شعار قسم ميدان

"سوريا الإماراتية".. كيف تلاعبت أبوظبي بحبال الثورة السورية؟

ميدان - بشار الأسد عبدالله بن زايد
لم تكن استعادة قوات النظام لمناطق واسعة من الجغرافيا السورية في الأعوام الأخيرة منحصرة على بسط نفوذه المحلي، لكنها مثلت الباب الكبير الذي استعاد النظام معه بعضا من علاقاته الدبلوماسية بعد عزلة عن محيطه الإقليمي تراوحت بين القطيعة التامة وتخفيض التمثيل الدبلوماسي. علاقاتٌ افتتح الرئيس السوداني عمر البشير مسار عودتها، والتي مثلت أول زيارة لرئيس عربي إلى دمشق منذ اندلاع الثورة السورية، ليتبعه بعدها بأيام إعلان الإمارات العربية المتحدة والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق بعد سنوات من القطيعة التي لحقت الموقف الخليجي، لتفتح استعادة العلاقات تساؤلات عديدة حول جدّية تلك القطيعة الدبلوماسية. تساؤلات يبدو العودة معها للأحداث التاريخية، عبر قراءة السياسة الإماراتية كنموذج، مرشدا لفهم التغيرات التي تصاحب المشهد، والتي لا تعدو كما يبدو كونها قطيعة على مستوى مصافحة الأيدي أمام عدسات الصحفيين، في حين يمتد التعاون الاقتصادي والأمني على طول الخط.
    
السينما السورية – الإماراتية
كان المشهد أشبه بلقطة من فيلم سينمائي، الهدوء يغلف المكان، بينما تتم البروتوكولات الدبلوماسية المعتادة، في وداع الوفود الرسمية، في قلب القاعة الرئيسية لمطار أبوظبي، مشوبة بأجواء من الإيجابية التي تعقب عادة محادثات السلام، خاصة في منطقة مشتعلة كالشرق الأوسط، وفترة زمنية شديدة التعقيد كسبعينيات القرن الماضي، في الذكرى الرابعة لحرب "تشرين" كما كان يسميها النظام السوري، الذي كان وزير خارجيته يزور الإمارات في تلك الأيام.

 

اليوم هو الثلاثاء، 25 (أكتوبر/تشرين) الأول لعام 1977[1].  في الحادية عشر صباحًا كان "سيف بن غباش"، أول وزير إماراتي للشؤون الخارجية، يرافق وزير الخارجية السوري "عبد الحليم خدام" من الصالة الكبرى في مطار أبوظبي إلى قاعة كبار الزوار، لوداعه بعد إجراء محادثات السلام السالف ذكرها، إلا أن رصاصتين مفاجئتين كانتا أسبق لكتف وبطن الوزير الإماراتي، ابن تاجر اللؤلؤ والدبلوماسي البارع الجامع بين اللغات والهندسة والنجاح السياسي، مما أدى إلى وفاته تأثرًا بجراحه.

 

لم يكن "ابن غباش" هو المستهدف بعملية الاغتيال، بل كان وزير الخارجية السوري "خدام"، الذي أرسل إليه نظام البعث العراقي، ضمن صراع بعث اليسار العراقي مع بعث اليمين السوري، عنصرًا من منظمة "أبو نضال" الفلسطينية، من كان ممثلًا لمنظمة "التحرير الفلسطينية" ببغداد، وانشق عنها عام 1977 احتجاجًا على بدء مفاوضات السلام مع إسرائيل بموجب قرار مجلس الأمن 242، ودخل في سلسلة يائسة من الاغتيالات والعمليات التي وصفت بـ"الإرهابية" حول أنحاء العالم، طالت الحلفاء والخصوم وحتى رفاق سلاحه القدامى.

