شعار قسم ميدان

الأفغاني في ألمانيا.. مطرود من جنة اللاجئين

midan - refugees
مقدمة المترجم
تستقبل ألمانيا آلاف اللاجئين شهريا من مختلف دول العالم، لكن هناك شعبًا وحيدًا لم يعد يلقى هذا الكرم من ألمانيا، ومعها القارة الأوروبية كلها، إنهم الأفغان. إذ تبلغ نسبة قبول طلبات لجوء الأفغان في ألمانيا 48%، في مقابل 86% في حالة العراقيين. وفيما يلي تحليل لأسباب هذا التمييز، وعرضٌ لقصص بعض ضحاياه.
  
نص التقرير
في إحدى ليالي نهاية (فبراير/شباط) الباردة وقف "عنايات طاجيك" في مطار ميونيخ الدولي يشهد إقلاع الطائرة المتجهة إلى العاصمة الأفغانية كابل، وعلى متنها 18 أفغانيا. لقد أصدرت الحكومة الألمانية قرارا بترحيلهم، وكان طاجيك واحدا من بين مئات قدموا إلى المطار للاحتجاج على هذا الإجراء، أغلبهم من المواطنين الألمان.
 

قال طاجيك: "أخشى أن أكون التالي"، إنه طالب لجوء في العشرين من عمره، من ولاية بغلان الأفغانية التي اجتاحها مقاتلو طالبان. للأسف، لم يكن طاجيك مغاليا في مخاوفه، لقد تسلم رسالة من سلطات الهجرة الألمانية قبل أسبوعين تبلغه فيها برفض طلب اللجوء الذي تقدم به. في هذه الليلة أخبرني في المطار أنه يعجز عن تخيل مصيره إذا أجبر على العودة، قال لي، وهو يحمل لافتة كتب عليها بالألمانية "الهجرة ليست بجريمة": "يشعر كل أفغاني حضر إلى هنا الليلة بخوف شديد. لو كان بوسعي الحياة في أفغانستان لما جئت إلى ألمانيا. أفغانستان هي بلدي".

 

يمثل الأفغان ثاني أكبر مجموعة طالبي لجوء في ألمانيا بعد السوريين مباشرة، فقد قدم أكثر من 127 ألف أفغاني، و266 ألف سوري طلبات لجوء في ألمانيا خلال عام 2016
يمثل الأفغان ثاني أكبر مجموعة طالبي لجوء في ألمانيا بعد السوريين مباشرة، فقد قدم أكثر من 127 ألف أفغاني، و266 ألف سوري طلبات لجوء في ألمانيا خلال عام 2016
   

قليلون هم من قد يعدون أي لاجئ من بين المحظوظين، لكن لن يجادل أحد في أن طالبي اللجوء الأفغان هم الأقل حظا من بين جميع متضرري أزمة المهاجرين إلى أوروبا، فمنذ قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بفتح حدود ألمانيا عام 2015، معلنة استعداد بلادها لاستقبال عدد غير محدود من اللاجئين، استوعبت الدولة أكثر من مليون طالب لجوء، وهو ما يزيد عما استقبلته سائر الدول الأوروبية مجتمعة، وما زال المهاجرون واللاجئون يتوافدون على ألمانيا بمعدل 14,000 لاجئ شهريا.

 

يمثل الأفغان ثاني أكبر مجموعة طالبي لجوء في ألمانيا بعد السوريين مباشرة، فقد قدم أكثر من 127 ألف أفغاني، و266 ألف سوري طلبات لجوء في ألمانيا خلال عام 2016، حسب بيانات المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، لكن فرصة الأفغاني في الحصول على صفة لاجئ أقل بكثير من فرص أمثاله من السوريين والعراقيين. ويعتبر وطن الأفغان من مناطق الحروب، على عكس طالبي اللجوء الآخرين القادمين من بلاد أكثر أمنا نسبيا، مثل ألبانيا والمغرب وصربيا وتركيا. لكن من الواضح أن أوروبا تتبنى وجهة نظر مخالفة. وفقًا لبيانات حكومية ألمانية، لم يكتسب صفة اللجوء من الوافدين الأفغان عام 2015 إلا 48%، في مقابل 92% من الإريتريين، و89% من العراقيين، و96% من السوريين. ولا يعاني الأفغان من هذا التمييز في ألمانيا وحدها، بل على مستوى أوروبا كلها -حسب تصريح مارتن رينتش- من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

