شعار قسم ميدان

"الاستثناء الأوروبي".. كيف نجت إسبانيا من صعود اليمين المتطرف؟

ميدان - إسبانيا 1
هزّت التمردات اليمينية الشعبوية جزءا كبيرا من الغرب -من الانتصار المذهل للرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة وحتى تصويت المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي-، لكن دولة واحدة بدت -للعجب- وكأنها مُحصَّنة من ذلك كله هي إسبانيا، إذ لا تتبنّى أي حركة من الحركات القابلة للنجاح انتخابيا في إسبانيا برنامجا أصلانيا أو معاديا للأجانب أو مناهضا للعولمة، والواقع أن الأحزاب الشعبوية أو اليمينية المتطرفة عجزت عن الحصول على أكثر من 1% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، والبرلمان الإسباني هو أحد البرلمانات القليلة في أوروبا التي لا تحظى فيها تلك الأحزاب بأي تمثيل.

وبالمثل، فإن "التشكك في أوروبا" -بما يعنيه من الرغبة في تخفيف الروابط مع الاتحاد الأوروبي- ضعيف بين الإسبان، ووجد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في عام 2016 أنهم -من بين جميع الأوروبيين- كانوا الأقل تأييدا لاستعادة مزيد من السلطة من البرلمان الأوروبي لصالح الحكومات الوطنية.

تثير هذه الحصانة الجليِّة لإسبانيا الفضولَ، لأنها -أي إسبانيا- لم تكن بمنأى عن التحديات التي أثارت رَدّات فعل يمينية شعبوية في أماكن أخرى. أول هذه التحديات هي الهجرة، وهي القضية التي استخدمها كل من ترمب، ومارين لوبان في فرنسا، وفيكتور أوربان في المجر، وخيرت ويلدرز في هولندا لحشد المؤيدين حول الرأي القائل إن المهاجرين يقوِّضون هوياتهم الوطنية، ويُؤخِّرون اقتصاداتهم، ويهددون الأمن القومي.

ومع ذلك، كانت إسبانيا البلد الذي شهد أكثر الهجرات تأثيرا في الديموغرافيا من بين الدول الأوروبية الأخرى، إذ ارتفع عدد السكان المولودين في الخارج من مليون إلى ما يقرب من ستة ملايين بين عامي 1998 و2016، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء في إسبانيا، واستقبلت إسبانيا ما يقرب من نصف المهاجرين القادمين إلى الاتحاد الأوروبي في العقد الأول من هذا القرن، كما سجلت أعلى معدل صافي الهجرة للفرد مقارنة بأي من دول الاتحاد الأوروبي. يتبيَّن إذن أن المقاومة الإسبانية للشعبوية لا يفُسِّرها نقص الهجرة.

مجموعة من اللاجئين إلى أوروبا عام 2015  (رويترز)
مجموعة من اللاجئين إلى أوروبا عام 2015  (رويترز)

ثاني هذه التحديات هو التدهور الاقتصادي، إذ غالبا ما يُذكر بصفته عاملا مُؤجِّجا للحركات الشعبوية اليمينية، وفي هذا الشأن فإن إسبانيا -مرة أخرى- هي الأعلى من بين نظرائها الأوروبيين. ففي عام 2008 سقطت إسبانيا في حالة ركود عميقة حتى إن منطقة اليورو بأكملها أضحت مهددة بالغرق، ومع انكماش الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت نسبة البطالة من 8% في عام 2008 إلى 26% في ذروة الأزمة في عام 2013، بينما ارتفعت نسبة البطالة داخل الاتحاد الأوروبي من 7% إلى 11% خلال تلك الفترة باستثناء اليونان التي شهدت انهيارا مماثلا في معدلات العمالة، وعلاوة على ذلك اتخذت الحكومة الإسبانية تدابير تقشفية قاسية وغير مرغوبة شعبيا ضمن جهودها الرامية إلى التصدّي للأزمة، وخفَّضَت الخدمات الاجتماعية ومرتبات القطاع العام. وبعبارة أخرى، فإن إسبانيا لم تَسْلَم من الكوارث الاقتصادية التي دفعت ببلدان أخرى صوب الشعبوية.

