شعار قسم ميدان

"شبكات الهيمنة".. هل انتهى عصر القواعد العسكرية الأميركية؟

ميدان- جيش أميركا
مقدمة المترجم

للقواعد العسكرية خارج الحدود دلالة هامة على نفوذ الدولة وقوتها العسكرية وحضورها في المشهد السياسي الإقليمي والعالمي. والولايات المتحدة هي الدولة ذات عدد القواعد العسكرية الأكبر بالخارج. لكن الانتقاد الموجه إلى هذه الشبكة العملاقة من القواعد قد بلغ اليوم حدا غير مسبوق، بعد أن ازداد نضجا وأثبتت التجربة التاريخية رصانته. نقرأ في هذه المقالة نقدا أميركي للقواعد بالخارج، يمكن استخدامه ضد أي دولة أخرى، وهو مؤشر هام على تطور السياسة الدولية، وسيؤثر لا محالة على الوضع في الشرق الأوسط.

 

نص التقرير

على مدار العقود الأخيرة، أحدثت الثورة الرقمية تحولا جذريا في الممارسات المثلى داخل قطاع الأعمال. إلا أن هذه التغييرات استغرقت بعض الوقت للتسلل إلى القطاع العام، الذي ظل مرتبطا بالممارسات والأفكار التقليدية. واليوم، يحاول ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي، إعادة النظر في جميع ممارسات ومهام وزارته، من أجل تحقيق أفضل أداء ممكن. لكن تطبيق ذلك على وزارة الدفاع الأميركية هو التحدي الأكبر، فهي أكبر المؤسسات البيروقراطية في العالم. لقد وضعت استراتيجية عمل العسكرية الأميركية، وهيكلها، وأولوياتها التمويلية، قبل عقود من الزمان، في ظل أوضاع جيوسياسية واقتصادية وتكنولوجية مختلفة تماما.

 

فلنتأمل شبكة القواعد العسكرية الأمريكية بالخارج، هذه الشبكة المعقدة باهظة التكلفة، التي بدأت على صورة محطات لإمداد سفن البحرية الأمريكية بالفحم قبل قرن ونصف من الزمان. لقد باتت هذه القواعد أكثر عرضة للهجوم بسبب تكنولوجيا المراقبة والاستهداف الحديثة، كما يمكن لوجودها دفع النزاعات إلى الخيار المسلح واستعداء خصوم كانوا لولاها "القواعد العسكرية" لأصبحوا أكثر انصياعا. إضافة إلى ذلك، قد تشجع القواعد الأمريكية الحلفاء على مجازفات ربما كانوا سيتجنبونها إن اختلف الوضع، وهو ما سيزيد حالة انعدام الاستقرار تفاقما ويقحم الولايات المتحدة في صراعات هامشية. وأخيرا، إن الانتشار المسبق للقوات يمثل إغراء لزعماء الولايات المتحدة، إذ تبدو بفضله المطالبات بالتدخل العسكري أكثر منطقية، حتى في المناطق التي لا تواجه فيها المصالح الأميركية خطرا حقيقيا.

  undefined

 
ومع تغير ظروف السياسة الدولية، ومع أثر الابتكارات التكنولوجية في تقليص الوقت اللازم للسفر وجعلها القوات المتمركزة هدفا أكثر سهولة في الوقت نفسه، تصبح إعادة النظر في الجدوى الاستراتيجية والتشغيلية للقواعد بالخارج مطلبا مشروعا. هناك ثلاثة مسوغات استراتيجية رئيسية لامتلاك قواعد عسكرية بالخارج، وهي ردع الخصوم، وطمأنة الحلفاء، وضمان القدرة على التجاوب السريع في حالة الطوارئ. لكن لم تعد أي من هذه المسوغات كافية لتبرير حضور عسكري دائم بالخارج في أوقات السلم.

 

مشكلة الردع

كثيرا ما يبالغ في قيمة القواعد العسكرية في الخارج باعتبارها سلاحا للردع. بداية، هذا أمر يصعب إثباته، لأن نجاحه يقاس بإحجام الخصم عن الإتيان بأفعال غير مرغوب فيها. ولا شك في صعوبة تحديد سبب عدم وقوع أمر ما، أهو ارتداع، أو غياب لنية الهجوم لدى الخصم من البداية، أو أي سبب آخر، وهذا يمثل تحديا حقيقيا.

