هل تتحرر اليابان من الوصاية الأميركية المفروضة عليها؟
ومما يثير الانتباه في الرسومات اليابانية العديدة للكومودور وأعوانه هو أمر إضافة اللون الأزرق حول حدقة العين، في إشارة لما سمعه وجهله اليابانيون في آن عن الأمريكيين والأوروبيين. لقد علم اليابانيون أن القادمين من الشرق (أي الأمريكيين) أو الجنوب (أي الأوروبيين) ذوو أعين زرقاء؛ لكن خيالهم الواسع، وجهل الكثير منهم بخبرات الاحتكاك المباشر بالأوروبيين، جعلهم يظنون بأن الزُرقة هي ما يحيط بحدقة العين وليس لون الحدقة نفسها كما يعرف الجميع الآن.
خيال واسع لطالما امتلكه اليابانيون، وصبغوا به تصوراتهم عن الواقع كما فعلوا مع الكومودور، ونسجوا به أساطير دينية معقدة ومتنوعة، وبالأخص كائنات "يوكاي" الخارقة للطبيعة التي يعج بها الفولكلور الياباني، وأشهرها في أوساط غير اليابانيين ومن زاروا اليابان لفترات قصيرة هو كائن "تِنغو"، المعروف بالأقنعة الحمراء ذات الأنف الطويل التي تحاكي صورته في التراث الياباني. يتسم "تِنغو" بقوة جسدية خارقة، وقدرات سحرية، علاوة على مهاراته في الفنون القتالية، وقدرته على التحكّم باتجاه الريح؛ لكنه قادر -أيضًا- على التسبب في الحروب والكوارث الطبيعية من موقعه في بعض الجبال والغابات.
يُلاحظ دومًا في رسومات الكومودور وأعوانه الأنف الطويل الشبيه بـ "تِنغو"، في إشارة ربما للغموض الذي أحاط بماهية الحملة الأمريكية القادمة إلى اليابان من الشرق، والصفات الشيطانية أو الخارقة التي صاحبتها، لا سيّما السفينتان البُخاريتان اللتان أتى الكومودور على رأسهما، في أول زيارة لسفينة بُخارية إلى جزر اليابان المعزولة عن العالم آنذاك بأمر حكامها، خوفًا من أضرار الغرب المتمثلة أولًا بالدين المسيحي الغريب في نظر اليابانيين حينئذ، وثانيًا اختراع المسدّسات الجديد الذي أتاح نظريًا تغيّر موازين القوى داخل اليابان.
بينما انطلقت سفن الكومودور وأطلقت العنان لدخانها الأسود، ورست قُبالة سواحل العاصمة إيدو "طوكيو حاليًا"، كان الرسامون اليابانيون قد أطلقوا العنان مجددًا لما سمعوه عن تلك السفن العجيبة التي حفّها الدخان الأسود المخيف؛ ليُشار إليها -فيما بعد، وحتى اليوم- بحملة "السفن السوداء". تُظهر هُنا رسمة السفينة السوداء اليابانية الأشهر التأثير المعتاد للأساطير اليابانية على تصورات اليابانيين عن السفينة البخارية، والتي تبدو سلبية أو مخيفة لأول وهلة؛ لكنها تكشف في الحقيقة الطبيعة الغامضة والخارقة للسفن الجديدة في نظر اليابانيين.
لم يمضِ وقت طويل حتى أحدثت زيارة برّي والتي تكررت لاحقًا أثرها في تاريخ اليابان، فقد فرض الأمريكيون اتفاقية تجارية أتاحت لهم التجارة عبر مينائين، اتسعت فيما بعد لتشمل موانئ أخرى مع إمكانية إقامة التجار داخل اليابان، ومن ثم اضطربت منظومة الاقتصاد الياباني التقليدية، وفقد نظام "توكوغاوا" الحاكم سيطرته، وسقطت معه فلسفته الانعزالية، مقابل عودة قبضة مركزية أكثر للإمبراطور، وبدْء صعود مجموعة من المحيطين به والمهتمين بحيازة اليابان لتلك التقنيات "الخارقة"، لتبدأ معهم عملية التحديث اليابانية السريعة، والأنجح ربما في تاريخ الشرق كله.
