في تاريخ العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية
وعلى الرغم من سيادة نموذج الديمقراطية الليبرالية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتكريس هيمنته على إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ونموذج الحكم الاشتراكي مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، حتى ذهب الأكاديمي الأمريكي الشهير فوكوياما إلى حد التبشير بأن هذا النموذج الديمقراطي الليبرالي سيشكل نهاية التطور التاريخي للنظم السياسي في أطروحة عنونها باسم "نهاية التاريخ"، إلا أن صعود الأحزاب اليمينية المعادية للقيم الليبرالية في الغرب عامة وأمريكا تحديداً والتي تعد مهد الليبرالية يحمل معه نذر انهيار النظام الديمقراطي الليبرالي[3].
ليس بالإمكان فهم الكيفية التي تمثل بها أحزاب اليمين خطراً على الديمقراطية الليبرالية دون تحليل لتاريخ العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، وبيان التمايزات والفروقات في كل منهما، وفض الاشتباك بين المصطلحين وذلك من خلال تتبع تاريخ تشكل كل من الليبرالية والديمقراطية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
يظهر ميل في كتابه مدافعاً بضراوة عن الفرد أمام هذا المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على أساس شكل من الإجماع القومي حول جملة من القيم والمبادئ، فيشير إلى خطورة هذا الإجماع على الفرد ودوره في قمع كل مبادرة تقوم على الإبداع والابتكار حيث ينظر لها المجتمع بأنها حالة انشقاق وردّة، حيث يقول "عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لا تحتمل النقاش، وتكون المسائل الكبرى التي تهم البشرية موضحة بدون نقاش متجدد، حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان"[6].
يلخص ميل موقفه الليبرالي إجمالاً في العبارة البليغة التالية " لو كانت الإنسانية كلها مجمعة على رأي عدا فرد واحد، فلا يحق لها أن تسكت الفرد المخالف لرأيها، كما لا يحق لذلك الفرد، لو استطاع، أن يسكت الإنسانية المخالفة لرأيه". ولم يكن نقد الفيلسوف الإنجليزي هو ردة الفعل الوحيدة ضد تجاوزات الثورة الفرنسية والديمقراطيات الشعبية، بل نجد هذا الموقف عند مفكرين ليبراليين فرنسيين هما: "بنجامين كوستان"(المتوفى 1830) و"ألكسيس دي توكوفيل"(المتوفى 1859).
انتقد كوستان النموذج الديمقراطي للثورة الفرنسية، منبهاً إلى أن الثورة الفرنسية في سعيها لاستعادة روح الديمقراطية اليونانية، التي قامت على المشاركة الفاعلة في السلطة الجماعية دون حرية مدنية واجتماعية، أفضت إلى إلغاء مكتسبات الحريات الليبرالية الحديثة والحقوق المدنية. [7]
بينما ذهب توكفيل إلى القول بأن الثورة الفرنسية التي زعمت تجسيد إرادة الأمة وسيادتها قد أفضت إلى قمع الحريات الفردية، محذراً من تصاعد "أنماط جديدة وخطيرة من الاستبداد «الديمقراطي» باسم إرادة الشعب وسيادته، مثل هيمنة الرأي العام وديكتاتورية الأغلبيات، وتواطؤ النخب وبعض مظاهر «العبودية الإرادية". [8]
تأسس الموقف الليبرالي الرافض للديمقراطية الشعبية -التي لا تراعي الخصوصية الفردية وحقوق الأقليات- إذاً على جوهر الرؤية الليبرالية التي تقوم على أساس أسبقية الفرد على المجتمع والدولة، وحماية حقوقه الفردية وحرياته الشخصية في مواجهة كل ما يمثل تهديداً لها بما في ذلك الديمقراطية- بوصفها اجماع شعبوي- نفسها.
يشير د. عزمي بشارة في كتابه "المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" إلى أن التلاقي بين الديمقراطية والليبرالية جاء عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وذلك بعد أن ذاقت أوروبا ويلات هذه الحروب التي كانت من محركاتها الرئيسية تعاظم النزعة القومية التي ارتبطت بالديمقراطية الشعبية.
وفي هذا الصدد كتب د. عزمي بشارة "لقد احتاج الأمر إلى بضعة قرون من النضال لكي تلتقي الديمقراطية مع الليبرالية في داخل الحداثة نفسها، فالليبراليون اليوم المدافعون عن الحريات وحقوق المواطن والسوق الحرة لم يكونوا ديمقراطيين تاريخياً، والديمقراطيون منذ بداية الثورة الفرنسية غالباً لم يكونوا ليبراليين تاريخياً، وربما من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الخلف والقول إن الأمر احتاج إلى حربين عالميتين، وإلى تحول الديمقراطيات الشعبية إلى أحد أسوأ أنواع الاستبداد، حتى بدأ الناس بتصور الديمقراطية فقط كنظام ديمقراطي ليبرالي يقوم على حكم الأغلبيةـ ولكنه يحترم الحريات الشخصية وحقوق الأقليات والمواطنة ".
ومن هذا المنطلق فقد اتجهت أوروبا بعد الحرب الثانية إلى الأخذ بنموذج الديمقراطية الليبرالية في إعادة بناء نظامها السياسي وذلك لغايتين اثنتين، الأولى: بهدف ضمان عدم عودة الأحزاب الفاشية والنازية إلى المشاركة السياسية، وبهذا الصدد تم تصفية الإرث النازي والفاشي في كل من ألمانيا وايطاليا، واتخذت الدساتير الأوروبية اجراءات تمنع تشكيل أي حركات ذات توجهات قومية فاشية، والغاية الثانية كانت لمواجهة التمدد الاشتراكي الذي كان يقف خلفه الاتحاد السوفييتي [15].
يقوم النظام الديمقراطي الليبرالي على حكم الأغلبية، إلا أن هذه الأغلبية محكومة ومقيدة بجملة مبادئ دستورية مثل الحريات الأساسية، والفصل بين السلطات، والرقابة على عشوائية واعتباطية الأغلبية ذاتها، واحترام الحريات الفردية، وتعميم المواطنة في إطار الدولة [16].
وإجمالاً فقد كان الأخذ بالديمقراطية الليبرالية عاملاً هاماً لخروج أوروبا من حقبة الحروب القومية التي عرفها التاريخ الأوروبي، وترسيخ احترام التعددية الاثنية والثقافية داخل الدول الأوروبية، ومن هنا فإن تصاعد الخطاب اليميني القومي ينذر بخطر عودة النزعات القومية الشعبية إلى تصدر المشهد السياسي مجددا، الأمر الذي يحمل معه خطرا على مستوى المساس بالحريات المدنية الليبرالية والحقوق الفردية وحقوق الأقليات.