شعار قسم ميدان

الملك «بيبي».. كيف يغير نتنياهو وجه إسرائيل؟

midan- نتنياهو
تبدو الصورة مختلفة تمامًا على بعد عشر دقائق فقط بالسيارة من مدينة قيسارية القديمة على ساحل المتوسط، حيث المباني الشاهقة والمتاجر الكبرى والمسارح الفخمة، وحيث يتجول الشباب «المتأمركين» يرتدون أحدث صيحات الموضة العالمية، ويداعبون شاشات هواتفهم الذكية.

 

هنا تبدأ الشوارع الضيقة المتربة في الظهور، ويمكننا أن نشاهد بشكل معتاد شجارات الصبية، وأن نسمع صيحات النساء، وتتعثر أقدامك في الدجاجات التي تتجول بين البيوت القديمة. نحن الآن في آخر أيام عيد الفصح، حيث يترقب الجميع في أور عكيفا، البلدة الإسرائيلية المقامة على أنقاض (برة قيسارية) في أوائل الخمسينيات، بدء احتفال ميمونة السنوي، الاحتفال التقليدي لليهود المغاربة المقام في هذا الموعد من كل عام، والمسموح فيه بتناول المخبوزات التي يحرم تناولها طوال أسبوع العيد.

 

تحتل أور عكيفا مكانة بارزة في أنظار اليهود المتدينين، فيعتقدون أنها موطن الحاخام عكيفا بن يوسف الذي يحتل مكانة كبيرة عند اليهود، بوصفه أحد حملة التراث اليهودي. ويبدو من همسات الجميع أنهم في انتظار حضور ضيف مهم الليلة، وأنهم يعتادون حضوره بينهم في مثل هذه المناسبات. يصل الضيف أخيرًا، وكلهم يدعونه بكنيته الشهيرة «بيبي»، ويبدأ في تناول الكعك، بينما يداعب أصحاب المنزل شديد البساطة الذي يقطنه عامل ريفي بصحبة أبنائه وأحفاده، وفي النهاية يشرب الجميع نخب بيبي، أو بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي.

زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو ترافقه زوجته سارة وابنه يائيرالقدس
زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو ترافقه زوجته سارة وابنه يائيرالقدس

يثق الناس هنا في أور عكيفا، ومثلها من البلدات الفقيرة التي تعج بأبناء الطبقات العاملة واليهود المتدينين، في نتنياهو كثيرًا، وهم يعتقدون أنه وحده الأجدر بقيادة إسرائيل. ورغم أن نتنياهو ينتمي في الأصل إلى طبقة اليهود الأشكيناز، أي الأثرياء ذوي الأصول الغربية، إلا أنه يشعر بقوته هنا. يعترف نتنياهو أن هناك مجتمعين في إسرائيل، الأول يضم ذوي الياقات الزرقاء (العمال) من السفرديم، أو يهود الشرق الأكثر فقرًا، والمتدينين والمهاجرين ذوي الأصول الروسية، والثاني مكون من الطبقات الأكثر ثراءً من ذوي الأصول الأمريكية والأوروبية، وأن شعبيته وسط المجموعة الأولى هي التي أوصلته إلى السلطة في المرة الأولى، وهي التي أعادته إليها، وهي مفتاحه الأوحد للبقاء فيها.

 

وبقدر حب نتنياهو لليهود الفقراء والمتدينين، بقدر ما يبغض تلك النخب اليسارية، والتي طالما سيطرت على الجيش والمؤسسات الأمنية، وتحكمت بالتبعية في الحياة السياسية. لا يزال نتنياهو، رئيس الوزراء الأطول بقاء في السلطة في تاريخ إسرائيل، يذكر بمرارة فترة ولايته الأولى التي لم تكتمل.
 

