شعار قسم ميدان

"تركيا المشاكسة".. هل تصمد الصناعات العسكرية التركية أمام مطارق العقوبات الغربية؟

midan - turkey
تقديم

يروق للأوروبيين دومًا تفعيل مطارق عقوبات التسليح على البلدان التي تتفق القارة العجوز على أنها تتخطى حدود السياسة العالمية ومنطقة الشرق الأوسط بالأخص، وبعكس الولايات المتحدة التي تمتلك بحكم نفوذها حِزما أكثر تنوعًا من العقوبات؛ فإن عقوبات أوروبا بمنع صادرات السلاح لبلدان معينة تؤتي في كثير من الأحيان ثمارها، خاصة مع تفوق مصانع تسليح ثلاث دول أوروبية عالميًا "فرنسا-بريطانيا-ألمانيا"، تزامنًا مع اتجاهات منظومة التسليح الأمريكية والتي لا تُعطى -في أنواعها الأكثر تطورًا وثِقلًا- إلا لعدد محدود من دول العالم المرضي عنها في واشنطن.

    

كان هذا بالضبط ما حدث في الأيام السابقة مع "تركيا المشاكسة" في أعين الأوروبيين، عندما أعلنت هولندا والنرويج وفنلندا في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي وقف تصدير الأسلحة للأتراك بعد بدء عملية "نبع السلام" في الشمال السوري ضد الأكراد، وهو وقفٌ بدا وكأنه رمزي تبعًا لضآلة منظومة صناعات السلاح في الدول الثلاث، فضلًا عن عدم وجود مساحات تصنيع مشتركة كثيرة بينهم وبين الأتراك، وقد أتى من قبل الهولنديين بالأخص كونهم يعملون ولو بشكل محدود على تدريب الأكراد عسكريًا، لكن فرنسا وألمانيا -الأكثر أهمية للتُرك وخاصة باريس- أعلنا بعدها بيومين وقف صادرات السلاح لأنقرة أيضًا، في خطوة أوروبية تتوسع باستمرار للضغط على الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" لوقف العملية وسحب الجيش من هناك.

   

إلا أن مطارق المنع تلك لا يُرجح أن تكن بالقوة الكافية للضغط على أنقرة وأردوغان أو خلق مساحات صراع بينه وبين قواته المسلحة -التي قام بهيكلة بعض قياداتها مؤخرًا- تفضي إلى وقف العملية، حيث لا تمارس الدول المذكورة -عدا فرنسا بعض الشيء- تأثيرًا يذكر على منظومة التسليح التركية سواء تلك المستوردة أو المصنعة محليًا، خاصة مع امتناع بريطانيا حتى الآن عن فرض عقوبات على أنقرة رسميًا واكتفائها بالتعبير عن "القلق العميق" وما صاحبها من مكالمة هاتفية بين أردوغان ورئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون"، لكن لندن وبحسب مصادر خاصة لصحيفة فايننشال تايمز قد أطلقت مراجعة واسعة حول تراخيص الصفقات السابقة والقادمة، خاصة تلك التي يرجح أن تستخدم في "نبع السلام"، مراجعة لم يعلن رسميًا متى ستفضي لنتائج فعلية، وعلق عليها بعض الحقوقيون بأنه "رد فعل بلا أنياب ويراعي مصالح العلاقات العسكرية المشتركة مع الأتراك"، خاصة مع فاتورة سلاح مستورد من بريطانيا لتركيا بمبلغ 1.39 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة.

   

في خضم ذلك تتناول المادة التالية القصة المدهشة لصعود صناعات السلاح التركية ومدى تشابكها وتشابك منظومة التسليح التركية كاملة مع المصانع الأوروبية والأمريكية والعالمية، وترصد توسع تلك الصناعات من خلال شركات كبرى وبرامج تصنيع مشتركة جعلت صناعات السلاح في تركيا من الأكثر تطورًا في الشرق الأوسط، والأكثر نموًا عالميًا في السنوات الأربع الأخيرة "2014- 2018" بنسبة بلغت 170%، وتسلط الضوء على مدى قابلية تلك المنظومة للخضوع لضربات منظومة التسليح الأوروبية والعالمية حال انقلاب الأخيرة عليها كما تشير البوادر الحالية، لكنه انقلاب من غير المرجح أن يتم على أي حال أو يفضي لنتيجة تذكر طالما امتنع مصدري السلاح الأهم عن الانخراط في لعبة الضغط تلك، وعلى رأسهم لندن وواشنطن.