 

يثير هذا التفاوت الهائل في معدلات القبول ذهول ناشطي حقوق الإنسان، الذين يرون أن أفغانستان لا تقل خطورة عن العراق. ففي عام 2016 سجلت أفغانستان أعلى رقم للضحايا المدنيين منذ 2001، بلغ حينها 11,418 قتيلا، سقط كثير منهم في عمليات استهدفت العاصمة كابل. علاوة على ذلك، ذكر تقرير لوكالة هيومن رايتس ووتش، في (أبريل/نيسان) الماضي أن الأطفال الأفغان "تحمَّلوا الجزء الأكبر من تكلفة هذا الصراع الدموي"، إذ شكَّلوا ثلث هذه الوفيات، وفي الشهور الأخيرة استعادت حركة طالبان السيطرة على مساحة كبيرة من البلاد، منتزعة إياها من قبضة القوات الحكومية التي تخسر نحو 5000 جندي شهريًا ما بين مُصابٍ وهارب. كذلك زرعت الدولة الإسلامية (تعرف أيضا باسم داعش) الخلايا عبر البلاد، واستولت قبل أسابيع قليلة على منطقة تورا بورا، معقل أسامة بن لادن السابق.

 

في بيان صحفي نشر في (أبريل/نيسان) قالت حورية مصدّق، الباحثة في الشؤون الأفغانية بمنظمة العفو الدولية: "إن المزاعم الحكومية المستهترة التي تعدُّ أفغانستان مكانًا آمنًا للاجئين تأتي في وقت يشهد استمرارًا لمعدّلات الضحايا المرتفعة، ومعاناة النساء والأطفال من أبشع صور العنف. وبينما اعتبرت الجماعات المسلحة المشابهة لداعش في أفغانستان خطيرةً إلى درجة إقناع الولايات المتحدة باستخدام أكبر قنبلة غير نووية في العالم، يقال للأشخاص الفارين من الصراع الدائر هناك إنَّ بوسعهم العودة إليها والعيش بأمان. إن ذلك لأحد أشد صور التناقض وقاحة".

  

حسب تصريحات متحدثة رسمية لوزارة الداخلية الألمانية، أُجبر 167 أفغانيًا على العودة، وما زال نحو 12 ألف أفغاني في انتظار ترحيلهم
حسب تصريحات متحدثة رسمية لوزارة الداخلية الألمانية، أُجبر 167 أفغانيًا على العودة، وما زال نحو 12 ألف أفغاني في انتظار ترحيلهم
   

بدأت ألمانيا ترحيل الأفغان الذين رفضت طلبات لجوئهم في (ديسمبر/كانون الأول) عام 2016. وحسب تصريحات متحدثة رسمية لوزارة الداخلية، أجبر 167 أفغانيا على العودة، لقد ارتفع الرقم بعد حديثي معها في (مايو/أيار)، وما زال نحو 12 ألف أفغاني في انتظار ترحيلهم. دفع ذلك نشطاء حقوق الإنسان في ألمانيا إلى اتهام المستشارة أنجيلا ميركل -التي ستنافس للاستمرار في منصبها (سبتمبر/أيلول) القادم- بالتلاعب بحياة الناس لتحقيق مكاسب سياسة، فهم يرون في هذه الترحيلات محاولة لاستعادة تأييد الناخبين اليمينيين من أنصار حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يشن حملة ضد سياسات ميركل الليبرالية.

 

يقول ج. أولاف كلايست، المتخصص في العلوم السياسية، والباحث بمعهد أبحاث الهجرة والدراسات الثقافية: "تشكل الترحيلات المتزامنة مع الحملة الانتخابية فرصة للتأكيد على الموقف الصارم من سياسات اللجوء"، والأفغان -حسب قوله- هم أسهل الأهداف المتاحة أمام المسؤولين الحكوميين. "من الواضح أن ترحيل الأفغان هو الأسهل مقارنة بالسوريين الذين يتمتعون بدعم أكبر في الشارع الألماني، فترحيل اللاجئين إلى إريتريا والسودان مستحيل عمليا، لأن خطورة هذه المناطق أشد وضوحا، وتزداد نسبة قبول لاجئيها عن سائر البلاد".

