شعار قسم ميدان

ما بعد ترمب: عالم استطلاعات الرأي التائه

Republican U.S. presidential nominee Donald Trump shakes hands with Democratic U.S. presidential nominee Hillary Clinton at the conclusion of their first presidential debate at Hofstra University in Hempstead, New York, U.S., September 26, 2016. REUTERS/Mike Segar/File Photo
يجلس روبرت كوديهاي واثقًا على مقعده مطالعًا العدد الجديد من مجلة ليتراري دايجست "Literary Digest" التي يرأس تحريرها منذ أكثر من عشر سنوات، مجلة تفخر كونها الوحيدة القادرة على التنبؤ باسم الشخص الذي سيدخل البيت الأبيض قبل الانتخابات بشهر كامل.

مسيرة طويلة بدأتها المجلة المرموقة منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر على يد اثنين من المسيحيين اللوثريين، ونشرت فيها وعلى صفحاتها مجموعة متنوعة من المقالات الرصينة، والدراسات المأخوذة عن مصادر مختلفة من داخل الولايات المتحدة وخارجها، مسيرة قررت المجلة تتويجها عام 1920 بقسم خاص لإجراء استطلاعات الرأي، معتمدة في ذلك على قائمة قراء وصلت لحوالي عشرة ملايين مشترك.

نُشر العدد الأخير من المجلة في أكتوبر بثقة كبيرة في عناوينه بعد أن صدقت توقعاته في الانتخابات الأربع السابقة، عدد معنون بـ: «مرة أخرى، يأتي موعدنا لتحديد الفائز قبل شهر واحد من الانتخابات، مرة أخرى نقوم بحسم انتخابات نوفمبر في أكتوبر».

يُطالع روبرت أعداد المجلة التي وُضعَت على مكتبه، ويشعر أكثر من أي وقت مضى بأن استطلاع هذه المرة دونًا عن غيره سيكون على صواب، لقد وصلت المجلة لحوالي عشرة ملايين أمريكي، في واحد من أكبر استطلاعات الرأي الأمريكية إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، لتحصل على ردود من 2.4 مليون شخص، وهي مجموعة وصلت لها المجلة عبر قوائم مختلفة لقرائها وللهواتف الأرضية المسجلة رسميًا ولملاك السيارات وأعضاء عدد من الأندية والجمعيات.

ميزانية ضخمة رصدتها المجلة بالطبع للوصول لكل هؤلاء، على العكس من منافسيها، والذين عجزوا عن الوصول لعدد مماثل من الأمريكيين أو حتى رُبع هذا الرقم، وبينما تم حشد هذه الموارد الضخمة المناسبة لضخامة الحدث، لم يعرف روبرت كيف يمكن أن يقرر شخص بعد كل ذلك أن يقوم باستطلاع منافس لمجلته، ويقول بكل ثقة بأنه اعتمد على خمسين ألف أمريكي فقط وتنبّأ بالنتيجة المعاكِسة، وهو عين ما فعله «جورج جالوب» حينها، أحد المهتمين الصغار بمجال الرأي العام، والذي أسس معهده الخاص منذ بضعة سنوات.

تمُر الأسابيع ويبدأ الاقتراع، ثم تتوالى النتائج للولاية تلو الأخرى، حتى يبدأ روبرت في استيعاب حجم المفاجأة: لقد أخطأت مجلته تمامًا في التنبؤ بهوية الرئيس الأمريكي القادم، في حين نجح جالوب الشاب بنسبة خطأ لم تتجاوز 1%. فعلها فرانكلين روزفلت واحتفظ بمقعده في البيت الأبيض لأربعة أعوام أخرى تمتد حتى العام 1940، ولم يكتف بذلك، بل حقق ثالث أكبر فوز انتخابي في تاريخ الولايات المتحدة بحصد كافة الولايات، عدا اثنتين ذهبتا لألفريد لاندون الجمهوري.

 فرانكلين روزفلت
 فرانكلين روزفلت

صدمة كبيرة في عالم استطلاعات الرأي، يتبعها بعد عامان اختفاء اسم المجلة تمامًا من عالم الصحافة والكتابة الأمريكي، واندماجها مع مجلتين آخرتين، بالتوازي مع مولد اسم جديد في عالم الاستطلاع هو جورج جالوب، والذي اتجهت نحوه الأنظار الآن ليشرح ما فعله بالضبط ليخرج بالنتيجة الصحيحة رُغم العيّنة الصغيرة التي اعتمد عليها من الأمريكيين.
 