    

   

نص التقرير
كان رئيس الوزراء التركي "عصمت إينونو" أول من قرأ الخطاب القادم من واشنطن إلى أنقرة بعد اشتعال التوتر السياسي بين بلاده واليونان حيال المسألة القبرصية. هذا هو العام 1964، جلس "إينونو" يقرأ تحذيرات الرئيس الأميركي "ليندون جونسون" في خطابه؛ إذ قال الأخير صراحة إن بلاده ليست مسؤولة عن مساندة تركيا إذا ما انجر الاتحاد السوفياتي للصراع ووقف خلف اليونان.

     

«دعني أخبرك صراحة بأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تقبل باستخدام أية معدات عسكرية أميركية المنشأ في أي تدخل تركي بقبرص في ظل الظروف الراهنة»، بتلك الكلمات قضى "جونسون" فعليًا على أي مخطط فعّال لتركيا للسيطرة على قبرص في شرق المتوسط، في وقت اعتمدت فيه أنقرة بنسبة ضخمة على الواردات العسكرية الأميركية والأوروبية ([1]).

 

لم يكن لـ "إينونو" أن يتجه للحرب بتلك السهولة في كل الأحوال، فالجمهورية التركية الوليدة ذات العمر البالغ عقودًا أربعة فقط لم تكن على استعداد لتلك المخاطرة، لاسيّما وقد تعهد مؤسسوها بأن تكون حرب الاستقلال آخر الحروب. ولعل "عصمت باشا"، والذي حاز لقب "إينونو" فيما بعد لا من اسم عائلته بل من مدينة إينونو التي انتصر فيها عسكريًا على اليونانيين عام 1921، قد راودته بعض ذكريات الحرب الأليمة قبل أربعين عامًا، والبلد المفتّت الذي تكالب عليه البريطانيون والروس والفرنسيون من كل اتجاه.

 

لاح شبح التفكك فوق رؤوس صناع القرار الأتراك في ذلك الوقت، وأولهم "إينونو" العجوز ذي الثمانين عامًا حينئذ، وكذلك الرئيس العسكري "جمال كورسل" الذي شارك هو الآخر في حرب الاستقلال. غير أن المسألة لم تعد كونها مسألة وقت قبل أن تتجدد الدماء في أعلى هرم السلطة بأنقرة، وتأتي بجيلٍ جديد لا يحمل الهواجس نفسها.

   

في صيف 1974، قرر صناع القرار في تركيا التدخل في شمال قبرص عسكريًا، وضرب معارضة الأميركيين لذلك بعرض الحائط، فجاء رد واشنطن بمعاقبة أنقرة بحظر تصدير السلاح إليها (رويترز)
في صيف 1974، قرر صناع القرار في تركيا التدخل في شمال قبرص عسكريًا، وضرب معارضة الأميركيين لذلك بعرض الحائط، فجاء رد واشنطن بمعاقبة أنقرة بحظر تصدير السلاح إليها (رويترز)

      

احتاجت تركيا عشر سنوات فقط بعد ذلك الخطاب الرئاسي الأميركي لتقلب الطاولة، وهي عشر سنوات شهدت وفاة إينونو وكورسل، وتدشين سياسة الوفاق بين واشنطن وموسكو، ووصول أول "بولنت أجاويد"، أول رئيس وزراء ذي ميول يسارية، للسُلطة في تركيا، وتولي الرئاسة من قبل أول عسكري لم يشارك جيل الجمهورية الأول ذكريات حرب الاستقلال وهو "فخري قوروتورك"، الذي أنهى دراسته العسكرية شابًا عام 1923 بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

 

في صيف عام 1974، قرر صناع القرار في تركيا التدخل في شمال قبرص عسكريًا لـ «حماية القبارصة الأتراك من السيطرة اليونانية»، وضرب عرض الحائط بمعارضة الأميركيين لذلك، بيد أن التدخل أدى لقيام واشنطن بمعاقبة أنقرة بحظر تصدير السلاح إليها، ومن ثم واجه الجيش التركي الحقيقة نفسها التي احتواها خطاب جونسون قبل عقد كامل؛ عضوية حلف الناتو تحمي تركيا فقط من خطر السوفيات، لكنها ليست درعًا يعتمد عليه في تعزيز أمن تركيا القومي، لا سيّما ما تعتبره تركيا «امتدادها الإقليمي المباشر» شمال قبرص ولاحقًا أذربيجان.

