شعار قسم ميدان

لعنة باريس.. كيف زرعت فرنسا جذور الطائفية في سوريا؟

midan - syria
اضغط للاستماع
   
خلال السنوات القليلة الماضية، ونتيجة للتفكك الذي آلت إليه عدد من الدول العربية وتحلل اجتماعها الوطني وتصاعد الهويات الفرعية الطائفية والإثنية والمناطقية، انكبّ قسم لا بأس به من الباحثين العرب على دراسة السياقات التاريخية والأحداث السياسية التي كانت مسؤولةً عن إنتاج الشرق الأوسط بصورته الحالية، وذلك للوقوف على عوامل تأزم الاجتماع الوطني العربي وفهم تأثيراتها على المشهد العربي الراهن.

وقد تناول هذا الاهتمام البحثي العربي بصورة خاصة "نصوص الاتفاقيات والمعاهدات وقرارات المؤتمرات الدولية الكبرى: مثل اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، ومؤتمر سان ريمو.. إلخ، وذلك انطلاقًا من اعتبار هذه الصيغ قد مثلت مشاريع حاسمة على طريق فرض السيطرة والتجزئة اللتين حملتهما الدول الكبرى للمنطقة آنذاك"[ص25]

بيد أن هذا الاهتمام بهذه النصوص والاتفاقيات الدولية -كما يشير المؤرخ د. وجيه كوثراني- قد أغفل البحث عن القاعدة الاجتماعية/ الاقتصادية لتلك المشاريع الدولية، والمتمثلة بـ "مصالح القوى الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية داخل هذه الدول من جهة، وبالتركيب البشري والاجتماعي للبلاد التي هي هدف السيطرة والتجزئة من جهة أخرى"[ص25]

من هذا المنطلق، تأتي أهمية العمل الذي قدمه المؤرخ اللبناني د. وجيه كوثراني والذي يحمل عنوان "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين: السكان والاقتصاد وفلسطين والمشروع الصهيوني قراءة في الوثائق الدبلوماسية الفرنسية"، حيث يقوم كوثراني باستعراض ودراسة عدد من الوثائق الدبلوماسية الفرنسية التي تناولت موضوعات اجتماعية واقتصادية وعسكرية وسياسية عن بلاد الشام مطلع القرن العشرين كتبها خبراء وعلماء وأساتذة جامعات أُرسِلوا في بعثات لدراسة وضع البلاد عيانيا.

يقع الكتاب -الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- في قرابة أربعمئة وستين صفحة، موزعة على ثلاثة فصول وملحق يتضمن وثائق من الأرشيف الفرنسي غاية في الأهمية، تحتوي على دراسات وتقارير وتحليلات لبلاد الشام، وتتناول بصورة مفصلة دراسة مذاهب وطوائف بعينها، وزعامات قبلية وطائفية مؤثرة.

 كتاب
 كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين: السكان والاقتصاد وفلسطين والمشروع الصهيوني قراءة في الوثائق الدبلوماسية الفرنسية" (مواقع التواصل)
مقدمة حول أطروحة الكتاب

كان التساؤل المركزي الذي انطلق منه الدكتور وجيه كوثراني في كتابه قد تمثل في الصيغة التالية: "كيف تعامل الاستعمار الفرنسي مع أحوال بلاد الشام: أحوال السكان عبر انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية؟ وأحوالهم عبر توزعهم في بيئاتهم المدينية والريفية والجبلية؟ وأخيرا أحوالهم عبر اجتماعهم وأحزابهم ونخبهم ومعاشهم واقتصادهم.. إلخ؟" [ص19]

بطبيعة الحال دفعت هذه الأسئلة د. وجيه باتجاه اختيار وثائق بعينها من الأرشيف الفرنسي، وقد جاءت هذه الوثائق على صيغ متنوعة، فمنها ما كان عبارة عن دراسات ميدانية  وحقلية لطائفة أو منطقة أو قرية أو قبيلة، ومنها ما جاء على شكل تقارير اقتصادية أعدها خبراء ورجال أعمال يبحث فيها أصحابها عن فرص لاستثمارات مجدية، ومنها ما قدمها خبراء أمنيون وسياسيون بهدف توجيه السلطات الاستعمارية باتجاه تفضيل مناطق نفوذ معينة، نظرا لما تمثله من قيمة جيو/ سياسية أو اقتصادية.