جالوب وميلاد الاستطلاع العلمي

يصعب من موقعنا اليوم أن نلوم المجلة بالكامل، والتي فعلت ما كانت تفعله أي شركة استطلاع في زمانها، وهو الاعتماد على وسائل الاستطلاع العتيقة التي تعود للقرن التاسع عشر؛ الاستطلاعات العشوائية كما تُعرف "Straw Polls"، (والكلمة حرفيًا تعني القش حيث رماه الفلاحون في العصور السالفة لمعرفة اتجاه الريح،) فقد أجريت الاستطلاعات على مدار القرن التاسع عشر بشكل عشوائي تمامًا عن طريق الصحافيين وغيرهم، والذين قرروا أحيانًا حصر آراء ركاب سفينة أو قطار ما دون النظر علميًا في تشكيل هؤلاء لعيّنة جيدة(1) يُقاس عليها الرأي العام كله.

كل ما فعلته المجلة إذن هو محاولة حصر أكبر عدد ممكن من الناس، للحصول بالتبعية على أكثر النتائج دقة، لكن إخفاقها أثبت بما يدع مجالًا للشك بأن العيّنة الأكبر ليست بالضرورة العيّنة الأفضل، وهو ما لفت الأنظار في نفس الوقت إلى جورج جالوب، والذي قرر أن مسألة الاستطلاعات تحتاج لقواعد علمية تقلل من عوامل الخطأ في الاستطلاعات العشوائية التقليدية، وتتيح الخروج بأفضل عيّنة بغض النظر عن حجمها.

جورج جالوب.
جورج جالوب.

في عالم اليوم يشار دومًا لإخفاق مجلة ليتراري دايجست كواحدة من نماذج "العيّنة السيئة"، والأسباب هنا عديدة، أهمها مثلًا أن الاعتماد على أرقام الهواتف الأرضية المسجلة في الثلاثينيات كان يعني عيّنة منحازة للطبقات الوسطى والعُليا، نظرًا لكون الهاتف الأرضي مسألة رفاهية آنذاك على عكس ما هي اليوم، وهو انحياز يعززه الاعتماد على قائمة أعضاء نوادي وجمعيات يصعب تخيّل انتماء الشرائح الفقيرة لها لضيق وقتهم و/أو أموالهم، وكذلك قراء المجلة من المشتركين بها والأثرياء في الغالب، وهو ما أدى في نهاية المطاف لعيّنة منحازة بطبيعتها للجمهوريين ومن ثم لمرشحهم لاندون، في حين كانت شرائح كبيرة من الفقراء تستعد للتصويت لروزفلت وبرنامج التعافي الاقتصادي الذي أقره بعد الكساد الكبير وانحاز أكثر لتخصيص الأموال لهم، وهي شرائح أخفقت ليتراري دايجست في الوصول لها (2).

لم تكن تلك المشكلة الوحيدة، فعلم الاستطلاعات اليوم يواجهنا بمشكلة أخرى كنا نجهلها آنذاك هي "تحيّز عدم الاستجابة،" والذي يقول ببساطة بأن العزوف عن المشاركة في الاستطلاعات ليس منتشرًا بشكل عشوائي بين الناس، ولكنه ينتشر بشكل أوسع بين شرائح اجتماعية معيّنة، ولذا كان عزوف 7.6 مليون عن المشاركة في استطلاع المجلة عام 1936 مقابل مشاركة 2.4 مليون فقط نقطة سلبية عززت من انحياز الاستطلاع ضد فئة بعينها، وهي مرة أخرى الفئة التي تعاني من قلة المال و/أو الوقت للمشاركة في استطلاع كهذا، أو ربما لا تلتفت لكل ما يقع ببريدها على عكس الطبقات الأغنى آنذاك.