كان نتنياهو من أبرز المعارضين لاتفاقية أوسلو، وأحد المؤمنين بأن «الدولة اليهودية تقع في بحر من الأعداء العرب»، وأكد في أكثر مناسبة خلال فترته الأولى رغبته في مواجهة طريقة التفكير التي أنتجت الاتفاق، ولكنه كان مجبرًا في النهاية للخضوع للنخب القديمة، وتوقيع اتفاق جديد مع الفلسطينيين عام 1998، كان آخر اتفاق مكتوب بين الطرفين. ولكن كل ذلك لم يشفع له، حيث تمت الإطاحة به سريعًا من السلطة بعد أن انهارت حكومته. أما اليوم فيتحدث نتنياهو بفخر عن فلسفته الخاصة، وعن تلك الأعوام العشرة التي قضاها بعد الإطاحة به عام 1998، وهو يخطط لأجل استعادة موقعه المفضل من جديد.

 

(1) «بيبي».. السنوات الأولى
نجح تحالف نتنياهو المكون من المستوطنين المتشددين والمتدينين والمهاجرين في قيادته نحو تأمين أضيق فوز في تاريخ الكيان
نجح تحالف نتنياهو المكون من المستوطنين المتشددين والمتدينين والمهاجرين في قيادته نحو تأمين أضيق فوز في تاريخ الكيان

أثناء مراسم إحياء الذكرى الواحدة والعشرين لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استخدم نتنياهو عادته الأثيرة في التلاعب بالعبارات، حين أثنى على جهود رابين في السعي نحو إقرار السلام، مشيدًا بأن تلك الجهود «لم تجعله يغفل أبدًا عن المخاطر التي نواجهها».

ولكن إذا كان لنا أن نجزم أن هناك شخصًا ما في إسرائيل يبغضه نتنياهو ويكره حضور سيرته، فسوف يكون هذا الشخص هو رابين بكل تأكيد. لا يزال نتنياهو يذكر أحداثًا منذ 19 عاما، أثناء إحياء الذكرى السنوية الثانية لاغتيال رابين، حين وقف رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك أمنون ليبيك شاحاك، معرضًا بتنياهو على الملأ، ومتهمًا إياه بـ «الانتهازية» والتلاعب بسمعة جيش الاحتلال، عبر تحويله إلى «دمية للركل»، في سابقة تاريخية لقيام قائد الجيش بتوجيه انتقادات علنية لرئيس الوزراء.

 

تروي مجلة بوليتيكو تلك الوقائع «المريرة» لنهايات فترة حكم نتنياهو الأولى. كان قائد المعارضة السابق قد وصل إلى السلطة للتو في منتصف العام الماضي، بعد ستة أشهر على اغتيال سلفه (رابين)، وكان نتنياهو أبرز المعارضين لجهود رابين لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، كما أنه شارك في تلك التظاهرات الشهيرة التي أظهرت رابين يرتدي زي ضابط نازي.

نجح تحالف نتنياهو المكون من المستوطنين المتشددين والمتدينين والمهاجرين في قيادته نحو تأمين أضيق فوز في تاريخ الكيان، ولكن جنرالات الجيش المقربين من رابين كانوا يبغضون نتنياهو لتورطه في التحريض ضد الأول، وعلى الجانب المقابل لم يكن نتنياهو يثق في الجنرالات الذين كان ينظر إليهم على أنهم رجال رابين.

 

