شعار قسم ميدان

باكستان والخليج.. التحالف المستحيل

ميدان - الأمير عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز نائب وزير الخارجية السعودي، ورئيس الوزراء الباكستاني سيد يوسف رضا جيلاني
الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبدالعزيز نائب وزير الخارجية السعودي، ورئيس الوزراء الباكستاني سيد يوسف رضا جيلاني (الأوروبية)
تجمّعت حوله النساء السعوديات بعباءاتهن السوداء، وشرعن في الهتاف باسمه؛ مودي مودي مودي1. ابتسم بدوره نارندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي، للسعوديات مرحبًا بهن أثناء مشاركته بافتتاح أول مركز لتكنولوجيا المعلومات مخصص للنساء فقط في المملكة العربية السعودية، وهو المركز الذي أسسته شركة "تاتا" الهندية، واعتبره مودي فخرًا للسعودية.

 

ليست تلك الحفاوة السعودية بمعتادة في استقبال قيادات الهند، فقد دأبت "دلهي" على التعاون الوثيق مع إيران، في مواجهة العلاقة السياسية والعسكرية الوطيدة بين غريمها الباكستاني والسعودية، فضلًا عن أن نارندرا مودي بالتحديد هو أول رئيس وزراء مُنتمٍ للحزب القومي الهندوسي يتم استقباله في الرياض، وهو الحزب قليل الشعبية بين المسلمين نظرًا لبعض أفكاره الهندوسية المتطرفة، والتزامه بمواقف متشددة حيال باكستان، ومن ثم لم يكن متوقعًا أن يستضيفه السعوديون في زيارة رسمية، وهم من استقبلوا سابقًا ثلاثة رؤساء وزراء هنود فقط منذ استقلال الهند عام 1947.

 

نجح مودي في صناعة التاريخ بتلك الزيارة غير المسبوقة في (أبريل/نيسان) العام الماضي 2016، بل وخرج بمكتسبات لم تكن لتحلم بها الهند سابقًا من العاصمة السعودية2، لا سيّما وهي في ذروة صراعها مع المشروع الإيراني في المنطقة، فقد عاد مودي للهند بعد أن وقع مع السعودية خمس اتفاقيات ثنائية، منها اتفاقية متعلقة بمشاركة المعلومات الاستخباراتية عن شبكات تمويل الجماعات الإرهابية، واتفاقية أخرى لتعزيز التعاون في مجال الدفاع بين البلدين، وحصل على بيان مشترك لإدانة "الدول الداعمة للتنظيمات الإرهابية"، في إشارة ضمنية لنشاطات بعض الجماعات المدعومة من باكستان، علاوة على منحه وسام الملك عبد العزيز الأرفع في المملكة، والذي لم يُمنح لأية قيادة باكستانية باستثناء الرئيس العسكري السابق "برويز مشرف".

 

رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف أثناء لقائه بالرئيس الإيراني حسن روحاني

 

على الناحية الأخرى من مياه الخليج، كانت باكستان قد استقبلت الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام قليلة من زيارة مودي للسعودية3، ووقعت ست مذكرات تفاهم بخصوص التعاون الاقتصادي وتخفيض الجمارك، والأهم التشاور من أجل تدشين خط لأنابيب الغاز من إيران لباكستان لتلبية احتياجات الأخيرة البالغ تعداد سكّانها حوالي 180 مليون نسمة، وهو مشروع لطالما اعترض عليه حلفاء باكستان التقليديون، الممثلون في الولايات المتحدة والسعودية، انطلاقًا من حرصهما على منظومة العقوبات الدولية المفروضة على إيران، ورفضهما توسيع نفوذ إيران الاقتصادي داخل باكستان.

 

بيد أن الموازين المتغيّرة في العقدين الأخيرين، بجنوب وغرب آسيا، على ما يبدو جلبت تغيّرات غير هيّنة في العلاقات بين تلك القوى الآسيوية الأربع، الهند وباكستان وإيران والخليج، وجعلت العلاقة الإستراتيجية بين السعودية وباكستان أكثر فتورًا عمّا كانت عليه منذ اقترب البلدان في الثمانينيات لدعم المجاهدين الأفغان ضد السوفييت، واحتواء النفوذ الإيراني في أفغانستان.

