شعار قسم ميدان

"بنت بندر سفيرة".. هكذا أسس أبوها لوبيات الرشوة السياسية بواشنطن

ميدان - بندر بن سلطان وريما بنت بندر

عينت المملكة العربية السعودية أمس السبت الأميرة "ريما بنت بندر بن سلطان" سفيرة لها في واشنطن، وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد. ويأتي التعيين وسط توتر في العلاقات الدولية مع المملكة، واهتزاز كبير في صورتها في العاصمة الأمريكية بفعل مقتل الصحافي السعودي "جمال خاشقجي" على يد وكلاء سعوديين في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهي الواقعة التي تعتقد المخابرات الأمريكية ونواب في الكونغرس أنها تمت بمباركة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

   

تحل "ريما بنت بندر" محل "خالد بن سلمان" نجل الملك والأخ الشقيق لولي العهد الذي تم تعيينه كنائب لوزير الدفاع بعد أن بات غير قادر على أداء مهامه الدبلوماسية بفعل الهجوم الحاد الذي يتلقاه بسبب دوره في "تضليل الرأي العام" بشأن واقعة خاشقجي كما يتم اتهامه، وتأمل المملكة فيما يبدو في أن تعيين وجه أنثوي على رأس فريقها الدبلوماسي في العاصمة الأمريكية سيسهم في تخفيف الضغط على الرياض وابن سلمان، وإعادة بناء صورة ولي العهد كمصلح اجتماعي ومؤمن بحقوق المرأة ودورها.

   

في الوقت نفسه، تأمل المملكة أن السفيرة الجديدة ستكون قادرة على الاستفادة من العلاقات الكبيرة والقبول الواسع الذي يتمتع به والدها "بندر بن سلطان"، وهو أطول سفراء السعودية خدمة في الولايات المتحدة، حيث شغل المنصب ذاته في الفترة بين عامي 1983 و2005، وكان مقربا بشدة من الطبقات السياسية الأمريكية العليا خاصة عائلة بوش، إلى درجة أنه كان يطلق عليه لقب "بندر بوش".

   

وأمضت الأميرة "ريما" سنوات عديدة في واشنطن إبان عمل والدها في الولايات المتحدة، وحصلت على شهادة علمية في دراسات المتاحف من جامعة جورج واشنطن، كما عملت مؤخرا في هيئة الرياضة في المملكة. ويبقى أن نراقب إذا ما كانت السفيرة الجديدة ستتمتع بصلاحيات فعلية في القيام بالمهام الدبلوماسية الرسمية، وقبل ذلك في إدارة وتسيير شبكات الضغط والعلاقات العامة السعودية الشاسعة في الولايات المتحدة والموضحة في المادة أدناه، والأهم مدى قدرتها -في النهاية- على إعادة تأهيل صورة بلادها المتدهورة بين صفوف الطبقة السياسية العليا والنافذة في واشنطن.

    

الأميرة 
الأميرة  "ريما بنت بندر بن سلطان"  (رويترز)
  
يعرف السياسيون والاستشاريون في واشنطن اليوم اسم هوغان لوفيلز جيدا، وهو عملاق المحاماة الدولية القابع في شارع 13 في ميدان كولومبيا بالعاصمة الأميركية، والذي صعد نجمه بقوة منذ عام 2010 بفعل اندماج(1) بين اثنين من أشهر مكاتب المحاماة عالميا، هما: مكتب هوغان في واشنطن، ومكتب لوفيلز الواقع في لندن العاصمة البريطانية. حتى قبل الاندماج، كان مكتب هوغان بمفرده يحتل المركز الخامس في قائمة أكبر جماعات الضغط في واشنطن، واليوم، يوظف(2) هوغان لوفيلز أكثر من 2500 محامٍ في أكثر من 40 مكتبا حول العالم، مع قائمة عملاء تشمل عمالقة مثل "آبل" و"غولدمان ساكس" و"كوداك"، إضافة إلى عدة حكومات أجنبية. كل ذلك يعرفه السعوديون جيدا منذ بداية عملهم مع مكتب المحاماة العريق منتصف السبعينيات كواحد من قائمة طويلة من مكاتب الضغط التي وظفتها الرياض خلال العقود الأخيرة في واشنطن، ولكن شخصا واحدا بزغ نجمه في واشنطن خلال الأعوام الأخيرة يعمل لصالح المكتب الشهير بدأ يسترعي انتباها خاصا: رجل يدعى نورم كولمان.

   

في (يوليو/تموز) من عام 2014 كانت شركة "هوغان لوفيلز" تقدم إخطارها إلى وزارة العدل بأن كولمان(3) سيقدم الخدمات القانونية للسفارة السعودية بشأن قضايا تشمل إيران وسوريا، وقام المكتب بالفعل بتنظيم اجتماعات نيابة عن عملائه السعوديين مع عدد من المسؤولين الأميركيين، على رأسهم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب إد رويس لمناقشة قضايا السلام في الشرق الأوسط. ولكن المهمة الحقيقية التي أرادها السعوديون من كولمان كانت أبعد بكثير من تلك الاجتماعات التقليدية التي يمكن أن ينظمها وكلاء الضغط العاديون.

