شعار قسم ميدان

الإرهاب في تونس.. تطرف ديني أم نتيجة للفشل السياسي؟

ميدان - صورة تعبيرية تونس

اضغط للاستماع 


"خِلنا أننا قضينا على الإرهاب.. لكن إن شاء الله لا يقضي هو علينا" بهذه الكلمات، اختار الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أن يُطل على التونسيين إثر العملية الإرهابية التي استفاقت عليها العاصمة تونس، أواخر الشهر الماضي (1). في الشارع الأكثر تأمينا على الإطلاق، وعلى بُعد أمتار قليلة من مقر وزارة الداخلية، فجّرت فتاة نفسها بالقرب من دورية أمنية لتسفر عن عدد من الإصابات تراوحت بين البسيطة والمتوسّطة، ولتكون هي القتيلة الوحيدة (2).

هكذا وبدون مُقدّمات، وبعد "هُدنة" مُطوّلة بين العمليات الإرهابية وتونس، خاصة في المدن، وفي ظل مُؤشرات كانت تنبئ عن تضييق الخناق على تلك المجموعات المتحصنة بالجبال، وتعافي المُؤسسة الأمنية، شهد شارع الحبيب بورقيبة عملية كان يُمكن أن تكون أضرارها كبيرة جدا لولا بدائية الحزام المُستعمل في عملية التفجير، وحداثة المُنفّذة بهكذا أجواء. عملية كان يُمكن أن تُعيد إنتاج مأساة تفجير حافلة الحرس الرئاسي منذ ثلاث سنوات، في شارع محمد الخامس، المتقاطع عموديا مع شارع الحبيب بورقيبة، مسرح الأحداث هذه المرة.

عاطلة عن العمل.. الفتيل القابل للاشتعال

وفي مسرح التفاصيل الذي تكمن فيه خيوط القصة، كشفت وزارة الداخلية أن منفذة الهجوم تبلغ من العمر ثلاثين سنة، نقية من السوابق الإجرامية، ولم يسبق أن ظهرت عليها مظاهر التطرف، كما أنها لم تكن ضمن دائرة المتابعة الأمنية في البلاد (3). فتاة ريفية وُلدت وترعرعت في قرية صغيرة تتبع إحدى مُحافظات الساحل التونسي، عاشت مع والديها رفقة ثلاثة إخوة وعمها وعمتها إلى حدود نجاحها في الباكالوريا لتتم دراستها الجامعية أستاذة للإنجليزية قبل أن تعود لمنزل العائلة عاطلة عن العمل.

الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج (رويترز)
الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج (رويترز)

وفق شهادة عائلتها، كانت هذه الفتاة تعيش حياة بسيطة جدا في قريتها الصغيرة، تمضي غالبية وقتها في غرفتها، ارتدت الحجاب منذ سنوات لكن لم تظهر عليها علامات تعبر عن تحول في فكرها أو سلوكها أو حتى في مظهرها. قبل ثلاثة أيام من الحادثة، قررت أن تسافر للمرة الأولى إلى العاصمة تونس بحثا عن عمل بحسب ما نقلته والدتها على لسانها، لكن عوضا عن تلقيها مكالمة من ابنتها تُفيد بحصولها على الوظيفة، فقد رأت صورتها على وسائل التواصل الاجتماعي في ثوب الإرهابي الذي فشلت محاولته وتناثرت أشلاؤه في الشارع الرئيسي للمدينة التي تزورها للمرة الأولى في حياتها.

حدثٌ سرعان ما تداولت وسائل الإعلام التونسية على إثره قصة تجنيد الفتاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من شخص خارج تونس، إلا أن الرواية الرسمية لم تصدر بعد. وإذا ما تجاوزنا هذه التفاصيل ووضعنا شخصية هذه الفتاة ومسار حياتها جنبا لجنب مع التصور النظري السابق حول شخصية الإرهابي، فقد لا يتفق التصور حين مطابقته مع الحالة الظاهرة، لكن بقليل من التعمق، فإننا سنحصل على عدد من التقاطعات في شخصية الفتاة التي تتضافر مع السمات الشخصية لعدد من منفذي هكذا عملية.

