شعار قسم ميدان

"التسلل البطيء".. كيف يغزو الروس شمال أفريقيا اقتصاديا وعسكريا؟

midan - روسيا
بينما يصب العالم تركيزه على مسألة التأثير الروسي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ينفذ الكرملين بدون ضجيج غارات في منطقة أخرى تُعد ذات أهمية لكل من الولايات المتحدة وأوروبا، إنها دول شمال أفريقيا الخمس الواقعة على طول الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط.
 

التقى المسؤولون الروس مع المسؤولين الجزائريين بأحد أحواض بناء السفن في سان بطرسبرغ خلال الشهر الماضي ليفتحوا زجاجة شمبانيا احتفالًا بأولى غواصتين تسمى "الثقب الأسود"، التي بُنيت من أجل البحرية الجزائرية. وانتشرت في نفس اليوم أنباءً تفيد بأن روسيا قد نشرت قوات خاصة وطائرات بدون طيار في قاعدة عسكرية تقع غرب مصر وتعود إلى العصر السوفيتي؛ كي تدعم قائد إحدى الميليشيات في ليبيا المجاورة لمصر. كما سافر أمين مجلس الأمن الروسي في نهايات العام الماضي إلى المغرب، حيث دعا الملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأن يرد الزيارة التي كان زارها إلى موسكو في بدايات العام ذاته. وفي تونس، حيث تضاعف حجم السياحة الروسية في عام 2016 عشرة أضعاف، وقع الكرملين خلال الخريف الماضي على اتفاقية لبناء محطة طاقة نووية.

كانت مصر، وهي أكبر دولة عربية في العالم، جوهرة تاج السوفييت في الشرق الأوسط حتى انشقاقها نحو المعسكر الأمريكي في أواخر السبعينات، لتضطلع منذ ذلك الحين بدور أهم حلفاء واشنطن في شمال أفريقيا. غير أن القاهرة شرعت في توسيع علاقاتها مع روسيا بصورة منهجية بعد أن أطاح الفريق أول -آنذاك- عبد الفتاح السيسي بالرئيس محمد مرسي في 2013. أبقت إدارة الرئيس باراك أوباما، التي كانت تدرك التكتيكات الأمنية الثقيلة التي تتبعها القاهرة من أجل القضاء على المعارضة، على بعض المسافات بينها وبين السيسي الذي لجأ بدوره إلى روسيا لمساعدته في ملء هذا الفراغ. وفي عام 2015، زار بوتين القاهرة، حيث امتلأت شوارع القاهرة بلافتات تحمل صورته، ليرد الرئيس الروسي بإهداء السيسي بندقية كلاشينكوف جديدة.
 

وفي أكتوبر/ تشرين الأول، صوتت مصر وروسيا ضد قرار مجلس الأمن الذي دعى لإنهاء الضربات والغارات الجوية في سوريا، وهو التصويت الذي قوبل باستنكار عبر العالم العربي باعتباره محاولة للتزلف إلى موسكو. أطلق البلدان، بعد أسابيع من ذلك، أول تدريب عسكري مشترك بينهما، الذي أطلقا عليه "مناورات حماة الصداقة". كما يقال في الوقت الحالي إن القاهرة وموسكو تفصلهما أسابيع عن وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية حول بناء مفاعل نووي خارج الإسكندرية. من المقرر أن تبدأ روسيا في تسليم ما يقرب من 50 مروحية "التمساح" الهجومية إلى مصر خلال العام الحالي، بالإضافة إلى عدد مماثل من مقاتلات "ميكويان ميج 29" ذات المحركين في عام 2020، وهي أكبر صفقة على الإطلاق منذ تحالف البلدين إبان الحرب الباردة.

ليس هناك بكل تأكيد شيء شائن حول سفر السياح الروس إلى تونس، إلا أن تدفق السياح يمهد الطريق أمام موسكو لأن تنفذ هجومًا اقتصاديًا.