"جايهوزو"، أو خرائط الأراضي الخارجية كما تعني الكلمة باليابانية، هي ببساطة الخرائط التي رسمها اليابانيون للبلدان الأخرى المحيطة بهم منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان العمل على تلك الخرائط قد بدأ بالتوازي مع عملية تحديث اليابان، والتي نقلت لليابان الاهتمام الغربي المُفرط برسم الخرائط الدقيقة لجغرافيا المدن والقارة الآسيوية كلها.
همّت الطالبة الصينية ميو شيا بدخول عالم "جايهوزو" القابع في أرشيف جامعة ستانفورد، لتكتشف كنوزًا لم تكن على بال، منها خرائط مفصّلة وملوّنة لمدن شرق آسيا بأحيائها ومختلف نشاطاتها ومن عاش فيها، وخرائط مخصصة للملاحة الجوية، وغيرها. لقد تضمنت حواشي الخرائط كل شيء تقريبًا عن شرق آسيا لحظة كتابتها، بدءًا من طبيعة السواحل المختلفة ومدى ملاءمتها كمراسي للسفن، مرورًا بمواقع الاستثمارات الأمريكية والجاليات الأجنبية آنذاك، وحتى الأطعمة المحلية التي تناولها سكان الجزر في المحيط الهادي.
لم تقتصر "جايهوزو" على ما رسمه اليابانيون بأيديهم؛ بل وما حازوه من خرائط أعدائهم قبل أن يبدأوا بالكتابة عليها هي الأخرى، كما تكشف لنا خريطة مدينة فلاديفوستوك أعلاه. لقد استحوذ اليابانيون على تلك الخريطة من الروس كما تكشف الكتابة الروسية الأصلية على الخريطة، على الأرجح بعد نجاحهم مع قوى أوروبية أخرى في التدخُّل العسكري بأراضي روسيا بالشرق الأقصى خلال مطلع العشرينيات. كانت نجاحات اليابان العسكرية منذ انتصارها على روسيا عام 1905 إشارة على النجاح الكبير لتحديث اليابان في أقل من خمسين سنة، وقد صاحبته طموحات للاستحواذ على المناطق الروسية المُقابلة لبحر اليابان.
كانت انتصارات اليابانيين العسكرية على الروس منذ مطلع القرن مصدر فخر واحتفاء في عواصم آسيوية وأفريقية كثيرة، رأت في الانتصار الياباني إمكانية حقيقية للتمكُّن من علوم الغرب العسكرية والعلمية، ومن ثم الانتفاضة بوجهه وإلحاق الهزائم به على غرار ما فعلته اليابان، بيد أن علاقة اليابان بآسيا والشرق كانت أعقد من انتصارها الأول على روسيا وطموحاتها ضد الروس، تمامًا كما كشفت الخرائط التي خرجت للنور من أرشيف ستانفورد.
لقد نكأ أرشيف ستانفورد جراحًا كثيرة في علاقة اليابان بآسيا، والتي لم تكن قوتها العسكرية وتجربتها التحديثية موجهة فقط ضد التوسع الروسي؛ بل وكانت موجهة أيضًا لشعوب شرق آسيا نفسها مع اتجاه اليابان، كمثيلاتها من دول الغرب الكبرى، نحو التوسّع الاحتلالي في محيطها لتأمين الموارد الطبيعية المحدودة على جزر اليابان الصغيرة. لقد توسّع اليابانيون، ليس فقط ناحية فلاديفوستوك ولأسبابهم الخاصة في وقف تقدّم الجيش الأحمر البلشفي آنذاك؛ بل وكذلك ناحية كوريا والصين والفيليبين.
لم تمضِ مئة عام على رحلة الكومودور بري قبل أن ترسو سفينة حربية جديدة على شواطئ طوكيو، لكنها لم تأتِ هذه المرة لتُعلِن فتح اليابان المنزوية على العالم؛ بل لتعلن استسلام اليابان الإمبراطورية للولايات المتحدة. إنها السفينة يو إس إس ميزوري الأمريكية، والعام هو 1945 حين انتهت الحرب العالمية الثانية في آسيا بعد شهر من إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي. لم ينزل الأمريكيون من على متن سفينتهم هذه المرة، بل صعد ممثلو الإمبراطور وحكومته لتوقيع اتفاق الاستسلام مع ممثلي دول الحلفاء، وتم طي الصفحة الأخيرة من تاريخ التوسّع الياباني.
