شعار قسم ميدان

"جزية ماكرون".. شبكات "فرانس أفريك" الجديدة بأفريقيا

midan - الرئيسي الفرنسي
اضغط للاستماع
    
بحضوره اللافت وجاذبيته المعهودة، وحركات جسده المتقنة، سيطر الرئيس الفرنسي الشاب على الأمور تماما داخل قاعة جامعة "واغادوغو" في عاصمة بوركينا فاسو الحاملة للاسم ذاته، وبحضور أكثر من 800 طالب جامعي بوركيني. ولمزيد من استعراض الثقة، قرر الرئيس الفرنسي في سابقة غير معهودة البدء في تلقي أسئلة الطلاب مباشرة، وحين سألته طالبة حول نقص إمدادات الطاقة المحلية، بما في ذلك الإمدادات إلى الحرم الجامعي بعد أن توقف مكيف الهواء فجأة عن العمل أثناء الخطاب، أجاب "إيمانويل ماكرون" مستنكرا بلغة جسد استعراضية أنها ليست مشكلته كي يحلها، لكنها مهمة رفيقه الرئيس البوركيني "مارك كريستيان كابوري" الذي استلم الحكم عام 2015، والذي كان واقفًا بجوار الفرنسي في تلك اللحظة، ومَن غادر القاعة للمفارقة، بعد لحظات قليلة من إجابة ماكرون لـ"قضاء حاجته"، ليمزح ماكرون مباشرة مضيفًا أن كابوري "ذهب الآن لإصلاح جهاز التكييف".

 

تحولت مزحة ماكرون لمقطع فيروسي انتشر كالنيران في الهشيم على صفحات المنصات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، بين معجبين بروح دعابة الرئيس الفرنسي، وبين متهمين له باستخدام لغة "استعمارية متعالية" في تعامله مع أفريقيا، وهي اتهامات لم تكن الأولى من نوعها باتجاه الرئيس الفرنسي الجديد على أية حال، غير أن أسئلة أخرى أكثر أهمية طُرحت على ماكرون من الطلبة، لم تَلقَ ذات الحظ من الانتشار كمزحته غير التقليدية، وعلى رأسها سؤال بدا وأن ماكرون توقع سماعه في حرم الجامعة تحديدًا؛ سؤال حول رجل يدعى "توماس سانكارا"(1).

  

 

خارج القاعة كان توماس نفسه أكثر حضورا في مشهد بدا مناقضا تماما لحفلة السلام الجامعية الداخلية(2)، حيث يتظاهر المحتجون وتُسمع أصوات هتافاتهم المنددة، وتُشمّ رائحة إطاراتهم المحترقة ممتزجة مع رائحة قنابل غاز أطلقت لتفريقهم؛ مشكلة صورة عكست الوجه الآخر لزيارة الرئيس الفرنسي؛ وجه لم يظهر بأي شكل في خطاب الجامعة الاستعراضي. وفي تلك الأجواء، حيث حماس المحتجين الثائرين وصورهم المشهرة، طغى حضور الشاب الأفريقي سانكارا في الصور بابتسامته الواسعة وحلته العسكرية التقليدية، ممتزجتان معا لتنتجا ظهورا يوحي بمزيج لا تخطئه العين من هدوء وصرامة.

 

لا يحمل ماكرون على الأرجح مشاعر محددة تجاه سانكارا، فلم يكن الرئيس الفرنسي الشاب قد أتم عامه السادس بعد حين وصل الشاب الثلاثيني آنذاك سانكارا للسلطة في بوركينا عام 1983، بعد قيادته لتحرك عسكري مدعوم شعبيا أطاح خلاله بنخبة جنرالات بوركينا الحاكمين الموالين لفرنسا، من كانوا يسيطرون على البلد المعروف آنذاك باسم "مستعمرة فولتا العليا". وبمجرد سيطرة سانكارا على البلاد قام بتغيير اسمها مباشرة لـ"بوركينا فاسو" أو "أرض الرجال الشرفاء"، قبل أن يشرع في قيادة أحد أكثر برامج الإصلاح طموحا في أفريقيا، أنهي بموجبه سيطرة البيروقراطيين ورجال الأعمال والعسكريين على الدولة، وركز مواردها المحدودة لإصلاح أحوال الريف والفقراء والنساء، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.