تتمحور السياسة الروسية في ليبيا المجاورة حول دعم الجنرال خليفة حفتر، وهو الرجل القوي قائد الجيش الوطني المتمركز في شرق ليبيا، الذي يصطف ضد كل من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وميليشيات إسلامية أخرى، وأيضًا الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس. توجه حفتر إلى موسكو في عديد من الزيارات التي أجراها خلال العام الماضي، سعيًا منه للحصول على الدعم العسكري الروسي. وفي يناير/ كانون الثاني، اتخذ الخطوة الغريبة بزيارة حاملة الطائرات الروسية الوحيدة أثناء عودتها إلى الوطن قادمة من سوريا. وقد أفادت تقارير بأنه وقع على اتفاقية مع المسؤولين الروس تسمح لقواتهم بالعمل في المناطق الليبية الواقعة تحت سيطرته، وهو ما فعلوه على ما يبدو خلال الشهر الماضي. وفقًا لما يشير إليه الجنرال توماس والدوسر، قائد القوات الأميركية في أفريقيا، فإن تواجد القوات الروسية في ليبيا" لا يمكن إنكاره"، وقد أضاف قائلاً "إنهم على الأرض، ويحاولون التأثير على الأحداث. إننا نراقب ما يفعلونه ببالغ القلق".

كما زار فايز السراج، رئيس وزراء الحكومة المنافسة في طرابلس، موسكو في الشهر الماضي ليلتقي بوزير الخارجية الروسي، لكن الكرملين يعول كثيرًا بكل وضوح على علاقته مع حفتر، الذي كان جنرالاً في الماضي في ظل حكم الدكتاتور السابق معمر القذافي. عارض بوتين تدخل حلف الناتو في ليبيا عام 2011، مفضلًا الاستبداد الموثوق به من جانب القذافي على فراغ السلطة الذي قوَّى من شوكة الجماعات المتمردة التي يعتبرها جميعًا جماعات إرهابية.

لدى موسكو أيضًا مصالح اقتصادية في ليبيا. إذ إن إيغور سيشين، الرئيس التنفيذي لشركة روزنفت النفطية العملاقة المملوكة للدولة والحليف المقرب من بوتين، التقى مع رئيس المؤسسة الليبية للنفط في فبراير/ شباط واتفقا على التعاون لإعادة بناء قطاع الطاقة في البلد الذي مزقته الحرب. وتمتلك ليبيا أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، حيث كانت تنتج قبل الحرب الأهلية التي اندلعت في 2011، 1.65 مليون برميل يوميًا، تُصدَّر معظمها إلى أوروبا.

undefined

في سياق آخر لا يقل أهمية، تعتبر ليبيا نقطة رئيسية على الطريق الرئيسي الذي يسلكه المهاجرون للوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. ويشير الاتحاد الأوروبي إلى أن 90% من المهاجرين القادمين إلى أوروبا يصلون عبر ليبيا. ومن خلال علاقاتها التي تتزايد قوتها مع ليبيا، تستطيع موسكو أن تستخدم عمليات الهجرة الكبيرة في التأثير على أوروبا. فقد أثارت تركيا -التي تعد بوابة أخرى يمر من خلالها اللاجئون في طريقهم نحو أوروبا- مسألة تزايد أعداد اللاجئين الذين يريدون الوصول إلى الاتحاد الأوروبي؛ من أجل انتزاع التنازلات من بروكسل، ويمكن أن تلعب موسكو بالبطاقة الليبية على نفس النهج.

سوف يتحتم على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تصارع نمطًا من الكرملين لا يقتصر استعراضه لقوته على الولايات المتحدة وأوروبا وحسب، بل إنه يتزايد نحو الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط

قد يبدو أن تونس، التي تقع على الغرب من ليبيا، تمتلك القليل لتقدمه إلى موسكو. بيد أنه بعد توقف الرحلات الجوية إلى مصر وتركيا، عقب سقوط طائرة الركاب الروسية في الأولى وإسقاط الطائرة الروسية العسكرية في الثانية، صار البلد الصغير بديلًا مألوفًا للسياحة. إذ تعتبر روسيا الآن أكبر مصدر للسياح القادمين إلى تونس، ومصدر دخل هام للبلد الذي يعتمد على قطاع السياحة، لكنه لا يزال يترنح بسبب الهجمات الإرهابية التي وقعت عام 2015.