 

تظهر هذه المشكلة كالوباء في كثير من ميادين السياسة الخارجية الأمريكية. على سبيل المثال، يقول محللون من أمثال مايكل أوهانلون وريتشارد سي. بوش من معهد بروكينغز، وصناع القرار على حد سواء، إن الحضور العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية وحده ما يردع كوريا الشمالية عن شن هجمة أحادية الجانب. لكن حجم اقتصاد كوريا الجنوبية يعادل 40 ضعف اقتصاد كوريا الشمالية، ويبلغ تعداد سكان كوريا الجنوبية ضعف سكان كوريا الشمالية، كما تفوق القدرات العسكرية لكوريا الجنوبية قدرات بيونغيانغ بكثير. ومن شأن هذا التفاوت الصارخ في القوة الاقتصادية والعسكرية ردع كوريا الشمالية عن مهاجمة نظيرتها الجنوبية، وسيستمر ذلك حتى مع غياب القوة العسكرية الأمريكية عن المنطقة.

 undefined

 
بالمثل، يرى المدافعون عن الانتشار العسكري المسبق بالشرق الأوسط أن القاعدة البحرية الأميركية في البحرين ودورياتها اليومية في الخليج العربي هي السلاح الرئيسي الذي يمنع إيران من إغلاق مضيق هرمز. لكن إيران تصدر معظم نفطها عبر المضيق، وستكبد نفسها أضرارا اقتصادية بالغة إن حاولت إغلاقه. كما ستهدد هذه المحاولة وأمثالها المصالح الحيوية للقوى الإقليمية، إلى جانب مصالح القوى الخارجية التي تعتمد على التدفق الحر للنفط من المنطقة. بالتالي، ستواجه إيران خطر التعرض لضربة انتقامية لا تحتمل من قبل ائتلاف دولي، وغالبا ما سترتدع حتى دون حضور بحري أمريكي دائم في الخليج.

 

أحيانا تأتي محاولات الردع بنتائج عكسية. فربما تثير القواعد العسكرية القريبة من الخصم خوفه فتدفعه إلى التصرف بعدوانية. مثل التعديات الروسية على جورجيا عام 2008 وأوكرانيا عام 2014، التي زُعِم أن غياب الردع الكافي وتراجع مصداقية الولايات المتحدة هو ما جعلها ممكنة، بينما هي نتاج للقلق الذي تعيشه موسكو بسبب تغلغل المؤسسات الاقتصادية والعسكرية الغربية بقيادة الولايات المتحدة في الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى درجة بلغت معها الحدود الروسية. إن توسيع حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة هو مصدر القلق والامتعاض الروسي. وبعد ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجزيرة القرم، أعلن أن توسيع الحلف هو محاولة للهيمنة. وفي عام 2015، حين دعا حلف شمال الأطلسي مملكة الجبل الأسود للانضمام إليه، حذر الكرملين من أن استمرار توسع حلف الأطلسي شرقا "سيؤدي إلى رد فعل انتقامي لا محالة". هكذا، يمكن القول إن الانتشار المسبق قد يساهم أحيانا في حالة عدم الاستقرار التي كان يهدف -بالمقام الأول- إلى الحيلولة دونها.

 

التطور التكنولوجي الجديد

عند الدفاع عن الحضور العسكري الأميركي بالخارج، في صورة قواعد عسكرية مستمرة إلى أجل غير مسمى، تستخدم عدد من الحجج، من أبرزها صعوبة الحصول على إذن بالتدخل من الحكومات المضيفة، خلال أزمة تتطلب تدخل القوات الأمريكية، وما ستستهلكه هذه الإجراءات من وقت. هذه مخاوف مبالغ فيها. فأولا، دائما ما يستلزم استخدام القواعد العسكرية في مهام جديدة إذنا من الحكومة المضيفة. إذ عادة ما تلزم اتفاقيات الاستضافة الولايات المتحدة بالتشاور مع حكومات الدول المضيفة قبل إجراء أي عملية غير روتينية. وتخلص دراسة نشرتها مؤسسة راند عام 2016 إلى أن "القواعد العسكرية الضخمة الدائمة لا تمثل ضمانة إضافية للتدخل السريع في حالة الطوارئ". كما أن الولايات المتحدة لم تواجه عبر تاريخها مشكلة في توفير تمركز آمن خلال فترات الحروب. بل استطاعت -علاوة على ذلك- إضافة منشآت جديدة بالخارج لإدارة العمليات العسكرية في جميع الصراعات الرئيسية على مدار الأربعين عاما الماضية.

