شعار قسم ميدان

استقالة ليبرمان.. ماذا يريد صانع الملوك في إسرائيل؟

Israel's new Defence Minister, Avigdor Lieberman, head of far-right Yisrael Beitenu party, reviews an honour guard during a welcoming ceremony at the Defence Ministry in Tel Aviv, Israel May 31, 2016. REUTERS/Ronen Zvulun

في كل عام، في اليوم السادس من شهر "كسلو"، الشهر الثالث من السنة العبرية، يتوجه رئيس وزراء "إسرائيل" ورئيس البلاد، جنبا إلى جنب مع زعماء المعارضة والقادة الأمنيين جنوبا إلى مدينة بئر السبع المحتلة لزيارة قبر مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن جوريون في كيبوتس مستوطنة "ساديه بوكر" في الصحراء، حيث عاش المؤسس الصهيوني أيامه الأخيرة. وفي كل عام؛ يقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بغض النظر عمن هو، على القبر، وينتقي شيئا محددا من ميراث مؤسس الكيان لاستخدامه كدعاية لسياساته، أو لانتقاد خصومه، أو كليهما معا.

 

لم تكن زيارة هذا العام، التي وافقت يوم الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري استثناء من ذلك، ولم يكن بنيامين نتنياهو ليفوّت أبدا هذه المناسبة، التي جاءت بعد يوم من تثبيت وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني في غزة بعد جولة سريعة لكنها حادة من الاشتباكات بين الاحتلال والمقاومة إثر حادثة خان يونس، [1] جولة استقال على إثرها وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان منسحبا وحزبه، "إسرائيل بيتنا"، من الائتلاف الحاكم الذي يقوده رئيس الوزراء نتنياهو، منتقدا ما وصفها بأنها "حصانة" منحها نتنياهو لحماس بعد أن أطلقت أكثر من 500 صاروخ على الأراضي المحتلة.

 

في ذلك اليوم، وقف نتنياهو على قبر بن غوريون قائلا: "في الأوقات الصعبة، اتخذ بن غوريون قرارات حتمية، وأحيانا كانت ضد الرأي العام، وثبتت صحتها مع الوقت"، مضيفا أن "العامة لا يمكن أن يكونوا دائما شركاء في الاعتبارات الحرجة التي يجب إخفاؤها عن العدو"، قبل أن يستحضر نتنياهو صورة ليبرمان بذهنه على ما يبدو قائلا: "في تلك اللحظات، لا تكون القيادة شيئا سهلا، فهي فعل الشيء الصحيح حتى وإن كان صعبا، وإن كان سيجلب لك الانتقاد".

 

undefined

 

كانت رسالة نتنياهو الرمزية بسيطة: ليبرمان اختار الطريق السهل، وهو السعي لمزيد من التصعيد على غزة، تصعيد يبدو الخيار المفضل على الأقل لدى اليمين الذي يُمثّله كلٌّ من حزبه "إسرائيل بيتنا"، وحزب نتنياهو "الليكود"، وحزب "البيت اليهودي"، الذين يشكلون معا الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. ولكن بالنسبة لنتنياهو، كان الخيار الصحيح هو ما أعلن عنه قبل ساعات من العملية الأمنية الفاشلة التي أدّت إلى اندلاع جولة الاشتباكات، وهو تجنب حرب طويلة في غزة، والسعي لـ "اتفاقية ما"، يراها نتنياهو في مصلحة إسرائيل، بينما يراها ليبرمان بتعبيره "خضوعا للإرهاب"، كما عبّر عن ذلك في مؤتمر استقالته. [2]

 

وبغض النظر عن هذا كله، يبدو أن المسار الذي اتخذه نتنياهو كان مقامرة سياسية في ظل الاستياء الشعبي الداخلي في إسرائيل وفشل سياسات الحكومة تجاه قطاع غزة، ناهيك بتحقيقات الفساد التي تلاحق نتنياهو شخصيا، وعلى الجانب الآخر، كانت استقالة ليبرمان لا تقل مقامرة هي الأخرى، حيث فضّل السياسي اليميني التضحية بمنصبه المرموق رغبة في هدم المعبد فوق رؤوس ساكنيه والدفع نحو انتخابات مبكرة لاستغلال هذا الغضب الداخلي في الإطاحة بنتياهو لصالح حكومة أكثر يمينية ربما يقودها ليبرمان نفسه أو يكتسب نفوذا أكبر فيها، وهو مسار يسعى نتنياهو بكل قوته إلى تجنبه، ما يجعل التصعيد في غزة والتهدئة وتلك المعارك الكلامية حول الأمن غلافا لصراع سياسي يدور بالأساس حول من سيقود إسرائيل بعد الانتخابات المقبلة.