 

يُعرف كولمان -سيناتور ولاية مينيسوتا الجمهوري حتى عام 2009- على أنه "صانع النواب" في الكونغرس، فبعد أن فقد منصبه البرلماني اتجه السيناتور السابق إلى مجال الضغط السياسي وهندسة الحملات الانتخابية، حيث قاد مجموعتين وجهتا أموالا كثيفة إلى سباقات الكونغرس منذ عام 2014، هما: شبكة العمل الأميركية (American Action Network)، وصندوق قيادة الكونغرس (Congressional Leadership Fund). خلال تلك الانتخابات أنفق الصندوقان معا أكثر من ثمانية ملايين دولار على عشرة سباقات مختلفة للكونغرس لتعزيز المرشحين الجمهوريين. وفي حين أن صندوق قيادة الكونغرس يعد وكيل حملات "سوبر باك" (Super PAC) مسجل رسميا لدى المجلس نفسه، فإن شبكة العمل الأميركية تصنف على أنها منظمة غير ربحية تتلقى "أموالا سوداء" من حكومات أجنبية، وهي غير ملزمة بالكشف عن المانحين.

 

يعمل كولمان منذ عام 2011 كوكيل لصالح "هوغان لوفيلز"، ولكن نشاطه(4) في انتخابات الكونغرس هو ما وضعه في بؤرة اهتمام السعوديين، ودفعهم إلى مضاعفة نشاطهم مع المكتب بعقد تبلغ قيمته 125 ألف دولار شهريا في (يوليو/تموز) 2014. أما الهدف الحقيقي فبدا وكأنه صفقة ضمنية، تقوم خلالها مجموعة كولمان بالتركيز بشكل خاص على إقصاء النواب المعارضين لسياسة المملكة العربية السعودية من الديمقراطيين من خلال دعم منافسيهم في الحملات الانتخابية. على سبيل المثال أعلنت شبكة العمل الأميركية عام 2014 أنها ستنفق 750 ألف دولار على الإعلانات لهزيمة عضو الكونغرس المناهض للسعودية أمي بيرا، وهو فيزيائي ديمقراطي معارض للرياض من كاليفورنيا، كان يشغل عضوية لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب.

 

 السناتور السابق نورم كولمان (رويترز)
 السناتور السابق نورم كولمان (رويترز)

 

ورغم أن كولمان فشل في إبعاد بيرا الذي أعيد انتخابه بعد سباق محموم عام 2016 فإن جهوده نجحت في إبعاد بعض المشاكسين الديمقراطيين الآخرين، بما في ذلك آن كيركباتريك نائبة ولاية أريزونا التي خسرت مقعدها لصالح جون ماكين صقر اليمين الجمهوري الشهير المقرب من السعودية، إضافة إلى جو غارسيا نائب فلوريدا، وبيت غاليغو من تكساس. كما قادت جماعة كولمان حملة ضد انتخاب سياسي فرجينيا الديمقراطي جون فوست المناهض لسياسات الرياض في مواجهته مع المرشحة الجمهورية باربرا كومستوك.

 

وللمفارقة، كان العمل لصالح السعودية يمثل بالنسبة إلى كولمان -بشكل ما- تناقضا مع موقفه كسيناتور قبل عقد من الزمان. في عام 2005، كان كولمان أحد أبرز الموقعين على خطاب في الكونغرس يدين الحكومة السعودية كاملة لنشر مطبوعات تروج لـ "كراهية اليهود ونشر الأيديولوجية المتطرفة في جميع أنحاء العالم"، قبل أن يجد نفسه اليوم يقف منافحا عنها، ومقدما لدليل آخر على أن المال يمكنه تغيير كل شيء.

 

يعمل سيناتور مينيسوتا السابق للعام الرابع على النهوض بجدول أعمال المملكة العربية السعودية في واشنطن، ويستفيد من أموالها في دعم المرشحين الجمهوريين، منقلبا على مواقفه السابقة المعاكسة بطريقة تثير الدهشة، إلى درجة أنه صار يروج لكون الرياض تحمل أجندة "متصالحة ومتوافقة مع إسرائيل". فبعد يومين فقط من تسجيله للضغط لصالح السفارة الملكية السعودية، ظهر كولمان في منتدى للسياسة الخارجية في مبنى مجلس الشيوخ، ليؤكد أن "خوف السفير السعودي من إيران التي تمتلك أسلحة نووية يوافق تماما مشاعر السفير الإسرائيلي"، مضيفا "نظرة السعوديين والإسرائيليين لما يجري تبدو متطابقة، وهم يتساءلون لماذا لا تقف الولايات المتحدة في نفس الموقف مع حلفائها؟".

 

بيد أن كولمان على أهميته ليس هو الشخص الوحيد في كابيتول هيل الذي يعمل اليوم لتعزيز المصالح السعودية بالمال. في واقع الأمر، توظف(5) الرياض أسطولا كاملا من شركات الضغط والعلاقات العامة والمسؤولين السابقين والصحفيين ومراكز الفكر للنهوض بمصالحها في العاصمة الأميركية، وتوجيه أسلحة ذلك الأسطول تجاه أي شخص أو كيان لا ترضى عنه الرياض. أسطول ضخم يعمل لصالح الرياض ويمكن اعتباره الشقيق الأكبر والملهم لشبكة الإمارات في واشنطن أيضا، والتي يشرف عليها السفير الإماراتي يوسف العتيبة مستلهما نموذج الشراء المالي. أسطول لم يكن أبدا وليد الشهور أو السنوات الأخيرة، بل إن كثيرين يرون اليوم أنه يكافح لاستعادة بريق فقده على مدار العقد الفائت، بريق صنعه رجل يتردد اسمه في العاصمة حتى الآن، ويعرفه صناع القرار ربما أكثر مما يعرفون كولمان ورفاقه ممن توظفهم الرياض اليوم، وهو بندر بن سلطان السفير السعودي السابق في واشنطن.

