، في جوهرها الداخلي، محافظة. وإنّ الفرق الواضح بين الشعبويّة الحالية في الولايات المتحدة وفي إيران هو أنه بينما الأولى تمثّل تهديداً على الأرض كلّها، فإنّ الشعبويّة الإيرانيّة تضرّ شعبها في الغالب.
أضف إلى ذلك أنّ اليسار الإسلامي، وعلى الأخصّ "علي شريعتي"، تأثر كثيراً بالماركسيين الأوروبيين في الستينيّات. وليس بمقدور المرء أن يحلّل الإسلام الراديكاليّ الجديد دون إشارة مباشرة إلى الماركسيّة الغربيّة. وبالأخير، كان شريعتي موسوماً بحق بأنّه "المؤدلج" الحقيقيّ للثورة الإسلامية.
إنّ كثيراً من الانتقادات الموجّهة إلى اليسار بسبب دعم النّظام تأتي من "الليبراليين" الإسلاميين الذين لم يدعموا النظام فحسب، بل كانوا أيضاً جزءاً لا يتجزأ من ذلك النظام. وبالأخير، كان "بازرجان" رئيس وزراء الخميني، وصوّت للدستور، وظلّ صامتاً عندما عبرت الجيوش إلى العراق. بمقدور المرء أن يطرح قضية بسبب بقاء اليسار بمعزل عن الخمينيّ وعن مناصرة القضايا التقدميّة العلمانيّة -بعبارة أخرى، التحالف مع الجبهة الوطنيّة الليبراليّة. لقد كان هذا نهجاً انتهجهُ بعض قادة توده. لكنّهم أُضعِفوا بالحقيقة البسيطة التي مفادها أنّ الجبهة الوطنية نفسها استسلمت للخميني في وقت مبكر.
بدأ الاقتصاديون يتنبؤون بانهيار وشيك للنظام تقريباً بمجرد استقراره في 1979. والسبب الرئيسيّ في أنّ توقعاتهم خابت هو بالضبط لأنّ النظام أسّسَ دولة رفاه شاملة إلى حدٍّ ما. إنّ التحول التدريجيّ، ولكن المتسق، إلى اليَمين في السنوات الأخيرة يضعف بطبيعة الحال دولةَ الرفاه هذه، وبالتالي يقوض الأساس الاجتماعيّ للنّظام.
وإذا لم تصبح إيران هذا الهدف، فإن مسارها الداخليّ والطبيعي سيأخذها إلى ساحة جديدة. فمنذ الستينيات، كان الخطاب السائد في السياسة هو الإسلام، والأصالة (authenticity)، والأصلانيّة (nativism)، و "العودة إلى الجذور". وقد أدّى هذا الخطاب إلى المأزق الحالي الذي توقف فيه الإصلاح وحصلَ اليمين فيه على الهيمنة والغلبة.
وإنّ الجيلَ الجديد المولود بعد الثورة أقل اهتماماً بالبحث عن الأصول -عوضاً عن ذلك، يهتمّ بالأحرى بإصلاحات مجدية ذات معنى تحمي الحقوق الفرديّة كما الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وهم، بذلك، يكتشفون أن أجدادهم العظماء أصحاب الثورة الدستوريّة عام 1905- 1909كان لديهم الكثير ليقولوه ويكون ذا صلة بالرّاهن -أكثر بكثير من البحث غير المجدي عن جذور غامضة.
_____________________________________________________________