شعار قسم ميدان

في تاريخ العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية

ميدان - انتخابات
صعود تيارات اليمين في أوروبا وأمريكا إلى السلطة عبر عملية انتخاب ديمقراطية، نمى الخوف من استعداء الأقليات الدينية والعرقية. (رويترز)
مع صعود تيارات اليمين في أوروبا وأمريكا إلى السلطة عبر عملية انتخاب ديمقراطية، تنامى الخوف من أن يشكل هذا الصعود لتيارات تتبنى خطاب يقوم على استعداء الأقليات الدينية والعرقية وانتهاك خصوصيتها وحقوقها الفردية [1] خطراً على قيم الديمقراطية الليبرالية، وعودة لما كان يعرف باسم الديمقراطية الجماهيرية أو الديمقراطية الشعبوية التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وكانت سبباً في إشعال الحربين العالمية الأولى والثانية [2].

وعلى الرغم من سيادة نموذج الديمقراطية الليبرالية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتكريس هيمنته على إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ونموذج الحكم الاشتراكي مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، حتى ذهب الأكاديمي الأمريكي الشهير فوكوياما إلى حد التبشير بأن هذا النموذج الديمقراطي الليبرالي سيشكل نهاية التطور التاريخي للنظم السياسي في أطروحة عنونها باسم "نهاية التاريخ"، إلا أن صعود الأحزاب اليمينية المعادية للقيم الليبرالية في الغرب عامة  وأمريكا تحديداً والتي تعد مهد الليبرالية يحمل معه نذر انهيار النظام الديمقراطي الليبرالي[3].

 

ليس بالإمكان فهم الكيفية التي تمثل بها أحزاب اليمين خطراً على الديمقراطية الليبرالية دون تحليل لتاريخ العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، وبيان التمايزات والفروقات في كل منهما، وفض الاشتباك بين المصطلحين وذلك من خلال تتبع تاريخ تشكل كل من الليبرالية والديمقراطية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

 

عندما كانت الليبرالية على عِداء مع الديمقراطية:
"من الممكن تصور الليبرالية مقصورة على نخبة دون ديمقراطية، وتصور الديمقراطية دون ليبرالية وحقوق فردية."- عزمي بشارة 
في كتابه "مفهوم الحرية"، يشير المفكر عبد الله العروي إلى أن النخبة الليبرالية كانت قد اتخذت – في منتصف القرن التاسع عشر- موقفاً مناهضاً للديمقراطية باعتبار أنها تعني حكم الأغلبية بصورة مطلقة ودون اعتبارات لمسألة الحقوق الفردية وحقوق الأقليات واستقلالية السوق في مواجهة الدولة، وهي المفاهيم التي تأسست عليها الليبرالية.

يشير العروي في هذا الصدد إلى كتاب "في الحرية" للفيلسوف الليبرالي الشهير جون ستيوارت ميل والذي يهدف فيه بالأساس إلى الدفاع عن الفرد ضد استبداد الدولة والمجتمع والأكثرية، ويظهر فيه تبرمه من الاتجاهات الديمقراطية الشعبية التي ميزت تلك الحقبة في مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية حيث يقول بوضوح " إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية، فبقدر ما تزداد ديمقراطية الدولة، بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية"[4].

يوضح ميل في كتابه كيف أن طغيان التوجهات الديمقراطية الشعبية يمثل خطراً لا على الفرد وحسب، بل وعلى مستقبل البشرية كذلك حيث تمثل الاتجاهات الديمقراطية الشعبية واحدة من أسوأ أنواع الديكتاتوريات، وهي ديكتاتورية الحشود والجموع، حيث يقول "لقد رجحت كفة المجتمع على كفة الفرد والخطر المحدق الآن بالبشرية ليس في فرط الميول الفردية، بل في اضمحلالها"[5].

هكذا يحكم ستيوارت ميل على المجتمع الأوروبي في أواسط القرن التاسع عشر، المجتمع الذي انتشرت فيه مقولة الديمقراطية بصورتها الشعبية انتشار النار في الهشيم على إثر ما عُرف باسم "ربيع الشعوب الأوروبية" (1848) الذي اجتاح العواصم الأوروبية، فيقول عنها أنها " لم تعد أوطاناً لحرية الفكر والإبداع"

 

يظهر ميل في كتابه مدافعاً بضراوة عن الفرد أمام هذا المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على أساس شكل من الإجماع القومي حول جملة من القيم والمبادئ. (مواقع التواصل الإجتماعي)
يظهر ميل في كتابه مدافعاً بضراوة عن الفرد أمام هذا المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على أساس شكل من الإجماع القومي حول جملة من القيم والمبادئ. (مواقع التواصل الإجتماعي)

يظهر ميل في كتابه مدافعاً بضراوة عن الفرد أمام هذا المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على أساس شكل من الإجماع القومي حول جملة من القيم والمبادئ، فيشير إلى خطورة هذا الإجماع على الفرد ودوره في قمع كل مبادرة تقوم على الإبداع والابتكار حيث ينظر لها المجتمع بأنها حالة انشقاق وردّة، حيث يقول "عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لا تحتمل النقاش، وتكون المسائل الكبرى التي تهم البشرية موضحة بدون نقاش متجدد، حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان"[6].