بالمجمل، تُظهِر هذه الوثائق تذبذب المشروع الاستعماري الفرنسي بين الحفاظ على وحدة بلاد الشام -أو ما كان يعرف بسوريا الطبيعية آنذاك- وذلك من منظور جيو/ اقتصادي، حيث كانت المصالح الاقتصادية الفرنسية -كما أوصت التقارير الاقتصادية التي أعدتها غرفتي تجارة ليون ومرسيليا-  تتطلب أن يبقى السوق السوري موحدا "على امتداد المصالح الفرنسية من كيليكيا وحتى مرافئ فلسطين"[ص19]

وبين تقسيم سوريا وتجزئتها كما تتطلبها وتقتضيها عملية الضبط والسيطرة والتحكم في المجتمع من زاوية جيو سياسية/ أمنية، وقد كان التوجه الأخير، "ضبط المجتمع عبر التجزئة الجيو/ سياسية القائمة على خصوصيات الطوائف، كان هو الأغلب في الوثائق الدبلوماسية"[ص20]، وهو الذي تحقق تاريخيا في نهاية المطاف.

هكذا رأى المستعمر أنه لم يكن ثمة (دولة / أمة) قد تحققت طوال تاريخ بلاد الشام، وبهذا يكون المستقبل
هكذا رأى المستعمر أنه لم يكن ثمة (دولة / أمة) قد تحققت طوال تاريخ بلاد الشام، وبهذا يكون المستقبل "مفتوحا على تشكيل أمم -وبالتالي دول- وفقا للإرادة الفرنسية"
 

يشير كوثراني إلى أن أهم ما تنبئ عنه هذه الوثائق كان قد تمثل في كشفها عن النظرة التي حملها المستعمر الفرنسي للأرض والسكان، حيث نلحظ أن هذه الوثائق تنحو باتجاه نزع صفة "الأمة" عن عموم سكان بلاد الشام، وتستبدلها بالحديث عن كيانات إثنية وطائفية، بحيث تغدو هذه الأخيرة في الخطاب الاستعماري أمما أقوامية مرشحة- ومهيأة- لإقامة دولها المستقلة على النمط الأوروبي المتمثل في صيغة (الدولة/ الأمة).

وهكذا رأى المستعمر أنه لم يكن ثمة (دولة / أمة) قد تحققت طوال تاريخ بلاد الشام، وبهذا يكون المستقبل "مفتوحا على تشكيل أمم -وبالتالي دول- وفقا للإرادة الفرنسية"، وهو ما نقرأه بوضوح في المراسلات التي جرت بين المندوب السامي الفرنسي في سوريا الجنرال غورو، وبين رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك ميلران عام 1920، أو ما أورده أحد المستشارين الفرنسيين في مذكرة قال فيها:

التاريخ -كما يقول كوثراني- "لا تصنعه المؤامرات، لكن لميزان القوى بين الأطراف، وللعلاقات المنسوجة بين قوى الداخل وقوى الخارج، دورا في ترجيح ما هو محتمل وممكن

"في البلاد التي كانت سابقا جزءا من الإمبراطورية أدى التعارض التاريخي المزمن بين مفهومي الدولة والأمة إلى نمو عقلية الفوضى، حيث كُتب على السكان أن يتشكلوا في تجمعات أقوامية صغيرة، وهذا الواقع مناسب لنا لأنه يجعل من تعميم المعارضة أمرا صعبا في البلاد، لكن -ومن جهة أخرى- فإن تفتيتا أكبر من شأنه أن يضعنا في وضع مساوٍ في الإرباك، لذا من المناسب لنا أن ندفع بجدية لدراسة التجمعات الإثنية المهيأة لتشكل الاستقلالات الإقليمية الأولى"[ص20]