 

العراب

منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان كان بندر بن سلطان مشهورا(6) في واشنطن بسيجاره وحفلاته وتأثيره، وعلى مدار أكثر من عقدين لعب بندر دور هيمنغواي السياسة الذي تدور حوله أنخاب السياسيين والصحفيين في العاصمة لسماع حكايات الساسة والملوك، حكايات يصاحبها بالطبع تلقي بعض الهدايا الباذخة والأموال التي يوزعها الرجل بلا حساب. كان بندر هو الشخص الذي كسب ود الجميع وفي مقدمتهم الرؤساء الأميركيين من رونالد ريغان حتى بوش الابن.

 

الأمير بندر بن سلطان والرئيس الأميركي الأسبق جورش بوش (رويترز)
الأمير بندر بن سلطان والرئيس الأميركي الأسبق جورش بوش (رويترز)

 

يثق بوش الصغير بصديقه السعودي كثيرا، وهي ثقة يبدو أنه ورثها عن والده، وتعززت حين عمل الرجلان معا لأول مرة قبل ثلاثة أعوام من تولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة. في خريف عام 1997، ومن أجل تفادي أن يصبح لقاءهما(7) موضعا لثرثرة وسائل الإعلام، كان على بندر أن يخفي الهدف الحقيقي لزيارته إلى تكساس خلف ستار ذهابه لمشاهدة مباراة لكرة القدم الأميركية لفريقه المفضل دالاس كاوبويز. كان من المفترض أن يكون الاجتماع المنتظر مع بوش الصغير سريا، وعندما هبطت طائرة بندر الخاصة في أوستن وجد مضيفه بالفعل في انتظاره كما اتفق.

 

قبل ذلك الموعد بأيام كان السفير السعودي في أميركا على موعد مع اتصال مفاجئ من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، ولم يكن السفير معتادا على تلقي الاتصالات بانتظام من العجوز بوش -البالغ عمره 74 عاما آنذاك- خلال تلك الفترة رغم العلاقة الوثيقة السابقة بينهما. طلب بوش من بندر أن يقوم بزيارته للتحدث بعض الوقت، ولم يكن بندر ليتأخر، وهو الذي وصفته الصحافة يوما بأنه رابع أبناء بوش حين كان رئيسا.

 

ترجع بدايات العلاقة الخاصة بين الرجلين إلى ما قبل رئاسة بوش الكبير، وتحديدا حين كان نائبا للرئيس في عهد رونالد ريغان، حيث كان ينظر إليه في ذلك التوقيت على أنه شخص ضعيف يعيش في ظل ريغان -على حد وصف بوب وودوارد-، ولكن بندر أولى بوش اهتماما خاصا وكأنه كان ينظر إليه كرئيس مستقبلي، وقد أثبتت هذه الصداقة أهمية وفاعلية كبرى فيما بعد حين أصبح بوش رئيسا بالفعل، وسهلت مهمة التدفق غير المسبوق لأكثر من نصف مليون جندي أميركي إلى الأراضي السعودية بعد غزو العراق للكويت، وهي الفترة التي وصفت فيها الصحافة الأميركية بندر على أنه العضو غير الرسمي في إدارة بوش. وحتى في عام 1992 حين بدا أن بوش خسر بالفعل فرصته في ولاية ثانية لصالح الديمقراطي بيل كلينتون فإن بندر أرسل إليه رسالة خاصة قال له فيها "أنت صديق عمري، ولن أنسى أنك أنقذت بلادنا واعتبرتني واحدا من عائلتك. أنت تستحق الفوز، ولكن حتى إذا خسرت فستكون رفيقا لونستون تشرشل الذي خسر الانتخابات وكسب الحرب".

 

في وقت لاحق يذكر بوش أن رسالة بندر كانت الشيء الوحيد الجيد الذي حدث له في تلك الأيام السيئة، وهي رسالة تكشف طبيعة حياة بندر التي امتدت لأكثر من عقدين في واشنطن والتي بنيت على تلك العلاقات الخاصة. عندما ترك مايكل ديفر -أحد كبار مساعدي البيت الأبيض في عهد الرئيس ريغان- البيت الأبيض ليصبح وكيلا للضغط، دعت السيدة الأولى نانسي ريغان بندر وطلبت منه مساعدة ديفر، وقد أعطاه بندر يومها عقدا بقيمة نصف مليون دولار ولم يره ثانية منذ ذلك التوقيت.

 

على كل حال، كما اكتشف بندر لاحقا، لم يكن العجوز بوش هو من يرغب حقا في رؤية بندر بن سلطان في ذلك اليوم، ولكنه كان ينسق زيارة للسفير السعودي لنجله دبليو بوش حاكم تكساس منذ ثلاث سنوات في ذلك التوقيت. وأمام مدرج طائرته التي هبطت في أوستن ألقى بوش الابن قنبلته في وجه بندر بن سلطان: كان الابن يخطط للترشح للرئاسة.

 

 الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في لقاء مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل والسفير تركي الفيصل والأمير بندر بن سلطان عام 2006 (الأوروبية)
 الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في لقاء مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل والسفير تركي الفيصل والأمير بندر بن سلطان عام 2006 (الأوروبية)

 

لا يحمل بوش الابن أي خبرات السياسية باستثناء سنواته الثلاث في تكساس. في الحقيقة، كان فوز بوش -ذو 52 عاما- بمنصب حاكم تكساس مفاجأة لوالده العجوز نفسه، وكان على الأب أن يستعين بخبرات المقربين منه من أجل إعداد نجله "الغر" للمعركة المرتقبة. وعلى مستوى شبكة العلاقات داخل واشنطن، والأهم خارجها من الصين إلى روسيا وبريطانيا وحتى إسرائيل، لم يكن هناك اسم يمكن أن يضاهي بندر بن سلطان.