تقاطعات تقودنا بعض الدراسات الاجتماعية إلى معرفة أبرز ما ترتكز عليه سمات تلك الشخصيات، فمع بداية سنة 2015، أنجز المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب دراسة علمية كمية بعنوان "الإرهاب في تونس من خلال الملفات القضائية"، تناول فيها بالدراسة والتحليل عيّنة واسعة تشمل نحو 1000 متّهم بـ "الإرهاب"، مُحاولا الاستفادة من هذه المُعطيات لتأسيس حالة من الفهم لطبيعة الحالة الجهادية في تونس عبر تنميط أفرادها المشاركين والفاعلين (4).

السلطات الأمنية تغلق شارع
السلطات الأمنية تغلق شارع " بو رقيبة" عقب تفجير انتحارية نفسها بالقرب من سيارة شرطة  (رويترز)

إحدى النسب المفتاحية التي خلصت إليها الدراسة تمثّلت في حمل 98,8% من المتّهمين بالإرهاب في تونس الجنسية التونسية، ما يؤكّد مقولة إنّ الارهاب في تونس هو "إنتاج محلي"، باعتبار أن الجنسيات الأجنبية الأخرى ظل حضورها ضعيفا في الملفات القضائية التي دُرست والتي تلعب في العموم دور القيادة والتخطيط لا دور القتال والتنفيذ. ويتسم المجتمع الجهادي الفاعل في تونس بذكوريته، إذ لا يتجاوز عدد النساء المتهمات بالإرهاب 3,5%، ويتميز ثلثا النسبة الإجمالية للمتّهمين بالإرهاب بعزوبيتهم.

أما فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي والمستوى الأكاديمي، فقد كشفت الدراسة أن الفئة العمرية (25-29 سنة) هي الأكثر استقطابا ومشاركة في التنظيمات والعمليات الإرهابية داخل تونس وخارجها بنسبة تناهز نحو 29% من إجمالي المتهمين بالإرهاب في تونس. وشأنها شأن باقي الدول، تشهد الظاهرة الإرهابية إقبال الفئات الهشّة مادّيا على مُستوى الدّخل، وهو ما أكّدته ذات الدراسة، حيث إن قرابة نصف المتهمين بالإرهاب هم من العمالة، ذوي مهارة أو دون مهارة، وتتقلص هذه النسبة كلما تقدمنا في درجات السلم الوظيفي.

 

لم يعتد التونسيون على أن يكون الفاعل امرأة، إلا أن التحليل السوسيولوجي لخارطة الإرهاب يبرز أن الظاهرة لا تستثني المرأة وإن قل وجودها، فمتى اجتمعت باقي المكونات الثقافية كان الناتج السلبي حاضرا دون جندرة ولا تمييز. قد يكون الاستثناء هذه المرة في تحوّل الحضور النسوي من المشاركة غير المباشرة في الفعل الإرهابي (سواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي تحريضا واستقطابا أو حتى عبر المساهمة في الجانب اللوجستي) إلى الفعل الميداني، إلا أن الحصيلة واحدة.

وفي سياق موازٍ، فقد انتهت عديد من الدراسات الاجتماعية لظاهرة الإرهاب والتطرف إلى أن الأخيرة لا تنطلق ضرورة من المعتقد الذي يتم اعتناقه، وأن المُحرّك الأبرز للتطرف بأنواعه المُختلفة هو الدكتاتورية وسلطوية السلطة (5). بالمُقابل؛ كانت الحالة التونسية اجتماعا لتناقضات غريبة دفعت باحثي علم الاجتماع للاهتمام بها، فرغم أن تونس مهد الثورات والديمقراطية الوحيدة في العالم العربي وفق آخر تقييم لفريدوم هاوس، فإنها كانت بحسب أرقام رسمية إحدى الحواضن الرئيسية للتنظيمات الإرهابية سواء في تونس أو في باقي بُؤر التوتر القريبة.

تجفيف المنابع الدينية
 تميّز زمن ما بعد الاستقلال إلى حدود قيام الثورة في تونس بعلاقة متوترة بين الدولة والدّين. المشروع العلماني الذي تبناه مُؤسس الدولة الحديثة في تونس، الحبيب بورقيبة، لم يخل من صدامات مع المُؤسسة الدينية التي رأت في مشروعه مسارا تغريبيا يمس بهوية البلد وشعبه، صدام كان أحد الأركان الأساسية لنشأة الحركة الإسلامية في البلاد كرد فعل على أطروحاته ونهج تأسيسه للدولة.