لقد تأسس المشروع الاستعماري الفرنسي إذا على التركيز والاهتمام بالخصوصيات الطائفية وتعميقها، وهنا نجد أن ثمة خِداعا ضمنيا وصريحا بين المؤسسات السياسية الاستعمارية وبين الجهد المعرفي الذي بذله المستشرقين في التنقيب والبحث في تاريخ الطوائف والتركيز على خصوصياتها؛ بحيث يمكن القول إن "علما خاصا بالإمبريالية تجند له وسائل البحث في التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا، تقدمه تلك التقارير منهجا وموضوعا"[ص27]

إلا أنه ينبغي القول كذلك إنه لم يكن بالإمكان تحقق هذا المشروع السياسي التجزيئي الاستعماري ما لم تكن ثمة "معطيات واحتمالات من الواقع تتقاطع مع مشاريع السيطرة الإمبريالية وفق صيغ الالتحاق بالمؤسسة على نموذج الدولة/ الأمة.. إلا أن هذا التقاطع لا يعني التوافق الكامل بين المشروع الفرنسي واحتمالات الواقع ومعطياته. ذلك أن الواقع المحلي كان يحمل بدوره احتمالات ومشاريع أخرى تتعارض مع المشاريع الفرنسية، أي أن الواقع كان يقدم أشكالا من المقاومة للمشروع الفرنسي، والسؤال الذي يجب أن يؤكده البحث: ما هو حجم هذه المقاومة؟ وما كان أفقها التاريخي؟[ص31]

لا يتعلق الأمر -إذا- بمؤامرات جرت حياكتها في الخفاء، فالتاريخ -كما يقول كوثراني- "لا تصنعه المؤامرات، لكن لميزان القوى بين الأطراف، وللعلاقات المنسوجة بين قوى الداخل وقوى الخارج، دورا في ترجيح ما هو محتمل وممكن، وما هو مسموح به أو ممنوع".[ص21]
 

استعراض لفصول الكتاب

يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام وملحق تضمن مجموعة من الوثائق المهمة المستقاة من الأرشيف الفرنسي، والتي تعد مادة تاريخية غنية وثرية للعمل البحثي والتحليلي، وقد حمل القسم الأول عنوان: معطيات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية، بينما جاء القسم الثاني بعنوان: فرنسا والاقتصادي السوري، وأخيرا تناول القسم الثالث مشاريع فرنسا في السيطرة والتجزئة: طوائف وإثنيات ومشاريع.
 

القسم الأول: المعطيات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية

undefined

يتناول القسم الأول من الكتاب جوانب إحصائية لبلاد الشام في مطالع القرن العشرين وذلك بحسب: توزع الطوائف والإثنيات في الولايات، ثم يقدم إحصاءً آخر تبعا لتوزع السكان بين المدن والأرياف، وكذلك يقدم إحصاء ثالثا  بحسب التوزيع الديموغرافي للسكان بين المدن الساحلية والمدن الداخلية.

 لعل أبرز النتائج التي يذكرها كوثراني عقب إيراده لتلك الإحصاءات أنها لم تكن تعكس الواقع بدقة، فقد غلب عليها الطابع التخميني، ويرجع ذلك إلى أمرين رئيسيين: الأول أن تلك الإحصاءات كانت ذات وظيفة دعائية تريد إبراز أهمية سوريا بالنسبة إلى المصالح الفرنسية، أما الثاني فيرجع إلى أن كل طائفة كانت تعمد إلى المبالغة في تقدير تعدادها وذلك "بسبب التسابق على توزيع المناصب في الدولة الناشئة والهيمنة على أجهزتها"[56]

يرى ووليرس أن المدن شكلت على الدوام مراكز الانبعاث الديني والانشقاقات المذهبية، دون أن يعني ذلك أن الريف ظل بمنأى عن آثار تلك الدعوات الدينية المنبثقة من المدينة.

 إضافة لذلك، يتوقف كوثراني عند ظاهرة بالغة في الأهمية، وهي ظاهرة التعدد الطائفي وغلبة الطائفة الواحدة في بعض المناطق دونًا عن مناطق أخرى، والتباين بين المدينة والريف المجاور لها من حيث الانتماء الطائفي، فحماة -على سبيل المثال- مدينة سنية بينما ريفها علوي بدوي، أما اللاذقية والتي تعد عاصمة دولة العلويين فتقدم وضعا أكثر تناقضا، فجسم المدينة لم يكن آنذاك يحوي علويين، بينما يقطن ضواحيها فلاحون علويون فقط، وهكذا يمكننا الحديث عن "جزر أقليات منفصلة في بحر إسلامي سني".