 

بعيدا عن الغارات الجوية، يمكن للقوات الأمريكية الانتشار في أي منطقة تقريبا، انطلاقا من الولايات المتحدة، وبسرعة كافية
بعيدا عن الغارات الجوية، يمكن للقوات الأمريكية الانتشار في أي منطقة تقريبا، انطلاقا من الولايات المتحدة، وبسرعة كافية
 

أما عن العمليات القتالية التي لا تتطلب تحريك عدد كبير من القوات، فقد أصبح الانتشار العسكري انطلاقا من من الولايات المتحدة كافيا، بفضل التقدم التكنولوجي في القدرات العسكرية ووسائل السفر والاتصالات. وهو ما يظهر جليا في حالة الحملات الجوية. إذ يقول روبرت هاركافي، الأستاذ بجامعة ولاية بنسلفانيا: "إن تطوير الطائرات والسفن القادرة على قطع مسافات أكبر، إضافة إلى تطوير تقنيات لتزويد الطائرات بالوقود في الجو، وتقنيات لتزويد السفن بالوقود في عرض البحر، كان له أثر كبير في خفض عدد نقاط الاستناد التي تحتاجها القوى العظمى لضمان استمرار عمل شبكات النقل الدولية". الآن، يمكن استخدام حاملات الطائرات لشن حملات كبرى، من غارات جوية على مدار الساعة، ضد أهداف عميقة، في مناطق نائية، وفي زمن قصير، دون الحاجة إلى قواعد عسكرية مجاورة.

 

بعيدا عن الغارات الجوية، يمكن للقوات الأمريكية الانتشار في أي منطقة تقريبا، انطلاقا من الولايات المتحدة، وبسرعة كافية. ففي حالة الطوارئ، وفقا لمؤسسة راند، "يمكن للقوات البرية الخفيفة الانتشار جوا انطلاقا من الولايات المتحدة، بأسرع مما كانت لتستغرقه انطلاقا من قاعدة بالمنطقة". على سبيل المثال، يستغرق فريق لواء قتالي مدرع 18 يوما تقريبا للانتقال من ألمانيا إلى الكويت، أي أسرع مما كان ليستغرقه حال انتشاره من الساحل الشرقي للولايات المتحدة بنحو أربعة أيام فقط. ولا جدال في أن نشر القوات الثقيلة بكميات كبيرة عن طريق الجو أمر لا يعقل في حالة الطوارئ التي تتطلب قوات برية ضخمة. لكن حالات الطوارئ التي يتوقف مصيرها على الانتشار شديد السرعة هي حالات نادرة للغاية.
 

خطر الاشتباك

إن القوات المنتشرة مسبقا أكثر عرضة للهجوم من القوات المتمركزة في الوطن. صحيح أن القواعد العسكرية الأمريكية بالخارج ليست عرضة لخطر القصف في المستقبل القريب، بفضل سلاح الردع الفعال، لكنها قد تصبح أهدافا ذات أولوية في بعض السيناريوهات محتملة الوقوع. مثل محاولة الصين إخضاع تايوان، أو تأجج النزاعات الإقليمية في بحر الصين الشرقي أو الجنوبي، مما قد يدفعها إلى اتخاذ إجراءات عدائية ضد القوات الأمريكية في المنطقة. إذ تقع نسبة كبيرة من المنشآت الأمريكية -أكثر من 90 بالمئة من المنشآت الجوية الأمريكية فى شمال شرق آسيا- في نطاق الصواريخ الباليستية الصينية. فلا تسهم القواعد العسكرية في الردع إلا بنسبة هامشية على حساب تعرض القوات المنتشرة مسبقا لمزيد من الأخطار.

 

يمكن للقوات المنتشرة بالخارج إغراء صناع السياسات بالانخراط في حروب اختيارية كان تجنبها ليكون أكثر سهولة لو لم يكن للولايات المتحدة قواعد عسكرية في مسرح الأحداث
يمكن للقوات المنتشرة بالخارج إغراء صناع السياسات بالانخراط في حروب اختيارية كان تجنبها ليكون أكثر سهولة لو لم يكن للولايات المتحدة قواعد عسكرية في مسرح الأحداث
  

كما تتعرض الولايات المتحدة إلى خطر آخر نتيجة لمحاولتها طمأنة الحلفاء عن طريق القواعد العسكرية بالخارج، وهو خطر التورط في اشتباكات لا داعي لها. لقد شككت كثير من الأدبيات الأكاديمية -مثل "السمعة والسياسة الدولية" لجوناثان ميرسر من جامعة واشنطن، و"حساب المصداقية" لداريل بريس من كلية دارتموث- في الحاجة إلى إجراء عملية عسكرية من أجل الحفاظ على المصداقية فقط. لكن وجود القواعد العسكرية في مناطق النزاع أو بالقرب منها قد يزيد حدة المطالبات بالتدخل دفاعا عن المصداقية، مما يزيد احتمالية التورط في الاشتباكات.