ورغم إزاحته عن الحكم سنة 1987، تواصلت تلك العلاقة المتوترة في عهد زين العابدين بن علي، خاصة مع تعزز الزخم السياسي للمسألة الدينية، إذ عمد في تسعينيات القرن المنقضي لتنفيذ خطّة تجفيف منابع التّديّن في إطار مشروع متكامل يسعى للتصدّي للإسلاميين الذين مثّلوا الخصم السياسي الوحيد القادر على إزعاج جلوسه على عرش السّلطة. وبُنيت هذه الخطّة على تجريم كل ما له علاقة بالمسألة الدّينيّة ولو في مساحتها الشّخصية؛ فالصّلاة أصبحت تهمة وأضحى ارتياد المساجد، خصوصا من طرف الشباب، مدعاة للبحث والتّحقيق داخل مخافر الأمن، واعتلى منابر المساجد أئمّة السلطة ممن لا حديث لهم سوى ما يتصل بالوضوء والتّسبيح بحمد الحاكم، ناهيك بمنع مظاهر التدين، كمنع اللحية بالنسبة للرجال والحجاب للنسوة (6).

undefined

ساهم احتكار السلطة للمجال الديني وحالة التضييق التي مارستها على الشباب في دفعهم للبحث عن بدائل تُشبع فراغهم الروحي، وهو ما تكثّف مع بداية الألفية مع بروز ما أسمته بعض الكتابات جيل الصحوة. جيل تأثر باجتياح العراق وهوان الأمة، فبحث عما يُشبع فراغه الروحي عبر الإنترنت، وهو الفضاء الذي لا يُمكن السيطرة عليه ولا يُمكن ترشيد الخطاب المبثوث فيه.

في شهادته لبرنامج تلفزيوني، قال أحد المشاركين في ما عُرف إعلاميا بـ "أحداث سليمان"، وهي أحداث تورّط فيها شبان يعتنقون الفكر السلفي سنة 2007 بهدف قلب نظام الحكم بالسّلاح وتم اعتقالهم بعد مواجهات مع قوات الأمن التونسي إثر التفطّن إليهم، إن اعتناقه للفكر السلفي أتى إبان الغزو الأميركي للعراق، وأن جور نظام بن علي وتعذيب الأجهزة الأمنية لبعض الشباب مرتادي المساجد ومهاجمته للنسوة اللاتي كن يرتدين الحجاب ولّدت عنده وعند رُفقائه حالة من الغضب والنقمة على النّظام الحاكم وأجهزته، الأمر الذي دفعهم للتفكير في استهداف رأس النّظام، وهو ما كان وراء صعودهم لأحد الجبال بهدف الاختباء من أجهزة بن علي، وبهدف التدرّب على استعمال السّلاح.

وبحسب مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فقد منعت سيطرة بن علي المُحكمة على المجال الديني ظهور قوى دينية فاعلة بعد الثورة. ومع سقوط نظامه وتهاوي سيطرته على هذا المجال نشأت حالة من الفوضى الأمنية، والتي استغلتها المجموعات الراديكالية لنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب، خاصة في ظل ما خلّفته حالة التضييق التي مارسها بن علي طيلة ربع قرن على الشخصيات الدينية المعتدلة والتي أدّت إلى خلو الساحة الدينية من رموز قادرة على التصدي لأفكار تلك الجماعات (7).

undefined
 

شباب مُهمّش في مجال حضريّ مهمّش

فتحت الثورة في تونس المجال العام على مصراعيه لكل الأطروحات الفكرية بلا استثناء. ورغم توفّر الكثير من الأفكار، فقد طرح الانتشار الواسع للسلفية الجهادية في صفوف الشباب خاصة أكثر من سؤال لدى أجهزة الدولة والنخب على حد السواء، وأكّد أن اختزال الظاهرة في العنصر العقدي والديني لا يُمكن أن يكون سوى إجابة سهلة عن إشكالية مُركّبة.

تُشير أبرز دراسة أُعدّت في تونس حول التّطرّف الدّيني بعنوان "السلفية الجهادية، الواقع والمآلات" إلى أن تناول الظّاهرة السلفية ضمن مقاربة نفسية اجتماعيّة يُؤكّد أن الشّباب المُتطرّف في تونس هو "شباب مُهمّش في مجال حضريّ مهمّش"، لا يرى في الدّولة والمجتمع إلا وجههما التسلّطي الإقصائي، ولا يجد من سبيل إلى ردّ العنف المادّي والرّمزي للدّولة والمجتمع إلا بعنف آخر يوازيه في القوّة ويهزّه في العمق.