 

حتى الآن، يبدو أن جهود الحكومة الرامية إلى اكتساب مظهر أشد صرامة أمنيا تحقق نجاحا، وبالفعل انخفضت شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا بعد اتخاذ ميركل موقفا أكثر تشدُّدًا في ملف اللاجئين، وبينما حصل البديل من أجل ألمانيا في (سبتمبر/أيلول) عام 2016 على نسبة تأييد بلغت 16% في استطلاعات الرأي الوطنية فإنه ينافس اليوم على 8% فقط من الأصوات. يقول بيرند ميسوفيك، نائب مدير منظمة برو أزيل الألمانية الداعمة لحقوق اللاجئين في أوروبا منذ 1986: "تكمن المأساة هنا في أن انخفاض شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا يأتي نتيجة لسياسات تتبنى مطالب ومزاعم هذا الحزب نفسه، ويظل اللاجئون هم ضحايا هذه السياسات".

 

يرى الخبراء من أمثال جان شنيدر، عضو مجلس خبراء المؤسسات الألمانية للاندماج والهجرة، أن التورط الألماني العسكري الممتد في أفغانستان هو أحد أسباب هذا الانخفاض الهائل في معدلات قبول اللاجئين الأفغان ورغبة الحكومة في ترحيلهم. لقد أرسلت ألمانيا القوات إلى هناك رغم معارضتها للحرب في العراق، وذلك الاستثمار للوقت والمال وأرواح الجنود أدى إلى نفور الحكومة من منح صفة اللجوء لكثير من الأفغان، ففي ذلك إقرار ضمني بفشل الدور الألماني بأفغانستان في تحسين الوضع بأي صورة كانت، بل لعله أسهم في زيادة العنف وعدم الاستقرار المستمر إلى يومنا هذا.

  

undefined

 

يقول شنيدر: "إنْ تورطتَ عسكريًا في إحدى البلاد لفترة تعدَّت السنوات العشر، حيثُ فقدتَ جُنودًا، وفقدتَ مدنيين، وحاولتَ خلقَ مناطق آمنة، فإذا بك بعد 12 عامًا تقبلُ سكان هذه البلد لاجئين في بلدك لأنَّ حياتهم ما زالت في خطر، تصبحُ مُضطرًّا إلى إلغاء العملية، وهو ما يعني فشلك التام". كذلك شاركت بلاد أوروبية أخرى في حرب أفغانستان، وهو ما يبدو تفسيرًا منطقيًّا للتمييز ضد الأفغان الذي لم يقتصر على ألمانيا، بل عمَّ القارة الأوروبية بأكملها. فبعد 15 عامًا من التورُّط العسكري، وإنفاق المليارات على المساعدات، يظهر أنَّ الحكومات الأوروبية غير مستعدة للاعتراف بأن أفغانستان ما زالت غارقةً في مستنقع الحروب، حتى إن ألمانيا والنمسا أطلقتا حملات توعية في أفغانستان تشجع المواطنين على البقاء هناك.

 

أقرَّ توماس دي ميزير وزير الداخلية الألماني بالطبيعة السياسية لموقف الاتحاد الأوروبي من اللاجئين الأفغان، وقال في مؤتمر صحفي عُقِدَ في (أكتوبر/تشرين الأول) عام 2015: "لقد ضخت صناديق التعاون الإنمائي مبالغ هائلة في أفغانستان، لذا نتوقع من الأفغان البقاء في بلادهم". وفي (فبراير/شباط) عام 2016 أعلن دي ميزير خلال زيارة إلى كابل أن استمرار تدفق اللاجئين إلى ألمانيا سيدفعها إلى التوقف عن دعم أفغانستان، قائلا: "نحن باقون هنا ما استمرَّت الحاجة إلى بقائنا، لكننا نتوقع من الشعب الأفغاني البقاء أيضًا"، رغم ذلك، فجَّر انتحاريٌّ أفغانيٌّ نفسه في مُجمَّع للشُرطة بمدينة كابل، قبل انتهاء زيارة الوزير الألماني، مُخلِّفًا أكثر مِن 20 قتيلًا.