ظهر جالوب إذن، ودخل العالم معه عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وشهد التقدم السريع في العلوم بكافة أنواعها، بما فيها العلوم الإحصائية، والتي جادت علينا بمعادلات معقدة تقوم شركات الرأي العام باستخدامها لتقليل نسب الخطأ في استطلاعاتها، لكن تركيبية الرأي العام كظاهرة إنسانية ظلت تفلت المرة تلو الأخرى من قيود الإحصاء الصلبة، لتكشف كل فترة عن فجوة فيما وصل إليه العالم في علم الاستطلاعات تسببت بها ظواهر اجتماعية و/أو نفسية معقدة في صفوف الناخبين، منها إخفاق جالوب نفسه في التنبؤ بفوز ترومان عام 1948، ثم المثال الأشهر الذي وقع عام 1982 في ولاية كاليفورنيا.
 

شبحُ "برادلي"
توم برادلي (مواقع التواصل الإجتماعي)
توم برادلي (مواقع التواصل الإجتماعي)

يقف إدوارد في إحدى طوابير الاقتراع بمدينة سان فرانسيسكو، ويستعد للإدلاء بصوته في انتخابات عمودية كاليفورنيا، والذي سيذهب لا شك إلى المرشح الجمهوري جورج دوكميجِن، تمامًا كما ذهب للجمهوريين من قبله على مدار سنوات طويلة من عُمره وعُمر أسرته المحافظة، لا سيما وأن المرشح الديمقراطي المنافس هذه المرة هو توم برادلي ذو الأصول الأفريقية، وهو أمر لم تكن لتتخيله أمّه التي توفيت قبل أن يحصل السود على حقوقهم في الولايات المتحدة.

لا يُعجب إدوارد أبدًا بالعنصرية الفجة التي يتسم بها بعض البيض، لكنه يشعر بالاستياء الشديد من حالة محاباة السود التي يعيش فيها الإعلام الأمريكي بالإضافة لبعض المؤسسات، لا سيما تلك المحسوبة على الحزب الديمقراطي، وهي حالة يشعر معها وكأن مخاوفه ومطالبه كمواطن أبيض لم تعد تحظى بالأهمية، وأن تغيير جلده للأسود فقط هو ما سيكفل جذب كاميرات الإعلاميين وميكروفوناتهم لسماع صوته.

يخرج إدوارد من صناديق الاقتراع، وسرعان ما يجد في وجهه امرأة سمراء تسأله سريعًا لمن منح صوته، تمامًا مثلما تفعل مع كل الخارجين من اللجنة الانتخابية كجزء من عملية استطلاع الخروج كما تُعرف أو "Exit Polls"، وهي استطلاعات عادة ما تصدق أكثر بكثير من استطلاعات ما قبل الانتخابات، أو هكذا اعتقد كثيرون. يتردد إدوارد قليلًا، ويحدق لثوانٍ في عينيها وبشرتها السمراء، ويشعر بالحرج نوعًا ما من القول بأنه منح صوته لدوكميجِن، ويجد نفسه يجيبها بأنه صوّت لبرادلي!

ليس وحده إدوارد الذي يشعر بالحرج، فقد فعل بيض كثيرون نفس الشيء مع المستطلعين، لتعزز استطلاعات الخروج إذن استطلاعات ما قبل الانتخابات التي تنبأت بالفعل بفوز برادلي، وتبدأ الاحتفالات باكرًا في صفوف الديمقراطيين، بل وتنشر إحدى الصحف طبعتها الأولى في المساء بعنوان "فوز برادلي المتوقع."

ظهرت المفاجأة حالما انتهى فرز الأصوات، إذ تم الإعلان عن فوز دوكميجِن بهامش ضئيل، وهو ما أثبتت الاستطلاعات فيما بعد بأنه نتيجة لحصول برادلي على أصوات أقل من المتوقع في صفوف الناخبين البيض، والذين صار يُعزَى لهم ما عُرف بتأثير برادلي(3)، وهو تأثير يقول بوجود حالة من الضغط الاجتماعي و/أو النفسي على الناخب الأبيض تمنعه من الإدلاء برأيه الحقيقي ضد مرشح أسود (أو من الأقليات بشكل عام) أثناء الاستطلاعات، في حين يمكنه بكل أريحية أن يدلي بصوته في صندوق الاقتراع لمرشحه المفضل (المحافظ غالبًا).