أما التحدّي الثالث والأخير المُحفِّز للاتجاهات الشعبوية في أماكن أخرى من الغرب فهو مدى ملاحظة وجود الفساد السياسي في وَسَط النخب الراسخة، لكن إسبانيا ليست نموذجا للفضيلة السياسية، إذ إنها ثاني أكبر الاقتصادات الأوروبية الكبيرة فسادا (تسبقها إيطاليا) وفقا لمؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية، ويتركز الفساد تركُّزا رئيسا في الطبقة السياسية بها، فقد تورطت كل الأحزاب السياسية الكبرى في الفضائح الأخيرة، فضلا عن رؤساء الحكومات الإقليمية وكثير من المسؤولين المحليين، وحتى الأسرة المالكة الإسبانية -الموقرة- قد تلوَّث صِيتُها عندما عجَّلَت تعاملات تجارية مشبوهة بتنازل الملك خوان كارلوس عن الحكم في عام 2014.

كما أن عدم الثقة في المؤسسات السياسية في إسبانيا أعلى مما هي عليه في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ووفقا لـ "يورو باروميتر" فإن 91% من الإسبان لا يثقون بالأحزاب السياسية (وهي نسبة تفوق متوسط الاتحاد الأوروبي ب13 نقطة)، ولا يرضى 69% منهم عن الديمقراطية (وهي نسبة تفوق متوسط الاتحاد الأوروبي ب21 نقطة).

الديكتاتورية الطويلة

كيف يُفسَّر إذن هذا التأثير الضئيل للعوامل التي عززت الحركات الشعبوية اليمينية في أماكن أخرى، وقصورها عن إحداث الأثر نفسه في إسبانيا؟ يرتبط الأمر ارتباطا وثيقا بتاريخ إسبانيا الطويل مع الفاشية، كما قد يُتَوقَّع.

فقد كان نظام الجنرال فرانسيسكو فرانكو هو الديكتاتورية الفاشية الرئيسة الوحيدة التي نجت من الحرب العالمية الثانية. كانت البداية في عام 1936 حين انقلب فرانكو على "الجمهورية الثانية"، وهي التجربة الإسبانية مع الديمقراطية بين الحربين العالميتين، مُشعِلا الحرب الأهلية الإسبانية، ذلك الصراع الدموي الذي مثَّل حدثا جوهريا في التاريخ الإسباني في القرن العشرين، وأزْهَقَ ما يربو على نصف مليون روح، كما أكْرَهَ كثيرا من السكان على الفرار إلى المنفى. وطبّق فرانكو سياسة التطهير (limpieza) سعيا منه إلى ترسيخ نظامه الاستبدادي، فقُتِل على إثرها 200,000 معارض سياسي -مزعومين-، وأُرسِل 400,000 آخرين إلى معسكرات السجن والعمل.

وبحلول وقت وفاة فرانكو في عام 1975 الذي أفسح الطريق أمام انتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية جدير بالإشادة والاقتداء، كانت إسبانيا قد شهدت أكثر من 40 عامًا من العزلة، وتخلَّف مجتمعها المدني وأصابته الصدمة، وتعثَّر اقتصادها وأصبح منغلقا وعديم الفعالية.

إسبانيا تسبق جميع الدول الأوروبية في غياب الثقة بأن ترمب سيفعل الصواب بخصوص الشؤون الدولية، و7% فقط من الإسبان لديهم ثقة بـ ترمب

ويبدو أن هذا الكابوس هو ما حصَّن إسبانيا من الموجة الشعبوية اليمينية الحالية بعدة سبل متضافرة يدعم بعضها بعضا، منها: أن نزعة فرانكو نحو الديماغوغية والقومية المفرطة ورهاب الأجانب أضحت تثير رفض معظم الناخبين لأي سياسي إسباني يُشير ولو تلميحا إلى هذه الموضوعات.