بخلاف نتنياهو الذي تربي ضمن صفوف أسرة يمينية أكثر تشددًا، نشأ معظم رجال الجيش في حزب العمل الذي يميل إلى اليسار، وهؤلاء يمثلون نخبة المؤسسين الذين ينظر إليهم نتنياهو باحتقار. شنت حكومة نتنياهو هجومًا على الجنرالات، واتهمتهم بالتدخل في الحياة السياسية، وفي محاولة لاجتذاب القواعد اليمينية في المجتمع، قرر نتنياهو السماح للسياح الإسرائيليين بالدخول لأول مرة إلى منطقة كانت محظورة، في نفق قديم تحت بلدة القدس، مما تسبب في اندلاع انتفاضة محدودة عرفت باسم هبة النفق في سبتمبر (أيلول) عام 1997، نجم عنها مئات القتلى من الفلسطينيين والإسرائيليين. بعد شهر تقريبًا كان شاحاك يلقي كلمته الشهيرة التي يذكرها نتنياهو جيدًا.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووير الدفاع السابق إسحاق مردخاي
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووير الدفاع السابق إسحاق مردخاي
 سرعان ما تصدعت حكومة نتنياهو على وقع الخلاف المعلن مع الجيش، ما اضطره إلى الدعوة لانتخابات مبكرة. أعلن شاحاك اعتزامه خوض الانتخابات، في حين أعلن حزب العمل (يسار وسط)، منافس حزب الليكود الذي ينتمي إليه نتنياهو، الدفع بالجنرال الأسبق إيهود باراك في مواجهة نتنياهو. وكانت المفاجأة هي إعلان إسجاق مردخاي، وزير الدفاع في حكومة نتنياهو، هو الآخر اعتزامه خوض الانتخابات.

 

أولئك الذين عاشروا نتنياهو يعرفون أنه شخص مولع بالتاريخ، وهو على دراية قوية بالخلفيات التاريخية للأشخاص والأماكن. يعود السبب في ذلك على الأغلب إلى تأثر بيبي الصغير بوالده، بن تسيون نتنياهو، المؤرخ المغمور الذي لم تلق أفكاره الكثير من الرواج، على مدار حياته الطويلة التي امتدت لأكثر من مائة عام. ومع كل هذا الشغف بحقائق التاريخ، فإن نتنياهو لم ينس بالطبع سنواته الأولى، وهو بالتأكيد لم يغفل يومًا أن طموحاته الأولى في السلطة قد بلغت نهايتها بسبب ما يظن أنها مؤامرة من ثلاثة جنرالات، ومع اقتراب موعد الانتخابات، كان كل من شاحاك ومردخاي قد انسحبا من السباق من أجل تمهيد الطريق لفوز إيهود باراك.

 

(2) الملك «بيبي»
«خلافًا للمألوف في معظم الديمقراطيات الغربية، حيث عادة ما يعتبر الجيش أكثر تشددًا من القيادة المدنية، فإن ما يحدث في إسرائيل هو العكس، فمن ضمن 17 من قادة الأجهزة الأمنية الذين عملوا مع نتنياهو، هناك 13 شخصًا انتقدوه على العلن، من بين الأربعة الباقيين هناك شخصان لا يزالان في السلطة» -مجلة بوليتيكو، يونيو (حزيران) 2016

 

حين وصل نتنياهو إلى السلطة للمرة الأولى، فإنه كان آنذاك رئيس الوزراء الأصغر في تاريخ إسرائيل، وكان ذلك يعني أن بيبي يمتلك الكثير من الوقت من أجل العودة، وهي الحقيقة التي حرص على أن يذكر نفسه بها جيدًا. ولكن إسرائيل بشكلها الحالي ليست البيئة المثالية لتقبل أفكار الرجل وسياساته، وإذا كان على بيبي أن يغير بعض تكتيكاته من أجل العودة، فإن إسرائيل نفسها يجب أن تتهيأ أيضًا لاستقباله، ولكن ليس كنتنياهو رئيس الوزراء الذي عرفوه أول مرة، ولكن نتنياهو الملك، أو الملك بيبي.

undefined

جاءت ضربة نتنياهو الأولى في صدور الجنرالات من مقعد المعارضة، بعد أن تمكن في عام 2007 من تمرير قانون يمنع جنرالات الجيش من الترشح لمقاعد السياسة قبل مرور 3 سنوات على تقاعدهم، تحت حجة الفصل بين الجيش والسياسة من أجل الحصول على دولة أكثر ديمقراطية. كان بيبي يستعد لاستعادة مقعده الأثير بعد عامين، وكان لابد من إفساح الطريق وإقصاء المنافسين. ولكن نتنياهو دفع ثمن هذا القانون خلال الأشهر الأولى لولايته الثانية، فحقيقة أن الجنرالات ليس لهم حق الترشح للسياسة يعني أن من حقهم إبداء آرائهم في القضايا العامة، دون أن يتهمهم أحد بالسعي لأغراض خاصة.

