شعار قسم ميدان

فتاوى في خدمة الاستخبارات.. كيف فضح اغتيال خاشقجي "شيوخ الدم"؟

ميدان - مشايخ بن سلمان

اضغط للاستماع


"ومن أعظم ما يُخشى على من يَدخل على الملوك الظلمة أن يُصدقهم بكذبهم، ويُعينهم على ظُلمهم ولو بالسكوت فلا يُنكر عليهم؛ ورُبَّما حَسَّن لهم أفعالهم القبيحة تقربا إليهم لِيُحسن موقفه عندهم"

(ابن رجب الحنبليّ)

منذ وصول ابن سلمان إلى منصب وليّ العهد وقد جَنّد طائفة من المغردين الإلكترونين فيما عُرف "بالذباب الإلكتروني". كان هؤلاء المغردون مدفوعين بالمال والتجنيد تارة، وبالشعور بالولاء والانتماء أحيان أخرى، وشكّل الخيط الناظم لهم بالسير على خط التبرير للسلطة، وتهيئة الشعب السعودي لقبول أي توجه سياسي اجتماعي ثقافي.

تكوّن مع هذا الذباب المنظم، تنظيم آخر على مستوى شيوخ السلطة، فقد حَرص بعض الدعاة على التبرير الدائم والمطلق لأفعال المملكة وسياسة ابن سلمان مهما بلغت. وهو ما حرص محمد بن سلمان، على تنظيم خيوطه المتناثرة، حيث لم يقبل منهم انزواءً أو سكوتا، فإما أن تُغرد لي، أو أن تجد نفسك داخل السجون. في هذا السياق، تصدّر للتعليقات الإعلامية والتصريحات الصحفية والتغريدات حول المعتقلين والحريات أربعة من الشيوخ ذوي الشعبية في العالم الإسلامي وهم: صالح المغامسي، وعائض القرني، ومحمد العريفي، وعبد الرحمن السديس، حتى كانت آخر تصريحاتهم مرتبطة بصورة مباشرة فيما يتصل بمقتل الصفحي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية.

صالح المغامسي.. توقف الدموع

"فإن عاصفة الحزم إنما هي جهاد شرعيّ لا شُبهة فيه"

(صالح المغامسي)

صالح المغامسي، الشَيخ البَكّاء كما يعرفه مُحبوه، والذي تظهر عليه أمارات "الرقة والمسكنة"، بيد أن دموعه تلك، والتي كثيرا ما تنهمر في دروسه، سوف تجف في كل مشهد يتصل بوليّ الأمر وولي عهده مهما بلغ الأذى، وسيتجه حديثه إلى الناس بأن يصبروا ويثقوا في القيادة، وإن ضربت ظهورهم وأخذت أموالهم وقتل المعارضون داخل قنصليات بلادهم!

صورة لصالح المغامسي مع محمد بن سلمان (مواقع التواصل)
صورة لصالح المغامسي مع محمد بن سلمان (مواقع التواصل)

في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول، وعلى موقع إعلان الولاء المفضل لدى المشايخ الدينيين السعوديين "تويتر"، غرد صالح المغامسي معلقا على تصريحات محمد بن سلمان لوكالة بلومبيرغ في شأن الصحفي جمال خاشقجي: "دراية المسؤول، وثقة القائم على أمور الدولة، والاعتزاز بالدِّين، والافتخار بالبعد الزمني والمكاني للوطن، ثمّ التغافل عن الجعجعة والهرطقة العارضة لمصلحة أكبر. سلمّك الله يا أبا سلمان".

لن تلبث ثقة المغامسي طويلا ببراءة سلطته، فقد اضطرت السلطات السعودية في نهاية المطاف وبعد الضغوطات الدولية والتسريبات التركية، للاعتراف على مضض بأن خاشقجي مات بدراية من أجهزة المخابرات داخل القنصلية، وهو ما حمل سعيا من السلطات السعودية بتبرئة القيادة السعودية، والتي يقف بن سلمان على الرأس منها. تصريح دفع المغامسي لتغيير وجهة الحديث مرة أخرى. ففي اتصال هاتفي من قناة العربية أدلى فيه المغامسي برأيه حول مقتل خاشقجي، صرح بأن محمد بن سلمان لم يأمر بقتله، وإنما أراد من بعض رجاله احتجاز خاشقجي ومفاوضته للرجوع إلى بلده، واصفا فعل ابن سلمان بالرسول حينما كان يُرسل قادته. ولم يكتف المغامسي بهذا الحد، وإنما واصل المغامسي تبريره لقتلة خاشقجي أن فعلهم كان مثل فعل خالد بن الوليد حين أخطأ في قتل خالد بن نويرة  في حروب الردة دون إذن من القيادة السياسية!! [1]