فضلا عن أن تبنّي فرانكو لرموز قومية مثل العلم الإسباني جعل من استخدام هذه الرموز دعائيا أمرا يبغضه معظم الإسبان بُغضا شديدا، وهو ما عرقل سرديات القومية والأصلانية، وسيكون اتخاذ أي سياسي إسباني لشعار مثل "اجعل إسبانيا أكثر إسبانية" على غرار شعار "لوبان" "اجعل فرنسا أكثر فرنسية" ضربا من الحماقة. كما أعاق هذا الخطابَ أيضا حِسُّ القومية المتصدع تصدُّعا كبيرا في إسبانيا، وهو إرث خلَّفته محاولة فرانكو فرض تجانُس الهوية الإسبانية عبر قمع الجماعات الانفصالية في إقليم الباسك وكتالونيا.

لا يصعب إذن تخمين السبب وراء سُمعة ترمب شديدة السوء في إسبانيا بالنظر إلى الظل الطويل الذي تلقي به الفرنكويّة على السياسية الإسبانية المعاصرة، والواقع أن إسبانيا تسبق جميع الدول الأوروبية في غياب الثقة "بأن ترمب سيفعل الصواب بخصوص الشؤون الدولية"، وفقا لاستطلاع رأي أخير أجراه مركز "بيو" للأبحاث، إذ يعرب 7% فقط من الإسبان عن ثقتهم فيه مقابل 25% في إيطاليا و22% في المملكة المتحدة و14% في فرنسا و11% في ألمانيا، بل إن إسبانيا لم يسبقها إلى بُغْض ترمب في الاستطلاع المُؤَلَّف من 37 دولة بكامله سوى المكسيك.

حُلْم مُؤجَّل

لا ُيفَسِّر إرث فرانكو وحده -بطبيعة الحال- تجنُّبَ إسبانيا للشعبوية اليمينية، بل يساهم في تفسيره أيضا -وعلى نفس القدر من الأهمية إن لم يكن أكثر- تطورات بدأت منذ نهاية عهد فرانكو، أبرزها هو الارتباط الإسباني القوي بالمؤسسات الأوروبية، إذ تبنّى 80% من الإسبان وجهة نظر إيجابية تجاه الاتحاد الأوروبي، قبل الأزمة الاقتصادية لعام 2008، ولم يسبقهم إلي ذلك سوى البولنديين الوافدين الجدد إلى المنظمة الذين كانوا أكثر إيجابية، وفقا لمركز "بيو" للأبحاث. ولهذا لا تكاد تسمع في إسبانيا بأي من الانتقادات الشرسة الموجهة إلى بروكسل والشائعة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي.

يمكن أن يُعزى تعلق الإسبان بالاتحاد الأوروبي وولائهم له إلى نضال البلاد الطويل لتصبح بلدا أوروبيا، وهو ما قد يبدو غريبا بالنظر إلى أهمية إسبانيا المركزية في التاريخ الأوروبي وما نتج عن تأسيس مملكة إسبانيا في عام 1492 من إعادة تشكيل أوروبا تشكيلا جذريا، وكذلك نشوء الإمبراطورية الإسبانية بما رسمه من مسار تحذو حذوه الدول الأخرى.

كان نظام الجنرال فرانسيسكو فرانكو هو الديكتاتورية الفاشية الرئيسة الوحيدة التي نجت من الحرب العالمية الثانية (الأوروبية)
كان نظام الجنرال فرانسيسكو فرانكو هو الديكتاتورية الفاشية الرئيسة الوحيدة التي نجت من الحرب العالمية الثانية (الأوروبية)

لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية قطعت سياسات فرانكو الصلات بين إسبانيا وأوروبا، فقد نأى فرانكو بإسبانيا عن الحرب العالمية الثانية، مع دعم ضمني لقوات المحور، وإزاء ذلك فرضت قوات الحلفاء مقاطعة اقتصادية على إسبانيا. وبعد انتصار الحلفاء حُرمت إسبانيا التمويل الخاص بالانتعاش الاقتصادي ضمن مشروع مارشال، وجَافَى فرانكو جيران إسبانيا وأَبْعَدَهم وعَزَل البلاد، وتابع فَرْضَ الحَجْر على إسبانيا، موجها اللوم إلى أوروبا وأيديولجياتها "الراديكالية"، ومُحمّلا إياها مسؤولية الحرب الأهلية، بل بلغ به الحد أن َوسَّع قضبان القطارت عن مقياسها السائد ليمنع أي اجتياح بواسطة عربات نقل البضائع الفرنسية. وفي محاولة لتعويض المقاطعة الاقتصادية الغربية سعى فرانكو إلى توثيق الروابط مع العالم العربي وأميركا اللاتينية، وبخاصة النظام البيروني المتعاطف معه في الأرجنتين.

لا عجب إذن أن إسبانيا لم تكن جزءا من معاهدة روما لعام 1957 التي أنشأت الجماعة الاقتصادية الأوروبية، إذ اقتصرت العضوية فيها على الدول الديمقراطية. لكن بعد وفاة فرانكو وسقوط نظامه شرعت إسبانيا في مفاوضات مطوّلة امتدت لعقد من الزمن تقريبا وانتهت بانضمامها أخيرا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1986، وانتفعت إسبانيا -منذ ذلك الحين- انتفاعا ماديا من عضويتها تلك، فقد كانت أكبر المستفيدين لسنوات عديدة من أموال الاتحاد الأوروبي الممنوحة للدول الأعضاء الأقل دخلا.

اغتنم الإسبان هذه المساعدات اغتناما كبيرا يَظْهَرُ جليا في البنية التحتية للبلاد، إذ تنتشر المطارات المتألقة والطرق السريعة الرائعة في أنحاء الإقليم الإسباني، وتتقاطع شبكة السكك الحديدية عالية السرعة الأحدث في أوروبا مع صفحة أرضها ومناظرها الطبيعية. كما ارتفعت مستويات المعيشة خلال هذه السنوات حتى تساوى دخل الفرد اليوم في إسبانيا تقريبا مع نظيره في إيطاليا، أي حوالي ثلاثة أضعاف دخل الفرد في الدول متوسطة الدخل مثل بولندا. لذا، فمن المفهوم ألا تَكتسب أحاديث مغادرة الاتحاد الأوروبي زَخَما يُذكَر بين الإسبان العاديين حتى في أحلك أيام الأزمة الاقتصادية.

دولة ليبرالية متعددة الثقافات

الأكثر أهمية مما ذُكِر هو تطور إسبانيا في ردة فعل مضادة لحقبة فرانكو، لتصبح مجتمعا ليبراليا يتسع للجميع، ويُقدِّر الالتزام الأوروبي بسيادة القانون والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعتبر إسبانيا رائدة في الاعتراف بمطالبات المجتمعات المتمايزة ثقافيا في المناطق التاريخية بالاستقلال القومي كما في إقليم الباسك وكتالونيا، إذ تنفرد هذه المجتمعات بلغتها الخاصة وتقاليدها المختلفة، وتحظى بمستوى من الحكم المحلي الإقليمي يفوق أي مجتمع محلي تاريخي آخر في أوروبا.

كما نجحت إسبانيا نجاحا فريدا في دمج غجر الرومن (الروما) داخل حدودها، وفي ذلك أشار عنوان لصحيفة نيويورك تايمز في عام 2010 إلى أنه في الوقت الذي رحَّلَت فيه فرنسا الآلاف من الروما أبانت الجهود المتواصلة التي بذلتها الحكومة الإسبانية على مدى عقود لتحسين حياة غجر الروما عن نجاحها، وكان جميع أطفال غجر الروما تقريبا ملتحقين بالمدارس، ونصف آباء هؤلاء الأطفال يمتلكون بيوتا.