 

العقيدة الباكستانية: إسلام آباد لا تحارب طهران

"فليغضب السعوديون كما شاؤوا"، هكذا كتب أحد الصحافيين الباكستانيين دفاعًا عن قرار البرلمان الباكستاني قبل عامين بالتزام الحياد في الصراع الجاري باليمن4، بعد أن كانت هنالك آمال بين دول مجلس التعاون الخليجي بأن تصطف باكستان معهم في مواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، وأن ترسل بعض قواتها للانضمام إلى "عاصفة الحزم"، وهو قرار لاقى قبولًا واسعًا بين كثيرين في باكستان باستثناء بعض الحركات السُنية "المتطرفة" على غرار "جماعة الدعوة"، المسؤولة عن تفجيرات مومباي عام 2008، والتي دعت الجيش الباكستاني للدفاع عن الرياض ضد الحوثيين5.

 

لم تقل حدة الردود الخليجية عن نظيرتها الباكستانية في انتقاد قرار إسلام آباد بعدم دخول الصراع في اليمن، فقد صرّح وزير الشؤون الخارجية الإماراتي "أنور قرقاش" بإن "قرار باكستان خطير، وإن عليها اتخاذ قرار يصُب لصالح علاقتها الإستراتيجية مع الخليج"، في حين نشر موقع "غلف نيوز" الإماراتي مقالة افتتاحية أشارت صراحة لفقدان باكستان ثقة الخليجيين6، بينما نشرت صحيفة بحرينية رسمة كاريكاتير تُظهر رجلا باكستانيا مستلقيا على فراش أمام الملك سلمان ممسكًا بسلاح في يده الأولى، ومطالبًا الباكستاني بالقيام للحرب، ليرد الأخير بعدم قدرته على ذلك، مقابل حماسه حين يمد له الملك يده الثانية المحمّلة بالنقود، في إشارة لتخاذل باكستان العسكري مقارنة بالدعم المالي السخي الذي تحصل عليه من السعودية باستمرار7.

 

قائد القوات البرية الملكية السعودية الفريق خالد بن بندر بن عبدالعزيز وقائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق بارفيز كياني أثناء مشاركة قوات بلديهما تدريبات عسكرية تدعى
قائد القوات البرية الملكية السعودية الفريق خالد بن بندر بن عبدالعزيز وقائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق بارفيز كياني أثناء مشاركة قوات بلديهما تدريبات عسكرية تدعى "السمسم الرابع" 2011 (رويترز)

 

في حقيقة الأمر، لم تتوان باكستان يومًا عن تقديم الدعم العسكري للسعودية بشكل خاص، ودول الخليج بشكل عام، حين تعلّق الأمر بمصلحة تخُص أمن الخليج الداخلي مباشرة، فقد أرسلت باكستان جنودها باستمرار داخل السعودية لحماية مواقع مختلفة مثل منشآت النفط في الشرق بدءًا من سبعينيات القرن المنصرم8، كما تشير مصادر عدة لتخصيص الجيش الباكستاني لواءين عسكريين لردع أية محاولات لزعزعة استقرار النظام السعودي في الداخل، علاوة على إيفاد ضباط باكستانيين متقاعدين للبحرين لدعم حرسها الوطني في احتواء الاحتجاجات الشيعية هناك9.

 

بيد أن ذلك الالتزام الباكستاني بأمن الخليج لم يتجاوز حدود دول الخليج، ولم يصل أبدًا للاصطفاف الكامل مع مواقف الخليج في منطقة الشرق الأوسط ككُل، فقد رفضت باكستان بوضوح الانحياز لأجندة الخليج أثناء الحرب بين إيران والعراق في الثمانينيات10، لا سيّما بالنظر لتوتّر العلاقات بينها وبين نظام صدام حسين، بل وقدمت بعض الأسلحة للنظام الإيراني الجديد آنذاك في مواجهة صدام مقابل دعمه لبعض فصائل المجاهدين الأفغان.