كانت تلك صفحة من الماضي بطبيعة الحال، فقد تجاوز المجتمع الأمريكي العنصرية بصورتها الفجة في الستينيات، وهو ما عبرت عنه منابر أكاديمية وسياسية عدة بـ"موت تأثير برادلي ،" والذي اعتُبر أمرًا مفروغًا منه مع انتخاب أوباما عام 2008، إذ لم تظهر معه أية بوادر لذلك التأثير، وهو ما يعود لظهور جيل جديد أكثر جرأة، وأقل هوسًا بمسألة الأبيض والأسود، غير أن شبح برادلي ظل يطل برأسه بين الحين والآخر في استطلاعات عدة وبأشكال مختلفة.

 الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما (وكالة الأنباء الأوروبية)
 الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما (وكالة الأنباء الأوروبية)

يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد، دانييل هوبكينز، بأن تأثير برادلي يكون حاضرًا فقط حين تكون الانتخابات مشحونة عرقيًا، وهو أمر لم تشهده انتخابات الرئاسة عام 2008 على سبيل المثال رُغم وجود مرشح أسود لأول مرة، فالمسألة ليست عرق المرشح ولكن مدى ارتباط الملفات المطروحة بملف العرق وحساسياته بشكل عام، وهو ما يدفع البيض في ذلك الجو العام المشحون لإخفاء توجهاتهم الحقيقية أثناء الاستطلاع خوفًا من وصمهم بالعنصرية.

بالنظر للانتخابات الأخيرة بين دونالد ترمب وهيلاري كلينتون، وعلى الرُغم من عدم وجود مرشح أسود كما تقول النظريات التقليدية عن تأثير برادلي، إلا أنه يمكن استشفاف وجوده بمعناه الأوسع اجتماعيًا ونفسيًا فيما يتعلق بالعلاقة بين الناخبين والقائمين بالاستطلاعات، فملف العرق لم يكن حاضرًا بمعناه الضيق بقدر ما كان ملف المهاجرين بشكل عام في مواجهة السكان البيض الأصليين كما يفترض، بل ويمكننا القول بأن تأثير برادلي قد تضاعف نوعًا ما ليشمل ملف المرأة أيضًا نظرًا لترشح امرأة لأول مرة، وفي مواجهة ترمب الذي يحمل آراءً عنصرية ضد النساء.

لم يكن غريبًا إذن أن تظهر المقارنة بين الاستطلاعات السابقة على الانتخابات، وتلك التالية لها، أن أعداد النساء التي صوتت لترمب أكثر من تلك التي صرحت بذلك بالفعل في الاستطلاعات(4) ، وأن أعداد اللاتينيين الضئيلة التي منحت صوتها لترمب رُغم توتر علاقته الشديد بهم، أكبر مما حصرته الاستطلاعات، (وهُم يمنحونه أصواتهم لأنهم لا يريدون لاتينيين جدد ينافسونهم على وظائفهم!) ولذا ساهم نوع من الحرج الاجتماعي المرتبط بتأييد ترمب في تضليل الاستطلاعات.

لم يكن تأثير برادلي وحده هذه المرة الذي وقف بوجه هيلاري كليتون، بل و"انحياز عدم الاستجابة" كذلك، فالشرائح التي لم تستجب للاستطلاعات كانت في الغالب من الشرائح البيضاء الفقيرة وغير المتعلمة، كما يقول أنردو كوهوت من مركز بيو للبحوث، وهي شرائح ترفض الاستجابة لسبب مشابه، وهي نفس الشرائح التي خرجت بأعداد كبيرة أكثر من ذي قبل للتصويت لترمب وترجيح كفته، وقلب عالم الاستطلاعات رأسًا على عقب كما فعل الفقراء عام 1936(5).

الرجل الأبيض المنسي (The Forgotten Man)
مؤيدو ترمب
مؤيدو ترمب
 

"الرجل المنسي": كان هذا هو بطل انتخابات الرئاسة الأمريكية هذا العام، والذي وجه له ترمب تحية خاصة فور الإعلان عن فوزه، والذي ضرب عرض الحائط أغلب الاستطلاعات التي أجريت في الأسابيع الماضية، وهي كلمة مرت مرور الكرام على البعض، ولكنها لم تمر على بفرلي جادج، أستاذ التاريخ بجامعة ييل، والذي أدرك سريعًا أن الرجل وجه تحية مهمة لأولئك الناخبين الذي يدين لهم بفوزه (وبإفشال الاستطلاعات كذلك.)