 

كان الأمر أشبه بفريق غير رسمي للمرشح المنتظر، يضم -إضافة إلى بندر- كلا من كونداليزا رايس موظفة الأمن القومي السابقة وابنة ستانفورد، وريتشارد أرميتاغ خريج الأكاديمية البحرية ومساعد وزير الدفاع الأسبق في عهد ريغان، وغيرهم. لم يكن مستغربا إذن أن يطلع بوش -الرئيس آنذاك- بندر على تفاصيل تخص حرب العراق قبل أن يطلع عليها وزير خارجيته كولن باول نفسه، ولم يكن مفاجئا أيضا أن بندر ظل يتمتع بالنفوذ الأكبر لدى إدارة بوش في واشنطن، حتى بعد مغادرته موقع السفير السعودي رسميا عام 2005، ما جعله حامل أختام الرسائل بين بلاده والإدارة الأميركية، وهي علاقة استثمر فيها بندر الكثير من الجهد والمال أيضا، منذ منحة المليون دولار التي قدمها الملك فهد عبر بندر لحملة باربرا بوش لمكافحة الأمية(8) عام 1989، إلى مليون دولار مماثلة منحها بندر لمتحف جورج بوش في تكساس عام 1997، إلى مليون دولار ثالث في صورة لوحة زيتية أهداها بندر إلى بوش ليزين بها مكتبته الرئاسية(9)، فيما بدا وكأنها شيكات مليونية مجانية بلا حد.

 

اللوبي

لم يكن إنفاق المال أمرا مستحدثا أو غريبا في أي وقت على مدار تاريخ العلاقات السعودية الأميركية، ورغم أن الحكمة التقليدية(10) السائدة في واشنطن كان يغلب عليها دعم السعوديين بشكل كبير وفق صفقة "البترودولار" الشهيرة، حيث يعرف كل أميركي في موقع القرار أن بلاده تتلقى تدفقا مفتوحا للنفط وأمواله من الرياض، لم تكن الرياض تبخل بنشر بضعة ملايين من الدولارات كل عام من أجل تشغيل وكلاء الضغط في "كي ستريت". عندما وصل بندر بن سلطان إلى واشنطن مطلع الثمانينيات، كانت جهات مختلفة في السعودية توظف 46 مجموعة ضغط في واشنطن كما يشير أرشيف(11) بيانات وزارة العدل الأميركية الذي اطلعنا عليه في "ميدان" بشكل مستقل.

 

ولكن هذه المجموعات الـ 46 لم تكن قادرة على تأمين حصول السعوديين على طائرات "إف 15" المقاتلة ونظام الإنذار المبكر "أواكس" في ظل معارضة لوبي إسرائيل الأقوى في واشنطن، حيث يستمد اللوبي اليهودي قوته من ارتكازه إلى مجتمع يهودي قوي ومتشعب، يشكل قاعدة كبيرة للضغط على المسؤولين الأميركيين، وهو نظام الضغط "من أسفل إلى أعلى" المفضل لدى الكيان العبري. ومع غياب جمهور قوي مناظر مؤيد للسعودية، كان بندر يحمل فلسفة مختلفة في إدارة النفوذ في كابيتول هيل، تقوم على بناء علاقات أكثر شخصية ومتانة في دائرة صناع القرار "من أعلى إلى أسفل"، بيد أنه لم يكن مقتنعا بفاعلية أسلوب صب المال لوكلاء الضغط وتركهم يقومون بالأمور.

 

لم تقتصر شبكة علاقات بندر على المسؤولين في السلطة، وهو الذي أكد في سيرته الذاتية أنه كان حريصا على الاعتناء بالمسؤولين حتى بعد مغادرتهم مناصبهم، ما حوله إلى صديق موثوق به للجميع، وأعطاه شبكة علاقات متينة غير مسبوقة. وقد نبعت طريقة بندر في العمل من قراءة جيدة لخارطة واشنطن السياسية، حيث غالبا ما يتدفق المسؤولون السابقون ليشغلوا مواقع مؤثرة في وسائل الإعلام ومراكز الفكر والرأي والشركات الكبرى، وصولا إلى شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط. لذلك رغم أن بندر كان أقل اقتناعا بفاعلية أسلوب توظيف الوكلاء فإن حرصه على إرضاء أصدقائه الأميركيين جعله يواصل إعطاء المال لهم على ما يبدو.

 

تلقى الملك عبد الله  صدمات متتالية من الأميركيين، بداية من ذهابهم إلى حرب العراق رغم معارضته، مرورا برفض بوش لدعم مبادرته لحل القضية الفلسطينية، وصولا لدعم أوباما الإطاحة بنظامي مبارك وبن علي صديقي الرياض (رويترز)
تلقى الملك عبد الله  صدمات متتالية من الأميركيين، بداية من ذهابهم إلى حرب العراق رغم معارضته، مرورا برفض بوش لدعم مبادرته لحل القضية الفلسطينية، وصولا لدعم أوباما الإطاحة بنظامي مبارك وبن علي صديقي الرياض (رويترز)

 

ولكن السفير السعودي لمس أن الأمور تتغير بشكل كبير في أعقاب هجمات 11 (سبتمبر/أيلول) عام 2001، ولم تكن علاقاته الوثيقة بعائلة بوش وغيرهم من صناع القرار في واشنطن تكفي لرأب ما يحدث لسمعة بلاده والهجوم الإعلامي العاتي عليها، والذي لم يجعل بمقدور السياسيين اتخاذ مواقف مؤيدة للسعودية المدانة شعبيا بالتورط في الهجمات خوفا من فقدان مناصبهم، ما اضطره في عام 2002 إلى الاستعانة بخدمات مجموعة "كورفيس" (qorvis)، بعقد بلغت قيمته(12) آنذاك 3.2 مليون دولار. ومع مطلع عام 2003 كانت السعودية توظف 37 مجموعة ضغط في واشنطن، بينها العديد من مجموعات الاتصال، تم توظيف معظمها عبر السفارة السعودية.