 

يمتد الخلاف بين باكستان والخليج تاريخيًا أيضًا للموقف من النظام السوري11، فقد شهدت إسلام آباد تقاربًا مع نظام حافظ الأسد في السبعينيات مع صعود ذو الفقار علي بوتو كرئيس للوزراء، وهو موقف تأثر مع انقلاب الجنرال ضياء الحق عام 1977، لكنه لم يمنع إسلام آباد من الاستمرار في خط علاقاتها المفتوحة مع النظام السوري، وموقفها الأكثر انحيازًا له حتى اليوم، وهو موقف ينبع من تجربة باكستان السلبية مع الجهاد في أفغانستان، حيث عانت من ارتداد دعمها للمجاهدين الأفغان إلى الداخل الباكستاني في صورة عمليات إرهابية متكررة، ومن ثم يتسم موقفها حاليًا بدعم قبضة الأسد على حساب فوضى فصائل الثورة السورية، في تناقض صريح مع الموقف الخليجي.

 

إن الصراع التقليدي بين باكستان والهند يدفع باكستان بشكل طبيعي لعلاقة إستراتيجية وثيقة مع الغريم الهندي الأكبر في آسيا؛ الصين (رويترز)
إن الصراع التقليدي بين باكستان والهند يدفع باكستان بشكل طبيعي لعلاقة إستراتيجية وثيقة مع الغريم الهندي الأكبر في آسيا؛ الصين (رويترز)

 

يزيد الموقف تعقيدًا حاليًا فتور الاهتمام الأميركي بمنطقة غرب آسيا ككُل، وما مثلته من مظلة لتحالف إقليمي شامل بين الخليج وباكستان، واتجاه السعودية وباكستان بشكل منفرد لتشكيل علاقات إستراتيجية ملائمة لمصالحهما المباشرة بشكل لم يعد يضمن التناغم السعودي الباكستاني الذي وصل لأوجه خلال الثمانينيات، فالصراع التقليدي بين باكستان والهند يدفع باكستان بشكل طبيعي لعلاقة إستراتيجية وثيقة مع الغريم الهندي الأكبر في آسيا؛ الصين12، والتي تمثل واحدة من أهم شركاء باكستان العسكريين والاقتصاديين حاليًا، وكذلك أحد الأسباب الرئيسية لتبني باكستان مواقف منحازة لنظام الأسد، ومحايدة تجاه إيران.

 

بالنظر لانتماء خُمس سكّانها للمذهب الشيعي، وغياب أي ملمح سُني لنظامها السياسي منذ تأسيسه عام 1947، لم تكن باكستان يومًا في الحقيقة دولة ذات طابع مذهبي سُني صريح مثل دول الخليج13، بل ولم يكن إسلام غالبية سكّانها سببًا كافيًا أصلًا لمنحها أي اهتمام للإسلام كعقيدة أو أيديولوجية بحد ذاتها، فلواء باكستان لم يعدُ كونه غطاءً لثقافة المسلمين ممن خافوا هيمنة الهندوس المُطلقة داخل الهند، ومن ثم جنحوا إلى تأسيس كيان منفصل يحفظ ما تبقى من سُلطان المسلمين الهنود السابق، وتراثهم المستند للغة الأوردو، وهو تراث شديد الارتباط بنظيره الفارسي، ويخلو تقريبًا من أية نزعات مذهبية بالنظر للتواجد القوي لفرق شيعية مختلفة في صفوف مسلمي الهند.

 

لم يكن غريبًا إذن أن تنحاز باكستان باستمرار للتوازن بين إيران والخليج، بل ولعب دور الوساطة بينهما كما تحاول مؤخرًا، وأن تبتعد طوال تاريخها عن الخط السُني للسياسة السعودية قدر الإمكان، دون أن يمنعها ذلك من الالتزام بأمن الخليج تارة كعلاقة إستراتيجية لا تزال مُهمة اقتصاديًا وعسكريًا بالنسبة لها، والبحث تارة أخرى عن مصالحها الآسيوية الخاصة في جنوب ووسط آسيا بالتعاون مع إيران والصين، بعيدًا عن أي انخراط مباشر في صراعات الشرق الأوسط المذهبية المحتدمة حاليًا.

 

التأثير الهندي: التقارب بين دلهي والرياض

لا يذكر العرب عن دور الهند أكثر من دورها المركزي في تأسيس حركة عدم الانحياز بالتعاون مع مصر خلال حُكم جمال عبد الناصر، وما مثلته آنذاك من دعم للقضية الفلسطينية، وانحياز واضح للسياسة السوفيتية على حساب الولايات المتحدة ظل كائنًا حتى نهاية الحرب الباردة، مقابل حصول باكستان على دعم واشنطن المفتوح لعقود طويلة. كانت حسابات الحرب الباردة الصفرية واحدة من أسباب انكفاء الهند تمامًا على علاقاتها مع الروس، ومن ثم تراجع دورها إقليميًا وعالميًا حين أفُل نجم الشيوعية بنهاية الثمانينيات.