في مقدمة هؤلاء يقع رؤساء الأجهزة الأمنية الثلاثة الكبرى، مائير داغان رئيس الموساد، وغازي أشينازي رئيس الأركان، ويوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك، الذين وجهوا جميعًا لكمات علنية متتابعة ومؤثرة لنتنياهو وحكومته الجديدة.

 

غالبًا ما تتناقض تقييمات الجنرالات للقضايا الأمنية مع رؤية نتنياهو الأكثر تشاؤمًا للعالم. يرى الجنرالات أن نتنياهو غالبًا ما يميل إلى المبالغة في تصوير التهديدات الأمنية من أجل استدعاء خوف المجتمع الإسرائيلي، وخاصة فيما يتعلق بإيران، التي تمثل الهاجس الأكبر لرئيس الوزراء. في اليوم الذي كان مائير داغان يغادر منصبه كرئيس للموساد، فإنه شن هجومًا حادًا على نتنياهو ووصفه بأنه «خطر على إسرائيل»، وأنه يبالغ في التهويل بشأن رؤيته لإيران.

 

ولكن نتنياهو كان عازمًا على استكمال خطته، بعد رحيل قادة الأجهزة الأمنية الثلاثة عن مناصبهم، قام نتنياهو باستبدالهم بقادة أقل كاريزمية واستقلالًا، حيث قام نتنياهو بتعيين تامير باردو في منصب رئيس الموساد، وباردو هو أحد المقربين من عائلة نتنياهو بحكم مشاركته في عملية عنتيبي الشهيرة، التي قتل فيها يوني نتنياهو، الشقيق المقرب لبنيامين.

يعد ليبرمان أبرز مؤيدي التعامل العسكري مع إيران، وسبق أن انتقد سلوك الجيش الإسرائيلي مطالبا إياه بنهج أكثر حدة في التعامل مع الفلسطينيين.
يعد ليبرمان أبرز مؤيدي التعامل العسكري مع إيران، وسبق أن انتقد سلوك الجيش الإسرائيلي مطالبا إياه بنهج أكثر حدة في التعامل مع الفلسطينيين.
 كما قام بتعيين يورام كوهين كرئيس للشاباك، وهو أول رئيس في تاريخ الوكالة يأتي من القطاع الوطني الديني في إسرائيل، الذي يسيطر عليه اليمين الداعم لرئيس الوزراء. وأخيرًا، جرى تعيين بيني غانتز كرئيس للأركان. قللت هذه التغييرات من إزعاج الجنرالات لنتنياهو ولكنها لم توقعها تمامًا، حيث تعرض، على سبيل المثال، للتعريض من قبل رئيس الموساد الجديد الذي أكد في ظهور إعلامي نادر له أن البرنامج النووي ليس تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، مشيرًا أن بعض الناس يستخدمون مصطلح «تهديد وجودي» بالكثير من الإسراف.

لا يزال نتنياهو يواصل لعبة الكراسي الموسيقية مع الجنرالات، بعد أن قام في العام الماضي بتعيين كل من يوسي كوهين ونداف أرغمان وغازي أزينكوت لرئاسة الموساد والشاباك وهيئة الأركان على الترتيب. ولكن الخطوة الأكثر أهمية، وإثارة للجدل أيضا، والتي مثلت ذروة انتقام نتنياهو من المؤسسة الأمنية كانت تعيينه لأفيغدور ليبرمان، السياسي المدني المتشدد، ومدير موظفيه في رئاسة الوزراء سابقًا، كوزير للدفاع، خلفًا لموشي يعلون الذي تزايدت خلافاته مع بيبي مؤخرًا، ليصبح بذلك وزير الدفاع الأقل خبرة في تاريخ البلاد.