 

صانع الملوك
ينتمي ليبرمان إلى جيل مغاير تماما عن أجيال كلٍّ من بن غوريون ونتنياهو؛ فحين كان بن غوريون، ابن ما صار يُعرف باسم جيل "النكبة"، يقاتل في عصابات الأرجون والهاجانا قبل حلها ودمجها في جيش الاحتلال، ويقود عملية تأسيس الكيان الصهيوني عبر توسيع المستوطنات؛ كان "إيفيت" قد وُلد للتو عام ١٩٥٨ لعائلة يهودية متشددة بالاتحاد السوفيتي، ولم يعلّمه والداه حتى عامه الثالث سوى لغة اليديش، اللغة التاريخية لليهود في وسط أوروبا.

 

 

وبينما كان "إيفيت" يدرس في معهد زراعي في الاتحاد السوفيتي في السبعينيات، [3] كان أبناء جيل "النكسة" أمثال بنيامين نتنياهو وإيهود باراك، يقاتلون على الجبهة ضد العرب، قبل أن يتوجه نتنياهو للدراسة في الولايات المتحدة، في الفترة نفسها التي انتقلت بها عائلة ليبرمان إلى الكيان الصهيوني، حيث غيّر "إيفيت" اسمه إلى "أفيغدور" ودرس العبرية وخدم خدمته الإلزامية لعام واحد في جيش الاحتلال.

 

لا تُعد هذه الفوارق في الأجيال هي ما يميز ليبرمان عن نتنياهو فحسب، لكنها تتعدى ذلك التباين في الأجيال إلى نمط الحياة؛ فبينما فضّل المهاجرون من السوفييت الإقامة في المدن وتجنّب المستوطنات؛ أقامت عائلة ليبرمان في مستوطنة، لكن ليبرمان نفسه لم يتبّع ذلك الشكل التقليدي للمستوطنين الذين يرتدون الصنادل الدينية، واختار أن يكون من القلة الذين يركبون سيارات مرسيدس كبيرة سوداء، ويرتدون بذلات فخمة، ويدخنون السيجار ويشربون الخمر الغالي [4]، سلوكيات اتسقت مع شخصيته النزقة الحادّة التي سيعرفها الجميع عنه فيما بعد.

 

أثناء دراسته في "الجامعة العبرية" بتخصص العلاقات الدولية والعلوم السياسية، كان أفيغدور ناشطا طلابيا في مجموعة مرتبطة بالليكود؛ وعمل حارسا شخصيا في نادي "شبلول" الطلابي، وساهم بعد عام ١٩٨٣ بتأسيس "المنتدى الصهيوني لليهود السوفييت"، وكان عضوا في فرع القدس لما يُسمى "اتحاد العمال الوطنيين"، الاتحاد العمالي المؤسس عام ١٩٣٤ بناء على تعاليم الآباء المؤسسين للصهيونية، والقريب من "الليكود" كذلك.

 

إلا أن قفزة ليبرمان الكبرى وقعت في عام ١٩٨٨، حين التقى بنيامين نتنياهو، السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة حينها، حيث نجح في اكتساب ثقته ليصبح مساعده الشخصي، ليقفز إثر ذلك بشكل مطّرد قفزات حاسمة على السُّلمين السياسي والحزبي ليصبح الأمين العام لحزب الليكود عام ١٩٩٣، ثم الأمين العام لمكتب رئيس الوزراء نتنياهو عام ١٩٩٦، قبل أن يستقيل من المنصب ومن الليكود عام ١٩٩٧ احتجاجا على تنازلات نتنياهو المزعومة للفلسطينيين في مذكرة "واي ريفر"، مقررا الاستناد إلى شخصيته وخلفيته الاجتماعية وآرائه المثيرة للجدل للدخول إلى معترك السياسة بنفسه فقط، ودون مساعدة.

 

undefined

بدأ ليبرمان العمل على الفور، وفي عام ١٩٩٩ أسّس حزب "إسرائيل بيتنا" الذي ترتكز دائرته الانتخابية على اليهود الذين يتشاركون مع ليبرمان أصوله السوفيتية، قبل أن تتوسع القاعدة الجماهيرية للحزب لتشمل أشد اليهود تطرفا بفعل مواقف ليبرمان وتصريحاته العدائية مثل قوله: "على قيادة حماس أن تذهب للجنة"، أو دعوته لقصف سد أسوان ردا على الدعم المصري لعرفات، وحتى مطالبته بإعدام أعضاء الكنيست الذين يلتقون قيادات "حماس"، والأكثر إثارة للجدل مشروعه [5] لـ "الدولتين" القائم على تبادل للأراضي بين الإسرائيليين والفلسطينيين والذي يشمل عملية "نقل جماعي" لفلسطينيي الثمانية والأربعين إلى "دولتهم الفلسطينية" المستقبلية بعد سحب جنسيتهم الإسرائيلية. [6]