 

ووفق ذات المصدر فإن أغلب المعتنقين لهذا الفكر المتطرّف هم من ذوي المستويات التعليمية المتدنّية، وهو ما يُساعد في اعتناق "أيديولوجيا خلاصية" توهمهم بامتلاك حقيقة الدين والدنيا. شباب يعانون من فقر مزدوج ذي ثلاثة أبعاد: فقر مادي اقتصادي، وفقر معرفي تعليمي، وفقر ديني روحي.

 أمام البرلمان التونسي، نوفمبر 2011  (رويترز)
 أمام البرلمان التونسي، نوفمبر 2011  (رويترز)

ومما تميزت به التيارات السلفية الجهادية، على عكس باقي التيارات في البلاد، أنها أحسنت التعامل مع وضعية التهميش التي يعاني منها قطاع واسع من الشباب التونسي، حيث نجحت في خلق منظومات اجتماعية بديلة تنتشل الشباب من حالة "العطوبة الاجتماعية" إلى حالة الاندماج، منظومات أنشأتها في ظل غياب الدّولة في الأرياف والهوامش الحضرية، فكانت بذلك ملاذ هؤلاء الشباب لتحصيل المعنى لوجودهم، نفسيا واقتصاديا واجتماعيا (8).

مرحلة الدعوة وخلق الحاضنة الاجتماعية

إثر ثورة تونس، وفي شتاء 2011، سنّت الحكومة التونسية عفوا تشريعيا عاما غادر بموجبه عدد مهم من الحاملين للفكر الجهادي من السجون، وسمح لآخرين بدخول البلاد. ومع ارتخاء قبضة الدولة إثر الإطاحة شعبيا برأس النظام وما رافق ذلك من تسيب وفوضى، اكتسح الجهاديون المساجد ليسيطروا وفق تقارير رسمية على أكثر من 200 مُؤسسة دينية (9). وانتشرت الخِيام الدعوية على الطرقات والمساحات العامة بشكل لم تعهده البلاد، وتشكّلت لهم صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي ومؤسسات إعلامية دعائية كان شعارها المُعلن عنوان المرحلة آنذاك: تونس أرض دعوة لا أرض جهاد (10).

وسعيا منهم لتوفير حاضنة اجتماعية متصالحة مع وجودهم الطارئ على الشارع التونسي، ركز أصحاب الرايات السود على الجانب الاجتماعي بالتوازي مع المجهود الدعوي، حيث انتشرت حملات إعانة المحتاجين وتوزيع المُساعدات خاصة في الأحياء والمناطق الفقيرة، التربة الخصبة للاستقطاب والتجنيد.

 

ومنذ ذلك الحين، ظل الوجود السلفي الجهادي خاليا من الحوادث الدموية إلى حدود يوم 18 مايو/أيار 2011، تاريخ حصول أوّل اشتباك مسلّح بين القوات النظامية والعناصر المسلّحة فيما بات يُعرف بحادثة الروحيّة التي راح ضحيتها عسكريان اثنان ومثّلت نقطة تحول في تكتيك التيار انتقل به من مرحلة الدعوة إلى مرحلة جس النبض وقياس مدى جاهزية المجموعات المسلحة التي كانت تعمل على تجهيزها بصمت، ولتكون أولى المُؤشرات على أن شعار "تونس أرض دعوة لا أرض جهاد" كان مُجرد ربح للوقت.

ورغم توزع جيوب التيار في مختلف مناطق البلاد، فإن مسألة الانتظام تحت راية واحدة ظلّت محور تجاذب بين مشايخ الجهاديين إلى حدود أبريل/نيسان 2011 عندما قام سيف الله بن حسين المُكنى بأبي عياض بالإعلان عن تأسيس تنظيم أنصار الشريعة رغم معارضة الأب الروحي للسلفية الجهادية التونسية الخطيب الإدريسي للفكرة (11). في الأثناء، تواترت المعلومات بوقوف هذا التيار وراء إقامة مخيمات للتدريب في الجبال والغابات واستغلاله لحالة الانفلات الأمني لإدخال الأسلحة من ليبيا التي كانت بدورها تعاني من حالة فوضى إثر سقوط نظام معمر القذافي وما خلّفه من أطنان الأسلحة بعيدا عن الرقابة، وتواصلت العمليات التي تُستهدف فيها الدوريات الأمنية خلال سنة 2012 بنسق غير منتظم.