ويعد ليبرمان أبرز مؤيدي التعامل العسكري مع إيران، وقد هدد في السابق بقصف السد العالي في مصر، وسبق أن انتقد سلوك الجيش الإسرائيلي مطالبا إياه بنهج أكثر حدة في التعامل مع الفلسطينيين. وجاء تعيين ليبرمان بهدف إضعاف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وتصعيب مهمة الجنرالات في تحدي حكومته.

 

(3) النخبة الجديدة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير التعليم نفتالي بينيت  (رويترز)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير التعليم نفتالي بينيت  (رويترز)
«في استطلاع رأي أجراه المعهد الديمقراطي الإسرائيلي (منظمة غير ربحية) في عام 2010، ظهر أن 48% من الإسرائيلين يولون أهمية متساوية للمكون اليهودي والمكون الديمقراطي للدولة الإسرائيلية ولكن هذه النسبة وصلت إلى أقل من 24% في فقط عام 2014، حيث صارت الأغلبية تولي أهمية للشق اليهودي على حساب الشق الديمقراطي»

 

تلعب التغييرات الطبيعية، وحتى إنجازات الخصوم، لعبتها في دعم جهود نتنياهو، ورغم كراهيته لاتفاق أوسلو فإن هذا الاتفاق يسهم اليوم في إفساح الطريق أمامه لتمكين نخبته الجديدة. قبل توقيع الاتفاق، حين كان الكيان لا يزال مهددًا من قبل جيرانه العربز

كان الإسرائيليون يرون أن قضاء بعض الوقت في الجيش يعد ثمنًا مقبولًا دفعه من أجل الحفاظ على أمنهم. لكن هذا الشعور بدأ في التضاؤل بعد ذلك، حيث أصبح الإسرائيليون أقل استعدادًا للمخاطرة في حروب لا يعتبرونها ضرورية، وقد تسبب ذلك في عزوف كبير عن التجنيد، حيث يخدم اليوم 73% فقط من الرجال المؤهلين وأقل من 58% من النساء في الجيش، وهي إحدى النسب الأقل في تاريخ كيان طالما اعتمد في حفظ أمنه على التجنيد الجماعي لمواطنيه.

 

كانت الظاهرة الأكثر أهمية هي العزوف الكبير للعلمانيين عن التطوع للخدمة كضباط، وهي الفجوة التي تم ملؤها، بإشراف نتنياهو، من قبل المجتمعات الأكثر يمينية التي سيطرت على مواقع النخبة في الجيش الإسرائيلي. بين عامي 1990 و2010، وارتفعت نسبة صغار الضباط المتدينين في وحدات المشاة من 2.5% إلى ما بين 35% و40%.

 

يدرك نتنياهو هذه التغيرات جيدًا، حيث قام بهندسة أغلبها تحت ناظريه، لذا ففي الوقت الذي كان يتوقع فيه الجميع اتجاه نتنياهو إلى تشكيل ائتلاف وسطي للحكم، بعد الانتخابات الأخيرة في عام 2015، وهي الانتخابات المبكرة التي اضطر للدعوة إليها للمرة الثانية في تاريخه، بعد أن أوشكت حكومته على الانهيار، فإنه قرر الدخول في تحالف مع ثلاثة من أحزاب من أقصى اليمين (وحزب وسطي واحد)، وهو التحالف الذي أعطاه أغلبية بفارق مقعد واحد فقط، ولكنها أغلبية متجانسة تسمح له بتمكين نخبته الجديدة.