لتفسير هذه الظاهرة يستعين كوثراني بأطروحة الفرنسي جاك ووليرس التي يقدم بها تفسيرا للانبعاث الديني في مدن المشرق والانشقاقات المذهبية فيها، حيث يرى ووليرس أن المدن شكلت على الدوام مراكز الانبعاث الديني والانشقاقات المذهبية، دون أن يعني ذلك أن الريف ظل بمنأى عن آثار تلك الدعوات الدينية المنبثقة من المدينة.

 
إلا أن ووليرس يرى أن التجزؤ الديني في أرياف المشرق مرّ بعمليات تاريخية معقدة، يلخصها كوثراني في ثلاث حالات[ص57]:

الأولى: مقاومة العناصر الريفية المرتبطة بآلهتها السابقة اجتياح العقائد الدينية الجديدة التي نشأت في المدينة، ما ينتج عنه انكفاؤها على نفسها واستمرار تقاليدها الدينية، وتلك هي حالة أكثرية الفرق المسيحية المعزولة في بحر الإسلام.


الثانية
: قد ينتج عن عملية الانشقاق الديني بروز طوائف نشطة وهجومية لكنها مضطهدة، فتنسحب هذه إلى الريف تجنبا لخطر السلطة المركزية ولكي تنمو في أمان، ولعل المثال الأبرز لهذه العملية هو المذهب الإسماعيلي الذي نشأ في منطقة ريفية تدعى السلمية شرق حماة، وكذلك الحال بالنسبة للأرمن الذين انسحبوا إلى قاديشا.


الثالثة
: تكون نتيجة لتدخل السلطة التي تعمد إلى التغيير الديموغرافي كإحدى وسائلها في الضبط والهيمنة وفرض السيطرة،  حيث يشير ووليرس إلى أن المدن شكلت نقاط ارتكاز ومراكز أمان للحكام وبخاصة في العهد العثماني، لذا فقد كانت السلطة على الدوام تتجه نحو نقل وتوطين قوى موالية لها في عدد من المدن سواء كان ذلك لأغراض سياسية أو اقتصادية، الأمر الذي أدى على المدى البعيد إلى الانقطاع بين المدينة وريفها المجاور بحيث قلما تجد عوائل مدينية ذات أصول تعود للريف المجاور.

ينهي كوثراني هذا القسم بالحديث عن طوائف الجبل التي انكفأت على نفسها، وهما العلويين والدروز، مقدما نبذة عن تاريخ استيطانها في الجبال، ومستعرضا بُناها الاجتماعية والاقتصادية، وعلاقاتها بالسلطة العثمانية، ومواقفها من الاستعمار الفرنسي.

 

القسم الثاني: فرنسا والاقتصاد السوري

undefined

يستعرض كوثراني في هذا الفصل التقارير الاقتصادية التي أعدها خبراء فرنسيون منذ عام 1912 حيث ازداد اهتمام غرف التجارة الفرنسية ببلاد الشام وخاصة في مسألة زراعة التوت ومصانع الشرانق  المرتبطة بإنتاج الحرير في مدينتي ليون ومرسيليا الفرنسيتين.

يتتبع كوثراني مناهج الرساميل الفرنسية وعلاقتها بالطوائف المحلية، حيث يلحظ أن تلك الرساميل كانت قد ارتبطت بزعامات مسيحية -خاصة الكاثوليكية منها- تولت زمام حركة التصدير والاستيراد من أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، التي كانت قد حازت على امتيازات اقتصادية في أواخر الحقبة العثمانية تحت ذريعة حماية الرعايا المسيحيين في الشام.

يتوقف كوثراني عند تقرير باول هوفلان رئيس البعثة الفرنسية التي أُوفدت إلى سورية من قبل غرفتي تجارة ليون ومارسيليا، والذي تحدث فيه عن المسألة الزراعية وتطوير الاقتصاد الزراعي السوري وما يمثله ذلك من قيمة للاقتصاد الفرنسي، وما يفتحه من آفاق للرأسماليات الفرنسية.