حادثة خاشقجي ربما تمثل الصورة الأحدث في استدعائها لسياق تعامل المغامسي مع سلطة بلاده، لكن الحال بين التبرير للحاكم والمغامسي ممتد، فالمغامسي لا تفوته مناسبة إلا وحرص على إظهار طاعته لولي الأمر وفطنة ولي العهد، واصفا أفعاله مع أزمة خاشقجي بتغريدة له، بالبصيرة والحكمة من الانزلاق إلى مهاترات يحب أعداؤه جره إليها. وهو السياق الذي سار عليه المغامسي مسبقا في كونه الزائر الديني الدائم للشؤون المعنوية للجنود في عاصفة الحزم.

وفي مهاتفة سابقة لصالح المغامسي مع قناة العربية أيضا بشأن معرفة الرأي الديني في قرار الملك سلمان بشن عاصفة الحزم في اليمن، عبّر قائلا: "إن المسلمين اليوم يُجلّون سلمان بن عبد العزيز، لأن هذا القرار حازم، وقد يُفهم من كلامي شيء من الطائفية لكن هذا هو الحق"، وليعقب على تعليقه برفضه لأي دعوة إيرانية للهدنة، رافضا قبولها بالمطلق ما لم تكن سعودية، فيقول: "لا يصح لإيران أن تدعو إلى هذا، لكن يُقبل هذا من السعودية قادة التحالف المبارك. فإذا غلب على الظن عند القيادة السعودية عندنا أن سلطان الحوثيين خبا وأنهم أذعنوا وسلموا أسلحتهم، فعند ذلك يُقبل الحوار، فكما أن عاصفة الحزم خرجت من الرياض، فقرار الحوار يبدأ وينتهي بالرياض، وليس لطهران فيه قبيل ولا دليل".

وحين زار ترامب المملكة، سأل أحد الحضور المغامسي عن علّة هذه الزيارة وقد أعلن عداءه للإسلام والمسلمين، ليُجيبه المغامسي بأن الملك إنما أحضره ليتألّف قلبه للإسلام ولزيادة مساحات التعايش السلمي بين الشعوب.

هكذا بات التبرير الإلكتروني والإعلامي حاضرا على الدوام مع صالح المغامسي، والذي تحول من واعظ يرقق القلوب إلى شيخ يبرر للسلطان فِعاله، وبات حضوره لمؤتمرات 2030 والاحتفالات الملكية طاغيا على حضوره لمجالس الوعظ في مجلس قباء، وتحول حسابه على تويتر والذي تابعه 7 ملايين مسلم لسماع التفسير والرقائق إلى الإشادة بالملك وولي عهده والتمجيد لإنجازاته والتي لا يُفوت المغامسي واحدا منها إلا أشاد به.

عائض القرني.. لا تحزن

"والعالِم إذا أعطاه السلطان فقبل منه، كان عليه مِنّة وجب عليه شكرها، فيُرضي السلطان ويأكل الحرام ويكثر الداعي عليه من المظلومين والمجاهدين وأهل الشرف بالحرمين واليتامى والأرامل، فالويل لمن أورثه علمه هذه الأخلاق"

(الإمام أبو بكر الآجريّ)

عائض القرني، صاحب كتاب "لا تحزن" الذي بلغت شهرته الآفاق وتُرجم إلى عدة لغات. هكذا عرفه جمهوره حول العالم، لكن ما خفي عليهم هو مسيرة عائض القرني من شاب صحوي[2] تم اعتقاله إثر سلسلة محاضرات ألقاها في أبها وسبت العلايا منددا بالوجود العسكري الأجنبي بسبب غزو الكويت، قبل أن تطلق السلطات سراحه فيما بعد، مع تقييد نشاطه نشاطه ومنع نشر مقالات أسبوعية له في صحيفة "المسلمون"، ليقيد نشاطه لنحو 10 سنوات، ليترك مسقط رأسه ويتجه للعيش في الرياض. ليعود بعد ذلك للدعوة، وكانت أول محاضرة له بعنوان "أما بعد"، والسلسلة من روائع السيرة، ليصحب ذلك إعلان توبته عن أفعاله السابقة، مفضلا أن يكون مؤيدا على الدوام لأفعال الملك وولي عهده.