 

مرَّ على الحرب عام واحد فقط لتتخذ أنقرة رد فعل واضح، ولتضع حجر الأساس لأول شركة صناعات عسكرية تركية باسم "أسِلسان" (ASELSAN)، في محاولة لتقليص الاعتماد على الواردات العسكرية الغربية، لكنها محاولة لم تستمر كثيرًا، إذ قامت إدارة الرئيس الجديد "جيمي كارتر" برفع الحظر مجددًا عن تصدير السلاح لتُركيا، لكن "أسِلسان" ظلَّت كائنة كشركة عسكرية متواضعة، بانتظار فرصة أخرى لجذب أنظار القيادات التركية نحو الاهتمام بالتصنيع العسكري المحلي، وهي فرصة أتت بعد حوالي ربع قرن.

 

كيف دفعت واشنطن أنقرة للحُلم؟
"سيكون أحد تحديات سياستنا الخارجية التوفيق بين إعادة تعريف حلف الناتو لمهامه، وبحث تركيا عن نظام دولي جديد يلائم توجهاتها. إن لم يتمكن الجانبان من فعل ذلك بعقلانية وحساسية، ستواجه تركيا خطر الشعور بالغُربة في إقليمها المباشر، أو ربما تدخل في علاقة متوترة مع الحلف"

(أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء التركي السابق، في كتابه "العمق الإستراتيجي)

 

كان الرأي العام التركي، بما في ذلك كثيرين من المنتمين للعدالة والتنمية، معارضًا للخطط الأميركية، تمامًا كما كانت القيادات في الجيش التركي
كان الرأي العام التركي، بما في ذلك كثيرين من المنتمين للعدالة والتنمية، معارضًا للخطط الأميركية، تمامًا كما كانت القيادات في الجيش التركي
 

جلس الرئيس التركي "توركوت أوزال" في مكتبه الرئاسي، واثقًا من قدرته على تغيير سير الأحداث رُغم معارضة الجميع، كيف لا وهو أول رئيس مدني يجلس على مقعد "أتاتورك"، قادمًا من الحياة السياسية مباشرة منذ بدأ عهد الانقلابات العسكرية التركية قبل ثلاثة عقود.

 

«يجب أن يرحل صدّام حسين، ولا يمكن لأحد أن يقدر عليه سوى الولايات المتحدة»، هكذا تحدث "أوزال" بوضوح أثناء حرب الخليج الأولى بين عامي 1990 و1991، كاشفًا موقفه السياسي الداعم لواشنطن، واعتقاده بخطورة مغامرات صدّام على أمن تركيا القومي ([2]).

 

لم يشارك أحدٌ بدهاليز الدولة التركية "أوزال" حماسته تلك تجاه الحرب الأميركية، ولم يرَ في "صدام" تلك الخطورة الكبيرة، لاسيّما قادة الجيش المنهمكين في مواجهة حزب "العمال" الكردستاني، والذين رأوا بأن إزاحة "صدّام" ستزيد الأوضاع سوءً، وتفتح المساحات بشكل أكبر أمام مسلحي الحزب الكردستاني، بل وأمام ظهور كيان كردي مستقل بشمال العراق يسبب المتاعب لأنقرة.

 

لم تعرف حماسة "أوزال" تجاه الأميركيين في أوج قوتهم بالمنطقة والعالم أي حدود، ومن ثم وصل التوتر بينه وبين الجيش إلى استقالة رئيس الأركان "نجيب تورومطاي" من منصبه احتجاجًا على جهود بلاده في دعم حرب الخليج، وهي سابقة لم تحدث في تاريخ الجيش التركي من قبل، لكن تلك السياسة توقفت خلال ثلاث سنوات بعد وفاة "أوزال" المفاجئة عام 1993، ومن ثم استعاد الجيش جزئيًا زمام الأمور في الداخل، وعاد التحفظ الرسمي على العلاقة الحميمية بين واشنطن وحكومة كردستان العراق المتمتعة الآن بمنطقة حظر جوي ([3]).

