شعار قسم ميدان

تهديد ترمب.. ألمانيا وأوروبا وتحدي الوحدة

US President Donald J. Trump (L) speaks on the phone with President of Russia Vladimir Putin, with White House Chief of Staff Reince Priebus (R) behind, in the Oval Office of the White House in Washington, DC, USA, 28 January 2017. President Trump has chosen the day to talk with different world leaders, significantly Russia's Vladimir Putin and Germany's Angela Merkel by telephone.

في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني هذا العام، كان العالم يترقب ليعرف وجهة الولايات المتحدة الأميركية الجديدة بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، ولم يختلف الحال كثيرًا في العاصمة برلين؛ حيث اجتمع الساسة الألمان في مقر وزارة الخارجية لحياكة موقف برلين مباشرةً فور إعلان النتيجة.
 

بداخل المقر الرسمي للوزارة، والمعروف بـ(Werderscher Market Berline)، يتواجد 230 ممثلًا سياسيًا ألمانيًا لتمثيل بلاده في الخارج، بينما يجلس وزير الخارجية الألماني "فرانك فالتر شتاينماير" داخل غرفة الاجتماعات المغلقة أمام التلفاز، وحوله فريق عمله الوزاري، وبيده اليمنى نظارته المحاطة بإطار أسود، مراقبًا ما يحدث في صمت، عقب الإعلان الأولي عن تقدم المرشح الجمهوري "دونالد ترمب" على منافسته الديمقراطية "هيلاري كلينتون" في معظم ولايات الولايات المتحدة.
 

فتور العلاقة وقوتها
صورة تجمع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (وكالة الأنباء الأوروبية)
صورة تجمع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (وكالة الأنباء الأوروبية)


قد يفهم أهل الساسة صدمة الألمان التي حلت بهم، عقب الإعلان عن فوز "ترمب"، في جولة هي الخامسة والأربعين لاختيار أهم شخص في عالم السياسة العالمية، فلم تكن العلاقة الوطيدة بين الدولتين القويتين اقتصاديًا وسياسيًا وليدة اللحظة؛ بل سبقتها محطات أدت إلى تمكين التعاون بينهما، خاصة بعد تراجع التدخل الروسي في أوكرانيا، تلك الدولة التي أكسبت واشنطن مؤخرًا نزاعها السياسي مع موسكو، وأعطتها دفعة للأمام فيما يتعلق بملفات المنطقة المزدحمة في الوقت الحالي، وأبرزها سوريا.
 

أفرزت نهايات الحرب العالمية الثانية عام 1945 مرحلة جديدة تختلف عن نظيرتها الأولى، فيما يتعلق بالعلاقة بين الأعداء والأصدقاء، فأعداء الأمس باتوا اليوم أصدقاء في ظل تحالف استراتيجي ساهم -إلى حد كبير- في متانة العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، وإن طبع بعض سنواتها الفتور؛ نتيجة صراعات سياسية داخل مناطق الجوار، كما روسيا وأكرانيا، وقرارات الحروب على العراق وأفغانستان وليبيا مؤخرًا.
 

إنعاش اقتصاديات أوروبا

جاءت خطة مارشال، التي وثقها رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي "جورج مارشال"، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لإعادة إعمار ألمانيا بعدما حظيت بنصيب كبير من الدمار، لتفتح صفحة جديدة من العلاقة بين برلين وواشنطن، تلك الخطة المتمثلة بمشروع اقتصادي متكامل، أنفقت فيه أمريكا آلاف المليارات لتتنفس البلاد الصعداء، بعد زلزال ضرب معظم مدنها وقراها كما جرى أيضا مع دول أوروبية، فكانت نقطة البداية لتوثيق العلاقة بينهما على كافة الأصعدة، لا سيما وأن أمريكا كانت آنذاك بمثابة الدولة الأقوى اقتصاديا، فساهمت من خلال ضخ أموالها في إنعاش اقتصاديات غرب أوروبا.
 

منذ ذلك الحين، تعمقت الدولتان في علاقاتهما أكثر أمنيًا وعسكريًا، لتبقى منذ عقود عدة قاعدة رامشتاين الجوية (أبرز القواعد العسكرية الأمريكية المقامة جنوب غرب ألمانيا) شاهدة على ذلك، فهي تعد ممرًا عابرًا للعمليات العسكرية الدولية من غرب أفريقيا إلى أفغانستان.
 