في التقرير يبدي هوفلان تفاؤلا بشأن مستقبل الإنتاج الزراعي في سوريا، حيث يشير إلى أن نسبة مساحة الأراضي المزروعة إلى الأراضي الصالحة للزراعة في الولايات "التي يجب أن يمتد عليها الانتداب الفرنسي يعادل 20% فقط"[ص130]، ما يعني أن ثمة مساحات زراعية شاسعة يمكن استغلالها واستثمارها بصورة جيدة.

لكن هوفلان يشير إلى أنه لكي يتحقق استغلال تلك المساحات الزراعية، فإنه لابد من تحديث النظام السياسي والاقتصادي السوري بحيث يرتقي إلى مصاف الإنتاج الرأسمالي الحديث، وهنا يقترح هوفلان البدء في إجراء إصلاحات سياسية واسعة على النظام السياسي، ذلك أن "الانعتاق السياسي للبلاد يؤدي إلى انعتاقها الاقتصادي"[ص133]، وأولى خطوات الإصلاح السياسي تتمثل في سيادة الدولة على العقار، وذلك بمصادرة أراضي "الميري" التي تبقى بدون زراعة لمدة ثلاث سنوات، كما يوصي بتفتيت الأملاك الإقطاعية الواسعة وتشجيع انتقال الملكية إلى الفلاحين.

كما يدعو هوفلان إلى استدخال الأساليب الرأسمالية الحديثة في عملية الإنتاج الزراعي، داعيا إلى "إنشاء مدارس زراعية، وحل مشكلة غياب الرساميل ووقوع الفلاحين تحت وطأة تراكم الفائدة التي يفرضها المرابون، بإنشاء مصارف للتسليف الزراعي على غرار ماحصل في مصر"[ص134]

undefined

يلخص هوفلان مخططه الرأسمالي قائلا  "إن التقدم التقني والإصلاح المالي يستطيعان القيادة إلى تحسين أولي محسوس للاقتصاد الزراعي السوري. أما بقية الإصلاحات الممكنة، فتفترض تحولا عميقا في البنيان المادي والاجتماعي والثقافي، وهذا لا يتحقق إلا بمرور الزمن."[ص135]

في واقع الحال، لم يجد مشروع هوفلان التحديثي للاقتصاد الزراعي السوري صداه على أرض الواقع، ذلك أن تحقيق هذا المشروع الاقتصادي كان يتطلب مواجهة البنى العضوية التقليدية والقوى الإقطاعية، بينما اتجهت الإدارة الفرنسية في مشروعها السياسي- الذي تطلب قبل كل شيء ضبط الأوضاع في سورية- نحو "احتواء واستيعاب هذه القوى الاجتماعية (الطوائف- الأعيان – القبائل ..الخ) وتأطيرها في أشكال من الإدارات والاستقلالات المحلية"[ص136]، ما يعني أن متطلبات التحديث الاقتصادي -كما اقترحها هوفلان- اصطدمت بمتطلبات عملية الهيمنة السياسية للإدارة الفرنسية القائمة على أساس استقطاب الزعامات الطائفية العشائرية.

بعد ذلك ينتقل كوثراني للحديث عن الأهمية التجارية لسورية بالنسبة لفرنسا، وعن مشاريع خطوط النقل والمواصلات وشق الطرقات بين الموانئ والمدن الداخلية التي اعتزمت الإدارة الفرنسية إقامتها على الأراضي السورية وذلك لتسهيل حركة التجارة، وبغية توحيد السوق الداخلية لبلاد الشام واستلحاقها بالرأسمالية الفرنسية.