 

وفي (أكتوبر/تشرين الأول) عام 2016 خلال مؤتمر بروكسل حول أفغانستان، وافق الاتحاد الأوروبي على دعم جهود إعادة إعمار أفغانستان بمساعدات تبلغ قيمتها خمسة عشر مليار دولار على مدار الأربع سنوات التالية. في المقابل، تعهدت الحكومة الأفغانية بالاهتمام بملفات مكافحة الفساد، والإصلاح السياسي، وحقوق الإنسان. كما وافقت كابل على بذل الجهد للتوصل إلى اتفاق مناسب يسمح لدول الاتحاد بترحيل طالبي اللجوء الأفغان إلى بلادهم. يزعم نشطاء حقوق الإنسان فشل أوروبا في تحقيق متطلبات اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين، التي تؤكد على "عدم جواز إعادة اللاجئين إلى بلاد يعانون فيها مخاطر حقيقية على أرواحهم وحريتهم". كما يرون أن طبقة السياسيين الأفغان الفاسدة ستكون المستفيد الأكبر من اتفاق الاتحاد الأوروبي. تعد أفغانستان من بين الدول الأكثر فسادا في العالم، فلقد وجهت مؤسسة الشفافية الدولية اتهامات إلى السياسيين الأفغان بسرقة ملايين الدولارات من المساعدات على مدار 13 سنة، في الفترة ما بين عامي 2002 و2015.

 

في الفترة ما بين (أكتوبر/تشرين الأول) عام 2016 و(مارس/آذار) عام 2017 أجريت لقاءات مع نحو دستة لاجئين أفغان، لم يمنح أي منهم على صفة لاجئ. وبينما كان البعض لم يزل في انتظار تحديد مصيره على يد سلطات الهجرة الألمانية، كان الجميع يخشى احتمالية العودة إلى الوطن الذي يحبه، وطنٌ دمَّرتهُ حروبٌ شنَّتها البلاد الغربية نفسها التي يطلبون اللجوءَ إليها اليوم.

  

واصلت ألمانيا استقبال اللاجئين الأفغان لعقود، منذ غزو 1979 السوفياتي، خلال الحرب الباردة، في ذلك الوقت كانت الحكومة الألمانية كريمة مع اللاجئين الأفغان (رويترز)
واصلت ألمانيا استقبال اللاجئين الأفغان لعقود، منذ غزو 1979 السوفياتي، خلال الحرب الباردة، في ذلك الوقت كانت الحكومة الألمانية كريمة مع اللاجئين الأفغان (رويترز)

   

عندما قابلت "سام" في المرة الأولى، طلب مني التكتم على اسمه الحقيقي، لأن أسرته ما زالت تواجه التهديدات في أفغانستان، كما أنه لم يزل عرضةً للترحيل في أي وقت. يومها كان يرتدي وشاحًا رمادي اللون، وسترة حمراء، وبنطال جينز أزرق. التقينا في شهر (ديسمبر/كانون الأول) داخل مكتب ريفوجيو ميونيخ، وهي منظمة غير حكومية تدعم طالبي اللجوء. وصل سام إلى ألمانيا عام 2011، رجل عذب الحديث، أتى من ولاية بكتيا الأفغانية في السابعة والثلاثين من عمره، لكنه لم يعتد برودة الجو بعد، فكان -خلال حديثنا- يضع يديه بين فخذيه لتدفئتهما.