يقف ممثلو الإمبراطور في الصورة بزي غربي كلاسيكي، ويقف ممثلو الجيش الياباني حاملين إرث قوة نظامية يابانية بنوها في نصف قرن فقط، بعد أن هيمن مقاتلو الساموراي التقليديين لقرون طويلة على الثقافة العسكرية اليابانية. كانت تلك ربما أول مرة يصعد فيها يابانيون على متن سفينة أمريكية بكل ما يحمله المشهد من رمزية، وعلى العكس مما فعلوا هُم في بيرل هاربر، لم يأت الأمريكيون لضرب مواقع عسكرية حساسة داخل اليابان، رُغم قدرتهم على فعل ذلك لو أرادوا؛ بل أتوا لتحقيق ما تطلبته الاستراتيجية الأمريكية طوال الحرب، وهي إثناء اليابان عن طموحاتها كقوة قائمة بذاتها تصطدم بالقوى الغربية الأخرى، لا سيّما القوة الأمريكية إلى شرقها، وتدشين المادة التاسعة في الدستور الياباني الجديد التي تُعلن تخلي اليابان عن حقها في شن الحرب كحق سيادي، على أن يبقى حقها في الدفاع عن نفسها فقط.
كان اليابانيون هُم أول من يضرب أراضٍ أمريكية بصور مباشرة في تاريخ الولايات المتحدة، وأول من تستهدفه الولايات المتحدة -في المقابل- بضربة نووية، بيد أن الفرق بين الضربتين اليابانية والأمريكية كان شاسعًا، فقد امتلك الأمريكيون على غرار معظم القوى الأوروبية عقيدة استراتيجية واضحة منذ بداية الحرب للأهداف المطلوبة، في حين اقتصر تحديث الجيش الياباني على أدواته وتكتيكاته، وليس على "استراتيجية الحرب"، ومن ثم ظل تركيز القادة اليابانيين منصبًا على تكتيكات كسب المعارك، وليس استراتيجيات الانتصار في الحروب، تمامًا كما صاغها الضابط البحري الياباني تشيهايا ماساتاكا: "لقد خسرنا بخوض المعارك بدلًا من خوض الحرب".
كان تكتيك الضربة العسكرية المفاجئة متميزًا بالفعل في بيرل هاربر؛ لكنه لم يحمل أية رؤية استراتيجية لفائدته سياسيًا في تأمين خطوط اليابان، وهو أمر نجده للمفارقة أيضًا في الاستهداف الثاني الأكبر للأراضي الأمريكية صبيحة 11 سبتمبر عام 2001، حين نجح تنظيم القاعدة في الوصول لعُمق الولايات المتحدة. لا يملك أي طرف حاول الوصول للعُمق الأمريكي استراتيجية حرب واضحة ببساطة؛ لأن استهدافها بهذا الشكل يخلو من أية قيمة استراتيجية، بالمقارنة مع استهداف حلفائها أو قواعد تواجدها العسكري، الأمر الذي لا يزال شبه مستحيل -هو الآخر- نظرًا لاستمرار التفوق العسكري الأمريكي.
سقطت القوة العسكرية اليابانية إذن وطموحاتها كما جرى للألمان، لكن استسلامها وتنازلها عن تسليحها الموسّع كان بالنسبة لها ضريبة جغرافية ليس أكثر؛ ضريبة القُرب المُباشر من القوة الأمريكية الضخمة والتجرؤ على عبور المحيط الهادي والوصول لأراضيها، في حين كان سقوط الألمان ضريبة تاريخية دفعتها ألمانيا ثمنًا للتوسّع الإمبريالي من الأصل، والسياسة الدموية التي اتبعها النازيون مع أعدائهم وكل الأقليات التي احتقروها.
رئيس الوزراء الياباني السابق يونيتشيرو كويزومي في إحدى زياراته لضريح ياسوكوني
يدلل على ذلك، ليس فقط غياب أية متاحف لتخليد ذكرى ضحايا الجرائم اليابانية على غرار ما فعله الألمان؛ بل ووجود ضريح لجنرالات ومجرمي حرب شاركوا في الجرائم نفسها هو ضريح ياسوكوني، ومتحف خاص داخل الضريح يستعرض رواية يابانية متحفظة نوعًا ما عن إدانة التوسع الياباني بشكل صريح، وهو متحف يحظى بزيارة رئيس الوزراء بين الحين والآخر، ليثير الجدل كما جرت العادة في الصين وكوريا الجنوبية؛ حيث يقبع مئات الآلاف من ضحايا القيادات المدفونة في ياسوكوني.