لا يخفى على عائض القرني، صاحب الدكتوراة في الحديث، الحديث الذي خرجه الإمام أحمد [3] بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون بعدي أُمراء؛ فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بواردٍ عليّ الحوض"، لكن القرني لم يترك شاردة ولا واردة إلا دخل بها على ملوك آل سعود. فبعد اعتراف السعودية بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها كتب القرني مقالا بعنوان "خيانة الوطن جريمة كبرى والتنكر لحقه رذالة ونذالة"[4]، حيث يذكر ألا حياد في حب الوطن ويستنكر فيه ما يتعرض له ولاة الأمر من مؤامرات وأن هذه الحرب ليست على السعودية وإنما على الإسلام، إذ إن السعودية هي مُتنزّل الوحي الجليل، ومهبط جبريل، ومملكة الحكمة، وأرض القدسية، وليختم القرني مقالته بدعوة: "اللهم وفّق قيادتنا لما فيه خير البلاد والعباد، واحفظ علينا ديننا، ووطننا، وأمننا، من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وردهم على أعقابهم خائبين، واجعلنا آمنين، مُطمئنين، برحمتك يا أرحم الراحمين".

عائض القرني ومحمد بن سلمان (مواقع التواصل)
عائض القرني ومحمد بن سلمان (مواقع التواصل)

وفي حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية، فلم يرسل القرني، الداعية والشاعر الفصيح، برقية تعزية لأهله ولا طالب بإظهار الحقيقة، وإنما أعاد القرني في تاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول نشر شعره في التغزل بابن سلمان والذي شاركه في هاشتاج #كلنا_ثقة_في_محمد_بن_سلمان والذي كتبه له في 24 من سبتمبر/أيلول 2018، وهو التاريخ الذي وللمفارقة، يوافق ذكرى اعتقال ابن سلمان لرفاقه القدامى أيام الصحوة، في اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017.

مواقف القرني تسير باضطراد منتظم لا نشاز فيه، في الولاء لابن سلمان منذ بات وليا للعهد، ففي حصار قطر شارك القرني في هاشتاج #إلا_السعودية داعيا السعوديين للوقوف خلف القيادة وعدم التهاون أو المساومة في دعم الملك وولي عهده.

أما فيما يتصل برؤية 2030 والتي أطلقها ابن سلمان فقد وصفها القرني على قناة "MBC" بأنها طريق السعودية لتكون الدولة العظمى بقيادة "سلمان الحزم ومحمد العزم"، وأن هذه الرؤية تحمل البشريات للمملكة تحت الإدارة الشبابية التي يقودها الشاب محمد بن سلمان.

تكمن المفارقة في سرعة تقلب القرني، لكنه تقلب منتظم كذلك باتجاه السلطة، فبعدما يمتلئ حسابه على تويتر وإنستغرام بالصور والمحاضرات التي تجمع عائض القرني مع سلمان العودة ومحمد موسى الشريف وغيرهم، فقد انقلب القرني بعد اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 على رفاقه القدامى، مشيدا بما صنعه ابن سلمان، وواصفا من اعتقلهم بالخلايا الاستخباراتية.

محمد العريفي.. ضع بصمتك

"إن أُناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن ويقولون: نأتي الأمراء فنُصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا"

(حديث خرجه ابن ماجه عن ابن عباس)

محمد العريفي، أحد أشهر دعاة الفضائيات السعوديين، والذي عُرف ببرامجه "ضع بصمتك"، و"حدثني البحر"، و"أحلى حياة"، و"رحلة إلى الدار الآخرة". محمد العريفي، والذي تم اعتقاله في 2014 لاتهامه بالتحريض على الجهاد في سوريا بجمع المال، تضامن معه سلمان العودة حين اعتقاله، ليثير قضيته على تويتر داعيا له بالسلامة والأمن ويكتب له في 22 يوليو/تموز 2013: "أقول لصديقي محمد_العريفي: "قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد؟ والشمس لولا أنها محجوبة عن ناظريك لما أضاء الفرقد والبدر يدركه السرار فتنجلي أيامه وكأنه متجدد، رفع الله شأنك وعجل فرجك". وهو الأمر الذي لن يقابله العريفي بالمثل على الأقل حين اعتقال العودة.