 

لم يستمر بندر في واشنطن طويلا، حيث غادر منصبه كسفير في عام 2005، في حين غادر بوش منصب الرئاسة في عام 2008 لصالح باراك أوباما. وفي الرياض انتقلت مقاليد الأمور إلى الملك عبد الله الذي رأى أنه تلقى صدمات متتالية من الأميركيين، بداية من ذهابهم إلى حرب العراق رغم معارضته، مرورا برفض بوش لدعم مبادرته لحل القضية الفلسطينية، وصولا لدعم أوباما الإطاحة بنظامي مبارك وبن علي صديقي الرياض في القاهرة وتونس أثناء الربيع العربي. خلال تلك السنوات انهارت(13) شبكة العلاقات القوية التي أقامها بندر في واشنطن، وازدادت قوة التيار المناهض للرياض في السياسة الأميركية، لدرجة سيطرته الواضحة على خطاب إدارة أوباما في ولايته الثانية.

 

مع قدوم سلمان إلى السلطة، وذهاب السعودية إلى حرب مثيرة للجدل في اليمن، وتزايد الانتقادات للمملكة بشأن علاقتها بتمويل التنظيمات التي تصنفها الولايات المتحدة كـ"جماعات إرهابية" حول العالم، بما في ذلك الضغوط للإفراج عن 28 صفحة من تقرير الكونغرس حول أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) قيل أنه تم حجبها في عام 2003 لعدم إدانة المملكة، ثم طرح قانون العدالة من أجل رعاة الإرهاب "جاستا" الذي يسمح لأهالي ضحايا 11 (سبتمبر/أيلول) بمقاضاة حكومات الدول المتورطة خلافا لمبدأ الحصانة السيادية، ومع سيطرة الفريق الجديد للأمير الشاب محمد بن سلمان على السلطة بدا أن المملكة في حاجة لبذل المزيد من الجهد والمال لشراء واشنطن وتأييدها مرة أخرى.

 

undefined

 

مع أفول نجم بندر بن سلطان، وعدم وجود شخص قادر على بناء مثل هذه الشبكات في ظل مناخ أكثر تدقيقا وأقل ترحيبا بالتوغل السعودي، رغم تأسيس لوبي رسمي للسعودية في واشنطن مطلع العام الماضي بقيادة سلمان الأنصاري، كان ذلك الأفول يعني اللجوء إلى الطريقة التقليدية: صب الأموال لصالح وكلاء الضغط وشركات العلاقات العامة والسيناتورات السابقين والباحثين والصحفيين. بدأ الأمر خلال عام 2015، حيث أضافت المملكة العربية السعودية خمسة تعاقدات جديدة مع جماعات الضغط والعلاقات العامة، لترفع إنفاقها الرسمي على الضغط إلى 9.5 مليون دولار، مقارنة بـ 4.1 مليون دولار عام 2014.

 

كانت البداية من موقع يعرفه السعوديون جيدا في جادة "كونيكتيكت"، حيث مجموعة "كورفيس" (إم إس إل غروب) التي قادت من جديد جهود التغطية الإعلامية لصالح السفارة السعودية. خلال العام الماضي 2016، قامت المجموعة(14) بنشر تفنيدات استباقية لمحتوى الـ 28 صفحة الخاصة بعلاقة السعودية بأحداث (سبتمبر/أيلول) لضمان موازنة للتغطية الإعلامية للتقرير.

 

تُظهِرُ سجّلات وزارة العدل الأميركية اليوم أنَّ عدد جماعات الضغط التي تعمل بعقود سارية لصالح الرياض يبلغ 30 مجموعة مختلفة، ما يضع السعودية في المرتبة الثانية على قائمة الدول الأكثر توظيفا لجماعات الضغط في واشنطن

ولكن الدور الأهم الذي قامت به "كورفيس" كان يتعلق بحرب اليمن، حيث قامت ببث موقع إلكتروني كامل (operationrenewalofhope.com) للترويج للحرب السعودية الإماراتية هناك، وقدمت جهدا متواصلا للوصول إلى الصحفيين فيما يتعلق بالرؤية السعودية للحرب. كما أدارت الشركة بطلب من السفارة السعودية في عام 2015 الحساب الرسمي للمعارضة السورية على تويتر (Syrcoaliation) الذي عرف نفسه أنه "الصوت الرسمي للمعارضة ضد نظام بشار الأسد". كما ساعدت "كورفيس" أيضا السفارة السعودية في إطلاق موقع "أرابيا ناو"، وهو مركز إلكتروني للأخبار المتعلقة بالمملكة يقوم ببث تغريدات مدفوعة في محيط واشنطن العاصمة.

 

وفق تحقيقات أجراها موقع "ذي إنترسبت"، فإن موقع "أرابيا ناو" يتم الإشراف عليه من قبل شركة تدعى "تارغيتد فيكتوري" (Targeted Victory)، تعاقدت معها "كورفيس" لصالح الرياض مقابل مبلغ 40 ألف دولار شهريا. وتعد "تارغيتد فيكتوري" شركة متخصصة في إدارة محتوى وسائل الإعلام الاجتماعية، أسسها زاك موفات إستراتيجي الحزب الجمهوري الذي شغل منصب المدير الرقمي لحملة ميت رومني، وتقدم الشركة تحليلا للبيانات القادمة من مختبرات "زينغال" منصة التحليلات الشريكة لـ"واشنطن بوست" في سان فرانسيسكو، مقابل 15 ألف دولار شهريا.