على الناحية الأخرى من القارة الآسيوية حيث تقبع الصين، القوة المتنامية، تتكشف رويدًا ملامح رواية صينية لما جرى في الحرب العالمية، وبشكل خاص في متحف الثامن عشر من سبتمبر، المخصص لذكرى حادثة "موكدِن"، حين قام ضباط يابانيون بافتعال محاولة تفجير سكة حديدية يابانية بمدينة سنيانغ بمقاطعة منشوريا وتوجيه اللوم للصينيين، لإيجاد ذريعة لاحتلال الصين الذي بدأ بالفعل بعد الحادثة ولم ينته إلا بنهاية الحرب عام 1945، وهي فترة تخللتها مذابح يابانية أبرزها مذبحة نانجينغ التي راح ضحيتها حوالي ربع مليون صيني، وتخلّد الصين ذكراها أيضًا بمتحف بُني عام 1985 في نفس المدينة.
يضم متحف موكدِن أو الثامن عشر من سبتمبر كما يسمى صورة لنوبوسوكِه كيشي، تشير له كـ "مُجرم حرب من الدرجة الأولى، خدم كوزير الصناعة بحكومة مانشوكو، وكرئيس لوزراء اليابان بين عامي 1957 و1958″، وهي إشارة يتبعها شرح أحد المرشدين العاملين بالمتحف لصلة القرابة التي تجمعه مع رئيس الوزراء الحالي. محاولات صينية إذن لمراجعة الرواية اليابانية التي هيمنت على آسيا ثم تلاها احتواء أمريكي نسبي خلال الخمسينيات، تتخللها كذلك رفض طموحات اليابان، وشينزو أبِه بشكل خاص، في استعادة حرية تحركها العسكري.
لا تقلق اليابان كثيرًا بشأن محاولات الصين إعادة كتابة التاريخ؛ إذ هي مجرد انعكاس للإشكالية الحقيقية التي تواجه اليابان في شرق آسيا اليوم: تنامي القوة الصينية بصورة غير مسبوقة لأول مرة منذ قرون، وما يستتبعه ذلك من تغيّر الموازين العسكرية والاقتصادية، وفي الأخير، إعادة النظر ببعض الروايات التاريخية. ولحسن حظ اليابانيين، هنالك آخرون أيضًا يقلقهم الصعود الصيني.
رُفعِت علامات استفهام كثيرة في الواقع حول اختيار شينزو أبِه، حفيد كيشي، لنفس التاريخ من أجل تمرير هذه القوانين، لا سيّما والكُل يعلم أن كيشي لم يكن جدّه فقط؛ بل أحد مُلهميه ومعلّميه، رُغم كل ما يحيط باسمه من جدل في تاريخ اليابان. لقد كان كيشي وزيرًا للتجارة والصناعة أثناء الحرب العالمية بين عامي 1941 و1944، كما تولى الدور القيادي الأبرز في إدارة دولة مانشوكو الموالية لليابان في منشوريا بشرق الصين في نهاية الثلاثينيات، ويُشار باستمرار لمسئوليته عن الجرائم التي قامت بها اليابان بحق الصينيين في المقاطعة آنذاك، مما أودى به إلى السجن لثلاث سنوات بعد استسلام اليابان.
كان كيشي على قائمة مجرمي الحرب من الدرجة الأولى المنتظر مثولهم أمام المحاكمات التي شكلتها دول الحلفاء الغربية، لكن الإدارة الأمريكية ارتأت عام 1948 الإفراج عن بعض المحافظين والقوميين اليابانيين وتعزيز فرصهم لتتمكن اليابان من الوقوف بوجه المد الشيوعي، ومن ثم خرج كيشي من السجن، ليلعب دورًا مركزيًا في تشكيل الحزب الليبرالي الديمقراطي، الحاكم حتى اليوم، ثم يصبح رئيسًا للوزراء بالفعل عام 1957، قبل أن تسقط حكومته عام 1960.