في منتصف مايو/أيار 2012، خرج التنظيم إلى العلن مُستعرضا حجمه عندما عقد مؤتمره العام الأوّل بمدينة القيروان، وسط تونس، جامعا نحو 5 آلاف من أنصار التنظيم بحسب أرقام وزارة الداخلية وما لا يقل عن 40 ألفا وفق رواية التنظيم. وفي ظل تنامي الشعور بالقوة، انتقل تكتيك جهاديي تونس من جس النبض إلى مُحاولة خلق حالة التوحش تمهيدا لإدارتها.

مؤتمر أنصار الشريعة، القيروان مايو 2012 (رويترز)
مؤتمر أنصار الشريعة، القيروان مايو 2012 (رويترز)

خلق التوحش تمهيدا لإدارته

بُنيت مرحلة خلق التوحش والمواجهة المباشرة مع الدولة بهدف إنهاكها على عنصرين اثنين: الأول عبر استهداف شخصيات عامة، وهي التي يمكن اعتبارها الأكثر تحصينا وبالتالي إقامة الدليل على ضعف الدولة وإشاعة الخوف بين الناس. والثاني من خلال ترتيب عمليات استهداف للأمنيين والعسكريين بطريقة استعراضية لا تكتفي بالقتل فقط عبر نصب كمائن، بل تتجاوزه للتمثيل بالجثث وتصوير العمليات بآلات تصوير عالية الجودة تُنشر لاحقا على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

أولى عمليات الاغتيال السياسي تعرض لها الزعيم اليساري شكري بلعيد يوم السادس من فبراير/شباط 2013 أمام منزله في حادثة هي الأولى من نوعها. وبعد ستة أشهر فقط، شهدت تونس اغتيالا سياسيا ثانيا استهدف المعارض القومي محمد البراهمي، لتدخل البلاد في حالة من الفوضى كادت تنهي تجربة الانتقال الديمقراطي برمتها بعد أن طالبت المعارضة بحل كل المؤسسات التي انبثقت عن انتخابات المجلس التأسيسي (12).

بالتوازي مع خط الاغتيالات، تكثّفت الهجمات الإرهابية كمًّا وكيفًا في سنة 2013، وكان من أبرزها ومن أشدها وقعا على الشارع التونسي عملية استهداف دورية عسكرية متمركزة في جبل الشعانبي (جنوب غرب) أسفرت عن مقتل 8 عسكريين دفعة واحدة والتنكيل بجثثهم وذبح بعضهم، لتَكون فاتحة لعمليات أخرى بُنيت على التخطيط والمباغتة والمواجهة المباشرة.

 

جثمان المعارض محمر البراهمي بعد استهدافه من أنصار الشريعة، يوليو 2013 (رويترز)
جثمان المعارض محمر البراهمي بعد استهدافه من أنصار الشريعة، يوليو 2013 (رويترز)

فتح المواجهة مع الدولة التونسية التي تعاملت بتردد مع توسع نفوذ هذا التيار دفع رئيس الحكومة وقتها، علي لعريض، لإعلان تنظيم أنصار الشريعة تنظيما إرهابيا بعد توفر جملة من الأدلة التي ثبّتت كل ما كان يُشاع من وقوفه وراء العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد وإشرافه على مخازن أسلحة. الأمر الذي ضيّق الخناق على من كانوا يجوبون البلاد شمالا وجنوبا علانية وأصبحوا رسميا في مرمى أهداف الأجهزة الأمنية في البلاد (13).

مرحلة العمليات الانغماسية والذئاب المنفردة

تواصلت العمليات الإرهابية بنسق بدا يخفت تدريجيا، خاصة في صورته المُنظّمة، وتحوّل تدريجيا إلى استعمال الألغام في الجبال وبعض العمليات المتفرقة هنا وهناك. وكانت نقطة التحوّل الرئيسية متمثّلة في الهجوم الذي تعرض له متحف "باردو" في قلب العاصمة تونس وعلى بُعد أمتار من مبنى البرلمان ليكون إعلانا عن الدخول في مرحلة تجمع بين نهج الذئاب المنفردة وخط العمليات الانغماسية.