 

في الماضي، أقحمت الولايات المتحدة نفسها في صراعات بسبب حماية المصداقية والوفاء بالالتزامات والانتشار العسكري المسبق المغري بالتورط. وبحلول ديسمبر 1945، أوصى الجنرال الأمريكي جون آر. هودج بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من كوريا. وفي أبريل 1947، كرر روبرت باترسون وزير الحرب المطلب نفسه. ثم اقترح مجلس الأمن القومي، عام 1948، سحب جميع القوات الأميركية مع نهاية العام. إذ أوضحت هيئة الأركان المشتركة أن "لكوريا قيمة استراتيجية ضئيلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة"، كما حذرت من أن الوجود العسكري الدائم قد يورط الولايات المتحدة في حرب بشبه الجزيرة عقب بعض الاستفزازات. وهذا ما حدث بالفعل عام 1950 حين غزا الشمال الجنوب. وللأسف، لم تلق هذه المطالبات بالانسحاب أي اهتمام.

 

علاوة على ذلك، يمكن للقوات المنتشرة بالخارج إغراء صناع السياسات بالانخراط في حروب اختيارية كان تجنبها ليكون أكثر سهولة لو لم يكن للولايات المتحدة قواعد عسكرية في مسرح الأحداث. مثل تدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011 في الحرب الأهلية الليبية، حينها قصفت الولايات المتحدة ليبيا من سفنها الحربية بالبحر المتوسط، ومن القواعد الجوية بأسبانيا وإيطاليا وألمانيا، ومن مواقع قريبة أخرى. ولعل تبرير التدخل العسكري الأميركي باستخدام هذه الحجج الضعيفة، بما فيها الادعاءات غير الموضوعية حول الكوارث الإنسانية الوشيكة وضغوط حلفاء الناتو، ما كان ليصبح بهذه السهولة لولا الانتشار المسبق للقوات الأمريكية فى المنطقة.

  
undefined
   

مستقبل سياسة الدفاع الأميركية

يزعم المدافعون عن الانتشار المسبق أنه كان قوة مؤثرة ساهمت في خلق عالم أكثر أمنا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عن طريق تخفيف آثار الفوضى السياسية والحيلولة دون خروج الصراعات عن السيطرة. هذه الحجة هي جوهر المنطق الكامن وراء استراتيجية الردع والزجر. لكن هناك تفسيرات منطقية أخرى لعدم نشوب حرب تشارك فيها أي من القوى العظمى منذ عام 1945. فعلى الرغم من أن الارتباط التجاري والاقتصادي لا يكفي دائما لتجنب الصراع بين متحاربين محتملين، هناك أدلة قوية على أنهما يقللان من احتمالية نشوب الحرب. ولقد جعلت القوة التدميرية للجيوش الحديثة من الحروب نشاطا باهظ التكلفة في كثير من الحالات، علاوة على أن امتلاك معظم القوى العظمى في العالم للأسلحة النووية قد يكون عاملا رئيسيا في تراجع الصراعات الدولية. إلى جانب ذلك، كان لتغير نظرة الناس إلى الحرب، من طموح نبيل وفاضل إلى ملاذ بربري أخير، دور في انتشار السلام بين الأمم.

 

يجب أن يعكس الانتشار العسكري الأميركي المسبق مصالحا دفاعية أميركية حقيقية. وينبغي لموقع الولايات المتحدة الآمن بصورة فريدة، إلى جانب حالة السلم النسبية للسياسة الدولية، أن يسمحا بالانسحاب من هذه الشبكة العالمية من القواعد العسكرية بالخارج. وبدلا من الدفاع عن أمن الدول الأخرى ومحاولة تهدئة مناطق الصراع في جميع أنحاء العالم، يتوجب على الولايات المتحدة تشجيع الحلفاء على تحمل عبء الدفاع عن أنفسهم، والانفصال عن النزاعات الإقليمية، خشية التورط في صراعات لا تشكل خطرا على مصالحها الحيوية.

_____________________________________________
مترجم عن: (فورين أفيرز)