 

كانت تلك المرة الأولى، منذ حرب قبرص، الكاشفة لتباين كبير بين بعض صناع القرار في أنقرة وواشنطن حيال ملف مهم يخص إقليم تركيا المباشر، لكن على العكس من حرب قبرص، الباردة والمحدودة بسقف عضوية تركيا واليونان معًا في الناتو، لم تكن بداية مغامرات الأميركيين المباشرة في الشرق الأوسط باردة أو محدودة، بل كان سقفها قد بدأ لتوّه بالتصدّع تدريجيًا قبل أن تعود شهية الحرب مع إدارة جورج بوش الابن عام 2003، ويصبح انعدام الثقة بين أكبر جيشين في حلف الناتو، الأميركي والتركي، سمة رئيسية للعلاقة بين الطرفين.

  

بات الأتراك أقرب من أي وقت مضى لوجهات النظر الإيرانية والروسية، وعلى استعداد للتنسيق العسكري مع أي منهما لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه عن طريق الناتو
بات الأتراك أقرب من أي وقت مضى لوجهات النظر الإيرانية والروسية، وعلى استعداد للتنسيق العسكري مع أي منهما لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه عن طريق الناتو
  

لم يكن ثمة "أوزال" هذه المرة لسوء حظ الأميركيين، بل كان العدالة والتنمية الواصل لتوّه للسُلطة، ورُغم توصية رئيس الوزراء آنذاك "عبد الله غُل" وزعيم الحزب الجديد "رجب طيب أردوغان" بتصويت الحزب في البرلمان لصالح إتاحة استخدام قاعدة "إنجيرلك" للقوات الأميركية، أثناء ضرب العراق، حدث ما لم يكن في الحسبان وصوّتت نسبة كبيرة من أعضاء الحزب ضد القرار ([4])، ليضطر الأميركيون لاستخدام قواعدهم الأبعد الكائنة في الخليج. كان الرأي العام التركي، بما في ذلك كثيرين من المنتمين للعدالة والتنمية، مُعارِضًا للخطط الأميركية، تمامًا كما كانت القيادات في الجيش التركي.

 

رُغم ما بدا من تباعد في أعقاب التصويت التركي، إلا أن الفراق لم يصل لذروته إلا بعد ذلك بعشر سنوات، وفي بلد يُهم تركيا أكثر من العراق هو سوريا، ومع طرف كردي تتهمه تركيا صراحة بـ «الإرهاب» هو حزب العمال الكردستاني، ضعيف الوجود في شمال العراق، والمدعوم سابقًا من جانب نظام الأسد خلال الثمانينيات والتسعينيات.

 

بات الأميركيون ينسقّون صراحة على الأرض مع من تعتبرهم تركيا «تهديدًا لأمنها القومي»، وبات الأتراك من ناحية أخرى أقرب من أي وقت مضى لوجهات النظر الإيرانية والروسية المناوئة تقليديًا للدور الأميركي، بل وعلى استعداد للتنسيق العسكري مع أي منهما ([5]) لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه عن طريق الناتو.

 

ثلاثة عقود متتالية من المغامرات الأميركية في الشرق الأوسط، بدأت بحرب الخليج مرورًا بحرب العراق ثم الحرب السورية، وثلاثة عقود من تعقّد الحسابات بين أنقرة وواشنطن، والعُقدة الرئيسية في كل مرة هي الملف الكُردي، والتباين الكبير بين الرؤيتين الأميركية والتركية في تعريف كل منهما لأمنه القومي بالمنطقة، على العكس من التناغم الكبير المعهود في مساحات التمدد الروسي بشرق أوروبا والبحر الأسود، وهو تباين لم تبد آثاره في السياسة فقط، بل وفي أروقة المؤسسة العسكرية التُركية، حيث بات اعتمادها شبه التام على عضويتها في حلف الناتو، حصنها الآمن في وقت سابق، مدعاة لقلقها الكبير.