 

عمل أبناء عمومة سام مع الحكومة الأفغانية، أخبرني سام بذلك، وهو ما جعلهم أهدافًا لحركة طالبان، وبعد مساهمتهم في وأد اعتداء دموي خططت له الحركة ذهبوا للتخفي بعيدًا. جاء مُسلَّحو طالبان إلى منزل سام ليبوح لهم بمكان اختباء أبناء عمومته، لكنه أبى ذلك. لقد ساعدهم في مغادرة البلاد. علمت طالبان بذلك لاحقا، فعادوا إلى منزله في ظلام الليل، وأخرجوه من فراشه، واعتدوا عليه، ثم أخذوه معهم. لكنه تمكن من الهرب، لتبدأ رحلته إلى ألمانيا التي كانت حينذاك اختيارا بديهيا، حسب وصفه. واصلت ألمانيا استقبال اللاجئين الأفغان لعقود، منذ غزو 1979 السوفياتي، خلال الحرب الباردة. في ذلك الوقت كانت الحكومة الألمانية كريمةً مع اللاجئين الأفغان.

 

يقول ميسوفيك: "كانت ألمانيا مهتمة بمساعدة هؤلاء الأشخاص، لأنهم ضحايا للاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة"، ويشرح ميسوفيك ذلك، قائلًا إن الثمانينيات قد "شهدت ذروة سياسة الأذرع المفتوحة. كان بإمكانك تسلُّم الرد على طلب اللجوء خلال أسابيع قليلة، ولم تكن حتى في حاجة إلى توكيل محام". أما اليوم، فربما يستغرق الرد على طلبات الأفغان شهورًا، بل عامًا كامل أحيانا. في حين يتسلم الإريتريون والعراقيون والسوريون القرار عادةً خلال أسابيع.

 

قدم سام طلب اللجوء فور وصوله، في عام 2011، لكنه قوبل بالرفض، إذ لم تصدق السلطات قصته. تقول الطبيبة النفسية التي تعالج سام من اضطراب ما بعد الصدمة: "قالوا إن بوسعه العيش في مدينة أو إقليم آخر في أفغانستان، حيث سيكون في مأمن من الانتقام". لكنها تعترض على ذلك، قائلة: "ستصل إليه حركة طالبان أينما ذهب ما دام داخل أفغانستان. ليس هناك مكان آمن"، فشبكة طالبان تنتشر على طول البلاد وعرضها، ويمكن للمنظمة العثور على من ينتقلون داخل البلاد، سواءً عن طريق أعضاء آخرين في الحركة، أو مدنيين مجبرين على التعاون معها". قدم سام ثلاثة استئنافات ضد القرار، لكنها قوبلت بالرفض في كل مرة. كلفه ذلك 4000 يورو، دفعها من مدخراته التي جمعها عندما كان مسموحا له بالعمل. فقد تسلم إخطارًا في (ديسمبر/كانون الأول) 2015 بصدور قرار لترحيله، وسحب تصريح العمل. ما زال سام مقيمًا في مأوى اللاجئين نفسه خارج ميونيخ الذي استقبله عند وصوله عام 2011.

  

لم يعرف كثير من الأفغان الذين تم ترحيلهم أنهم سيستقلون طائرة إلى كابل إلا في يوم المغادرة ذاته، حينما جاءت سلطات الهجرة إلى مخيمهم تطلب منهم إعداد حقائبهم
لم يعرف كثير من الأفغان الذين تم ترحيلهم أنهم سيستقلون طائرة إلى كابل إلا في يوم المغادرة ذاته، حينما جاءت سلطات الهجرة إلى مخيمهم تطلب منهم إعداد حقائبهم
   

وبينما رفض سام الإغراءات المادية التي عرضتها الحكومة في مقابل مبادرته بالعودة إلى أفغانستان، عاد 309 أفغانيين إلى بلادهم عبر البرنامج التطوعي نفسه خلال عام 2015، وارتفع العدد في العام التالي إلى 3326 أفغانيا، وفق تصريح متحدث رسمي بالمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين. لكن سام لن يفكر في فعل ذلك طواعيةً أبدًا -حسبما أخبرني- معللا ذلك بقوله: "إن ركبت طائرة إلى أفغانستان، ربما يأتي مسلحو طالبان إلَيَّ في يوم الوصول أو اليوم التالي لاستجوابي، ومعرفة مكان أقربائي، سيقتلونني، أو سيطلبون مني القتال في صفوفهم، وإن رفضت فسيقتلونني". يستيقظ سام كل يوم بقلب مفعم بالقلق، فقد تُرحِّلُهُ السلطات دون إنذار. لم يعرف كثير من الأفغان الذين تم ترحيلهم أنهم سيستقلون طائرة إلى كابل إلا في يوم المغادرة ذاته، حينما جاءت سلطات الهجرة إلى مخيمهم تطلب منهم إعداد حقائبهم، وفقا لبعض متطوعي "برو أزيل".