 

وزيرة الخارجية الهندية سوشما سواراج ونظيرها الإيراني جواد ظريف قبيل اجتماعهما، وقد كانت إيران منفتحة على الشركات الهندية الخاصة التي تستثمر في تطوير ميناء تشابهار 2015 (رويترز)
وزيرة الخارجية الهندية سوشما سواراج ونظيرها الإيراني جواد ظريف قبيل اجتماعهما، وقد كانت إيران منفتحة على الشركات الهندية الخاصة التي تستثمر في تطوير ميناء تشابهار 2015 (رويترز)

 

خلعت الهند تدريجيًا عباءة مؤسسها "جواهرلال نهرو"، وتركت خلفها إرث الحرب الباردة والسياسات الاشتراكية، لتفتح أسواقها للعالم خلال التسعينيات، وتبدأ بتعزيز علاقاتها رويدًا مع الولايات المتحدة وأوروبا والخليج وإسرائيل، لا سيّما والخطر الصيني إلى شرقها والباكستاني إلى غربها يحتمان عليها البحث عن بدائل لنفوذ الروس المتآكل، الذي منحها سابقًا دعمًا غير مشروط في آسيا.

 

في خضم هذه التحولات، وجدت الهند في إيران صديقًا مهمًا14، نظرًا لمعارضتهما الصريحة لنظام طالبان في أفغانستان، وللجماعات السُنية المتطرفة التي بدأت باكستان في دعمها بشكل مفتوح، وحاجة الهند إلى إيران للاتصال بأوروبا من ناحية وبآسيا الوسطى من ناحية، في مقابل اعتماد إيران على الهند لتوسيع نطاق دورها البحري، وصيانة الأسلحة الروسية التي تملكها طهران بالنظر لخبرات الهند الطويلة في صيانة واستخدام السلاح الروسي الذي لا تزال أكبر مشترٍ له في العالم، وتقديم الدعم التكنولوجي في مجالات بحوث الفضاء والأقمار الصناعية الناشئة في إيران، والمحرومة من التكنولوجيا الغربية جراء العقوبات عليها.

 

على غرار علاقة باكستان الإستراتيجية بالخليج، لم تتحول أبدًا علاقة الهند بإيران إلى تحالف شامل لأسباب عديدة، أبرزها العُزلة الدولية لإيران، والتي تجعل تحالفًا كهذا مُضرًا للهند في المجتمع الدولي، لا سيّما والهنود يبحثون حاليًا عن علاقات قوية مع الأميركيين لتوفير التوازن المطلوب مع الصين في آسيا، ويتمتعون كذلك بعلاقات عسكرية وتكنولوجية قوية مع إسرائيل، علاوة على اعتمادهم حتى اليوم في 40% من احتياجاتهم النفطية على دول الخليج15، وكذلك على تحويلات ملايين العمّال الهنود العاملين هناك، والذين يصل تعدادهم لحوالي تسعة ملايين عامل ثلثهم على الأقل في السعودية.

 

بينما ظل الوضع السياسي والاقتصادي الباكستاني راكدًا طوال العقدين الماضيين، مناقضًا للصعود السريع لنظيره الهندي، كان حتميًا أن تبحث دول المجلس التعاون الخليجي، والسعودية بشكل خاص، عن إعادة تعريف لعلاقاتها مع الهند كأهم طرف دولي يجاورها جغرافيًا بشكل مباشر اليوم16، لا سيّما وقد استغنى الأميركيون عن النفط والغاز الخليجيين، مما يعني رغبة سعودية هندية مشتركة لتصدير هذه الكميات من النفط لسد حاجات الاقتصاد الهندي المتزايدة، بل ورغبة السعوديين تحديدًا في منافسة الإيرانيين بالسوق الهندي فيما يخص المنتجات النفطية.