 

على غير المتوقع، حققت خطط سانكارا نجاحا ملحوظا في وقت قياسي، حيث بنت بوركينا فاسو في عهده عشرات المدارس والمراكز الصحية وخزانات المياه، وشيّدت ما يقرب من 100 كلم من السكك الحديدية دون أي مساعدة خارجية، وارتفع الإنتاج الكلي للحبوب بنسبة 75% خلال فترة حكمه. وبالإضافة لإنجازاته تلك، كان سانكارا قياديا نظيفا ونزيه اليد بشكل لا يصدق(3)، وقد روى أرنست هارسش، مؤلف سيرة حديثة عن الرجل، أن توماس أخبر أفراد أسرته بألا يتوقعوا أي منافع أو مزايا جراء كونه رئيسا، عكس ما يتعارف على أنه شبه قانون حظوة لأقارب الرؤساء الأفارقة، ولم يكن سانكارا يتوقع إلا مزيدًا من المتاعب في طريقه لتحقيق خطته الطموحة، غير أن ما لم يتوقعه ربما، هو أنه سيدفع حياته نفسها ثمنا لها بسرعة كبيرة، رغم أنه لم يكن يبالي بذلك على أية حال.

 

في (أكتوبر/تشرين الثاني) عام 1987، وبعد أربعة أعوام فقط قضاها في السلطة، قتل سانكارا و12 من رفاقه أثناء انقلاب عسكري نفذه وزير دفاعه "بليز كومباوري" بدعم من فرنسا وعدة قوى إقليمية(4)، وعلى رأسها ساحل العاج صاحبة الهيمنة الطويلة سابقًا على بوركينا فاسو. كان تورط فرنسا بمنح الضوء الأخضر للمتآمرين في أدنى الأحوال فاضحا لدرجة أن اسمها كان حاضرا كأحد المسوغات المعلنة جهرًا من وزير الدفاع المنقلب للإطاحة بسلفه، حيث قال إن سياسات سانكارا "أغضبت القوى الصديقة للبلاد وفي مقدمتها فرنسا" مسميًا إياها بشكل مباشر. وعلى مدار فترة حكم امتدت لثلاثة عقود تقريبًا، عمد كومباوري لطمس إرث سانكارا، بداية من إصدار شهادة رسمية تدّعي أن وفاته كانت طبيعية، لهندسة حملة شاملة لتشويه صورته، في حين رفضت فرنسا من وقتها الكشف عن أي وثائق تخص عملية اغتيال سانكارا، حتى بعد الإطاحة بـ"بليز كومباوري" من السلطة بعد انتفاضة شعبية وتحرك عسكري عام 2014، لدرجة أن الكثيرين في بوركينا يعتقدون أن فرنسا تدخلت لإنقاذ عنق "كومباوري" ونقلته لساحل العاج.

 

مواطنين يحملون صور الرئيس البوركيني الراحل  توماس سانكارا (1949-1987م)  (رويترز)
مواطنين يحملون صور الرئيس البوركيني الراحل  توماس سانكارا (1949-1987م)  (رويترز)

 

اليوم، لا يرى ماكرون نفسه مضطرا لتحمل تبعات كل هذا الإرث وهو الشاب الفرنسي القادم من عالم ما بعد الاستعمار، معتقدا أن كل ما عليه وعلى الأفارقة أيضا هو نسيان الأمر والمضي قدما، لذلك، فقد فوجئ ماكرون على الأرجح أن ثناءه الباهت على سانكارا(5)، وتعهده بتعاون بلاده في الإفراج عن وثائق "الأمن القومي" الفرنسية المطلوبة للتحقيق في مقتله، لم يكونا كافيين لتجميل صورته أو صورة بلاده بأي شكل، ليس فقط أمام المحتجين الغاضبين خارج القاعة الجامعية، ولكن أيضا داخلها في واغادوغو، مدركًا شيئا فشيئا أن الكلمات الخطابية لا تكفي وحدها لتجاوز حقائق متجذرة تشكلت عبر سنوات عديدة.