يعول نتنياهو على وزيرة الثقافة ميري ريغيف في اجتذاب تأييد السفرديم (يهود الشرق الأكثر تدينًا ومحافظة)، لكونها ذات أصول مغربية
يعول نتنياهو على وزيرة الثقافة ميري ريغيف في اجتذاب تأييد السفرديم (يهود الشرق الأكثر تدينًا ومحافظة)، لكونها ذات أصول مغربية
 يسلط ألوف بين، الصحفي الليبرالي الشهير في صحيفة هآرتس، في تقرير مطول له نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية، الضوء على هذه النخبة الحاكمة الجديدة في إسرائيل، حيث يرى بين أن ثلاثة أعضاء في حكومة نتنياهو يعكسون الوجه الحقيقي لهذا التحالف

الأولى هي ميري ريغيف وزيرة الثقافة المنتمية لحزب نتنياهو (الليكود)، والتي يعول عليها في اجتذاب تأييد السفرديم (يهود الشرق الأكثر تدينًا ومحافظة)، لكونها ذات أصول مغربية، أما الثاني فهو نفتالي بينيت، وزير التعليم ورئيس حزب البيت اليهودي، رجل الأعمال الصاعد وممثل «أمة ريادة الأعمال»، وهو يهودي متدين يرى أن تعلم اليهودية أكثر أهمية من تعلم الرياضيات.

 

وفي المقدمة تأتي بالطبع وزيرة العدل إيليت شاكيد، التي تولت منصبها على حساب الوزيرة السابقة تسيبي ليفني، أحد أبرز خصوم نتنياهو السياسيين. يعول نتنياهو على شاكيد من أجل تعيين قضاة موالين له، حين تخلو أربعة أو خمسة مقاعد من مقاعد المحكمة الدستورية العليا البالغ عددها 15 مقعدًا خلال العام الحالي

وبهذا يكون نتنياهو قد قطع شوطًا كبيرًا في إحكام قبضته على المؤسسات الأمنية والقضائية، مستفيدًا من دعم جمهوره متشدد المزاج الذي يعرف جيدًا كيف يجتذبه. وفي الوقت الذي يواصل فيه هذا الجمهور دفع نتنياهو إلى السلطة، فإن رئيس الوزراء يواصل دفع هذا الجمهور إلى حافة اليمين فيما يشبه نبوءة ذاتية التحقق، حيث يبقى نتنياهو في السلطة اعتمادًا بالأساس على المزاج اليميني، وكلما بقي في السلطة لفترة أطول كلما زاد هذا المزاج تشددًا.

 

(4) الصوت الأوحد
«على رأس سلم أولويات نتنياهو وحكومته اليوم ليس أمن إسرائيل، ولا الحفاظ على الديمقراطية، ولا الوحدة الداخلية للشعب، وإنما تقدم زاحف وماكر، من دون الاعتراف بذلك، نحو أجندة الدولة الواحدة من النهر إلى البحر، وهي أجندة تشكل تهديدًا مباشرًا على الهوية المستقبلية الإسرائيلية وعلى المشروع الصهيوني برمته» -إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، ووزير الدفاع في حكومة نتنياهو الثانية

 undefined

يقع التشدد تجاه الفلسطينيين والعرب، ونبذ عملية السلام ورفض قيام دولة فلسطينية والتمسك بالاستيطان، في قلب هذا المزاج اليميني السائد في إسرائيل. كان نجاح نتنياهو في الاحتفاظ بالسلطة مدفوعًا بتمسكه الدائم بعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية، وهو في الحقيقة ليس مجرد وعد سياسي لناخبيه المتشددين، ولكنها الرؤية التي تربي عليها نتنياهو وظهرت بوضوح في كتابه المعنون بـ «مكان تحت الشمس»، والذي زعم فيه أن الفلسطينيين «شعب غير قائم»، وأنهم «صنيعة العالم العربي الذي يهدف إلى القضاء على إسرائيل».

 

تعد هذه النظرة ضمن الإرث الذي ورثه نتنياهو عن أبيه، حيث لايؤمن نتنياهو الأب بوجود ما يسمى بـ «الشعب الفلسطيني»، ولكن شعب واحد هو الشعب اليهودي، وبعض السكان العرب، ولذا فإنه عارض دائمًا حل الدولتين لأنه «لا يمكن أن تقيم دولة لأمة متخيلة». يؤمن نتنياهو كذلك برؤية والده لعرب إسرائيل، والتي تتلخص أنه لا ينبغي أن يتم التعامل معهم إلا بالقوة.