 

عبد البصير؛ أبٌ في الثانية والثلاثين من عمره، من أبناء ولاية قندوز، غادر أفغانستان متجهًا إلى ألمانيا في شهر (سبتمبر/أيلول) 2015 معتقدًا امتلاكه فرصة للجوء هناك. لم يكن الأمر مقتصرًا على المعاملة الكريمة مع اللاجئين التي اشتهرت بها ألمانيا آنذاك، بل كان لعبد البصير علاقات عمل تربطه بمنظمات ألمانية في أفغانستان منذ عام 2003، حيث عمل في البداية مترجما، ثم مساعد مكتب، ثم مدير مكتب، ثم موظفًا في آخر الأمر. كما كانت لوظيفة عبد البصير الأخيرة صلة بالوكالة الألمانية للتعاون الدولي، التي بدأت المشاركة في إعادة إعمار أفغانستان في عام 2002. كُلِّفت الوكالة بهذا العمل من قبل الحكومة الألمانية، وتلقت دعم مؤسسات دولية متنوعة، مثل البنك الدولي.

 

لم يرغب عبد البصير في مغادرة أفغانستان، أخبرني بذلك في ميونيخ، حيث أقام مع زوجته وابنتيه الصغيرتين حينها في ملجأ تديره كاريتاس، أكبر منظمة إغاثة كاثوليكية في ألمانيا. لكن مع رحيل القوات الألمانية في (أكتوبر/تشرين الأول) عام 2013 غدت قندوز مكانا غير آمن للعيش، وأخذت الأوضاع تزداد سوءًا، واشتبكت القوات الحكومية في معركة شرسة مع حركة طالبان لتحديد تبعية قندوز، استمرت من (أبريل/نيسان) إلى (أكتوبر/تشرين الأول) من عام 2015. يقول عبد البصير: "أنا أحب أهلي، وكنت أعمل لتطوير بلادي. لطالما طالبتني العائلة بترك المنظمة الألمانية، والتوقف عن العمل مع الأجانب. أخبرتهم أني أحب وظيفتي، ولا أستطيع تركها. كان عملي من أجل تطوير بلادي هو أفضل شيء في حياتي. كان هذا ما أردت فعله دوما".

 

لكن في الرابعة صباحا من يوم 28 (سبتمبر/أيلول) عام 2015، وهو يوم ما تزال أحداثه حية في ذاكرته حتى اليوم، استيقظ عبد البصير على صوت طلقات نارية. إنها حركة طالبان، لقد نجحت في السيطرة على المدينة أخيرا. وفي ظل حًكم طالبان كان الأفغان الذين سبق لهم العمل مع حكومات أجنبية -مثلما فعل عبد البصير- أشد عرضة للخطر. أخبره الأقارب من ذوي الصلات بالحركة أنه مستهدف، وأن عليه مغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن. صحيح، لقد أعلنت الحركة في 13 (أكتوبر/تشرين الأول) انسحاب قواتها من إقليم قندوز، لكن عبد البصير علق على ذلك قائلا إنها ما زالت متواجدة هناك بقوة بصورة غير رسمية عبر الأشخاص الذين تسيطر عليهم ممن لم ينضموا إلى المنظمة رسميا لكنهم على صلة بها. يقول عبد البصير إن تهديدات طالبان استمرت في التصاعد خلال شهر (أكتوبر/تشرين الأول) حتى أجبر على مغادرة البلاد في 23 (أكتوبر/تشرين الأول) من عام 2015، قبل أسابيع من غارة أميركية جوية على مستشفى بقندوز تديره منظمة أطباء بلا حدود، أسفرت عن مقتل 30 شخصًا، بينهم صديق لعبد البصير.