 

سيف بن سعيد غباش أول وزير للشؤون الخارجية في الإمارات (1938-1977) (مواقع التواصل)
سيف بن سعيد غباش أول وزير للشؤون الخارجية في الإمارات (1938-1977) (مواقع التواصل)

 

كان المشهد معقدًا بما يكفي، عنصر من منظمة فلسطينية منشقة يغتال وزيرًا إماراتيًا أثناء محاولته اغتيال وزير سوري بإيعاز عراقي. إلا أن هذا التعقيد اختصر المشهد الإقليمي كله على أعتاب معاهدة "كامب ديفيد"، والتي ستتم بعد الحادثة بعام واحد، إذ كانت مشاعر اليأس تجتاح الشعوب العربية، بينما تضرب رياح السياسة المتغيرة الجارفة كل ثوابت الأنظمة، خاصة الأنظمة الغضة منها، مثل الدولة الإماراتية الحديثة، أو نظام "حافظ الأسد" الذي كان لا زال يحاول ترسيخ سلطته، بعد بضعة أعوام من حركته "التصحيحية".

 

نجا "عبد الحليم خدام" بأعجوبة من محاولة الاغتيال، عندما قفز فجأة برد فعل عسكري سريع حالما سمع صوت إطلاق النار، في صفة ستبقى ملازمة إياه كقافز من السفن الغارقة دومًا، فهو بجانب وزير الدفاع  السوري حينها "مصطفى طلاس" كادا أن يكونا السنيين الوحيدين في تشكيلة عسكرية علوية لنظام البعث، كما استطاع أن ينجو من أحداث الثمانينيات التي كان نائبا للأسد عندما وقعت، قبل أن يرتفع خلافه مع ابنه "بشار"، الذي أوصله بنفسه للرئاسة وساهم في تثبيت حكمه الجديد بمساعدة حرس والده القديم، ليصل الخلاف إلى استقالته من حزب البعث الذي لا يعرف في حياته سواه، مما اضطره إلى مغادرة سوريا عام 2005، ليحكم عليه بثلاثة عشرة عامًا من السجن مع الأشغال الشاقة، ويقدم نفسه كمعارض، بقفزة جديدة كما يبدو، بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 [2].

 

لم يكن "خدام" هو الناجي الوحيد من تلك الحادثة، فرغم أن الدولة الإماراتية الناشئة تعرضت لضربة قاسية باغتيال أحد مسؤوليها القليلين حينها، إلا أنها استطاعت أن تتجاوز تلك الأزمة، وبدا أن الدولة الساحلية أصبحت تجيد التعامل مع البحار، الجغرافية منها والجيوسياسية على السواء؛ بل وتحولت بشكل غريب، يشبه تحول "خدام" من مشرف على القتل المباشر إلى معارض سياسي للنظام، من دولة قافزة من سفينة غارقة، إلى سفينة نجاة تنتقي القافزين، خاصة لنظام سوري متهاوٍ كاد أن ينهار لولا وقوف حلفائه بكل ما يملكون معه، في حين لم يكن لأكبر تهديدات وجوده، أي "الثورة السورية"، تأثيرًا كبيرًا وهي تملك هؤلاء الأصدقاء، وأولهم الإمارات العربية المتحدة.

 

بعد أربعين عامًا لن تقع الرصاصات في قلب وزير الخارجية الإماراتي، بل ستُطلق بإشراف ولي عهدها "محمد بن زايد"، ولن تكون الإمارات مكان حادثة اغتيال أخرى، بل على الأرجح ستكون مكان التخطيط لاغتيالات مباشرة لصالح نظام "خدام" السابق، وتحت إشراف عناصر منشقين، فلسطينيين مرة أخرى، ولكن بانعكاس الأدوار وأماكن التنفيذ هذه المرة.

 

عبد الحليم خدام بجانب بشار الأسد عام 2000 (رويترز)
عبد الحليم خدام بجانب بشار الأسد عام 2000 (رويترز)

 

الأزمة

هنا مشهد سينمائي آخر، لم يكن الهدوء يغلف المكان فيه، بل على العكس تمامًا، فكانت أصوات المظاهرات والقذائف والصواريخ هي المسيطرة على شوارع البلاد المنفجرة منذ أكثر من عام، والواقعة تحت القصف الكثيف لطيران وأسلحة نظام "بشار الأسد" الثقيلة والخفيفة على السواء.

