شعار قسم ميدان

نصر ماكرون.. لماذا رفض الناخبون الفرنسيون لوبان؟

midan - Emmanuel Macron
إيمانويل ماكرون البالغ من العمر 39 عامًا، وزير المالية السابق الذي نشأ ابنًا لطبيبين في مقاطعة باكوتر في أميان، سوف يصبح الرئيس القادم لفرنسا بعد فوزه بما يقدر بـ 65% من الأصوات. بالرغم من أنه لم يفز بأي منصب انتخابي من قبل إلا أنه تمكن من هزيمة مارين لوبان الرهيبة، وريثة حركة شعبوية أسسها أبوها جان ماري لوبان الذي دافع عن التعذيب في الجزائر ووصف غرف الغاز النازية بمجرد "تفاصيل" تاريخية وقام في إحدى المرات بلكم سياسية اشتراكية في وجهها.

 

اتخذ آل لوبان جان دارك بطلة لهم، جان ابنة الشعب التي تعتبر "أمًا للأمة الفرنسية" سمعت صوتًا يخبرها بأن تطرد الأجانب -الإنجليز- خارج فرنسا. يسمع آل لوبان نفس الصوت لكن هوية الأجانب تغيرت هذه المرة.

 

على الجانب الآخر يبدو أن ماكرون كان يستمع إلى أصوات أخرى غير مسموعة في هذه الانتخابات. في الوقت الذي كان يعمل فيه تحت إمرة الرئيس السابق فرانسوا هولاند حاك وزير المالية اليافع خطة تمكنه من شغل مكان رئيسه. بعد أن أسس حركة تدعى "إلى الأمام" (Onward) في أبريل 2016 حذر بعضهم هولاند من أن الرجل الذي نعته الرئيس مرة بأنه ابنه الروحي يستعد لمنافسته. لكن رغم سنوات خبرته بالخفايا السياسية تجاهل هولاند هذه الشائعات.
 

تضمنت خطة ماكرون إصلاحات تصب في صالح الاستثمار والأعمال التجارية، مثل: إعادة تنظيم سوق العمل (رويترز)
تضمنت خطة ماكرون إصلاحات تصب في صالح الاستثمار والأعمال التجارية، مثل: إعادة تنظيم سوق العمل (رويترز)


بدأ الصعود المميز للشاب المعجزة بعد تخرجه في المراكز الأولى من صفه في مدرسة الإدارة الوطنية الانتقائية للغاية، والتي تعد مفخرة لنخبة فرنسا. منحه هذا فرصة للانخراط في سلك أكثر المؤسسات الإدارية الفرنسية شهرة ومكانة وهي المفتشية العامة للمالية. وهكذا بدأ حياته المهنية قريبًا من قمة الهرم. بعد جولة قصيرة في القطاع العام حيث قضى بضعة سنوات في بنك استثماري عاد ماكرون للحكومة عضوًا رئيسيًّا في طاقم هولاند. حيث تم تعيينه وزيرًا للمالية، المنصب الذي استقال منه في أغسطس 2016 ليفرغ نفسه بالكامل لحملته الانتخابية لمنصب الرئيس.

 

تضمنت خطة ماكرون إصلاحات تصب في صالح الاستثمار والأعمال التجارية، مثل: إعادة تنظيم سوق العمل مع وعود بالاستثمار في وظائف الطاقة النظيفة وتقليل اعتماد فرنسا على الوقود الحفري. يفضل ماكرون نموذج "الأمن المرن" الإسكندنافي، فيتم دعم العاملين أثناء انتقالهم من قطاعات الأعمال المنكمشة إلى الوظائف الجديدة المأمولة في القطاعات الصاعدة. من بين كل المرشحين في السباق كان ماكرون المدافع الأشرس عن الاتحاد الأوروبي وعنيدًا في إصراره على أن الصناعة الفرنسية يجب أن تتكيف لتصبح أكثر قدرة على المنافسة في الاقتصاد المعولم.