  

undefined

  

وعلى عكس كثير من اللاجئين الذكور الذين سافروا دون صحبة قطع عبد البصير رحلته الطارئة إلى أوروبا برفقة زوجته وابنته، وفي طريقها لمغادرة قندوز مرت الأسرة بنقطتي تفتيش أقامتهما حركة طالبان، وتمكنت من اجتياز كل منهما بشق الأنفس، والفضل يرجع إلى الزوجة، إذ أقنعت المسلحين بتخلية سبيلهم بزعم تضرر طفلتهما التي تجلس داخل السيارة من أصوات القتال، وبعد اجتياز نقاط التفتيش أجبرت الأسرة على قطع طرق ضيقة تمر داخل القرى، هربا من الألغام الأرضية والعبوات الناسفة المزروعة على طول الطريق الرئيس. مرت الأسرة بإيران وتركيا، قبل استقلال قارب صغير إلى اليونان. كان قاربا مصمما لحمل 10 أشخاص، لكنه حمل في هذه الرحلة 35 شخصًا. كان الماء يملؤه باستمرار، شعر عبد البصير في بعض الأوقات أنهم لن ينجحوا في اجتياز هذا البحر، لكنهم نجحوا، ووصل عبد البصير وزوجته وابنته أخيرا إلى ألمانيا في 18 (نوفمبر/تشرين الثاني) 2015.

 

بعد مرور عدة أشهر قدمت الأسرة طلب اللجوء، كان ذلك في (مايو/أيار)، ثم أجريت المقابلة في (سبتمبر/أيلول) 2016، لتمضي أشهر أخرى دون تسلم أي رد. انخفض عدد قاطني مخيم كاريتاس من 350 إلى 150، كان أغلب المغادرين من السوريين الذين منحوا صفة اللجوء، أما البقية فكان أكثرها من الأفغان. اعتاد عبد البصير زيارة جدار معين في المخيم يوميا، فعليه يعلق العاملون أسماء من أرسلت إليهم الخطابات، وهكذا كان يعود عبد البصير كل يوم خائب الرجاء. لكن مع نهاية (مايو/أيار) ظهر اسمه، لقد وصلت الأخبار التي انتظرها طويلا، قوبل طلبه بالموافقة، بعدها بأيام قليلة، في أول أيام (يونيو/حزيران) خلّف هجوم انتحاري دموي 150 قتيلا وأكثر من 300 جريح في كابل. كانت إحدى أكثر الحوادث دموية في تاريخ حرب أفغانستان، نفذت العملية خارج السفارة الألمانية مباشرة، مما أسفر عن إصابة اثنين من الموظفين. لم يعد بوسع ألمانيا تجاهل العنف، فصدر في اليوم التالي قرارا بتجميد ترحيلات اللاجئين الأفغان مؤقتا. ورغم الغموض الذي يحيط بموعد مواصلة برلين العمل بسياسة الترحيل فمن الواضح أنه قرار سيأتي -على الأغلب- إن عاجلا أم آجلا، ورغم الراحة النفسية التي قد يثيرها هذا التجميد فما زالت المعدلات المتدنية لقبول اللاجئين الأفغان مستمرة.

 

يتفهم عبد البصير كونه من الأقلية الأفغانية التي منحت حق اللجوء، كما يتفهم صدمة ألمانيا من عدد اللاجئين الذين قبلوا عرضها النابع من سياسة الأذرع المفتوحة. لكن في الوقت نفسه لا يستطيع عبد البصير دفع الارتباك الذي يصيبه وهو يرى التمييز ضد طالبي اللجوء الأفغان الذي يعتبر ضرورةً في أوروبا، رغم فرارهم من العنف والاضطهاد عينه الذي يفر منه السوريون والعراقيون. إنه يقولها واضحة، هؤلاء الذين يهجرون أوطانهم لا يفعلون ذلك إلا وهو الخيار الوحيد، يقول عبد البصير: "أنا مضطر إلى إعادة بناء حياتي من نقطة البداية، لكني أثق أن الأوضاع ستتحسن. إن الحياة بعيدا عن الوطن حياة شاقة، هذا كل ما في الأمر".

________________________________

 

مترجمٌ عن: (فورين أفيرز)

المصدر : الجزيرة