 

لم يتوقف الأمر على ذلك فحسب. تعاقدت "كورفيس" أيضا مع شركات أخرى لقياس الرأي العام الأميركي لصالح السعوديين، بما في ذلك "تولونا أميركا"، وهي شركة مسح على الإنترنت، إضافة إلى "مجموعة الاتجاهات الأميركية" (أميركان دايركشن غروب)، وهي شركة مسح للهواتف أسسها استطلاعي عمل سابقا لصالح الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. كما قامت "كورفيس" بتنسيق مدفوعات الأتعاب لشخصيات سياسية بارزة من أجل تأييد السياسة السعودية، أبرزهم مارك كينيدي عضو الكونغرس الجمهوري السابق من مينيسوتا. كما نجحت "كورفيس" في ترتيب مقابلات للمسؤولين السعوديين في البرامج الإخبارية والأحداث في واشنطن العاصمة، لطمأنة الجمهور الأميركي بأن الحملة التي تقودها السعودية في اليمن هي في مصلحة الولايات المتحدة، مثل الأمير خالد الفيصل القائد السابق للبحرية السعودية الذي جرت استضافته في حدث في مبنى "رايبورن هاوس".

 

ومن "كورفيس" إلى مجموعة "بوديستا" أحد الوكلاء الذين عملوا لصالح السعودية في عام 2015، ويرأس المجموعة الديمقراطي توني بوديستا مدير الحملة الرئاسية للمرشحة السابقة هيلاري كلينتون، وهي تضغط لصالح السعودية في أوساط نواب الكونغرس ومحللي الشرق الأوسط، حيث قامت -على سبيل المثال- بتوزيع مواد مؤيدة للسعودية على مئات من موظفي الكونغرس والمحللين السياسيين، واشتملت هذه المواد على تصريحات للمسؤولين السعوديين، وأكثر من 15 صفحة لمقابلة مع وزير الدفاع السعودي وولي ولي العهد آنذاك محمد بن سلمان. وفي العام نفسه، حصلت المملكة على خدمات "بيلسبوري وينثروب" للمحاماة مقابل مبلغ 135 ألف دولار، لتقديم الاستشارات السياسية والتشريعية للسفير الأميركي في واشنطن آنذاك عادل الجبير.

 

لم نكن قد بلغنا الذروة بعد في عام 2015، حيث شهد العام التالي 2016 تزايدا غير مسبوق في أنشطة الضغط السعودية. خلال هذا العام قامت جهات عدة في المملكة العربية السعودية بإبرام وتجديد عقود 14 وكالة ضغط على الأقل، أهمها على الإطلاق مجموعة "إيلدمان" أكبر وكالة علاقات عامة في العالم، إضافة إلى "دي إل إيه بايبر" التي توظف جيشا صغيرا من المسؤولين الحكوميين السابقين، بما في ذلك رجال الكونغرس المتقاعدين، ومجموعة "غلوفر بارك" التي أسسها مجموعة من مديري الحملات السابقين في البيت الأبيض، وتركزت أنشطة هذه المجموعات بشكل كبير في الضغط لصالح المملكة ضد قانون العدالة من أجل رعاة الإرهاب "جاستا". واليوم تظهر سجلات وزارة العدل أن عدد جماعات الضغط التي تعمل بعقود سارية لصالح الرياض يبلغ 30 مجموعة مختلفة، ما يضع السعودية في المرتبة الثانية على قائمة الدول الأكثر توظيفا لجماعات الضغط في واشنطن.

 

جنود المملكة

undefined

 

يعرف الصحفي الشهير في واشنطن بوست ديفيد أغناشيوس(15) على أنه أكبر المنافحين عن رؤية المخابرات المركزية الأميركية في الأوساط الصحفية الأميركية، ولكن أغناشيوس له تاريخ لا يقل إثارة مع المملكة العربية السعودية. في 21 (أبريل/نيسان) الماضي بث الصحفي الشهير في الغارديان سابقا وإنترسبت حاليا غلين غلينوالد تغريدة(16) على تويتر قال فيها "المخابرات الأميركية تحب النظام السعودي، لذا فإن ديفيد أغناشيوس يكتب نفس العامود الموالي للسعودية في كل مرة".

 

كان تعليق غلينوالد متزامنا مع مقال نشره أغناشيوس في واشنطن بوست قبلها بيوم واحد تحت عنوان "أمير شاب يعيد تصور السعودية، فهل يستطيع تحقيق رؤيته؟"، وجاء التعليق مرفقا مع إعادة تغريد لصورة تحمل عناوين أربعة مقالات لأغناشيوس كتبت على فترات متباعدة، في أعوام 2003 و2010 و2013 و2017، وكلها تحمل نفس المضمون تقريبا: الترويج للمساعي الإصلاحية السعودية. لم تكن ملاحظة غلينوالد بشأن أغناشيوس غير مسبوقة، فوفق تحقيق(17) أجراه الصحفي آدم جونسون فإن ديفيد أغناشيوس وعلى مدار 15 عاما قام بدور صحفي علاقات عامة للترويج لـ "إصلاحات النظام السعودي".

 

تمتاز مقالات أغناشيوس حول السعودية بشكل عام بوفرة النقولات عن مصادر غير معرفة، وغالبا ما تكون انتقاداته للسعودية هوامش ضئيلة على متن الإشادة بالجهود البطيئة للإصلاح في المملكة المحافظة، وهو إصلاح لم يتوقف أغناشيوس عن رؤيته وحده فيما يبدو على مدار قرابة عقدين. لم يكن مفاجئا إذن أن تفصح رسائل العتيبة المسربة عن مراسلات متبادلة بينه وبين وأغناشيوس على وقع مقاله الأخير الذي أشاد فيه بـمحمد بن سلمان، مراسلات أظهرت أن أيا من الرجلين لم يكن أقل حماسا من الآخر للأمير السعودي الشاب وإن اختلفت أسبابهما.