يلخص ميل موقفه الليبرالي إجمالاً في العبارة البليغة التالية " لو كانت الإنسانية كلها مجمعة على رأي عدا فرد واحد، فلا يحق لها أن تسكت الفرد المخالف لرأيها، كما لا يحق لذلك الفرد، لو استطاع، أن يسكت الإنسانية المخالفة لرأيه". ولم يكن نقد الفيلسوف الإنجليزي هو ردة الفعل الوحيدة ضد تجاوزات الثورة الفرنسية والديمقراطيات الشعبية، بل نجد هذا الموقف عند مفكرين ليبراليين فرنسيين هما: "بنجامين كوستان"(المتوفى 1830) و"ألكسيس دي توكوفيل"(المتوفى 1859).


انتقد كوستان النموذج الديمقراطي للثورة الفرنسية، منبهاً إلى أن الثورة الفرنسية في سعيها لاستعادة روح الديمقراطية اليونانية، التي قامت على المشاركة الفاعلة في السلطة الجماعية دون حرية مدنية واجتماعية، أفضت إلى إلغاء مكتسبات الحريات الليبرالية الحديثة والحقوق المدنية. [7]

بينما ذهب توكفيل إلى القول بأن الثورة الفرنسية التي زعمت تجسيد إرادة الأمة وسيادتها قد أفضت إلى قمع الحريات الفردية، محذراً من تصاعد "أنماط جديدة وخطيرة من الاستبداد «الديمقراطي» باسم إرادة الشعب وسيادته، مثل هيمنة الرأي العام وديكتاتورية الأغلبيات، وتواطؤ النخب وبعض مظاهر «العبودية الإرادية". [8]

تأسس الموقف الليبرالي الرافض للديمقراطية الشعبية -التي لا تراعي الخصوصية الفردية وحقوق الأقليات- إذاً على جوهر الرؤية الليبرالية التي تقوم على أساس أسبقية الفرد على المجتمع والدولة، وحماية حقوقه الفردية وحرياته الشخصية في مواجهة كل ما يمثل تهديداً لها بما في ذلك الديمقراطية- بوصفها اجماع شعبوي- نفسها.

 

الديمقراطية الشعبية والحرب العالمية الثانية:
"ألمانيا يجب أن تكون قبل أنفسنا، يجب أن تتغلغل فينا، ستسير كل ألمانيا خلفنا".(هتلر)
بحسب العديد من الباحثين فإن الديمقراطية الشعبية كانت سبباً في تشكل الكثير من الأنظمة الشمولية كالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية اللتين أشعلتا الحرب العالمية الثانية. وفي الحالة النازية تحديداً فقد جاء صعود الحزب النازي إلى السلطة عام 1933 عبر انتخابات ديمقراطية، حيث قام الحزب النازي بعدها بتقويض مبادئ الديمقراطية الليبرالية في جمهورية فايمر[9] – التي كانت ضعيفة وهشة- والتأسيس للدولة النازية الشمولية. وإذا ما سلطنا الضوء على أفكار أحد أهم الفلاسفة النازيين وهو الفيلسوف كارل شميت الذي عرف بانتمائه للحزب النازي ومناهضته للنظام البرلماني خلال جمهورية فايمار، فإننا سنجد أن شميت انطلق في نقده لليبرالية باعتبار أن الأفكار الليبرالية-البرلمانية لا تتطابق مع مبادئ الديمقراطية الجماهيرية.

ففي مقالة له بعنوان "الديمقراطية عند كارل شميت"، يقول الكاتب بابلو سيمون أن شميت قد أشار إلى أن الليبرالية تعني نزع السياسة عن الحياة العامة، ذلك أنها -أي الليبرالية- تُعنى بالاقتصاد أولاً وعلى ذلك فإن سعيها يتمثل في تحرير السوق من تدخل الدولة، وحماية الحريات الفردية التي هي في نهاية المطاف ليست سوى حريات اقتصادية، بينما السياسة بحسب شميت نقيض ذلك تماما: إنها محاربة هذه الفردانية في سبيل النضال الجماهيري الجماعي [10].