 

الملك عبدالله مع الرئيس الهندي عبد الكلام أثناء زيارته التاريخية للهند 2006  (رويترز)
الملك عبدالله مع الرئيس الهندي عبد الكلام أثناء زيارته التاريخية للهند 2006  (رويترز)

 

بينما يستمر تقيّد باكستان لأسباب ديمغرافية واقتصادية وجغرافية بالحياد بين الخليج وإيران، تظهر على الناحية الأخرى أسباب سعودية قوية لعدم الاعتماد المُطلق على باكستان، لا سيّما وما قد يمثله ذلك من دفع الهند بكل ثقلها إلى الكفة الإيرانية، مما يجعل الموقف الإيراني أقوى بطبيعة الحال بالنظر للفروق الكبيرة بين وزن الهند وباكستان دوليًا، ومن ثم فانعدام الحماس الباكستاني لتشكيل تحالف شامل مع الخليج يدفع بإيران لدعم الهند المفتوح، يوازيه في الحقيقة نوعٌ من انعدام الرغبة لدى الخليج في تشكيل ذلك التحالف من الأصل حفاظًا على توازن جيّد مع الهند، وإثناءً لها قدر الإمكان عن دعم المواقف الإيرانية.

 

أما في إسلام آباد، وحيث يستمر هاجس الحرب مع الهند على كشمير في تشكيل تصورات القيادة الباكستانية، فإنه ثمة سببا جديدا الآن لاستحالة التحالف الشامل مع الخليج، وإن ظلت العلاقة العسكرية التقليدية مع السعودية كما هي

من ناحيتها، تبدو الهند راغبة في تجاوز ثنائية "باكستان السعودية" مقابل "الهند إيران" بالنظر للكُتلة الاقتصادية الأكبر التي يشكلها الخليج، وإمكانياته الأكبر في الاستثمار داخل الهند، لا سيّما وأن إيران لا يسعها في كل الأحوال الابتعاد عن الهند ومن ثم لن يكون الاقتراب من الخليج سببًا في خسارة إيران بأي حال، بل سيكون دافعًا لإيران في الواقع للاهتمام بالعلاقات الاقتصادية مع الهند بشكل أكبر لمنافسة السعوديين على كسب دعمها، ومن ثم تصبح الهند في المحصّلة الطرف الأكثر استفادة من التنافس الإقليمي بين الطرفين، والأكثر حرية في الحركة بين مختلف دول المنطقة بما يمثله ذلك من إمكانية لعبها هي لدور الوساطة أكثر من غريمها الباكستاني.

 

وصلت كل تلك التحولات لذروتها في السنوات الأخيرة مع احتدام الصراع في الشرق الأوسط وتراجع الدور الأميركي، لكنها كانت تجري على قدم وساق منذ مطلع القرن الجديد، وكشفتها مواقف متعاقبة مثل الزيارة التاريخية للملك الراحل عبد الله إلى الهند عام 2006، وهي الأولى في نصف قرن، والتي صرّح فيها بأن الهند بلده الثاني17، والسابقة التي قامت بها السعودية عام 2012 حين سلّمت "إرهابيًا هنديًا" انضم لجماعة الدعوة الباكستانية إلى السلطات الهندية مباشرة18، على عكس ما جرت العادة سابقًا من تسليمهم للسلطات الباكستانية، وتبلور علاقات تعاون في مجال الدفاع لأول مرة بشكل مفتوح بين الخليج والهند في مجال مكافحة الإرهاب، والنمو السريع في ميزان التبادل التجاري الهندي الخليجي ليصل إلى 150 مليار دولار، مقابل 60 مليار دولار فقط للتجارة الخليجية الباكستانية19.

 

تدفع كل تلك التحولات كلًا من الهند والسعودية، والخليج بصورة عامة، إلى تدشين "شراكة آسيوية" بينهما تتجاوز ملف العلاقة التاريخية بين باكستان والسعودية، والذي بات اليوم ملفًا ضيقًا بالمقارنة مع الإمكانيات الواسعة للعلاقات الهندية الخليجية، أما في إسلام آباد، وحيث يستمر هاجس الحرب مع الهند على كشمير في تشكيل تصورات القيادة الباكستانية، فإنه ثمة سببا جديدا الآن لاستحالة التحالف الشامل مع الخليج، وإن ظلت العلاقة العسكرية التقليدية مع السعودية كما هي، ليزداد مربّع علاقات "الهند، الخليج، إيران، باكستان" تعقيدًا ومرونة في آن.

المصدر : الجزيرة