التسامح الإسباني في شأن المهاجرين ناتج عن اختلاف ديموغرافية المهاجرين القادمين إلى إسبانيا عن ديموغرافية مَنْ ينتهي بهم المطاف إلى اليونان أو أوروبا الشرقية

كان لإسبانيا دورا رياديا كذلك في المساواة الجنسية والمساواة بين الجنسين، فقد كانت أول دولة في العالم تضع الأزواج المثليين على قدم المساواة القانونية مع الأزواج من جنسين مختلفين عندما قننت زواج المثليين في عام 2005، رغم إرثها من الكاثوليكية التقليدية واشتهارها بكونها معقلا للذكورية، إضافة إلى كونها أول دولة في أوروبا -وربما في العالم- يهيمن العنصر النسائي على مجلس وزرائها، وذلك في عهد الإدارة الاشتراكية الأخيرة لـ خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو.

إن موقف إسبانيا المتسامح حيال المهاجرين لهو إرث مباشر من تاريخها الحديث بوصفها دولة مهاجرة، إذ خلّفت الحرب الأهلية وآثارها المُفجعة ما يقرب من مليون لاجئ سياسي إسباني، وعمل مئات الآلاف من الإسبان في فرنسا وألمانيا بصفتهم مهاجرين إبان عهد فرانكو. وفي هذا السياق يشير ويليام تشيسليت، المحلل في "معهد إلكانو الملكي"، وهو مركز الأبحاث الإسباني الرائد، إلى أن "للأسر الإسبانية أقارب هاجروا إلى أوروبا خلال الخمسينيات والستينيات، مما ساعدهم في رؤية مهاجري اليوم بعين التَفَهُّم والتعاطف".

ثمة عامل آخر ربما يُفسِّر التسامح الإسباني في شأن المهاجرين ألا وهو اختلاف ديموغرافية المهاجرين القادمين إلى إسبانيا عن ديموغرافية مَنْ ينتهي بهم المطاف إلى اليونان أو أوروبا الشرقية.

وعلى سبيل المثال، يشكّل المواطنون البريطانيون الباحثون عن شعاع الشمس وعن تكاليف معيشية أقل ثالث أكبر مجموعة من المهاجرين في إسبانيا، وهم موضع ترحيب بسبب إسهاماتهم في الاقتصاد، لا سيّما في المناطق الأفقر من إسبانيا مثل جنوب إقليم أندلوسيا. كما أن قسما كبيرا آخر من المهاجرين يَقْدُم من مستعمرات إسبانيا السابقة في أميركا اللاتينية، وهو ما يجعل إدماجهم في المجتمع الإسباني أيسر نسبيا بسبب ميزة لغتهم الإسبانية وكاثوليكيتهم، أما المجموعة الأكبر من المهاجرين فهم الرومانيون، بعدد يقترب من مليون شخص في عام 2000.

إعادة تشكيل الحياة السياسية

وأخيرا، يعود بعض الفضل في إبقاء إسبانيا خالية من الشعبوية اليمينية إلى التحول الدراماتيكي للسياسة الإسبانية في مرحلة ما بعد فرانكو، إذ تُعرف إسبانيا بسياساتها الاعتدالية من بين عشرات الدول التي شرعت في التحول إلى الديمقراطية في الربع الأخير من القرن العشرين. وعلى سبيل المثال، اختارت إسبانيا ألا تُقاضي النظام القديم فيما يتعلق بجرائم حقوق الإنسان، ولم تُنظِّم الحكومة الجديدة حتى لجنة تقصٍ للحقائق لتحديد المسؤولين عن الحرب الأهلية خلافا لديمقراطيات ما بعد السلطوية الأخرى.

وفي المقام الأول فإن تبنّي الاعتدال قد انصرف إلى تجنُّب السياسات المتطرفة على طَرَفَيْ الطيف السياسي، وتجسدت روح الاعتدال السياسي الناجمة عن الرغبة في تجنب مختلف أشكال الصراعات الأيديولوجية الحادة التي أودت بإسبانيا إلى الحرب الأهلية في الحزبين اللذَيْن رسَّخَا الديمقراطية في سنوات ما بعد فرانكو: "حزب العمال الاشتراكي الإسباني" (PSOE)، وهو حزب ديمقراطي اجتماعي، و"الحزب الشعبي" (PP)، وهو حزب محافظ.