قاعدة رامشتاين الجوية العسكرية الأميركية في ألمانيا (وكالة الأنباء الأوروبية)
قاعدة رامشتاين الجوية العسكرية الأميركية في ألمانيا (وكالة الأنباء الأوروبية)

 

لا يمكن إغفال محطات أخرى في الكر والفر من العلاقات بين واشنطن وبرلين، كان للصراعات السياسية والجغرافية عاملًا أساسيًا في حدوثها، بيد أن العلاقات (اقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا) ظلت في تنام مستمر، ليكون أبرز ما وتر العلاقات مؤخرًا هو عمليات تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي على كبار المسؤولين الألمان منذ عقود عدة، ما أفقد الثقة بين البلدين، ووضع إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته "باراك أوباما" في حرج مع المستشارة الألمانية "ميركل"، والتي كان هاتفها محط أنظار المخابرات الأمريكية دائمًا حتى كشف كل شيء.
 

سبق هذا التوتر بسنوات فتور العلاقة بينهما بسبب الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان، وليبيا مؤخرًا؛ إذ رفضت السياسة الألمانية التدخل العسكري في تلك البلاد، واتخذت من فرنسا حينها داعما أساسيًا لعرقلة مثل هذه القرارات، لاسيما في بلاد الرافدين.
 

دهشة الفوز

"إن الحكومة الألمانية لا تعلم ما الذي سيقدم عليه دونالد، فإذا دخل صوت الغضب المكتب البيضاوي، وصار صوت الغضب يملكه أقوى رجل في العالم، إذن نحن في موقف ملتبس للغاية".

"نوربرت روتجن" رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني
 

المتتبع لوسائل الإعلام الأوروبية لا سيما الألمانية، والتي أفردت في حواراتها وتقاريرها وتحليلاتها مساحة ليست بالهينة للحديث عن الانتخابات الأمريكية، وسباق المنافسة بين المرشحين "ترمب" و"كلينتون" طيلة الشهور السابقة، لتثبت بعدها استطلاعات الرأي العام في أمريكا فشل التنبؤات بفوز المرشحة الديمقراطية، ما شكل صدمة كبرى لدى صناع القرار في ألمانيا.
 

حديث
حديث "ترمب" المباشر بدعايته الانتخابية عن تقليل الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، للتخفيف من ضخ مليارات الدولارات؛ فتح القلق على مصراعيه لدى صناع القرار في برلين.
 

تتمحور طبيعة أفكار الرئيس الأمريكي المنتخب "ترمب" حول بناء جدار عازل بين المكسيك وأمريكا؛ لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين من دخول بلاده، إلى جانب السيطرة على آبار النفط في مناطق الصراع والنفوذ الأمريكي تحديدًا في الوقت الحالي العراق وسوريا، فما يحكم بقاء العلاقة العسكرية بين البلدين هو وجود القواعد الأمريكية داخل الأراضي الألمانية، بيد أن حديث "ترمب" المباشر في دعايته الانتخابية عن تقليل الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، للتخفيف من ضخ مليارات الدولارات تكون واشنطن أجدر بها؛ فتح القلق على مصراعيه لدى صناع القرار في برلين، لأنه يعني -ببساطة- أن تترك واشنطن ظهر أوروبا مكشوفًا بالكامل لروسيا.

ليس هذا فحسب، بل لوّح أيضًا في أفكاره الانتخابية بإلغاء التبادل التجاري الحر، واتفاق الشراكة بالمجمل عبر المحيط الهادي المبرم مسبقًا مع عدد من الدول الآسيوية، ما أثار قلق الألمان من احتمال عزل "ترمبترمبترمبترمب" الاقتصاد الأمريكي عن الاتحاد الأوروبي؛ حيث سبق له أن انتقد اتفاقية التجارة الحرة المعد لها مسبقًا بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا، لتعزيز التبادل التجاري بينهما، والترويج أكثر لفكرة التجارة العالمية، تكون ألمانيا الدولة الداعمة لإبرامها بين الجانبين.
 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاتحاد الأوروبي قبل بضع سنوات من الآن قد فتح الطريق نحو مفاوضات مع أمريكا بشأن اتفاقية قد تفرز فوائد اقتصادية جمة على الجانبين؛ حيث إن تعزيز الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي، سيساهم في حماية المستهلك وتوسيع الخيارات أمامه، فضلًا عن جذب المزيد من الاستثمارات، ولكن الخشية تكمن في الوقت الحالي من عدم توقيع أمريكا على الاتفاقية، والتي يجري التفاوض حولها منذ عام 2013، إلا أنه في شهر آب /أغسطس الماضي تم الإعلان عن فشل المفاوضات لرفض الأوروبيين الخضوع للإملاءات الأمريكية، والعمل وفق وجهة نظر الأخيرة.
 