 

بدا ذلك واضحا حين كان ماكرون مجبرا على مواجهة تساؤلات طلاب لم يروا التواجد العسكري لجنوده في بلادهم بذريعة مكافحة الإرهاب منّة تستحق الشكر، ولم يروا أن الارتباط التاريخي بين الفرنك الأفريقي واليورو وهيمنة فرنسا على النظام المالي الأفريقي مفيدة لدعم عملة بلادهم كما يراهما الرئيس الفرنسي، وحينها فقط أدرك الجميع ما كان معروفا سلفا؛ ينتمي ماكرون ومستمعوه لعالمين مختلفين تماما، وليس بإمكان الرئيس الفرنسي أن يلعب سوى دوره المحفوظ من حكاية مكررة يرتدي فيها حلة المستعمر(6)، مهما اجتهد في جعل هذه الحلة أكثر أناقة وجاذبية.

 

المافيا الفرنسية

عندما صرح ماكرون، المرشح الرئاسي الفرنسي آنذاك، في (فبراير/شباط) 2017 لقناة الشروق الجزائرية الخاصة معترفا بأن الاستعمار؛ "جزء من التاريخ الفرنسي وأنه جريمة ضد الإنسانية"، كان ذلك تصريحا غير مسبوق لرئيس فرنسي محتمل قرر إدانة بلاده علنا(7)، لدرجة أن معارضيه في باريس وصفوه بأنه "طعنة في ظهر فرنسا". وفي وغادوغو، وفي خطابه الأفريقي الأبرز، كان ماكرون حريصا على تكرار الاعتراف بهذه الإدانة، لكنه حرص على تأكيد موقفه المرتبك من الاستعمار والذي سبق أن شرحه في حوار مع صحيفة لوبوان الفرنسية العام الماضي قائلًا: "كانت هناك جرائم كبيرة، ولكن كانت هناك أيضا عناصر حضارية وتواريخ سعيدة".

 

يعد الخطاب الفرنسي لأفريقيا طقسا معتادا لكل رئيس فرنسي، في إشارة دائمة للتشابك السياسي والاقتصادي بين باريس وأفريقيا. وقد كان الخطاب الأبرز من نصيب شارل ديغول في برازافيل(8)، عاصمة الكونغو، عام 1944، وسعى خلاله لتدشين اتحاد "فرنسي أفريقي" لم يدم طويلا. كان ديغول يهدف لوضع استراتيجية تُعرِّف علاقات فرنسا مع أفريقيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية، وكانت خطته تأمل بتعزيز موقف فرنسا الدولي من خلال ضمان استمرار العلاقة مع مستعمراتها السابقة. وفي حين فشل ديغول في الحفاظ على الاتحاد، فإن ما نشأ حقا في البلدان الفرنكوفونية في غرب ووسط أفريقيا هو شبكة من المصالح التجارية والعسكرية والسياسية الفرنسية، تشابكت مع مصالح بعض النخب السياسية الأفريقية، لتنتج جميعها منظومة مشبوهة عرفت باسم "فرانس أفريك".

 

أسست "فرانس أفريك" شبكات استعمارية قوية ضمنت تدفق المواد الخام والمعادن القيمة من الدول الأفريقية لفرنسا، كما حولت هذه الدول لسوق مفتوحة للواردات والعقود للشركات الفرنسية، إلا أن الأهم كان في احتفاظ فرنسا لنفسها بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب أفريقيا والمعروفة باسم الفرنك الأفريقي (CFA)، وهو نظام تخضع بموجبه 14 دولة أفريقية، من بينها 12 مستعمرة فرنسية سابقة، للنظام المصرفي الفرنسي من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية.