 

لا يقتصر تأثير أغناشيوس على الجمهور السعودي وحسب، ولكنه يعد أحد الصحفيين الأكثر تأثيرا في أوساط صناعة القرار في واشنطن. وأظهرت رسائل البريد الإلكتروني المسربة(18) من خوادم هيلاري كلينتون اسم أغناتشيوس أكثر من 40 مرة، حيث وجه مساعدو كلينتون ومسؤولو وزارة الخارجية بانتظام كتابات الصحفي الشهير إلى وزيرة الخارجية السابقة، كما أظهرت الرسائل أن الوزيرة عقدت لقاءين على الأقل مع الكاتب الكبير منذ عام 2009.

 

لا يظهر سجل أغناشيوس تلقيه الأموال من جماعات الضغط، ويعتبره كثيرون امتدادا لنظرة موجودة سلفا لدى المؤسسات الأميركية تحمل تأييدا تاريخيا للمملكة العربية السعودية. لكن مع تدفق المال السعودي إلى واشنطن فإن الكثيرين يرحبون بتلقيه بكل تأكيد. أحد هؤلاء هو إد روجرز حاكم ولاية مسيسبي الأسبق، ومؤسس مجموعة "بي جي آر" للعلاقات العامة، والتي حصلت على مبلغ نصف مليون دولار مقابل العمل للحكومة السعودية. وروجرز أيضا هو كاتب في صحيفة واشنطن بوست، وقد كتب في عموده مقالا(19) في 16 (مايو/أيار) الماضي أشاد فيه برحلة ترمب إلى السعودية كـ "فرصة جيدة لإعادة ضبط العلاقات بين البلدين". وبالإضافة إلى روجرز يملأ المتلقون للمال السعودي قائمة طويلة من الباحثين ومحللي السياسيات والأهم رجال الكونغرس السابقين ممن يعملون لصالح جماعات الضغط، من أمثال ساكسي شامبلس وجو ليبرامان وإيافان باييه الذين نسقوا حملة إعلان تليفزيونية بقيمة ستة ملايين دولار ممولة من قبل المملكة العربية السعودية لمعارضة الاتفاق النووي مع إيران.

 

undefined

 

وبالإضافة إلى جماعات الضغط والباحثين والصحفيين ورجال الكونغرس، تتدفق الأموال السعودية تحت مسميات عدة إلى خزائن المؤسسات الأميركية من مراكز الأبحاث إلى الجامعات إلى الجمعيات المرتبطة بصناع القرار في واشنطن. تبرعت(20) المملكة العربية السعودية بمبلغ يتراوح بين 10 ملايين إلى 25 مليون دولار لصالح مؤسسة كلينتون مع بداية عام 2014، في الوقت الذي كانت كلينتون تستهل خلاله حملتها الرئاسية. كما تبرعت مجموعة تسمي نفسها "أصدقاء السعودية" -التي تمول من قبل أمير سعودي- بمبلغ إضافي ما بين مليون و5 ملايين دولار. وقد تلقت(21) مؤسسة غير هادفة للربح تدعى "معهد ماكين للقيادة الدولية" لها علاقات مع سيناتور أريزونا المقرب من الرياض جون ماكين تبرعا من حكومة المملكة العربية السعودية بمبلغ مليون دولار في عام 2014، وفقا لما ورد في الوثائق المودعة لدى مصلحة الإيرادات الداخلية الأميركية.

 

على مستوى المراكز البحثية، جاء تدفق الأموال السعودية متأخرا إلى حد ما في عام 2014، في وقت كانت معظم المراكز البحثية فيه تعاني من تقليص موازناتها، وبخلاف مجلس ومجلة السياسات الخارجية الأميركية -التي تلقت تمويلا قدره مليون دولار من الرياض عام 2007 سبّب إحراجا كبيرا لمديرها آنذاك شاس فريمان- تشمل قائمة المراكز التي تلقت معونات سعودية في السنوات الأخيرة كل من مركز بروكينغز، ومركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، ومعهد الشرق الأوسط، ومركز أتلانتيك كاونسيل، إضافة إلى مركز دول الخليج العربي في واشنطن.

 

في حب ترمب

لم يكن ديفيد كاستلر رقيب البحرية الأميركية السابق يعرف حقيقة هوية من دفع ثمن إقامته في فندق ترمب في (يناير/كانون الثاني) الماضي. كان كاستلر واحدا من 70 متعاقدا من قدامى المحاربين في واشنطن، وظفتهم(22) "كابيتول ميديا غروب" أواخر عام 2016 لتنبيه المشرعين الأميركيين إلى مخاطر المسؤولية القانونية المحتملة التي تنشأ عن محاكمة العسكريين الأميركيين ووكلاء المخابرات والموظفين الدبلوماسيين إذا تم تطبيق قانون جاستا.

 

على النقيض، كان تشاك تاكر الجنرال المتقاعد في القوات الجوية الأميركية يعرف أنه من الواضح أن الأموال السعودية هي من تمول الحملة، لكن الجدير بالانتباه حقا أن الوكلاء السعوديين اختاروا فندق ترمب على وجه الخصوص لإقامة متعاقديهم بقيمة تتراوح(23) بين 250-350 دولارا لليلة الواحدة لكل فرد، وبعد مرور أقل من أيام من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد.