لم تكن مفاجأة إذن أن قامت البحرية اليابانية، على عكس القيود السابقة، بإرسال ثلاث سفن حربية لزيارة كمبوديا مطلع هذا العام، بعد أن ظلت سفن اليابان حبيسة المياه الإقليمية اليابانية لعقود، ثم إيفاد سفينة أخرى إلى سنغافورة والفيليبين وإندونيسيا وسريلانكا قبل أسابيع للمشاركة في تدريبات عسكرية مشتركة مع الهند والولايات المتحدة، وهي حاملة المروحيات إزومو التي دخلت الخدمة عام 2015، وستتبعها حاملة المروحيات كاجا التي ستدخل الخدمة نهاية هذا العام، بكُل ما يحمله اسمها هي الأخرى من دلالات تاريخية، فـ "كاجا" هو اسم حاملة طائرات شاركت في عملية بيرل هاربر.
لا يحمل شينزو من إرث جدّه فقط الرغبة في كسر قيود دستور الحرب؛ بل والرغبة كذلك في التحالف الوطيد مع الأمريكيين للحفاظ على تفوّق اليابان العسكري، وهو تحالف تحظى فيه اليابان بمميزات لا يحصل عليها إلا حلفاء واشنطن المقربين مثل بريطانيا، منها التمتّع بمزايا نظام الدفاع البحري الأمريكي "إيجيس"، والذي تم تزويد المدمرات اليابانية "كونجو" به لحماية اليابان من أية صواريخ لكوريا الشمالية، وكذلك الرغبة في الاستفادة من التعاون المفتوح مع الصناعات العسكرية الأمريكية لتوسيع نطاق الإنتاج العسكري الياباني.
للمفارقة، يتحفظ اليابانيون على محاولات مراجعة الدستور لتوسيع تحركات بلادهم العسكرية، أكثر مما يتحفظون على تحالفهم واعتمادهم على الولايات المتحدة، كما تُظهر استطلاعات متعددة أجريت عام 2016 لرفض أكثر من نصف اليابانيين لمراجعة المادة التاسعة من الدستور، بل وتراجع الحماس لتغيير المادة التاسعة، مقابل موافقة 60 بالمائة على استمرار القواعد الأمريكية في اليابان حتى تحت رئاسة ترامب. يتسع هامش الرفض حين يتعلق الأمر بالزيارات المتكررة لضريح ياسوكوني، والتي رأى 69 بالمائة عام 2013 أنها خطوة مثيرة للمشاكل. تظل اليابان إذن كدولة ديمقراطية أكثر ميلًا للاعتماد على القوة الأمريكية بشكل تام، أكثر من ميلها المثير للجدل لتأسيس قوة يابانية قائمة بذاتها، فالقوة اليابانية ليست فقط منبوذة في الصين، ومثيرة للتحفظات في واشنطن؛ بل ومثيرة للانقسامات والجدل بين اليابانيين أنفسهم.
يتقدم شينزو أبِه في الصورة الأخيرة أعلاه على متن حاملة الطائرات الأمريكية يو إس إس ريجان، في أول زيارة لرئيس وزراء ياباني لحاملة طائرات أمريكية في أكتوبر 2015. تقول الصورة الكثير عمّا تغيّر منذ زمن السفن السوداء مرورًا بالسفينة ميزوري وحتى اليوم. لم يفقد اليابانيون أبدًا ثقتهم بأنفسهم، والتي دفعتهم للتحديث يومًا ما، لكنهم فقدوا إيمانهم بفكرة الحرب، فهو مضمار لا يجلب المآسي فقط كما تقول ذكريات هيروشيما وناغازاكي؛ بل ومضمار لم يفهموا خباياه بالكامل في عالم القوة الأمريكية كما تشي أحداث الحرب العالمية، ومن ثم يرى أغلبهم الاعتماد على أولئك الأمريكيين أنفسهم بدلًا من مناطحتهم كما فعلوا سابقًا.
يُروى في التراث الياباني بأن الكائن الخارق "تِنغو" قد يقوم باختطاف أحدهم لتعذيبه ليس إلا، بيد أنه أحيانًا ما يفعل ذلك لتعليمه السحر والفنون القتالية. لقد تغيّرت كثيرًا المعاني المرتبطة بكائن "تِنغو" الأسطوري في اليابان على مر العصور، فرُغم بداياته الشيطانية وشكله المُفزع، والذي يعود للرؤية السلبية تجاهه بين البوذيين باعتباره مصدر القلاقل والحروب، إلا أنه دخل عقيدة الشينتو اليابانية بنفس السمات السلبية في بادئ الأمر، قبل أن يتحوّل لكائن أسطوري تُخشى قوته، وتُطلب معونته في ذات الآن.!