 

 شارل ديغول في مؤتمر برازفيلد عام 1944 (مواقع التواصل)
 شارل ديغول في مؤتمر برازفيلد عام 1944 (مواقع التواصل)

 

عرف العالم الفرنك الأفريقي لأول مرة في (ديسمبر/كانون الثاني عام 1945)(9)، في نفس يوم توقيع فرنسا على اتفاقية "برايتون وودرز" تحت اسم "فرنك المستعمرات الأفريقية الفرنسية" بضمان وزارة الخارجية الفرنسية مرتبطا بالفرنك الفرنسي، قبل أن يتم ربطه باليورو في وقت لاحق؛ حيث تبلغ قيمة كل 100 فرنك أفريقي حوالي 0.15 يورو، أي أن قيمة اليورو الواحد حوالي 656 فرنك أفريقي، وصولًا لانقسام منطقة الفرنك الأفريقي اليوم لمجموعتين نقديتين؛ هما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، ويضم ثماني دول هي: بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو، ويقع مقره في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا المتكونة من ست دول هي: الكاميرون وأفريقيا الوسطى والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وتشاد، ويقع مقرها الرسمي في بانغي عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى.

 

كان الفرنك الأفريقي حيلة فرنسية ناجعة لتأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من المستعمرات الفرنسية السابقة لباريس، خاصة أن الاتفاق كان يشترط على دول الفرنك توريد 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بها للبنك المركزي الفرنسي، قبل أن يجري تخفيض هذه النسبة لـ 65% في السبعينات، ولاحقا لـ 50% عام 2005، تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي. وضمن هذا الترتيب هيمنة فرنسا المالية على مستعمراتها السابقة، فمن ناحية ضمنت باريس عشرات المليارات النقدية المتدفقة باستمرار لخزائنها لتمويل العجز المزمن بموازنتها، ومن ناحية أخرى فإنها استخدمت الترتيب كذريعة للهيمنة عبر تعيين ممثلين عنها في البنكين المركزيين الرئيسين في منطقة الفرنك، كما كفل الترتيب علوًّا تنافسيًا لا يضاهى للشركات الفرنسية لتستأثر على مدار عقود بمعظم العقود المربحة على حساب الشركات الأفريقية المحلية، بداية من العقود الزراعية وحتى عقود الأمن وتوفير الأسلحة ومرورا بالأدوية والنقل والطاقة وغيرها.

 

استجلبت شبكات فرانس أفريك ونظامها المالي سمعة سيئة استدعت إدانة حتى من قبل بعض المسؤولين الفرنسيين، وعلى رأسهم الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي أكد في بداية حكمه على أن "عهود فرانس أفريك قد ولت بلا رجعة". ولكن كما تحول عصر هولاند، بخطاباته التقدمية المتفائلة التي دارت حول تعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية بين فرنسا وأفريقيا الناطقة بالفرنسية، إلى عهد جديد للعلاقات القسرية والعسكرة، كانت سياسات ماكرون خلال الأشهر الأولى من حكمه أصدق أنباء من خطاباته الاستعراضية على كل حال، فلم يرَ الرئيس الفرنسي الاستعمار أكثر من مجرد ماض يمكن إدانته عبر الخطابات، ولكنه ينبغي أن يمضي إلى حال سبيله دون أي مسؤولية تذكر عن عواقبه الحضارية.