 

في فترة يسودها التمرد ضد النخبة في كل مكان خشي عديد من المراقبين من أن فرنسا ستنصاع للأغلبية الكبيرة التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأوصلت دونالد ترمب لمنصب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية. لا تعاني فرنسا نقصًا في عدد المصوتين الغاضبين. والموجات الشعبوية برزت إلى السطح في كلا الجناحين الأيمن والأيسر. على اليسار جذبت حركة فرنسا الأبية التي يقودها جان لوك ميلانشون أكثر من 19% من أصوات الناخبين في الجولة الأولى من التصويت. وفي الأسبوعين الأخيرين اللذين سبقا عملية الاقتراع صعد ميلانشون بشكل متسارع إلى درجة أن البعض خشي من أن تصبح الجولة النهائية بين مرشحي أقصى اليسار وأقصى اليمين. في النهاية عجز عن الوصول للمرحلة النهائية، أما لوبان التي ورثت قيادة الجبهة الوطنية عن أبيها في 2011 فقد حققت نتائج أقل من التي توقعتها استطلاعات الرأي حيث حققت نسبة 21.3% فقط من الأصوات أقل بكثير من أقصى نسبة حققتها في استطلاعات الرأي والتي بلغت 28%. ثم تفوق ماكرون في الجولة بنسبة مريحة هي 24%.
 

لا بد وأن لوبان قرأت استطلاعات الرأي واستخلصت أنه بالرغم من أن جهودها لمواجهة شيطنة حزبها إلا أنها لا تستطيع الوصول إلى منصب الرئاسة دون مفاجئة
لا بد وأن لوبان قرأت استطلاعات الرأي واستخلصت أنه بالرغم من أن جهودها لمواجهة شيطنة حزبها إلا أنها لا تستطيع الوصول إلى منصب الرئاسة دون مفاجئة
 

بعد جولة أولى قوية أصبحت الساحة جاهزة لفوز ماكرون في جولة الإعادة. لا بد وأن لوبان قرأت استطلاعات الرأي واستخلصت أنه بالرغم من أن جهودها لمواجهة شيطنة حزبها وذلك بتخليصه من نزعة معاداة السامية والنازية الجديدة قد أدت لزيادة حصتها من الأصوات بثبات في الدورات الانتخابية المتعاقبة إلا أنها لا تستطيع الوصول إلى منصب الرئاسة دون مفاجئة جريئة يكون لها تأثير على امتداد القطر الفرنسي. وفي محاولة منها لتقليد ادعاء الرئيس الأسبق شارل ديجول بأنه أكبر من الأحزاب قامت لوبان في الرابع والعشرين من أبريل بعد يوم واحد من الجولة الأولى للتصويت بالاستقالة المفاجئة من رئاسة الجبهة الوطنية وعينت مكانها جان فرانسوا جلخ غير المعروف ليحل رئيسًا للجبهة. لكن تبين لاحقًا أنه ينكر الهولوكوست مما ذكر الناخبين بماضيهم التافه الذي حاولت جاهدة إبعاده عن الصورة.

 

لزيادة الطين بلة تأرجحت لوبان في موقفها من القضية الرئيسية التي بنت عليها حملتها: وهو وعدها بأن تجري استفتاءً على خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي. ومثل ترمب نجحت في الحصول على دعم العمال -تحصل الجبهة الوطنية على أصوات العمال أكثر من أي حزب آخر في فرنسا حاليا- بوعدها بأن تنصب حواجز حماية للحفاظ على الوظائف التي تُخرج مواطني الدول ذوي الرواتب المنخفضة. حتى إنه تم الاحتفاء بها في بلدة ماكرون في أميان حيث ظهرت في مصنع ويرلبول مهدد بالغلق مما سيؤدي إلى فقدان مئات الوظائف لصالح بولندا. ووعودها بزيادة الجمارك على الواردات من الشركات لتقوم بتصدير الوظائف أثبتت شعبيتها في أوساط العمال لكنه وعد لا تستطيع تحقيقه ما دامت فرنسا باقيةً في الاتحاد الأوروبي.