 

وسط كل ذلك الضجيج والخوف، كان قبو مبنى الأمن القومي السوري في حي الروضة في دمشق أهدأ ما يكون، بينما كان كبار الشخصيات، المسؤولين عن السيطرة على الأوضاع المتفجرة في سوريا ضمن "خلية الأزمة"، يحاولون إيجاد حلول للسيطرة على الثورة التي بدت أكبر من قدرتهم على السيطرة عليها. فجأة، ومرة أخرى، وقع انفجار غامض داخل مبنى الأمن القومي السوري، لم يعرف المسؤول عنه تمامًا حتى اللحظة، وسط تبن من أطراف في المعارضة السورية، أو اتهامات لحلفاء النظام بالسعي للتخلص من كل من تبقى من شخصيات الحرس القديم. شخصيات يعنينا منهم وزير دفاع النظام السوري "داود راجحة"، ونائبه "آصف شوكت"، إضافة لشخصيات أمنية وعسكرية أخرى كبيرة قتلت في الانفجار، في (يوليو /تموز) لعام 2012.

 

لم يكن "آصف شوكت" نائبًا لوزير دفاع النظام السوري وحسب، بل كان أحد أكبر شخصيات الحرس القديم القريبة من الرئيس السوري السابق "حافظ الأسد"؛ فقد تحول الطالب الجامعي بعد دراسة التاريخ إلى الكلية الحربية، ليصبح قائدا لـ"سرية الاقتحام" بنهاية السبعينات، وهي السرية المسؤولة عن التصفيات الجسدية والإعدامات الميدانية في أحداث "حماة" عام 1982، والمتهم بمحاولات اغتيال لشخصيات أردنية، منها سفيري الأردن في الهند وإيطاليا، بجروح بعد هجوم بالأسلحة النارية عام 1983، وانفجار قنبلة خارج فندق عمان الدولي في (مارس/آذار) عام 1984، والعديد من محاولات الاغتيال لشخصيات أردنية وقتل شخصيات أخرى في تلك الفترة. محاولات استطاع من خلالها اثبات ولائه وإخلاصه للأسد، فعينه مسؤولًا عن الحماية الأمنية الخاصة لابنته الوحيدة "بشرى الأسد"، الصيدلانية بجامعة دمشق، والتي ستصبح زوجة "آصف" عام 1992.

 

بينما كان "شوكت" يشرف على قتل "المتظاهرين السلميين" بداية الثورة، وقصف الأحياء السكنية، كان يؤمن مفر زوجته، ابنة الأسد، في دولة غير متوقعة، ليست بروسيا المدافع الأول عن نظام "بشار"، أو بإيران الصديقة الأولى له، بل في دولة الأبراج الشاهقة وتحديدًا بإمارة "دبي".

 

 

بعد ثلاثة شهور من اغتيال "شوكت"، لم يعد وجود "بشرى الأسد" في الإمارات، التي أعلنت سحب سفيرها من دمشق وأعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام قبل ثلاثة شهور من حادثة الاغتيال، سرًا مخفيًا، بعد أن أعلنت الصحف الإماراتية المحلية [3] أنها تقيم هناك بالفعل مع أبنائها، رغم تصريحها بأنها "ربة منزل فقط، ولا علاقة لها بشقيقها الرئيس"، ثم لتنضم إليها والدتها "أنيسة مخلوف"، مطلع عام 2013، لتتوفى في دبي بعد ثلاثة أعوام فقط، بعد أن حصلت "بشرى الأسد" على الجنسية الإماراتية[4] عام 2015، بدعم رمزي علني للنظام السوري، وبما يبدو تمهيدًا لإقامة دائمة لها هناك، بموجب القانون الإماراتي الذي ينص أن الجنسية الإماراتية "تعطى للمبدعين والعلماء ورجال الأعمال والمشاهير الذين يسعون للإقامة الدائمة".