 

لم يكن مستغربا إذن ألا يبدي ماكرون نفس الحماس في إدانة الهيمنة النقدية طويلة الأمد لفرنسا على مستعمراتها السابقة، وهو الذي لم يجد حرجا في الاعتراف بأن بلاده "ارتكبت جرائم ضد الإنسانية"، وبدت مبررات ذلك واضحة في أن تلك الجرائم في تصوره قد سقطت بالتقادم وتنتمي اليوم لإرث ماض ينبغي تجاوزه، على العكس من منظومة نقدية فاعلة تستتبع إدانتها عواقب وإجراءات سياسية قد تضر بمصالح فرنسا، خاصة في وقت يبدي فيه العديد من القادة الأفارقة تذمرا غير خفي على النظام وما يستتبعه من تدفقات ضخمة للنقد الأجنبي الأفريقي لفرنسا، ما يتسبب في استنزاف مدخرات وودائع دول المنطقة. ويقع الحفاظ على النظام الاقتصادي الاستعماري نفسه في القلب من رؤية  ماكرون "التقدمية" لعلاقته مع أفريقيا والمعتمدة على "الشراكة الاقتصادية والتعاون في كل المجالات تقريبًا" كما يروجها(10)، وكما هو حريص دومًا على تأكيدها كما فعل بمشاركته في افتتاح محطة الطاقة الشمسية العملاقة في زاغتولي، وهي المحطة الأكبر في غرب أفريقيا قبل مغادرته بوركينا فاسو متوجها لساحل العاج.

  

undefined  

يدرك ماكرون وفريقه أن أفريقيا هي باحة استثمار مستقبلية واعدة مع قوة سكانية تتجاوز مليار نسمة، وأن معظم دول القارة لا تزال تحتاج لاستثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية والخدمات، إضافة إلى الإمكانات الزراعية الهائلة للقارة ومخزونها الوافر من الثروات المعدنية، كما يدرك أيضا أن هناك منظومة ضخمة من الشركات، تشكل القوة الضاربة في قطاع الأعمال الفرنسي، تعتمد بشكل رئيس على استثماراتها في أفريقيا، لذا فإن رئاسة ماكرون، بالموازاة مع خطابه "التقدمي"، لم يمانعا في تعزيز سياسات "الإمبريالية الجديدة"، سياسات تتدفق بموجبها الشركات لتحل محل النظام الفرنسي كأيقونات لممارسة النفوذ الأفريقي.

 

لا تقتصر سياسة تدفق الشركات الفرنسية على دول منطقة الفرنك الأفريقي في غرب ووسط أفريقيا، ولكن العقود الفرنسية تحضر بقوة أيضا في مستعمرات فرنسا السابقة في شمال أفريقيا، وحتى في دول شرق أفريقيا وحوض النيل، وهي تغطي مجالات عدة تبدأ من الخدمات الأمنية ولا تنتهي عند الخدمات الصحية والزراعية، معتمدة في ذلك على التسهيلات التي تقدمها شبكة ضخمة من العلاقات ومستشارين يوظفهم الرئيس الفرنسي، وهي شبكة يعتبرها البعض اليوم النسخة الأكثر حداثة وتطورًا لمنظومة فرانس أفريك الأصلية.

 

الماتريكس

بالنظر للتاريخ الأفريقي، لا يمكن النظر للخطط الدبلوماسية التجارية والاقتصادية الدولية مع القارة السمراء على أنها نزيهة تماما، وينطبق ذلك على فرنسا وأسطولها الضخم من الشركات الاقتصادية أكثر مما ينطبق على أي مثال آخر. ولا تزال فرنسا وأفريقيا، والعالم بأكمله تقريبًا، يذكرون فضيحة "ألف" الشهيرة المتفجرة في منتصف التسعينيات، والممثلة لمحطة فاصلة في علاقة فرنسا بأفريقيا، وسميت بذلك الاسم نسبة لشركة البترول الوطنية الفرنسية "ألف -آكتين"، المعروفة اليوم بالاسم العالمي "توتال"، والمتورطة حينها في تمويلات مشبوهة لصالح شخصيات سياسية فرنسية عبر مصارف أوروبية، وقد كشفت الفضيحة عن حجم تلوث الحياة السياسية الفرنسية بالمال المتدفق بشكل غير شرعي من أفريقيا المنهوبة.