 

صناعة السلاح التركية: الدرع الخاص
undefined

تبرز شركة "أسِلسان" كأكبر شركة صناعات عسكرية تركية، فهي تعمل في مجالات أنظمة الرادار والتوجيه وتقنيات الدفاع والإلكترونيات، ونظم الحروب الإلكترونية. (آرمي تايمز)

 

في عام 2013، فجّر صناع القرار في أنقرة مفاجأة، وأعلنوا عن اتجاهٍ لاختيار الصين لتصنيع نظام دفاع صاروخي يحمي الأجواء التركية، في خروج واضح عمّا سارت عليه الأوضاع داخل تركيا دائمًا بالاعتماد على نظم أوروبية وأميركية الصنع ([6]). كان القرار التُركي نابعًا من الرغبة في الحصول على المعرفة التقنية بتصنيع تلك النظم، وهو أمرٌ رفضته بشكل شبه تام الدول الغربية، ما أدى إلى ضرب أنقرة عرض الحائط بالعقوبات الأميركية المفروضة على الشركة الصينية التي جرى التفاوض معها "سي بي إم آي إي سي" (CPMIEC)، ما أثار حفيظة الكثيرين في واشنطن.

 

لم يكن عرض الصين أول عرض لتصنيع مشترك "صيني-تركي" في مجال الدفاع الجوي، فقد وقَّعت شركة "أسِلسان" عام 2010 اتفاقًا مع نظيرتها الأميركية "رايثيون" لتصنيع جزء من منظومة الدفاع الجوي "باتريوت"، المعروفة والمستخدمة في بلدان حلف الناتو، على أن تكون تركيا المزوّد الرئيسي لذلك الجزء لحلفاء الولايات المتحدة، في سابقة حدثت لأول مرة آنذاك مع دولة بحلف الناتو ([7]). ورُغم أن عرض الصين جاء بشكل أشمل تضمَّن تصنيع المنظومة كاملة بشكل مشترك، إلا أن الفجوة الهائلة بين التقنية الأميركية ونظيرتها الصينية، واستجلاب نظام عسكري شاذ في وسط منظومة الناتو العسكرية التي تقع فيها تركيا، حتّم مع الوقت إسقاط الصفقة الصينية من الحسابات، والتي اقتصرت على كونها ورقة ضغط لشروط أفضل في إبرام صفقة أوروبية أو أميركية، مقابل سير أنقرة في اتجاهين أكثر قابلية للتحقق.

 

كان الاتجاه الأول هو المضي في إنشاء قاعدة صناعية خاصة لمكوّنات نظام دفاع جوي تركي محلي الصنع، مهما كانت درجة تخلّفه التقني عن نظرائه، لتتخذ تركيا بذلك الاتجاه الخيار الصعب والطويل كمعظم بلدان آسيا، أما الاتجاه الثاني الموازي فكان الاستمرار في بلورة شراكات مع دول أوروبا والولايات المتحدة لرأب الفجوة أولًا بين المحلي والغربي، وللحفاظ ثانيًا على تفوّق الدفاعات التركية المرتكزة للناتو في مواجهة مخاطر عدة متزايدة، مثل القوة الروسية الآخذة في الاتساع، والغريم اليوناني، وما يمكن أن يصل من سلاح متطور للتنظيمات المسلحة بالمشرق العربي بعد 2011.

 

في ذلك السياق ،أتت قبل أسابيع قليلة صفقة بين شركة "يوروسام" الفرنسية الإيطالية المتخصصة في بناء نظم الدفاع الجوي، وشركتي "أسِلسان" و "روكِتسان" التركيتين، لتدشين شراكة في مجال صناعات الدفاع الجوي والصاروخي، وبالأخص منظومة "أستر" الفرنسية الإيطالية المعروفة، والتي تم إرسال وتشغيل اثنتين منها بالفعل في تركيا العام الماضي 2016 لحماية أجوائها جراء التوترات في سوريا والعراق، وهي شراكة «طويلة الأمد» مع الصناعات العسكرية التركية كما أسماها المدير التنفيذي لشركة "يوروسام"، في إشارة ضمنية لعودة الأتراك للخيار الأوروبي، والعدول عن الاتجاه نحو الصين ([8])، مقابل منحها خيار التصنيع المشترك ولو جزئيًا.