 

لم تستضف الإمارات العربية المتحدة "بشرى" ووالدتها فقط، بل كانت أشبه بمحل اجتماع فلول الأنظمة المنهارة، فمثلما استضافت في وقت سابق القيادي المفصول من حركة فتح "محمد دحلان"؛ أعلنت استضافتها للجنرال المصري "عمر سليمان"، والذي يقال[5] أنه قتل كذلك في انفجار "خلية الأزمة" في دمشق، فيما يمكن القول إنه تبادل للخبرات الأمنية والعسكرية التي تجتمع في أولوية عدائها على عدوين فقط: "الثورات" و"الإسلام السياسي"، بالعمل على القضاء على العدو الأول تحديدًا من داخله، وهو ما قد يجمع تحت مظلة ولي العهد الإماراتي "محمد بن زايد" شخصيات متناقضة المسار مثل "عمر سليمان" و"دحلان"، إضافة لشخصيات أهم في الملف السوري من "بشرى الأسد" ووالدتها، كـ"فراس طلاس"، نجل وزير الدفاع السوري السابق "مصطفى طلاس"، والقيادي العشائري "أحمد الجربا".

 

حصان طروادة

جامعًا بين "عبد الحليم خدام"، كونه زميله السني الوحيد الذي استطاع كسر الاحتكار العلوي للسلطة، وبقفزه من السفينة الغارقة للنظام السوري، وبين "داود راجحة"، بكونه سلفه في منصب وزارة الدفاع، وبين "آصف شوكت" الذي ستجتمع زوجته "بشرى" مع ابنه "فراس طلاس" في أبوظبي؛ بدا وكأن العماد "مصطفى طلاس"، أهم وزير دفاع لنظام الأسد، والمتوفى قبل أيام في باريس، قد وجد حاجته أخيرًا كذلك في أبوظبي، بتمهيد من الإمارات التي فتحت الأبواب لأبنائه، ووضعتهم كأحصنة طروادة لها داخل النظام السوري.

 

قبل ثلاثة أشهر من تفجير "خلية الأزمة" في دمشق، كانت طائرات النظام السوري تشن أعنف حملاتها العسكرية على حي "بابا عمرو" الشعبي جنوب غرب مدينة "حمص"، عاصمة الثورة السورية، في أول عملية "أرض محروقة" من نوعها منذ اندلاع الثورة السورية.

 

 جنازة داوود راجحة الذي قتل إثر التفجير الذي عرف باسم
 جنازة داوود راجحة الذي قتل إثر التفجير الذي عرف باسم "تفجير خلية الأزمة" عام 2012 (رويترز)

 

من داخل حي "بابا عمرو"، كان المسؤول العسكري الأكبر داخل المدينة هو قائد "كتائب الفاروق" الملازم "عبد الرزاق طلاس"، ومن خارجها كان النظام يطالب قائد "اللواء 105" في الحرس الجمهوري "مناف طلاس"، ابن العماد "مصطفى" أيضًا وأحد أبناء عمومة "عبد الرزاق"، بشن الحملة على الحي الحمصي، وهما اللذين ينحدران من العائلة العسكرية ومدينة "الرستن" الشهيرة، التي تضم الكثير من قيادات جيش النظام السوري، والتي أصبحت لاحقًا معقلًا لـ "الجيش السوري الحر" بعد انشقاق هؤلاء الضباط.

 

رفض العميد الركن وصديق طفولة بشار الأسد "مناف طلاس" شن الحملة على الحي، ضمن تفاقم للأزمة المشتعلة بينه وبين "بشار"، القائد الأعلى للقوات المسلحة، والذي رفض ترقيته إلى لواء وفقد ثقته به منذ اندلاع الأزمة السورية، مما دفعه للتخلي عن ردائه العسكري، وإطلاق شعره ولحيته في مخالفة عسكرية نظامية واضحة، والتجول في شوارع دمشق، قبل أن ينشق علانية[6] ويتوجه إلى باريس، حيث يقيم والده الكهل، العماد "مصطفى طلاس."