 

تأسست "ألف" في أوائل الستينيات بأوامر مباشرة من شارل ديغول شخصيا، ووضعت تحت قيادة وزير المحروقات الفرنسي السابق "بيير فيوما"، كجزء من خطة هندسها أمين عام الإليزيه للشؤون الأفريقية ورجل فرنسا الأشهر في أفريقيا "جاك فوكار"، المهندس الفعلي لشبكات فرانس أفريك. ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسها، لم تكن "ألف -آكتين" مجرد شركة عادية، وإنما لعبت أدوارًا راسخة وراء الستار في تمويل وتنفيذ خطط فرنسا في أفريقيا، بما في ذلك تثبيت الأنظمة الحاكمة أو الإطاحة بها، وشراء الولاءات وتمويل العصابات المحلية، حتى أنها تورطت في توظيف عوائدها في دعم الحرب الأهلية في "بيافرا"، حرب راح ضحيتها أكثر من مليون مواطن أفريقي.

  

undefined  

لم تكن ألف النموذج الأوحد لاستعمار الشركات في أفريقيا وإن أصبحت اليوم المثال الأشهر والأكثر فجاجة، فلعبت شركات أخرى نفطية مثل؛ شل وبريتش بتروليم، وبشكل أكثر حداثة شركات أمنية مثل بلاك ووتر وداين كورب الأمريكيتين وساند لاين البريطانية وغيرها من جحافل الشركات الغربية المتدفقة للقارة السمراء على مدار أكثر من قرن من الزمان، لعبت دورا مشبوها صار محفورا في الذاكرة التاريخية للأفارقة، بشكل لا يمكن لماكرون معه أن يطمح في أن تخفف دبلوماسية الشركات من مخاوفهم بشأن النوايا الاستعمارية للقوى الغربية، خاصة في وقت يبدو فيه الرئيس الفرنسي عاجزا عن الوفاء بأقل متطلبات محو الصورة الاستعمارية، وعلى رأسها وعوده بتقليص تواجد بلاده العسكري المتنامي في القارة.

 

على العكس من ذلك، جاء اختيار ماكرون السفر لمالي، كمحطة خارجية أولى له خلال الأسبوع الأول من ولايته في (مايو/أيار) الماضي، حاملا رسالة معاكسة تماما بشأن سياسات الفرنسي الشاب الذي حرص على استهلال رئاسته بالتوجه للقاء أكثر من ثلاثة آلاف جندي فرنسي متمركزين في البلاد تحت إطار العملية "بورخان"، متقمصا ثياب شارل ديغول، ليعلن للعالم لسان حاله بأن إدارته ستواصل عمليًا نفس السياسات المتشددة لأسلافه بأفريقيا، وفي منطقة الساحل على وجه الخصوص، مستندة إلى نفس القائمة من المبررات التقليدية المشتملة على الضعف المؤسسي، والتضاريس الوعرة، والمرونة التي تتمتع بها الجماعات المسلحة، وهي أمور تجعل الانسحاب العسكري للفرنسيين مهمة صعبة.

  

undefined   

يعود التدخل العسكري الأخير لفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، وفي مالي على وجه الخصوص، لمطلع عام 2013، حين أرسلت فرنسا قواتها لمساعدة الحكومة على مواجهة تمرد الطوارق(11)، تحت لواء ما عرف آنذاك باسم العملية "سيرفال"، وبحلول عام 2014 كانت فرنسا قد وسعت من نطاق العملية سيرفال لتصبح إستراتيجية إقليمية لمكافحة الإرهاب، عرفت باسم العملية "بورخان"، وشملت دول الساحل الخمس التي تضم إضافة إلى مالي كلا من: النيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا. وفي مواجهة تعثر العملية بورخان(12)، فإن ماكرون شرع بالتوازي بين تثبيت تواجد بلاده العسكري في المنطقة، وبين تكثيف الجهود لتأهيل ونشر قوة الساحل، وهي تحالف عسكري يعرف بـ"خمسة بالساحل" لدول منطقة الساحل الخمس بقوة إجمالية تصل لـخمسة آلاف جندي، قوة وصفها ماكرون بأنها "حل أفريقي للمشاكل الأفريقية".