في منتصف النهار، قام ثلاثة أشخاص مسلحين بكلاشنيكوف وقنابل يدوية بمحاولة الدخول لساحة مجلس نواب الشعب حيث كانت تدور جلسة حول مشروع لقانون الإرهاب بحضور وزير الداخلية ووزير العدل وعدة دبلوماسيين بالإضافة إلى قادة من الجيش والاستخبارات. وبعد فشلهم في اقتحام باحة المجلس، توجهوا لمتحف "باردو" الملاصق للمجلس، وقتلوا 22 شخصا منهم 20 سائحا وجرحوا 42 آخرين، ليحتموا بعدها داخل المتحف مع عشرات الرهائن، قبل أن يتم القضاء عليهم من طرف وحدات مكافحة الإرهاب التونسية.

ذات الحال تكرر في حادثة مدينة سوسة الساحلية عندما اقتحم مسلح نزلا أردى كل من التقاه فيه قتيلا، وفي حادثة تفجير حافلة الحرس الرئاسي عندما استقل انتحاري حافلة خاصة بالحرس الرئاسي وفجر نفسه داخلها، وصولا إلى الحادثة الأخيرة في شارع الحبيب بورقيبة.

مستنقع الإرهاب لم ينضب بعد

تلك التحولات في تكتيكات الإرهاب بتونس من وضعية المواجهات المُباشرة والكمائن إلى سياق العمليات الانغماسية ونهج الذئاب المُنفردة يمكن أن يُقرأ باعتباره نتيجة مُباشرة لتعافي الأجهزة الأمنية ونجاحها في تضييق الخناق على هذه المجموعات، إلا أن المُعالجة الأمنية وحدها لا تكفي.

تشير آخر العمليات الاستطلاعية لسبر الآراء في البلاد إلى أن أكثر من 80% من التونسيين يعتقدون أن الأوضاع لا تسير في الطريق الصحيح (14). تشاؤم مفهوم بالنظر إلى تواصل تدهور المقدرة الشرائية بسبب تواصل تراجع قيمة الدينار في سوق العملات الدولية و العجز غير المسبوق للميزان التجاري. وأدى الوضع الاقتصادي الصعب إلى تآكل الطبقة الوُسطى التي كانت أحد مفاتيح الاستقرار الاجتماعي في تونس، حيث تُشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء إلى أنّ الفقر أصبح يشمل 1.7 مليون تونسي، مـن ضمنهــم 300 ألف مواطن يعيشون تحت خط الفقر (15).

 

ولئن كانت الشعارات المركزية للثورة في تونس تتراوح بين الشغل والحرية والكرامة الوطنية، فإن الإجابة إلى حد الآن دون المنشود بكثير. فإن استثنينا مناخ الحريات الذي تعزز بشكل ملحوظ في تونس الجديدة، ظلت مطالب التشغيل والكرامة دون معالجة إلى حد الآن، حيث تبلغ نسبة البطالة لدى الشباب الحاملين لشهادات جامعية 29,2% وفق آخر عملية مسح حول السكان والتشغيل (16).

ومن بين المُؤشرات التي تبعث على القلق حالة العزوف العامة تجاه العملية السياسية في البلاد، وهو ما بيّنه آخر استحقاق انتخابي عندما أحجم أكثر من ثلثي الناخبين عن التوجه لصناديق الاقتراع رغم الطابع المحلي للانتخابات (انتخابات بلدية)، وهو ما اعتبرته مجموعة الأزمات الدولية في آخر تقرير لها حول تونس مؤشرا على حجم الهوة وانعدام الثقة بين الشعب والطبقة السياسية (17).

إن تراجع الثقة في العملية الديمقراطية القائمة مع عجزها عن حل الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية لا يُمكن إلا أن يُوسّع من دائرة الهامش الاجتماعي، خاصة في صفوف الشباب الذين لا يمتلكون شيئا في البلاد (18)، وهو ما يجعل منهم بالتوازي مع ارتفاع منسوب الإحباط والتشاؤم هدفا دسما للتيارات الإرهابية التي تُحسن التعاطي مع هذه الفئات الهشة، والتي لم تستطع الدولة حتى الآن إدماجهم داخل النسيج الاجتماعي الوطني. وفي ظل الواقع التونسي الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السابق الذي خلق مناخا خصبا لظهور التطرف والعنف، فإن ما نشهده حاليا من نضوب لمسارات الإصلاح وتزايد الحنق الاجتماعي على المسار السياسي وما يصاحبه من إصلاح اقتصادي لا يُمكن إلا أن يُنتج حقيقة واحدة: مستنقع تفريخ الإرهاب لم ينضب بعد.