 

لم يكن مشهد تحطيم "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف إعلاميا بـ"داعش" للحدود بين سوريا والعراق، كتمهيد لإعلان الخلافة، مجرد حدث رمزي عابر؛ فقد تلاه لاحقًا وبسرعة تحطيمًا آخرًا للحدود بين مصر والإمارات

تصدر العميد "مناف" وشقيقه رجل الأعمال "فراس طلاس" المشهد كمعارضين سياسيين، ولو من خلفيتين مختلفتين. ففي الوقت الذي كان به "مناف" يترقى في الجيش، كان "فراس" يدير مجموعة "من أجل سوريا" المعروفة اختصارا بـ "ماس"، والعاملة في قطاع الأغذية والزراعة، والتي بنت نفوذها وثروتها على شبكات الأمن والأعمال في سوريا، بالاعتماد على نفوذ والده العسكري في البلاد، والتي استفاد منها "فراس" بالدخول لمجال صناعة الإسمنت، بالشراكة مع شركة "أوراسكوم"، أكبر الشركات المصرية في مجال الإنشاءات.

 

بينما توجه "مناف" إلى باريس قرب والده، لم يجد رجل الأعمال "فراس" بيئة أفضل لأعماله، الاقتصادية والسياسية على السواء، من إمارة دبي، فنقل أعماله إليها وجمع حوله مجموعة من الشباب ليبدؤوا العمل على مجموعات معارضة أو شبه معارضة، كان أولها "تيار الوعد السوري" الذي جمع به "فراس"، ابن وزير الدفاع الذي وقع على إعدام عشرات الآلاف من المعارضين، عددا من الشباب حوله، كان أوضحهم "عروة الأحمد"، الناطق الرسمي باسم "تيار الوعد."

 

على أرض الإمارات، وتحت شعار "المجد لسوريا الوطن والإنسان"، يقدم "فراس طلاس" تياره الذي يتبوأ به منصب المستشار الأعلى كمنظمة مجتمع مدني معارضة، تدعو لقيم الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني والعلمانية، بينما يصفها معارضون آخرون بأنها سعي لـ"ركوب موجة الثورة، وتصدر المشهد المعارض بلغة جميلة يحب العالم سماعها"، محذرين من "التماشي مع هذه الموجة والتيار"[7]، وهو دور لم يستطع واجهة التيار "عروة الأحمد" القيام به، لأسباب داخلية وخارجية، ولبعده بالدرجة الأولى عن الأرض والأجواء الفكرية السورية، في لحظة تاريخية بدأت بها الثورات تتسع، والثورات المضادة أيضًا، بشكل إقليمي لم يعد يقتصر على سوريا فقط، وإنما امتد ليطال الربيع العربي كاملًا.

 

أثناء ذلك، في منتصف عام 2013، في ذروة الثورات وبداية الثورات المضادة؛ لم يكن مشهد تحطيم "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف إعلاميا بـ"داعش" للحدود بين سوريا والعراق، كتمهيد لإعلان الخلافة، مجرد حدث رمزي عابر؛ فقد تلاه لاحقًا وبسرعة تحطيمًا آخرًا للحدود بين مصر والإمارات، عبر شركات الإمارات والسعودية الدولية، وبينما كان "تنظيم الدولة" يقوم بمهمته المحببة له بمواجهة "المعارضة السورية المسلحة" المسيطرة على أكثر من ثلثي البلاد وقتها، كان عرابو الثورات المضادة وشخصياتها منشغلين بمصر واليمن وليبيا.

 

 

اللعبة
الطيارة الإماراتية مريم المنصوري (مواقع التواصل)
الطيارة الإماراتية مريم المنصوري (مواقع التواصل)

 

لم يكن أسوأ كوابيس عناصر ومقاتلي "تنظيم الدولة"، القادمين من أكثر من ثلاثين جنسية مختلفة، جيشًا مدربًا أو جهازًا استخباراتيًا أو قوات من العناصر الخاصة، بل كان امرأة محجبة جسدت لهم الحملة العسكرية العالمية ضدهم، في واحدة من أولى غارات طائرات "الإف-16" عليهم، امرأة رفعت حينها إشارة الإعجاب بإبهامها في قمرة قيادة الطائرة، المنطلقة من قاعدة "الظفرة" الجوية الإماراتية.