 

بيد أن التجارب السابقة وفرت دلائل قليلة على أن مثل هذا النوع من القوات الأفريقية ينجح في إحراز تقدم دون دعم كاف من الغرب والدول الأوروبية(13). ففي حين تعهدت كل دولة من الدول الخمس المشاركة في القوة بتقديم عشرة ملايين دولار لدعمها، فإن ذلك المبلغ يبقى أقل بكثير من الميزانية السنوية المطلوبة لتمويل القوة والمقدرة بـ500 مليون دولار، بما يعني أن حل ماكرون الأفريقي ليس في طريقه لأن يؤتي أكله في وقت قريب على الأرجح، وأن الرئيس الفرنسي سيكون مضطرا للإبقاء على المستويات الحالية للتواجد العسكري لبلاده على المدى المنظور، بفرض امتلاكه لنوايا جادة للانسحاب أو تقليص هذا التواجد بالأساس.

 

ومع ذلك، فإن أيا من هذه الحقائق لا يبدو أنها تزعج ماكرون على أي حال، فالرجل شأنه شأن سائر السياسيين البراغماتيين يدرك الفوارق بين الوعود الانتخابية والسياسات الحقيقية، ويعتقد أنه ليسا مطالبا بتحمل إرث عهود استعمار شديد المباشرة يرى أنها ولت بالفعل، وأن سياسته غير المكلفة في التعامل مع الماضي التي تتلخص (14) في "عدم الإنكار وعدم تقديم اعتذار" سوف تكون كافية.

 

سابقًا، وبالنسبة لماكرون المرشح، بدا الاعتراف بخطايا الاستعمار الفرنسي تكتيكا انتخابيا جيدا يخدم خطة المرشح الفرنسي لجمع أصوات الفرنسيين من ذوي الأصول الأفريقية، ولتمييز نفسه عن منافسيه من مرشحي اليمين، وخاصة اليمين المتطرف، أما بالنسبة لماكرون الرئيس؛ فإن تقديم الاعتذار أو إبداء أي استعداد لتحمل العواقب من شأنه أن يكلف بلاده الكثير من نفوذها والكثير من المال أيضا في صورة تعويضات في وقت لاحق. ربما يفسر ذلك التناقض الذي رآه البعض بين إدانة ماكرون المرشح لجرائم الاستعمار الفرنسي، وبين ماكرون الرئيس الممتنع عن تقديم اعتذار مباشر عن هذه الجرائم، والتي طالب بها الجزائريون قبيل زيارته لبلادهم مطلع الشهر الحالي.

 

لا يفوت ماكرون أي فرصة لمحاضرة الشعوب حول التقدم والتاريخ والذاكرة، كما يظهر مجددا في جوابه على سؤال وجهته له شابة فرنسية ذات أصول كونغولية حول ما ينوي القيام به بصفته رئيسًا لفرنسا لترميم ماضي بلاده الاستعماري في أفريقيا، ليجيب ماكرون أن ذلك سيتم بـ"ترميم الذاكرة"، وأن هذه الشابة لم تعش الاستعمار، لذلك لا يمكنها بناء حياتها وعلاقتها مع الدولة التي تعيش فيها من الماضي، كما قال، بينما يبدو الرئيس الفرنسي أقل اهتماما بمحاضرة الأنظمة، حتى القمعية منها، حول قضايا مثل حقوق الإنسان. أما بالنسبة للسياسات الفعلية، فإن سبعة أشهر من حكم الفرنسي الشاب أثبتت أن الرجل هو انعكاس حقيقي وصادق تماما لوجه بلاده، ذلك الوجه الذي سيظل مثيرا للرّيبة في أدنى الأحوال، على الأقل في أعين الملايين من الأفارقة، مَهما اجتهد في التستر خلف أقنعة جذابة وخطابات رنانة.

المصدر : الجزيرة