ينهي كوثراني هذا القسم بالحديث عن أشكال المقاومة المحلية حيال الغزو الاقتصادي الغربي، حيث لعب التنظيم الاجتماعي للحرف في المدن السورية دورا مهما في الوقوف "لا  في وجه تغلغل السلع الأوروبية فحسب، بل كذلك في وجه تغيير تقنية الحرف وأشكال تنظيم العمل فيها."[ص165]

يورد كوثراني شكلين من أشكال مقاومة الاقتصاد السوري الأهلي للسياسة الاقتصادية الفرنسية وهما، أولا: مقاومة الحرف وأشكال تكيفها مع تدفق السلعة الأوروبية، وقد عبر عن هذه المقاومة وهذا التكيف كتاب "قاموس الصناعة الشاملة" الذي ألفه المفكر السوري الشهير محمد علي كرد، والثانية: مقاومة تجار المدن الداخلية السورية الذين تضرروا نتيجة إغراق السوق بالسلع المصنعة، ونتيجة تجزئة بلاد الشام وإقامة حواجز جمركية بين القسم الجنوبي (فلسطين) والقسم الشمالي، وقد عبر عن هذه المقاومة البيان الذي أصدره تجار الشام عام 1922 مؤكدين فيه ارتباطهم الوجداني والديني والاقتصادي الوثيق بالأراضي الفلسطينية.

شكل الحرفيون مع زبائنهم الموزعين في مناطق إسلامية شاسعة رابطة حضارية عميقة، بحيث ارتبط امتداد هذا السوق بالرابطة الدينية الحضارية كذلك
شكل الحرفيون مع زبائنهم الموزعين في مناطق إسلامية شاسعة رابطة حضارية عميقة، بحيث ارتبط امتداد هذا السوق بالرابطة الدينية الحضارية كذلك
 

يشير كوثراني إلى أن هذه المقاومة لم تكن نابعة من "موقف ديني متحجر" ، أو من "عقلية رافضة للتحديث والعلم"، كما كان يذهب إلى ذلك المفكرين والمؤرخين الكولونياليين، بل نتيجة للترابط العميق بين الإنتاج المهني والحرفي الذي استمر لأكثر من اثني عشر قرنا وبين القيمية الإسلامية، ذلك أن "العمل في المهنة أو الحرفة لم يكن منفصلا عن أخلاقياته التي يشكل تضامن رفاق المهنة دعامة لها،  دعامة إيمانية، إنسانية، بطولية ومهنية معا في آن"[ص166]

إضافة لذلك، فقد شكل الحرفيون مع زبائنهم الموزعين في مناطق إسلامية شاسعة (من فلسطين إلى مصر والسودان غربا، وإلى بغداد شرقا، والأناضول شمالا، والحجاز جنوبا) رابطة حضارية عميقة، بحيث ارتبط امتداد هذا السوق بالرابطة الدينية الحضارية كذلك، ما جعلهم يرفضون إحلال الرابطة مع المركز الكولونيالي محلها.

 

القسم الثالث: مشاريع فرنسا في السيطرة والتجزئة: طوائف وإثنيات ومشاريع

يستعرض كوثراني في هذا القسم المشاريع التي طرحها المستعمر الفرنسي لتقسيم بلاد الشام بعيد الحرب العالمية الأولى، ويتضمن القسم "مواد تاريخية مقتبسة من مراسلات القنصليات ونياباتهم في مدن بلاد الشام (بيروت، دمشق، طرابلس.. إلخ) ومراسلات السفارات الفرنسية في إسطنبول ولندن والقاهرة إلى وزارة الخارجية الفرنسية"[ص29].

يتتبع كوثراني المشاريع السياسية الفرنسية في بلاد الشام وذلك تبعا لمحددين رئيسين هما: موازين القوى الدولية والعلاقة التنافسية بين الإمبرياليات الغربية -وبخاصة إنجلترا- من جهة، والعلاقة مع الطوائف والقوى المحلية من جهة أخرى، وقد جاءت تلك المشاريع على النحو التالي:

1-الصراع الفرنسي/ البريطاني (1912-1913) وانعكاسه على السياسات الفرنسية في علاقتها بالطوائف المحلية، حيث يشير كوثراني إلى أن إنجلترا في تلك المرحلة الزمنية كانت قد تبنت مشروع خلافة سنية عربية، وهو ما يعني تهديد المصالح الفرنسية في بلاد الشام، الأمر الذي ردت عليه فرنسا بتبني سياسات تقوم على التركيز على خصوصيات الطوائف والتدخل تحت مظلة حماية حقوقها وأبرز تلك الطوائف كان الكاثوليك والموارنة.