 

كان صعود الطيارة الإماراتية "مريم المنصوري" منذ بداية إعلان الحملة العسكرية ضد "تنظيم الدولة"، في (سبتمبر/أيلول) عام 2014، بعد ثلاثة أشهر من ظهور زعيم "تنظيم الدولة"، "أبي بكر البغدادي"، على منبر الجامع الكبير في الموصل، ممثلًا عمليًا ورمزيًا للحملة العسكرية ضد التنظيم، لكنه كان في الوقت نفسه مؤشرًا على الطموحات الإقليمية الإماراتية[8]، في ظل ضعف مصر بعد انقلاب (يوليو/تموز) العسكري، وتراجع الدور الإقليمي السعودي وانحساره، ما دفع الإمارات لتقديم أوراق اعتمادها للغرب، من قاعدة "الظفرة" بصواريخ المنصوري، وفي سفارات ومراكز صنع القرار في واشنطن على يد السفير الإماراتي يوسف العتيبة، مترافقة مع تحركات فردية كطيرانها المتجه لإفشال الثورة في ليبيا لصالح حليفها حفتر، أو لتحويلاتها المالية من مصارفها وأبراجها الشاهقة بالاستثمارات المليارية إلى مصر، أو بمعارضتها الناعمة وشبكتها الدينية في كل هذا معًا.

 

عمليًا، لم تعلن الإمارات دعمها للنظام السوري، بل، وعلى العكس، فقد نظرت إلى استبداده وتوسعه في القتل والقمع كأحد أسباب ظهور "تنظيم الدولة" واستمراره والتجنيد له، وهو ما جعلها تقف ضده، ولكن بحذر، بما يتوافق مع سياستها الإقليمية المتمثلة بالعداء لأي تيار للإسلام السياسي، والذي تنظر له بعين العداوة أكثر مما تنظر للنظام السوري، وتسعى للتخلص منه، ولكن من داخل الثورة السورية نفسها[9]، إضافة لكونها تحت ظل الموقف الخليجي الواضح والمباشر ضد نظام "بشار الأسد".

 

في الوقت نفسه؛ سعت الإمارات لتحقيق هدفيها المزدوجين، عبر دعمها لفصائل من "الجيش السوري الحر"، التي توصف بأنها "غير إسلامية"، وأبرزها فصيل "الجبهة الجنوبية"، المدعومة من "مركز العمليات العسكرية" في الأردن، المعروف اختصارا بـ"الموك"، والذي تملك الإمارات نفوذًا كبيرًا خلاله، إضافة للفصائل المدعومة من وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" تحديدًا، خاصة في البادية السورية اليوم، مثل فصيل "مغاوير الثورة"، الذي نجد الناطق الرسمي باسمه "مزاحم السلوم" من أول المعجبين  الحاضرين دائمًا على صفحة "فراس طلاس" على "فيسبوك"، وبسلاح يصل إلى سوريا من صربيا  والجبل الأسود، عن طريق شبكة "محمد دحلان" المعقدة وشركاته الكبرى، وجدت بيد شبكة المقاتلين السوريين المدعومين إماراتيًا[10]، والذين يواجهون اليوم "تنظيم الدولة" والنظام السوري، وفي الوقت نفسه يقفون في وجه الفصائل "الإسلامية" و"الجهادية" بكل توجهاتها وأطيافها، والذين خصت الإمارات 20 فصيلًا منها في سوريا، بينها كبرى الفصائل السورية كـ"أحرار الشام" و"جبهة النصرة" و"لواء التوحيد"، من أصل 84 تنظيمًا، في قائمة المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب الإماراتية [11].