بالنسبة لشميت فإن الهدف الأسمى لليبرالية هي حماية الحقوق الفردية وبخاصة حق التملك، وفي سبيل ذلك تسعى الليبرالية إلى تقييد الدولة من أي تدخل في الحياة العامة وذلك من خلال الفصل بين السلطات والتمييز بين مجال الدولة ومجال المجتمع المدني، ما يؤدي إلى تقليص المحتوى السياسي للدولة والحد من نفوذها وممارستها لوظائفها [11]. وبناءً عليه يشير شميت إلى أن فكرة الديمقراطية هي في حقيقة الأمر غير ليبرالية، فالديمقراطية هي في صميمها فكرة سياسية تستهدف استدخال الجماهير في المجال السياسي والمشاركة العمومية في صناعة القرار السياسي، وهنا يدعو شميت إلى الانعطاف نحو الدولة الكلية، الدولة التي تذوب فيها الفواصل والحدود بين الدولة والمجتمع والتي تحقق جوهر الفكرة الديمقراطية [12].

يُشير شميت إلى "دولة كلّية بمعاني تستهدف النوعية والطاقة، وهذا ما تعنيه تماما الدولة الشمولية، فيقول إن من واجب هذه الدولة أن تكون قادرة على الاستحواذ على كافة تقنيات السلطة"[13].، وألا تسمح بوجود انشقاقات وانقسامات داخلية وقوى معيقة لحركتها، وأن تميز بصورة تامة بين الأعداء والأصدقاء.

هنا تظهر الدولة بوصفها تجانس وتطابق كامل بين الشعب ونظامه السياسي، وبين الفرد والمجموع، وهوية الحاكمين والمحكومين، وبجملة أخرى تفترض هذه الدولة عدم وجود أي تناقضات أو صراعات بداخلها. وبحسب كثير من المحللين، فإن هذه الأفكار- التي اعتبرها شميت أنها تمثل الديمقراطية الشعبية الحقة التي تقوم على مبدأ المساواة الشعبية والتناقض مع مبدأ الحرية الفردية- كانت سبباً من أسباب متعددة أدت إلى تشكل النظم الشمولية وتعزيز الهويات القومية التي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية [14].

 

الخروج من حقبة الحروب: التلاقي بين الديمقراطية والليبرالية:
 

يشير د. عزمي بشارة في كتابه "المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" إلى أن التلاقي بين الديمقراطية والليبرالية جاء عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وذلك بعد أن ذاقت أوروبا ويلات هذه الحروب التي كانت من محركاتها الرئيسية تعاظم النزعة القومية التي ارتبطت بالديمقراطية الشعبية.

وفي هذا الصدد كتب  د. عزمي بشارة "لقد احتاج الأمر إلى بضعة قرون من النضال لكي تلتقي الديمقراطية مع الليبرالية في داخل الحداثة نفسها، فالليبراليون اليوم المدافعون عن الحريات وحقوق المواطن والسوق الحرة لم يكونوا ديمقراطيين تاريخياً، والديمقراطيون منذ بداية الثورة الفرنسية غالباً لم يكونوا ليبراليين تاريخياً، وربما من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الخلف والقول إن الأمر احتاج إلى حربين عالميتين، وإلى تحول الديمقراطيات الشعبية إلى أحد أسوأ أنواع الاستبداد، حتى بدأ الناس بتصور الديمقراطية فقط كنظام ديمقراطي ليبرالي يقوم على حكم الأغلبيةـ ولكنه يحترم الحريات الشخصية وحقوق الأقليات والمواطنة ".

ومن هذا المنطلق فقد اتجهت أوروبا بعد الحرب الثانية إلى الأخذ بنموذج الديمقراطية الليبرالية في إعادة بناء نظامها السياسي وذلك لغايتين اثنتين، الأولى: بهدف ضمان عدم عودة الأحزاب الفاشية والنازية إلى المشاركة السياسية، وبهذا الصدد تم تصفية الإرث النازي والفاشي في كل من ألمانيا وايطاليا، واتخذت الدساتير الأوروبية اجراءات تمنع تشكيل أي حركات ذات توجهات قومية فاشية، والغاية الثانية كانت لمواجهة التمدد الاشتراكي الذي كان يقف خلفه الاتحاد السوفييتي [15].

يقوم النظام الديمقراطي الليبرالي على حكم الأغلبية، إلا أن هذه الأغلبية محكومة ومقيدة بجملة مبادئ دستورية مثل الحريات الأساسية، والفصل بين السلطات، والرقابة على عشوائية واعتباطية الأغلبية ذاتها، واحترام الحريات الفردية، وتعميم المواطنة في إطار الدولة [16].

وإجمالاً فقد كان الأخذ بالديمقراطية الليبرالية عاملاً هاماً لخروج أوروبا من حقبة الحروب القومية التي عرفها التاريخ الأوروبي، وترسيخ احترام التعددية الاثنية والثقافية داخل الدول الأوروبية، ومن هنا فإن تصاعد الخطاب اليميني القومي ينذر بخطر عودة النزعات القومية الشعبية إلى تصدر المشهد السياسي مجددا، الأمر الذي يحمل معه خطرا على مستوى المساس بالحريات المدنية الليبرالية والحقوق الفردية وحقوق الأقليات.

المصدر : الجزيرة