2- مشروع "سورية الطبيعية": بين أعوام 1913 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، وهو المشروع الذي نادت به غرف تجارة ليون ومرسيليا كما تبناه رجال الأعمال في مذكراتهم التي أوردها كوثراني، وقد كان طموح هؤلاء يتلخص في الحفاظ على وحدة السوق في بلاد الشام -أو ماكان يعرف بسورية الطبيعية- أمام المنتجات الفرنسية، وكذلك من أجل استيراد المواد الخام إلى فرنسا.

undefined

إلا أن موازين القوى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي مالت لصالح بريطانيا ومزاحمتها لفرنسا في بلاد الشام، حالت دون تحقيق ذلك المشروع، وقد اعترضت الرأسمالية الفرنسية على التقسيم الذي اقترحته اتفاقية سايكس/ بيكو، معتبرة أن الحق التاريخي لفرنسا يشمل "سورية الطبيعية" كلها مع كليكيا وفلسطين.

وفي سياق مواجهة فرنسا للمشروع الإنجليزي القائم على إيجاد "خلافة عربية سنية"، أخذت الدبلوماسية الفرنسية بالاهتمام بالطوائف الإسلامية غير السنية كالدروز والشيعة والعلويين، باحثةً عن إقامة علاقات دبلوماسية وتحالفات مع وجهاء وزعماء تلك الطوائف، ومستعينة بعدد من المستشرقين الذين أخذوا يدرسون تلك الطوائف وينقبون عن خصوصياتها العقائدية والشعائرية والثقافية التي تفصلها عن التيار السني العام.

وفي هذا الصدد يورد كوثراني عدة دراسات ميدانية وحقلية واجتماعية قامت بها السلطات الفرنسية لعدد من الطوائف، منها دراسة عن الشيعة الإمامية وزعيمها كامل بك الأسعد، ودراسة أخرى عن الدروز أرسلها الجنرال غورو، ودراسات عن القبائل البدوية والجركس وغيرهم!

وقد ركزت تلك الدراسات على خصوصيات تلك الطوائف والجماعات، وطرحت "كيفية الاستفادة من خصوصياتها تلك لتنظيم سوريا تنظيما يسمح بضبط الوضع ويمنع بروز أي تحرك قومي معاد لفرنسا، وموحد لمختلف الفئات والطوائف"[ص31].

وبناء على هذه الرؤية الإثنولوجية للسكان، وهذا الفهم الفرنسي لطبيعة التركيب الطائفي والأقوامي لبلاد الشام، "يبدأ السجال السياسي والدبلوماسي بين المسؤولين الفرنسيين حول أشكال تنظيم سوريا. وأكمل شكل من أشكال السجال تقدمه مراسلات رئيس الوزراء الفرنسي ميلران مع الجنرال غورو المندوب السامي لفرنسا على سوريا"[ص31]، تلك المراسلات التي أخذت تقترح صيغا إدارية/ سياسية مختلفة، تقوم بالمجمل على التركيز خصائص الطوائف وتعميقها في أطر سياسية إدارية مستقلة.

بالمجمل، فقد حمل الواقع الاجتماعي/ الاقتصادي للسكان في بلاد الشام في مطلع القرن العشرين بذور التقاطع مع المشاريع الفرنسية التجزيئية، إلا أن التقاطع لا يعني التطابق الكامل بين المشروع الغربي واحتمالات الواقع ومعطياته، وهو ما يعني أن الواقع كان قد أنتج مشاريع مقاومة للهيمنة الاستعمارية من جهة، كما أنه قد أنتج أشكالا من الاستلحاق به من جهة أخرى.