 

محمد دحلان في مكتبه بأبوظبي عام 2016 (رويترز)
محمد دحلان في مكتبه بأبوظبي عام 2016 (رويترز)

 

بمعاداتها للنظام السوري عبر فصائل معينة، وبمواجهة "تنظيم الدولة" وفصائل الإسلام السياسي مباشرة، أكملت الإمارات صراعها داخل الثورة السورية عن طريق معارضيها المدعومين، والذين أدخلتهم ضمن شبكتها وأهدافها الإقليمية، عبر عرابها وسمسارها الأوضح والأبرز "محمد دحلان"، والذي دعمت عن طريقه فرعه السوري المسمى بـ "تيار الغد السوري"، تيار نجد في قائمة أعضائه، كما هو متوقع، "فراس طلاس" و"عروة الأحمد"، تحت رئاسة الرئيس السابق للائتلاف السوري "أحمد الجربا"، مستشار حاكم أبوظبي "محمد بن زايد"، ومن القاهرة مرة أخرى، حيث لا زال "فراس طلاس" شريكًا في "أوراسكوم" للإسمنت والإنشاءات.

 

بخلفية عشائرية عميقة، تسمح له بالنفوذ في المعركة السياسية، العشائرية الكبرى في مدينة "الرقة" ضد "تنظيم الدولة"، وبدعم إماراتي غير محدود كما هي عادة نظام أبوظبي؛ توعّد "أحمد الجربا" بثلاثة آلاف مقاتل مدربين من "التحالف الدولي" بالمشاركة في المعركة، تحت مسمى "قوات النخبة السورية"[12]، التي يبدو أنها حلت بديلًا عن مقترح قديم له، نفاه إعلاميًا، بتشكيل "جيش وطني سوري" بقيادة العميد "مناف طلاس"[13].

 

لا يقتصر الأمر على الوكلاء فحسب، إذ كشف موقع "ستراتفور"[14] عن مشاركة مباشرة للقوات الخاصة الإماراتية في معركة "الرقة" الشرسة التي يتوقع أن تطول أكثر من معركة "الموصل"، على أبواب شهرها التاسع، بجانب معركة نفوذ معقدة في البادية السورية، تدخل بها الإمارات بحلفائها وبنفسها هناك.

 

بشكل مناقض لعملية مطار أبوظبي؛ فربما يكون أحد أخطر الأدوار للإمارات في سوريا هو عمليات الاغتيالات، والتي نشطت بشكل كبير في مناطق نفوذها، عن طريق "الموك" في "درعا"، إضافة لاتهامات لبعض الناشطين للإمارات بتورطها بهذا الملف، اتهامات كان أبرزها وأوضحها عدة تغريدات للمغرد السوري المعروف "مزمجر الشام"، والذي اتهم الإمارات عن طريق عدة أسماء بالتورط في عدد من الاغتيالات[15]، وهو ما لم يثبت بشكل مباشر على الدولة الخليجية التي تضم مقر شركة مرتزقة "بلاك ووتر" الأمنية الشهيرة.

 

وقفت الإمارات ضد النظام سياسيًا، لكنها بقيت معه ومع حلفائه اقتصاديًا؛ حيث خاض أبناء زايد حربهم في سوريا كجزء من صراعهم الإقليمي على المنطقة وبها، ضد أعدائهم الواضحين: "الثورات" وما يطلق عليه "الإسلام السياسي"، وضمن شبكاتها السياسية والعسكرية الممتدة، التي يجلس في منتصفها سمسارها وعرابها محمد دحلان، ولكن هذه المرة من داخل الثورة السورية نفسها، بحصان طروادة، إذ تستضيف عائلة الأسد وفي نفس الوقت تقول إنها تسعى لإسقاطه عبر أبناء وزير دفاعه، في حصان طروادة الذي زرعته عبر أجهزتها وشبكاتها في قلب الثورة السورية. 
لتمثل مرحلة نقل السفارة الإماراتية مؤخرا، حدثا بديهيا في سياق استعادة النظام السوري لنفوذه، وفرضه عبر حلفائه لمعادلات جديدة على الجغرافيا السورية، وليسير سياسيو أبو ظبي بتناغم تام مع إستراتيجيتهم الإقليمية، والتي تهدف لتعظيم نفوذها في مقابل وأد أي مشروع سياسي إسلامي في المنطقة، إستراتيجية سيمثل فيها نظام الأسد حليفا مفضلا ومتناغما في أي حراك سياسي إماراتي يتخذ هذا المسار.
المصدر : الجزيرة