مع قدوم نتنياهو من جديد إلى الحكومة عام 2009، قام رئيس الوزراء بتبني مجموعة من الإجراءات الموجهة ضد عرب إسرائيل البالغ عددهم قرابة 1.7 مليون نسمة ويمثلون 21% من سكان الأراضي المحتلة، شملت سن قواعد تحد من حقوق العرب في العيش في بعض القرى اليهودية، وإلغاء القانون الذي يمنح فلسطينيي الضفة الحق في الحصول على الجنسية الإسرائيلية حال زواجهم من عرب إسرائيل، وتعزيز السيطرة على النقب وتكثيف الخطاب الذي يؤكد دومًا على يهودية الدولة.

 

ومن أجل ضمان هيمنة هذا الخطاب، مع أقل قدر ممكن من الإزعاج، كان على نتنياهو أن يتبع الهواية المفضلة للشعوبيين في السيطرة على وسائل الإعلام. لدى نتنياهو شغف خاص بوسائل الإعلام منذ أن كان شابًا يعيش في الولايات المتحدة، ومستشارًا إعلاميًا للسفارة الإسرائيلية في واشنطن، ثم سفيرًا لبلاده لدى الأمم المتحدة في منتصف الثمانينيات، وهو يتابع كل ما يكتب عنه ويرد عليه بطريقته الخاصة، تلك الطريقة التي اكتسبها من تجربته الأولى في تقويض الأمين السابق للأمم المتحدة، كورت فالدهايم، بعد أن شن هجومًا مكثفًا عليه بدعوى أنه كان ضابطًا سابقًا في الجيش النازي.

وللمفارقة، فإن نتنياهو قد استخدم الاتهام نفسه (النازية) في مهاجمة أحد أوسع الصحف انتشارًا في إسرائيل وهي صحيفة هآرتس، في أعقاب نشر الصحيفة لتحقيق صحفي يهاجم نتنياهو، فقد أوعز رئيس الوزراء لمقربين منه بمهاجمة الصحيفة عبر التلويح بامتلاك شركة دعاية ألمانية، كانت تعمل إبان الحرب العالمية الثانية، لحصة 20% من أسهم الصحيفة الشهيرة.

 

بالإضافة إلى رئاسته للحكومة، يحتفظ نتنياهو لنفسه أيضًا بحقيبة الاتصالات التي تمكنه من التلاعب ببنية وسائل الإعلام، وتوجيه التغطيات الإعلامية لصالحه. يسيطر نتنياهو أيضًا بشكل كبير على الإنترنت، من خلال شركة بيزك للاتصالات الأرضية التي يتحكم فيها شاؤول ألوفيتش، مالك موقع «والا» المنحاز لنتنياهو، والذي يستعد أيضًا لدخول سوق المنافسة التلفازية باستثمارات كبيرة. كما يعكف نتنياهو أيضًا على إدخال تعديلات هيكلية على تكوين الهيئة المشرفة على البث التلفازي، من أجل تقييد عمل القنوات التي تعكف على مهاجمة سياساته.

 

(5) بيبي.. إلى الأبد؟
undefined

«كل ما يهمه هو الحفاظ على مكانته السياسية والبقاء في السلطة. فهو ليس رابين، وليس شارون، وبالطبع ليس مناحيم بيغن، فهو لا يملك الجرأة» -مسؤول أمريكي متحدثًا عن نتنياهو في حوار لمجلة ذا أتلانتيك

 

يبقى الصراع ضد وسائل الإعلام أكثر ما يؤرق نتنياهو الآن. خلال الأسابيع الماضية، سلط الإعلام الضوء على خضوع نتنياهو لتحقيق من قبل المدعي العام (الموالي له) في قضية تلقي رشاوى من قبل بعض كبار رجال الأعمال، أبرزهم جيمس باكر، نجل رجل الأعمال والقطب الإعلامي الأسترالي كيري باكر، الذي يوسع أنشطته في إسرائيل في الوقت الراهن.