  

إلى جانب
إلى جانب "أسِلسان" تأتي شركة الصناعات الجوية التركية (TAI)، بدمج شركتي "صناعة الطائرات"، والصناعات الجوية "توساس" (TUSAS)
   

لا تمثل منظومات الدفاع الجوي كل شيء عسكري على أهميتها بطبيعة الحال، لذا اهتم ساسة أنقرة أيضًا بتطوير الترسانة التركية البالغة حوالي 2500 دبابة و352 طائرة و19 سفينة مقاتلة و14 غواصة حربية، وهي ترسانة ضخمة لا تحتاج لقاعدة علمية وصناعية ضخمة لأعمال الصيانة الخاصة بها فحسب، بل والحفاظ على تطوير مستواها العسكري في مواجهة دول مثل اليونان وإيران وإسرائيل، دول تتشابك علاقاتها مع تركيا ولكن تظل الأخيرة مهتمة بمجاراتها والتفوّق عليها إن أمكن ذلك، وهو تفوّق يحتاج إلى تطوير الترسانة الموجودة، وامتلاك القدرة على تصنيع السلاح محليًا عبر تشكيل شراكات التصنيع المشترك مع دول حليفة ([9]).

 

على صعيد التصنيع المحلي، تبرُز شركة "أسِلسان" بعد عودة الاهتمام بها في الثمانينيات كأكبر شركة صناعات عسكرية تركية، فهي تعمل في مجالات مختلفة مثل أنظمة الرادار والتوجيه وتقنيات الدفاع والإلكترونيات، ونظم الحروب الإلكترونية، وقطاع الاتصالات وأمن المعلومات، وكذلك أمن الطاقة والنقل. خلال العام الماضي تجاوزت مبيعات الشركة المليار دولار لأول مرة، لمشترين تراوحوا من دول الاتحاد الأوروبي وحتى دول الخليج وباكستان، وإن ظل ذلك الرقم ضئيلًا مقارنة بعمالقة صناعة السلاح في العالم، فهو لا يتجاوز 1% من تجارة السلاح عالميًا ([10])، لكنه يعد ضعف ما حصدته الشركة تقريبًا عام 2009.

 

إلى جانب "أسِلسان" تأتي شركة الصناعات الجوية التركية "تي أيه آي" (TAI)، والتي تأسست عام 2005 بدمج شركتي "صناعة الطائرات" المؤسَّسَة عام 1973، والصناعات الجوية "توساس" (TUSAS) المؤسَّسَة عام 1984، في إطار شراكة مع شركات أميركية لإنتاج طائرات "إف 16" بشكل مشترك. تحتل شركة الصناعات الجوية التركية "تي أيه آي" المركز 80 في تصنيف أرباح الشركات العسكرية العالمي بحوالي 790 مليون دولار سنويًا، وتمثل شركتا "أسلسان" و"تي أيه آي" حوالي ثلث مبيعات الأسلحة التركية، وربع صادرات السلاح التركية حول العالم.

 

على صعيد الشراكات العسكرية التركية تبرز كل من بريطانيا وكوريا الجنوبية على القمة، فقد بدأت شراكة عسكرية مع الأولى عام 1988، عن طريق شركة (FNSS) المملوكة ([11]) بنسبة 51% لمجموعة "نورول" التركية، وبنسبة 49% لشركة "الصناعات الجوية" البريطانية، وهي متخصصة في صناعة العربات والمدرعات للجيش التركي، علاوة على شراكة جديدة بين البلدين، تم تدشينها مؤخرًا، بتوقيع اتفاق تركي بريطاني لإنتاج طائرات مقاتلة بشكل مشترك([12])، بما يتضمنه ذلك من نقل خبرات أكبر في مجال تصنيع الطائرات، وبريطانيا من روّاد هذا المجال، إلى الصناعة المحلية التركية، وإن ظل اعتماد تركيا في تفوّقها الجوي على التكنولوجيا الأميركية مستمرًا بالنظر لحصولها، كغيرها من بلدان حلف الناتو وإسرائيل، على طائرة "إف 35" الأميركية الجديدة، والأكثر تطورًا عالميًا.

  undefined

  

ترتكز الشراكة العسكرية التركية الكورية على مشروع إنتاج دبابات خاص بالبلدين يسمى "ألطاي" ([13])، والمفترض أن تُقاتل خلال أعوام إلى جانب الدبابة الألمانية "لِبورد" 1 و2، والدبابة الأميركية المعدّلة إسرائيليًا (M60T) الموجودتين بالترسانة التركية. وتكتب تلك الشراكة نهاية اعتماد تركيا المستمر حتى اليوم على دبابات قديمة تعود لمرحلة حرب فيتنام مثل (M48). وشهد نفس المجال أيضًا تعاونًا كبيرًا بين تركيا وإسرائيل، حيث قامت تل أبيب بتزويد الأتراك ببعض المكوّنات الفرعية الهامة في صناعة السلاح، وكذلك المركبات ذاتية التحكُّم. 