 

أظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة الفرنسيين الذين يخشون من الخروج من الاتحاد الأوروبي بلغت 70% خصوصًا بعد التصويت لصالح خروج بريطانيا وعدائية ترمب المتزايدة تجاه الاتحاد الأوروبي والناتو، مما دفع لوبان إلى إدراك أنها لن تستطيع الفوز بالرئاسة دون تهدئة المخاوف من خروج فرنسي مفاجئ من الاتحاد. لجأت إذن إلى مهرب خلفي حيث أعلنت ابنة أخيها ماريون ماريشال لوبان في 30 من أبريل أنه بدلاً من إجراء استفتاء خلال ستة أشهر من الانتخابات كما كان الوعد الأصلي، ستكون هناك عملية مطولة قد تستغرق غالبًا عدة سنوات لأن الاقتراح الأصلي لم يكن عمليًا ولا قانونيًا في ظل المعاهدات الموقعة حاليًا.

 

تخلت لوبان كذلك عن العمود الثاني في برنامجها الاقتصادي وهو الوعد بالتخلي عن اليورو؛ قائلةً إنها لا تزال معارضة "للعملة الواحدة"، لكنها لا ترى مشكلة في "عملة مشتركة" مما أصاب المصوتين بالحيرة تجاه ما عنته.
 

خلال المناظرة ارتسمت على وجه لوبان ما يرى المراقبون أنها ابتسامة شريرة وركزت على السخرية من معارضة خصمها لسياساتها الاقتصادية، كانت تلك حيلة مستعارة من كتاب حيل ترمب: بدلًا من أن تشتبك مع خصمها، استهزأت بنخبويته المزعومة بطريقة سوقية مبتذلة (رويترز)
خلال المناظرة ارتسمت على وجه لوبان ما يرى المراقبون أنها ابتسامة شريرة وركزت على السخرية من معارضة خصمها لسياساتها الاقتصادية، كانت تلك حيلة مستعارة من كتاب حيل ترمب: بدلًا من أن تشتبك مع خصمها، استهزأت بنخبويته المزعومة بطريقة سوقية مبتذلة (رويترز)

غموض اللحظات الأخيرة ألقى بظلال من الشك على قدرتها على الفوز وهي الشكوك التي صاحبها أداؤها الغريب والهجومي في المناظرة الأخيرة في الحملة الانتخابية. وخلال المناظرة التي استمرت عدة ساعات ارتسمت على وجهها ما يرى المراقبون أنها ابتسامة شريرة وركزت على السخرية من معارضة خصمها لسياساتها الاقتصادية ورفضت القيام بأي تنازلات لصالح التوقعات التي رأت أنها ربما تود أن تظهر بشكل أكثر مناسبة للمنصب. كانت حيلة مستعارة من كتاب حيل ترمب: بدلًا من أن تشتبك مع خصمها، استهزأت بنخبويته المزعومة بطريقة سوقية مبتذلة.

 

نجح الأمر مع ترمب ولكن ليس مع لوبان. أظهرت نتائج استطلاعات الرأي بعد المناظرة تغيرًا حادًا لصالح ماكرون. ربما لا يحب الفرنسيون نخبتهم لكنهم يحبون أن يكون رؤساؤهم أكثر لياقة. في معرض زراعي في باريس في فبراير من العام 2008 أثار الرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي رد فعل عنيفًا حين أخبر أحد الحضور المزعجين بأن يغرب عن وجهه. هجومية لوبان الفظة استدعت إلى الذاكرة تنمر والدها اللفظي الجسدي. في النهاية أخافت براديكاليتها من المصوتين أكثر مما جذبت عبر محاولاتها الظهور بمظهر المدافع عن قيم الجمهورية والهوية الوطنية والتي ادعت أنها تتعرض للتهديد من العناصر الأجنبية خصوصًا المهاجرين المسلمين.

 

التصويت الأخير كان أكثر تعبيرًا عن الرفض العام لمنهج لوبان عن تأكيد الدعم لماكرون الذي يواجه تحدي حكم البلاد دون حزب مؤسس يوفر له الدعم في المؤتمر الوطني. من المقرر أن تنعقد الانتخابات التشريعية في يونيو والتي تظهر مدى قدرة الرئيس على الدفع بالإصلاحات التي يراها ضرورية والتي يساور العديدَ حتى ممن صوتوا له الشكَّ تجاهها.

========================================= 

التقرير مترجم عن هذا الرابط

المصدر : الجزيرة