لم تكن تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها مصطلح الرجل المنسي، فقد استخدمه فرانكلين روزفلت الديمقراطي إبان الكساد الكبير في مطلع الثلاثينيات، في محاولة لحشد الشرائح الكبيرة من الناخبين الفقراء، والتي أدت لنجاحه بالفعل كما رأينا، واستخدمه الصحافي الأمريكي بيتر شراج عشية انتصار ريتشارد نيكسون عام 1968، مشيرًا لوجود ناخب أبيض ومنتم للطبقة الوسطى الدُنيا لم يرض عن السياسات الاقتصادية الليبرالية لعصر ما بعد الكساد، ولا عن التركيز على ملف المساواة بين البيض والسود أكثر من اللازم، دون الالتفات لوضعه المزري هو الآخر والذي لا يهتم به أحد لأنه ليس أسودًا.

الرجل المنسي إذن يصعب تصنيفه بدقة في ظل الخريطة السياسية الحالية، فهو محافظ في ملف العرق، ولكنه قد يميل لليسار في ملف الاقتصاد، وهو ناقم على الليبرالية مثل برني ساندرز، لكنه منح صوته لترمب رجل الأعمال لاعتقاده بأنه الشخص المناسب لإنصاف العمال والريفيين البيض، والذين نستهم أو تناستهم المؤسسات الأمريكية لحوالي عقد لصالح الأمريكيين من أصل أفريقي، وهي نفس الشريحة التي نستها الاستطلاعات أيضًا، لا سيما وأن الكثيرين في صفوفها قلما شاركوا في الانتخابات في السابق لعدم رضاهم عن أي من المرشحين المحسوبين على المنظومة في نظرهم(6).

 (رويترز)
 (رويترز)

تعاني الاستطلاعات الحالية من تحيز ضد الناخبين الذين لم يشاركوا سابقًا، فهناك معادلات معينة يتم استخدامها من جانب شركات الاستطلاع لتجنب الحصول على عيّنة سيئة، إذ يسأل القائمون على الاستطلاعات مثلًا ما إن كان الناخب قد صوت من قبل، أو يعرف مكان التصويت، وإن كانت الإجابة لا فإن آراؤه تحمل بالتبعية وزنًا أقل، لكن الواقع -مرة أخرى- هو أن الانتخابات التي تتسم بالاستقطاب تجلب معها حشدًا لشرائح لم تشارك سابقًا، وربما لم تكن تعلم مكان التصويت بالفعل حتى قبل الانتخابات بوقت بسيط، لكنها في الحقيقة تقرر المشاركة في النهاية، وربما تشارك في مجموعات لا يستتبع معها علم كل فرد منها بالضرورة بمكان الاقتراع بالتحديد.

ما كان بالأمس وسيلة لتجنّب الحصول على عيّنة سيئة، يصبح اليوم للمفارقة سببًا في الخروج بعيّنة سيئة في ظل ظروف الاستقطاب السياسي والحشد الجديد لقواعد لم تشارك سابقًا، وهو ما تُضاف له عوامل أخرى تجعل الاستطلاعات منحازة، فالبعض يعتمد على الاتصال بأرقام الهاتف المحمول لإجراء الاستطلاع، لكن الواقع هو أنه يفشل في الحصول على تنوّع جغرافي كالذي يحصل عليه بانتقاء عيّنة هواتف أرضية من شتى الولايات، علاوة على تشكيل عيّنة منحازة ضد الأجيال الأكبر سنًا، إذ يشكل الشباب الشريحة الأكثر امتلاكًا للهواتف المحمولة في الولايات المتحدة، وهم الأقل تصويتًا لترمب كما رأينا (7) ، وأخيرًا، فإن الكثير من العازفين عن المشاركة عن طريق المحمول يكونون من الفقراء الرافضين لتكبّد تكلفة المكالمة الواردة، وهي مكالمة لا تُحسب فقط على المتصل في بعض الولايات (8) .

بين استطلاع الواقع وواقع الاستطلاعات:
متظاهرون يرفضون أفكار ترمب (وكالة الأنباء الأوروبية)
متظاهرون يرفضون أفكار ترمب (وكالة الأنباء الأوروبية)

يظل استطلاع الرأي العام إذن مسألة معقدة، ويصعب فيه الجزم بقول فصل أو طريقة مثالية للقيام به، وعلى العكس من العلوم الطبيعية التي تظل تضل طريقها للنظرية الأمثل بين الحين والآخر نتيجة لما يتم اكتشافه عند الوصول لمستويات دقة أكبر للكشف عن الطبيعة، فإن المسألة فيما يخص الرأي العام ليست الحصول على دقة أكبر في قراءة واقع طبيعي قابل للتنبؤ، بقدر ما هي إدراك التركيبية الواسعة لمجموعة من البشر في لحظة سياسية وواقع اجتماعي معيّن، وهو أمر يتغير باستمرار وبأشكال غير متوقعة.