تُعرف إسبانيا بسياساتها الاعتدالية من بين عشرات الدول التي شرعت في التحول إلى الديمقراطية (الأوروبية)
تُعرف إسبانيا بسياساتها الاعتدالية من بين عشرات الدول التي شرعت في التحول إلى الديمقراطية (الأوروبية)

وفي الموعد المحدد للانتخابات العامة في عام 1977 -وكانت أول انتخابات حرة في إسبانيا منذ ما يقرب من أربعة عقود- ألقى حزب العمال الاشتراكي عنه شعاره الماركسي الذي امتد لعقود واعتنق الديمقراطية بإخلاص، وأما الحزب الشعبي فقد شرع في تغيير جذري أكثر جرأة بتحويله اليمين الإسباني من جذوره الضاربة في الفاشية إلى قوة سياسية أوروبية محافظة حديثة، وتمكّن خلال مسيرته من احتلال الفضاء السياسي الممتد من يمين الوسط إلى اليمين المتطرف بأكمله تقريبا، وهو ما جعل مجموعات على هامش اليمين مثل مجموعة "فالانخي" الفاشية تغدو بلا أهمية سياسية تذكر.

يذكر أن القوانين الانتخابية المنحازة إلى الأحزاب الوطنية الكبرى كانت من بين العوامل التي سمحت للحزبين بإرساء سيطرة تكاد تكون مُهيمنة على اليسار واليمين تِبَاعا. لا يكفل أي مما سبق ألا تتأرجح إسبانيا أبدا صوب اليمينية أو حتى الشعبوية اليمينية المتطرفة، بل في الإمكان تصوُّر بعض الظروف التي قد تُضعِف الحواجز والعقبات القائمة في وجه الحركات الشعبوية اليمينية في إسبانيا.

فذكريات عهد فرانكو تخفت سريعا وقد نشأت أجيال كاملة من الإسبان دون أي تَعُّرِض مباشر للديكتاتورية القديمة، في الوقت نفسه الذي تتغير فيه علاقة إسبانيا مع الاتحاد الأوروبي، إذ يُتَوَقَّع أن تصبح مساهما صافيا في أموال الاتحاد الأوروبي بدلا من تلقّيها لها بحلول عام 2019، وهو انعكاس للأدوار قد يجعل الإسبان أكثر انتقادا للمنظمة. كما يمكن أن تتحول سياسات الهجرة أيضا إذا ما بدأ المهاجرون الأصعب في استيعابهم مثل اللاجئين الأفغان أو الليبيين أو السوريين في الوصول بأعداد كبيرة إلى شواطئ إسبانيا، وهو ما قد يُفسِح المجال أمام مجموعات مثل "إسبانيا 2000" التي أخفق برنامجها المناهض للهجرة في إيجاد جمهور كبير لها حتى الآن.

وأخيرا، ربما يفقد الحزب الشعبي المحافظ -الذي يسيطر على الحكومة حاليا- قبضته على اليمين، فقد تلقّى صفعة قوية هو وغريمه السياسي الرئيس، حزب العمال الاشتراكي، خلال الانتخابات العامة في (يونيو/حزيران) 2016 بتَوَجُّه كثير من الناخبين إلى قوى سياسية جديدة مثل حزب "بوديموس"، وهو حزب يساري مناهض للتقشف، وحزب "سيودادانوس" أو "المواطنين"، وهو حزب يميني مناهض للفساد. ومتى ما تعثَّر الحزب الشعبي -كما كان الحال مع الأحزاب المحافظة الأخرى في أوروبا- فمن غير المستبعد أن يتسلل التشكك في أوروبا ورهاب الأجانب والقومية الاقتصادية إلى الساحة السياسية.

=====================

مترجم عن: (فورن أفيرز)

المصدر : الجزيرة