شملت التحقيقات تفتيش شقة آرون هارو رئيس الموظفين السابق في مكتب نتنياهو، حيث وجد الموظفون مفاجأة كبرى في انتظارهم: تسجيلات تمتد لساعات بين نتنياهو وأحد أبرز خصومه على الساحة السياسية في إسرائيل، وهو رجل الأعمال أرنون موزيس، مالك صحيفة يديعوت أحرونوت، عرض فيها عليه نتنياهو صفقة يمنح بموجبها يديعوت تسهيلات في مواجهة تعثرها المالي، في مقابل أن تقدم الصحيفة تغطية أكثر انحيازًا لنتنياهو.

 

في حقيقة الأمر فإن نتنياهو هو المسؤول الأكبر عن الأزمة المالية التي تواجهها الصحيفة، التي كانت متربعة على عرش الصحف الإسرائيلية الأكثر توزيعًا حتى عام 2007، قبل أن يوعز نتنياهو لصديقه الملياردير الأمريكي شيلدون أديلسون بالدخول إلى سوق الإعلام في إسرائيل.

حاول أديلسون في البداية شراء صحيفة معاريف، المنافس التقليدي ليديعوت، لكنه فشل في ذلك، قبل أن يقرر إنشاء صحيفة يومية توزع مجانًا، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة الإسرائيلية. وسرعان ما تربعت صحيفة إسرائيل اليوم على عرش الصحف الأكثر توزيعًا في إسرائيل، مسببة خسائر للصحف الكبرى وعلى رأسها يديعوت.

يعد يائير نجل نتنياهو المستشار الإعلامي الأبرز والأكثر تطرفًا لوالده، والذي يشعر الكثيرون بالقلق من توسع نفوذه في دوائر الحكم.
يعد يائير نجل نتنياهو المستشار الإعلامي الأبرز والأكثر تطرفًا لوالده، والذي يشعر الكثيرون بالقلق من توسع نفوذه في دوائر الحكم.
 توصف إسرائيل اليوم بأنها «صوت الرجل الواحد»، في إشارة إلى نتنياهو، والجدير بالذكر أن هذا الوصف صادر عن نفتالي بينيت، أحد أبرز حلفاء نتياهو في الحكومة. وقد أقر نتياهو مؤخرًا أن أحد أسباب دعوته إلى انتخابات مبكرة، مطلع العام 2015، كان يرجع إلى رغبته في منع الكنيست من سن قانون يحجم صحيفة إسرائيل اليوم، والذي عرف آنذاك في الأوساط الإسرائيلية باسم «قانون شيلدون».

 

يبقى الصراع دائرًا على أشده، يمضي نتنياهو قدمًا في معركته لإخضاع الجيش والمجتمع والسياسة في إسرائيل، من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، وتمكين نفوذ أسرته وخاصة زوجته سارة ونجله يائير، الذي يعد المستشار الإعلامي الأبرز والأكثر تطرفًا لوالده، والذي يشعر الكثيرون بالقلق من توسع نفوذه في دوائر الحكم.

وفي طريقه لتحقيق هذا الهدف يبدو نتنياهو مستعدًا لتوسل أي شيء، سواء أكان إعادة كتابة تاريخ إسرائيل، كما يفعل بالفعل عبر المبالغة في تمجيد دور أخيه يوناتان في عملية «عنتيبي» الشهيرة في السبعينيات، أو عبر التحالف مع خصومه مثل موزيس، أو حتى تجاوز أبسط الحقائق من خلال ادعاء أن مفتي القدس هو الذي أفتى لهتلر بحرق اليهود.

 

لا يمكن الجزم إلى أي مدى سوف تنجح جهود نتنياهو في إبقائه في السلطة طويلًا، ليتحول من رئيس وزراء تقليدي إلى ملك منتخب كما يطمح. لكن المؤكد، بلا شك، أن ما يفعله «بيبي الكبير» في إسرائيل سوف تبقى آثاره حاضرة أطول مما قد يظن الجميع.