اتفاقية التجارة الحرة

فشلت أو حققت تقدمًا المفاوضات، والتي ستبدو معلقة في الوقت الحالي وفقا لنظرة "ترمب" لها، فإن إنشاء منطقة تجارية حرة عبر العالم من شأنها أن توفر 400 ألف وظيفة جديدة سنويًا، مع تحقيق زيادة قدرها 0.5% في الناتج المحلي الإجمالي، يدفع الألمان والاتحاد الأوروبي بشكل عام إلى القلق الحذر بشأن القادم، فضلًا عن أن حجم التجارة في السلع والخدمات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يقدر بحوالي تريليون دولار سنويًا، وتبلغ القيمة الإجمالية للاستثمارات الأجنبية المباشرة لكل جانب في سوق الآخر حوالي 3.7 تريليونات دولار.
 

أنجيلا ميركل . (وكالة الأنباء الأوروبية)
أنجيلا ميركل . (وكالة الأنباء الأوروبية)


حينما هنأت "ميركل" "ترمب "ودعته إلى التعاون الوثيق، استندت إلى طبيعة قيم الحرية والكرامة الإنسانية، واحترام حكم القانون المشتركة بينهما، بغض النظر عن الدين والجنس والميول، الكلام الدبلوماسي المعسول دائمًا في هذه المواقف؛ بيد أن بعض المعلقين هنا وصفوا رسالتها بالعتاب والتوبيخ، كونها لا تريد مواجهة مباشرة معه، المختلف كليًا عن أفكارها وشخصيتها الحذرة، فكلماتها توحي بأن ألمانيا وأوروبا ما زالوا مهتمين للعمل بشكل متقارب مع أمريكا وحلف الناتو، فهو -إذن- بمثابة عرض إلى الإدارة الأمريكية الجديدة وجس لنبضها فيما هو قادم.
 

"من السابق لأوانه تقييم أثر فوز ترمب، لكن توقف المفاوضات كان حتميًا بصرف النظر عن شخصية الفائز، كم من الوقت سيستغرق هذا التوقف؟ من المستحيل تحديد ذلك، فهناك غموض شديد".

سيسيليا مالستروم، مفوضة الاتحاد الأوروبي للتجارة.
 

هذا القول يعيد الأذهان إلى ما قاله "ترمب" خلال الدعاية الانتخابية من أن اتفاقيات التجارة الدولية تضر العمال الأمريكيين وتؤثر سلبًا على قدرات الصناعات المحلية التنافسية، وبينما تتمنى ألمانيا باعتبارها قائدة أوروبا الفعلية أن لا تتحول أقواله إلى أفعال، وبينما استبعد المعلقون الألمان اعتبار أمريكا أكثر خطورة في الوقت الحالي، لا يعني ذلك عدم وجود تخوف ألماني من القادم، لاسيما وأن العديد من الدول الأوروبية تعيش أزمات سياسية وأمنية، أعقبها اضطرابات عديدة كما في تركيا مؤخرًا وبلجيكا وفرنسا.
 

وبالتالي، فكل ما تستطيع فعله ألمانيا و"ميركل" هو قيادة الاتحاد الأوروبي في اتجاه يعتمد أكثر على الذات، كما نهضت برلين ونفضت غبار الحرب العالمية الثانية، واستعادت قوتها، فالأوروبيون قد يستوعبوا درسا أكثر من فوز "ترمب"، ويتقدموا بشكل أسرع خلال الفترة المقبلة، مجهولة المعالم.
 

من المبكر -إذن- الحكم على مسار العلاقات بين البلدين، بعد فوز ترمب، فثمة ملفات ساخنة في المنطقة تتشارك الدولتان عبرها أفكارها ورؤيتها السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية، خاصة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وعودة العلاقات الروسية إلى حضن واشنطن من جديد بعدما تأثرت بفعل الصراع الجاري في سوريا، وعمليات التجسس الأمريكية الأخيرة على الألمان.

المصدر : الجزيرة