ليس هناك بكل تأكيد شيء شائن حول سفر السياح الروس إلى تونس، إلا أن تدفق السياح يمهد الطريق أمام موسكو لأن تنفذ هجومًا اقتصاديًا. يزداد انتشار المطاعم التونسية التي تقدم قوائمها بالكتابة السيريلية -التي تعد الشائعة لدى بعض الدول السلافية-، كما أن عمال الفنادق المحليين يتعلمون الروسية. فيما نقلت وسائل الإعلام الروسية أن الجانبين بحثا إمكانية التعامل بالروبل الروسي والدينار التونسي بدلًا من الدولار واليورو في العمليات التجارية الثنائية بينهما. وفضلًا عن اتفاقية المفاعل النووي، تعهدت روسيا بإمداد تونس بمروحيات كي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة.
 

undefined

وتعتبر الجزائر المجاورة، التي تشتري الأسلحة الروسية منذ زمن طويل، سوقًا متناميًا آخر بالنسبة للكرملين. ففي عام 2014، وقع الجانبان على صفقة تقدر بمليار دولار، تقضي بإمكانية استخدام الجزائر لمعدات من مورد أسلحة الجيش الروسي كي تبني 200 دبابة. وصف أحد الخبراء العسكريين الروس هذه الاتفاقية بأنها "على الأحرى أكبر عقد تصدير دبابات المعارك الرئيسية في العالم". وكان رمطان لعمامرة، وزير الخارجية الجزائري، استقبل نظيرة الروسي سيرغي لافروف في العاصمة الجزائرية، التي بدأت بالفعل استقبال طلبية مكونة من 14 مقاتلة سوخوي سو-30. وأخيرًا، سوف تحصل الجزائر هذا العام على سفينتين حربيتين من طراز تايغر مزودتين بصواريخ كروز روسية، كما تستقبل العام القادم الغواصتين اللتين يطلق عليهما "الثقب الأسود".

تُعد المغرب آخر حلقة من حلقات فتنة الهجوم الروسي في شمال أفريقيا، وهي أهم حليف لواشنطن في شمال أفريقيا بعد مصر. زار العاهل المغربي بوتين خلال العام الماضي، ليوقع على إعلان خاص بـ "شراكة استراتيجية عميقة" واتفاقيات حول الطاقة ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى ما أشار إليه الكرملين في عبارة غريبة، وهي "التعاون في الإسلام".  تلا ذلك، زيارة أمين مجلس الأمن الروسي -وهو حليف قريب من بوتين كان يرأس في الماضي جهاز الاستخبارات الروسي- للمملكة، وهي الزيارة التي وجه خلالها الملك دعوة شخصية إلى بوتين لزيارته هو الآخر. تهدف المغرب زيادة حجم السياحة الروسية بخمسة أضعاف خلال السنوات القادمة، وفي فبراير/ شباط أخبر مستشار قريب من الملك وسائل الإعلام الروسية أن الرباط تسعى للوصول إلى تعاون أقرب حول أزمة المهاجرين.

لا يشير أي من هذا إلى أن روسيا متورطة في مكيدة جيوسياسية، فمثلها مثل واشنطن، تسعى إلى ممارسة تأثيرها الدبلوماسي والاقتصادي والأمني في أي مكان يمكنها أن تصل إليه. بيد أنه في ظل أزمة المهاجرين، وتهديدات الإرهاب الدولي، واضطرابات الربيع العربي المستمرة، تحظى منطقة شمال أفريقيا بالأهمية القصوى لدى واشنطن وحلفائها الأوروبيين. سوف يتحتم على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تصارع نمطًا من الكرملين لا يقتصر استعراضه لقوته على الولايات المتحدة وأوروبا وحسب، بل إنه يتزايد نحو الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط.

____________________________
المقال مترجم عن: الرابط التالي
المصدر : الجزيرة