 

انتقل الصراع الداخلي في بيت آل سعود إلى واشنطن، حيث أسرع محمد بن سلمان في إنفاق الأموال لترويج نفسه في واشنطن. وقد أظهرت تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة أن هذا السباق كان قد حسم بالفعل على غير ما يرغب ابن نايف، بعد أن دفع ولي العهد الجديد مئات المليارات من الدولارات كعربون ولاء لترمب (رويترز)
انتقل الصراع الداخلي في بيت آل سعود إلى واشنطن، حيث أسرع محمد بن سلمان في إنفاق الأموال لترويج نفسه في واشنطن. وقد أظهرت تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة أن هذا السباق كان قد حسم بالفعل على غير ما يرغب ابن نايف، بعد أن دفع ولي العهد الجديد مئات المليارات من الدولارات كعربون ولاء لترمب (رويترز)

 

منذ فوز ترمب بالرئاسة تشير سجلات وزارة العدل إلى قيام السعودية بإبرام وتجديد سبعة عقود مع مجموعات ضغط منها ثلاثة عقود جديدة كليا، ولكن أكثر هذه العقود إثارة للانتباه كان عقدا وقعته وزارة الداخلية السعودية تحت قيادة ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف مع مجموعة ضغط مغمورة في ولاية أريزونا تعرف باسم مجموعة "سنوران"(24) للسياسات بعد يوم واحد من إعلان ترمب أنه سيزور الرياض، وبعقد ضخم تبلغ قيمته 5.4 مليون دولار.

 

على مدار تاريخها القصير، ركزت "سنوران" على العمل لصالح صغار العملاء من شركات التكنولوجيا في ولاية كاليفورنيا، ولم يكن لدى الشركة أي خبرة في تمثيل الحكومات الأجنبية حتى أواخر العام الماضي 2016، حين قامت باستئجار خدمات ستيورات جولي المدير السابق للجنة العمل السياسي لحملة ترمب الذي نجح في جمع 28 مليون دولار لصالح الحملة، وسرعان ما استفادت "سنوران" من علاقة جولي مع ترمب لخدمة أول عملائها الأجانب في نيوزليندا. على قائمة "سنوران" تظهر أيضا أسماء أخرى مقربة من ترمب، مثل جاكوب دانيلز رئيس طاقم حملة ترمب في ميشيغان، وروبن تولي الذي عمل لفترة كموظف في مجلس الأمن القومي للرئيس الجديد.

 

كان إقدام وزارة الداخلية السعودية على ضخ هذا المبلغ لصالح شركة علاقات عامة ضعيفة الخبرة مثار استغراب كبير، قبل أن يفسره سايمون هندرسون الخبير في الشؤون السعودية بمعهد واشنطن أنه جاء كرد فعل من وزير الداخلية وولي العهد السابق على نشاط منافسه على السلطة محمد بن سلمان في واشنطن، ونجاحه في الفوز بلقاء رسمي مع ترمب في (مارس/آذار). وفي اليوم التالي لهذا اللقاء جددت وزارة الخارجية السعودية عقدا سنويا بقيمة 1.5 مليون دولار مع شركة "هوغان لوفيلز" للضغط.

 

كان التعاقد مع "سنوران" إشارة إلى أن الصراع الداخلي في بيت آل سعود انتقل إلى واشنطن، وأن ولي العهد السعودي يسعى الحفاظ على حظوظه مع الإدارة الجديدة التي بدا أنها تميل بوضوح لصالح خصمه، ونجل الملك -محمد بن سلمان- الذي كان أسرع في إنفاق الأموال لترويج نفسه في واشنطن. وقد أظهرت تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة أن هذا السباق كان قد حسم بالفعل على غير ما يرغب ابن نايف، بعد أن دفع ولي العهد الجديد مئات المليارات من الدولارات كعربون ولاء لترمب، مثبتا من جديد الدور الجوهري لإنفاق المال في واشنطن، خاصة مع وجود رئيس مثل دونالد. ولكن حتى مع السكب غير المسبوق من الأموال من خزائن الرياض إلى مختلف الجيوب في واشنطن، والأسطول الضخم من الوكلاء الذي توظفه، لا تبدو المصالح الإستراتيجية للسعوديين على ما يرام.

 

قامت إدارة ترمب في الأيام الأخيرة بإعطاء قبلة الحياة من جديد للاتفاق النووي مع إيران، ولا تزال القضايا المرفوعة بسبب قانون "جاستا" تنظر أمام المحاكم الأميركية، ومستوى التأييد الشعبي والإعلامي للرياض في واشنطن يبدو في أدنى مستوياته، في حين يحشد رجال الكونغرس من الديمقراطيين أمثال كريس ميرفي، وحتى بعض الجمهوريين مثل راند بول لمعارضة صفقة ترمب مع السعودية. يستعيد لوبي السعودية في واشنطن بريقا اسميا من خلال سكب المزيد والمزيد من الأموال في العاصمة، واستقطاب أسماء كبرى من المؤسسات والشخصيات تزين بها قوائم الموظفين، لكن سفن الرياض في جادة بنسلفانيا وما حولها تواصل التأرجح، ربما لأن المزيد من المال وحده لا يكفي، أو لأن رجال الرياض في واشنطن اليوم من أمثال سلمان الأنصاري ليسوا أكثر من خيالات باهتة لرجال الأمس مثل بندر من سلطان، أو لعل الأمر حقا كما عبّر ستيفن كوك زميل مجلس العلاقات الخارجية أن "احتساء القهوة مع المسؤولين في مقاهي واشنطن لا يمكن أن يعني وحده أي شيء".

المصدر : الجزيرة