  

تدخل تركيا أيضًا بخطوات حثيثة في مجال صناعة الطائرات بدون طيار "الدرونز" نظرًا لاستمرار رفض تصديرها لأنقرة من جانب واشنطن، وكان اعتماد تركيا سابقًا للحصول عليها من إسرائيل حتى عام 2011 ([14])، إلا أنها بدأت برنامجًا لتصنيعها محليًا منذ عام 2008، توّج عام 2014 بإنتاج أول مجموعة ([15]) باسم "بيراقتار TB2″، ثم تمت تجربتها عسكريًا عام 2015 ([16]).

 

في (سبتمبر/أيلول) من عام 2013، تحدث الأدميرال "بولنت بوسطان أوغلو" عن تحدٍ بحري يواجه تركيا يستند بالأساس لمجال الطاقة، في إشارة لمثلث التعاون الإسرائيلي اليوناني القبرصي في مجال استخراج الغاز الطبيعي من حقوله المكتشفة حديثًا في شرق المتوسط، وإمكانية إقصاء تركيا من حسابات الطاقة بتلك المنطقة، عكس حال حسابات الطاقة الروسية والإيرانية المتجهة لأوروبا ([17])، ومن ثم أشار "بوسطان" لمشروع بناء السفينة الحربية الخاصة بتُركيا، المعروف باسم "ميلجم MILGEM"، لتوسيع قدرات تركيا في شرق المتوسط بالتعاون مع إسبانيا، ولإجبار مختلف الأطراف في شرق المتوسط على إدماج تركيا في حسابات الطاقة فعليًا، لاسيّما الطرف الأبرز "إسرائيل"، والتي تحاول أنقرة استقطابها لتصدير غازها الخاص عبر خط أنابيب يمر عبر تركيا، بدلًا من منشآت إسالة الغاز في قبرص وهو الخيار الأقل ثمنًا لتل أبيب.

 

بينما تسري الشراكات مع الولايات المتحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبية على قدم وساق، يستمر اتجاه التصنيع المحلي العسكري التركي صعودًا بالأساس عبر "أسِلسان" وشركة الصناعات الجوية التركية، إلى جانب شركات أخرى أصغر مثل "نورول" القابضة و "روكِتسان"، وهو اتجاه تظهره مشاريع طموحة، ربما يبالغ الإعلام التركي حيالها أحيانًا، لكنها تضع تركيا في مصاف دول آسيوية عدة صاعدة عسكريًا أبرزها إيران والهند، منها مشروع "ميلجم" المذكور أنفًا، ومشروع الدفاع الجوي المحلي "حصار" الذي تعكف عليه شركتا أسِلسان وروكتسان بشكل مشترك، ومشروع الدرونز المحلي، ومشاريع "ألطاي" مع الكوريين، والطائرات المقاتلة مع البريطانيين، ومشروع القمر الصناعي العسكري "جوكتُرك" الذي تم إطلاقه من الصين ([18]).

  undefined

 

يستمر ذلك الاتجاه في الصعود، بينما تظل القاعدة الصناعية العسكرية في تركيا بحاجة إلى مزيد من الشراكات مع الدول المتقدمة عسكريًا، ولتعزيز مؤسسات البحوث والتنمية العسكرية في الداخل، كما تشير شراكات شركة "أسِلسان" مع جامعات تركية عدة، بيد أنه لا يخفي فجوات عديدة في معرفة الأتراك التقنية بقطاعات كثيرة، ومن ثم لا يمكن توقّع تبلور دور ثقيل للصناعات العسكرية التركية على غرار نظيرتها الإسرائيلية قبل عام 2050 على أقل تقدير، وهي أعوام ستظل فيها تركيا داخل حلف الناتو بمظلته التقليدية، وستظل أذرعها، خاصة في المشرق، تزداد طولًا تدريجيًا بالتوازي مع نمو وتنوّع صناعاتها العسكرية المحلية، لا سيّما وأن "الطلاق السياسي" بينها وبين حلفائها وُلد ولا يزال كائنًا في تلك المنطقة، ولذا ستكون اهتمامات أنقرة العسكرية أكثر تركيزًا على سد ما ينقصها عسكريًا لمواجهة أخطار تلك المنطقة دون انتظار الناتو.

المصدر : الجزيرة