مع مطلع القرن العشرين، لم تعد السلطة العثمانية تعبر عن جسد اجتماعي متجانس، وقد بلغ التفكك الداخلي الذي تعمق مع التغلغل الاقتصادي الثقافي الأوروبي ذروته حتى وصل إلى حد الانفجار الكامل
مع مطلع القرن العشرين، لم تعد السلطة العثمانية تعبر عن جسد اجتماعي متجانس، وقد بلغ التفكك الداخلي الذي تعمق مع التغلغل الاقتصادي الثقافي الأوروبي ذروته حتى وصل إلى حد الانفجار الكامل
 

في واقع الحال، ما إن أخذ المشروع الإمبريالي الغربي بطموحاته الرأسمالية العريضة بالتمدد داخل الإمبراطورية العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، والذي سمح به نظام الامتيازات الأجنبية الذي أقرته السلطنة العثمانية، حتى بدأت بتكوين قواعد وقوى اجتماعية/ اقتصادية موالية لها ومرتبطة بها في تصاعد مستمر، بينما كان المشروع العثماني وقواه الاجتماعية في تراجع وانحسار دائم أمام المد الغربي المتسارع.

ومع مطلع القرن العشرين، لم تعد السلطة العثمانية تعبر عن جسد اجتماعي متجانس، وقد بلغ التفكك الداخلي الذي تعمق مع التغلغل الاقتصادي الثقافي الأوروبي ذروته حتى وصل إلى حد الانفجار الكامل بين مصالح وجماعات متضاربة، وعلى وجه الإجمال فبالإمكان التمييز بين ثلاثة قوى رئيسية تبعا لتقسيم كوثراني[ص178]:

1-القوى الموالية للمشروع العثماني: وهي القوى المؤلفة بالدرجة الأولى من قوى الإنتاج التقليدية المتمثلة في طبقة العلماء، وأصحاب الحرف، والأعيان، وتجار المدن …إلخ، وهؤلاء جميعهم يؤلفون النسيج السني العام على الأغلب.

لقد طرحت مسألة تقسيم إرث الرجل المريض -كما كانت تسمى الإمبراطورية العثمانية- عدة مسائل فرعية بمستويات مختلفة، من "مسألة الخلافة" وإلى "المسألة العربية"، ثم ظهرت "المسألة السورية"

2-القوى الموالية للمشروع الغربي: وهي تلك القوى التي تكونت نتيجة لتغلغل الرأسمالية الغربية في المنطقة، والتي أخذت ترتبط بها، وهؤلاء معظمهم ينتمون إلى طوائف غير إسلامية، وينتمون إلى تيار مسيحي مديني واسع.

وأخيرا هناك قوى الهامش المعزولة في الريف وفي إطار بنية اقتصادية مغلقة، وهي القوى التي حافظت نسبيا على استقلال بناها الداخلية من تغلغل السلطة المركزية فيها، وأبرز أمثلتها طائفتي الدروز والعلويين، ويضاف لقوى الهامش كذلك القبائل البدوية المرتحلة، وقد بقيت هذه القوى تناور بين رفضها لمشاريع السلطات الاستعمارية وقبولها بها بحسب مصالحها.

بصورة عامة، كانت هذه القوى الاجتماعية/ السياسية الفاعلة في بلاد الشام في مطلع القرن العشرين إبان انهيار الحكم العثماني، وقد امتلك كل منها مشروعه ورؤيته الخاصة "للدولة البديلة" عن الدولة العثمانية، وقد اختلفت هذه المشاريع تبعا لعوامل عديدة، على رأسها الانتماء الطائفي وتصور الأمة، والموقع الاقتصادي للفئات الاجتماعية، وبناء على هذه العوامل جاءت مواقف كل فئة وطائفة إما داعمة للمشاريع الغربية أو مناهضة لها.

لقد طرحت مسألة تقسيم إرث الرجل المريض -كما كانت تسمى الإمبراطورية العثمانية- عدة مسائل فرعية بمستويات مختلفة، من "مسألة الخلافة" وإلى "المسألة العربية"، ثم ظهرت "المسألة السورية" وبعدها "اللبنانية" و"الدرزية" و "العلوية"..إلخ،  وقد أدت المعالجة الفرنسية لهذه المسائل إلى تعميق المسألة الطائفية في بلاد الشام على وجه العموم وتفاقمها، بحيث يمكن القول إن هذا الانفجار الطائفي الذي نعيشه اليوم ليس سوى استمرارية لما تم التأسيس له منذ حقبة الاستعمار.

_____________________________________________

*جميع الاقتباسات في التقرير مأخوذة مباشرة من المصدر الأصلي "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين"، وقد وضعت بجانبها أرقام الصفحات.

المصدر : الجزيرة