في 2017 سيظهر العريفي في برنامج "سواعد الإخاء" الذي جمع طائفة من الدعاة مثل عصام البشير وسلمان العودة ومحمد موسى الشريف ومحمد راتب النابلسي وعلي محمد الصلابي إلى جانب محمد العريفي وعائض القرني، بعدها بشهور، وجد العالم أسماء بعض هؤلاء الدعاة على قوائم الإرهاب السعودي مثل عصام البشير والصلابي، ثم تصاعد الأمر في المملكة حتى تم اعتقال العودة ومحمد موسى الشريف، وهو ما قُوبل برد فعل بارد من محمد العريفي الذي حمد الله على التخلص من الخلايا المخابراتية ولم يتضامن بكلمة واحدة مع رفاقه القدامى، وكتب تغريدة يدعو فيها إلى وحدة الصف قائلا: "مهما تنوعت ثقافات مجتمعنا وتفاوتت مفاهيمنا، إلا أننا يجب أن نتوحد على أهمية حفظ الأمن وتماسك الصف، وأن لا نستجيب لدعوات كهذه".

لا يترك العريفي في نسخته الأخيرة، فرصة إلا تقرب بها إلى وليّ العهد، ففي حصار قطر كتب العريفي: "اللهم أسبغ علينا نعمتك ظاهرة وباطنة، وارزقنا وولاة أمرنا التوفيق لكل خير، ووحد قلوبنا على ما يرضيك عنا، وزدنا أمنا وأمانا، وخيرا وإيمانا". وفي الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2018، وبعد تصاعد الاتهامات حول أوامر ابن سلمان بمقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية، شارك العريفي في هاشتاج #كلنا_ثقه_في_محمد_بن_سلمان قائلا: "من الواجب علينا الدعاء لمن تولى أمر المسلمين، وتمني الخير والتوفيق له والتعاون معه على الخير ونفع العباد والبلاد والبعد عن المغرضين والمبغضين، الذين لا يفرحون للسعودية بمجد ولا عز، بل يتمنون لها الشقاق والخلاف".

لم يكتف العريفي بتأييد سياسات المملكة الجديدة المتمثلة في ابن سلمان، وإنما تبعها الحفاوة بولي العهد، إذ نشر العريفي صورته برفقة ابن سلمان على حسابه قائلا: "كانت جلسة خاصة، وحوارا عميقا، مليئا بالتفاؤل لمستقبل المملكة والعالم الإسلامي، والدعوة، والتحديات والخطط، مع الأمير محمد بن سلمان، شكر الله له".

السديس.. منبر الحرم والدعاء للملك

"يُكرَهُ في الخُطبةِ أمورٌ ابتدعَهَا الجَهَلة، منها: المُجَازَفَة في أوصافِ السَّلاطين في الدعاء لهم"

(النوويُّ)

مع تزايد القرائن التي تؤكد ضلوع ابن سلمان وحاشيته في مقتل جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية، وقف عبد الرحمن السديس من فوق منبر المسجد الحرام -كعادته- يؤيد قرارات وليّ الأمر الحكيمة قائلا إن "مسيرة التجديد برعاية ولاة أمرها الميامين، وحرص واهتمام الشاب الطموح المحدّث الملهم ولي عهد هذه البلاد المحروسة، ماضية في رؤيته التجديدية الصائبة، ونظرته التحديثية الثاقبة رغم التهديدات والضغوطات"، محذرا من أن "أي محاولات لتهديد المملكة وإجهاض التجديد بها محاولات يائسة، وستنعكس سلبا على الأمن والسلام والاستقرار العالمي".

واصل السديس، والذي يشغل منصب وزير شؤون الحرمين، تصريحاته، فيما يتصل بقضية خاشقجي، بأنه يؤمن بنهج المملكة في تحكيم الشريعة وتحقيق العدالة بإشراف الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان.[6] وهو ما استنكره عدد من الدعاة والعلماء حول العالم منهم الشيخ التونسي بشير بن حسن، والذي وصف تصريحات السديس بأنها تجارة بالدين من فوق منبر الحرم لخدمة سيده!

ليست هذه الحادثة الأولى للسديس، ففي العام نفسه تصدى عدد من المصلين في سويسرا للسديس في محاضرة ألقاها ووصفه أحد المعارضين بأنه من دعاة البلاط قائلا: "كيف أميركا والسعودية تقود دول العالم نحو السلام، وهي تركب الشعوب في سلام؟!"، مشيرا إلى دعاء السديس من على بوابة الحرم لترامب في زيارته لأميركا، والذي وصفه السديس بأنه قائد السلام في العالم مع خادم الحرمين الشريفين!