يصعب استطلاع الرأي العام فقط بالارتكاز للإحصاء دون علم الاجتماع والنفس، وهي علوم لم تُقصَ بالكامل سابقًا ولكنها لم تحصل على حجمها المطلوب في مقابل هيمنة علم الإحصاء على استكشاف الرأي العام، وكأن الاستطلاعات كانت بمثابة ميكروسكوب يخضع للتعديلات بين الحين والآخر للحصول على أفضل صورة للمجتمع قيد البحث ليس إلا، في حين تحتاج الاستطلاعات، ليس فقط تجاوز الصورة الاختزالية لها باعتبارها ميكروسكوب اجتماعيًا في لحظة معينة، ولكن التعامل معها باعتبارها جزءًا من التفاعل المركّب الحاصل لحظة الاستطلاع لا عملية موضوعية مجردة منفصلة عن واقعها الاجتماعي.

ليس غريبًا أن تفيدنا استطلاعات عديدة بحصول السائلين من السود مثلًا على إجابات مختلفة أحيانًا عن السائلين من البيض، وكذا تتغير الإجابات باختلاف السائل بين الرجال والنساء، والمحجبات وغير المحجبات، وذوي المظهر الآسيوي أو اللاتيني وغيرهم، وهي تفاعلات تختلف كنتيجة طبيعية للواقع الاجتماعي الذي تتم فيه، والذي تُعد الاستطلاعات نفسها جزءًا منه، وبالتالي يصعب معها إقصاء عامل الخطأ تمامًا كما يتمنى البعض.

أخيرًا، يستحيل في النهاية إقصاء الانتماءات والتحيزات لدى القائمين على هذه الاستطلاعات، والذين ينتمون عادة لمؤسسات إعلامية كبرى، ومن ثم لشرائح اجتماعية واقتصادية معيّنة، علاوة على امتلاكهم خلفية تعليمية لا بأس بها، وكبشر في نهاية المطاف، فإن خروجهم بنتائج تعزز تحيزاتهم سيدفعهم نحو تصديقها أكثر من نتائج لا تعزز تحيزاتهم، بل ولعلهم في الواقع أكثر قابلية للحصول على نتائج تعزز تحيزاتهم كنتيجة لرؤاهم وخلفياتهم الأكاديمية، والتي تشكل في الأصل تصوراتهم عن الاستطلاعات وأساليب القيام بها.

قبل أيام، طرح أحد الكتاب الأمريكيين سؤالًا اعتبره ربما السؤال الأهم على المستوى الفلسفي والذهني في تفسير إخفاق الاستطلاعات في توقع فوز ترمب على هيلاري كلينتون، متجاوزًا تحليل أسباب إخفاقها الإحصائية، ومنتقلًا لحالة من الاعتقاد بفوز كلينتون سيطرت على كثيرين، وجعلتهم منحازين دون وعي للنتائج التي حصلوا عليها (وهو عكس ما كان ليحدث لو ظهر تقدم ترمب في تلك الاستطلاعات): هل اعتقدنا بأن كلينتون ستفوز بسبب سوء البيانات التي خرجنا بها؟ أم أننا تجاهلنا سوء البيانات لأننا اعتقدنا بفوز كلينتون؟

ستحتاج الإجابة وقتًا طويلًا كما كتب الرجل، لا سيما وأنها تمس فلسفة علم الاستطلاع نفسه، وعلم النفس الكامن خلفه، وهي إجابة سنحتاج للانتظار لنرَ فحواها من كبرى مؤسسات الرأي العام الأمريكي، لعل وعسى أن يخرج جالوب جديد من صفوفها أكثر اهتمامًا بالتركيبية الاجتماعية للواقع قبل استطلاعه، وأكثر إدراكًا لواقع الاستطلاعات المركب كعملية اجتماعية ونفسية بحد ذاتها.

المصدر : الجزيرة