استمر "يخلف صلاح الدين" في توبيخ السديس قائلا: "كيف تُكلموننا على الأمن وأنتم تحاصرون وتُجوّعون إخوانكم في اليمن وفي قطر؟! كيف وقد ساندتم انقلاب 92 في الجزائر وانقلاب مصر وانقلاب تركيا.. وقفوهم إنهم مسؤولون.. أنتم يا دعاة البلاط.. يا دعاة البلاط، أنتم مسؤولون يوم القيامة".

كان خطاب السديس المسيّس حاضرا على الدوام في كل مشهد يمس ولاة الأمر، ومع انقلاب مصر وقف السديس مشيدا بدور المملكة في مصر واصفا موقفها بأنه كان "نبراسا يرسم الطريق لسالكيه، وموقفا تاريخيا يبيّن الحق لطالبيه، وبلسما ناجعا يضمّد الجراح، ويُواسي أهل الكَلم والأتراح، ويجدد الآمال والتفاؤل والأفراح". وفي حصار قطر توعد السديس كل من تعاون مع ما أسماها بالفئة الضالة الإرهابية.

تزايد حضور السديس في الفضاء الديني بعدما زاد توظيفه السياسي لمنبر الحرم، إذ باتت خطبة السديس بمنزلة بيان سياسي يشيد بآل سعود ومواقفهم السياسية، ويدعو للملك وولي عهده وإنجازاته، وهو ما مكّن السديس لأن يكون وزير شؤون الحرمين وتصبح له الكلمة العليا في سياسة الحرم وتوجيهاته ما دام في خدمة آل سعود.[7]

يأتي هذا بعدما تم اعتقال شيخ الحرم صالح آل طالب في موسم الحج السابق، والذي أكّد حساب معتقلي الرأي أن اعتقاله كان عقابا له على الخروج عن النسق المرسوم لمنبر الحرم [8]، إذ دعا آل طالب في خطبة له إلى وجوب إنكار المنكر على فاعله، وتبرأ من الطغاة الظالمين، ووجه رسالته إلى العلماء والدعاة لأن يتحملوا عبء الأمانة وأن يكونوا قدوة في الأرض.

وبذلك، يشهد الفضاء الديني السعودي نوعا من التدني الديني واستقلالية العلماء والدعاة لصالح السياسي، وفي الحين الذي شن فيه بن سلمان حملة واسعة على كل داع ديني يمكن أن يمثل تهديدا لسياسات المملكة العلمانية التي تنتهجها، فإنه أبقى على بعض الأصوات التي تدعم توجهاته مهما تحولت دفتها وفي أي اتجاه سارت.

في السياق التاريخي للدعاة والعلماء  "حافظ عامة العلماء عبر التاريخ على استقلالهم معرفيا (من خلال المدارس والمناهج) وماديا (عبر الأوقاف والأحباس الخاصة والعامة)، وحين تعرض فقهاء الأحكام السلطانية لمسائل السلطة فإنما كان يحركهم هاجس الحفاظ على وحدة الجماعة المسلمة ووحدة دار الإسلام، وكانوا يقومون بموازناتهم على هذا الأساس"[9]، وقد أدى ذلك إلى دمج وإدراج كل الفواعل الدينية في المملكة في ثوب السياسي، ولم يعد الأمر يقتصر على "الميول السياسية للمفتين أو الموقّعين على البيانات بكونهم جزءا من جهاز الدولة لن ينطقوا إلا بإرادتها رغَبًا أو رهَبًا"، وإنما تعدى الأمر إلى شراء الدعاة غير الحكوميين الذين يملكون رأس مال رمزي كبير لدى الشعوب سواء في الفضاء الإلكتروني أو حول العالم لإضفاء مسحة الشرعية الدينية على أفعال السلطة السياسية.

وهو السبب الذي دعا بسببه علماء الإسلام قديما إلى النهي عن مخالطة السلاطين حتى لا يكون مدعاة لتزيين الباطل لهم، كما قال محمد بن واسع: "أول من يُدعى إلى الحساب الفُقهاء"، وقال الإمام بن رجب الحنبلي: "ومن أعظم من يُخشى على من يَدخل على المُلوك الظلمة أن يُصدقهم بكذبهم، ويُعينهم على ظُلمهم ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم، فإن من يريدُ بدخوله عليهم الشرف والرياسة فإنه لا يقدمُ على الإنكار عليهم؛ بل رُبما حَسَّن لهم بعض أفعالهم القبيحة تقربا إليهم لِيُحسن موقعه عندهم"[10]. ورغم أن هذا الكلام قاله فقيه مجتهد حنبلي، فإن مشايخ ابن سلمان -الحنابلة كذلك- لا يبدو أنهم سيخرجون من ثوب السلطة!

المصدر : الجزيرة