 

حقق حزب ليبرمان ودعواته المتطرفة نجاحات مبكرة واضحة، ونجح الحزب في الفوز بأربعة مقاعد في انتخابات عام ١٩٩٩ قبل مرور أقل من عام على تأسيس الحزب، وبات ليبرمان ضيفا دائما في الكنيست، وحافظ على مقعد دائم في الحكومة، حيث شغل منصب وزير البنية التحتية بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٢ ثم وزير النقل خلال الفترة بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤، قبل أن يتم استبعاده من الحكومة إثر معارضته لانسحاب أريل شارون من قطاع غزة عام ٢٠٠٥، ليعود مجددا كلاعب أساسي عام ٢٠٠٦ بفوز حزبه بـ١١ مقعدا، ويجبر رئيس الوزراء الجديد إيهود أولمرت على منحه منصب وزير الشؤون الإستراتيجية الذي استحدثه له خصيصا وسلّمه إياه بحثا عن حلفاء سياسيين، في لعبة سياسية يبدو أن ليبرمان سيُجيدها أكثر فأكثر مع مرور الوقت، قبل أن ينسحب ليبرمان من حكومة أولمرت عام ٢٠٠٧ احتجاجا على حضور أولمرت لمؤتمر "أنابوليس" الهادف لإحياء عملية السلام. [7]

 

تدريجيا، وسّع حزب ليبرمان نفوذه في الكنيست أكثر فأكثر، حيث حصل على ١٥ مقعدا عام ٢٠٠٩، وبات بذلك "صانع الملوك" [8] في إسرائيل، الذي بإمكانه تسيير أو تعطيل تشكيل أي حكومة ائتلافية، مما دفع رئيس عمله السابق نتنياهو لتسليمه منصب وزير الخارجية، الذي حافظ عليه بعد فوز القائمة المشتركة لحزبه مع "الليكود" في انتخابات عام ٢٠١١، قبل أن يستقيل ويتعرض لمحاكمات إثر شبهات فساد عام ٢٠١٢، كانت بمنزلة ضربة لحزبه الذي حصل بالكاد على ستة مقاعد في انتخابات عام ٢٠١٥.

 

لعبة ليبرمان الأخيرة
في تلك الانتخابات، فاجأ ليبرمان الجميع بإعلانه أنه لن ينضم إلى حكومة ائتلافية من الأحزاب اليمينية والدينية التي شكّلها نتنياهو، مدعيا أنه وحزبه "اختاروا المبادئ على المناصب"، ومتهما تحالف نتنياهو بأنه "انتهازي" وغير "وطني"، [9] مما زاد الصعوبة على نتنياهو الذي بات -بدون مقاعد حزب ليبرمان الستة- يملك أغلبية بفارق صوت واحد في الكنيست، مما يجعل مهمة تمرير تشريعاته شبه مستحيلة.

 

 

إلا أن نتنياهو، وبعد ذلك بعام، نجح بإقناع ليبرمان، الذي كان يقود الحزب اليميني الوحيد في المعارضة، بالانضمام إلى التحالف عبر تسليمه منصب وزير الحرب، [10] في الخطوة التي وصفها الوزير السابق موشيه أرينس بأنها "خاطئة"، واعتبرها مسؤولون فلسطينيون بأنها "تهديد للأمن الإقليمي"، خصوصا بعد تصريحه الدعائي المثير للجدل، الذي توعّد به بأن يغتال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية "خلال ٤٨ ساعة ما لم يعد جثث الجنود الإسرائيليين" الذين قُتلوا خلال الحرب الأخيرة مع حماس.

 

مرّت الشهور والأيام ولم يفعل ليبرمان أي شيء سوى تعزيز صورته الدعائية، وانزوى في كنف نتنياهو لفترة طويلة، ونجح رئيس الوزراء المخضرم في عزل خصمه اللدود حتى مع منصبه الكبير حين أحاطه بالعديد من الموالين له من وزراء المجلس الأمني وقادة أجهزة الموساد والشين بيت وحتى رئيس أركانه غازي أزينكوت الذين سارعوا جميعا بتأييد هدنة نتنياهو في غزة، ما ترك ليبرمان وحيدا بشكل متزايد مضطرا للعب ببطاقته الأثيرة وهي الانسحاب.

 

استقال ليبرمان إذن في نهاية المطاف تاركا تحالف نتنياهو عند ذات النقطة الهشة التي كان عليها بعد انتخابات عام 2015، مع أغلبية برلمانية بفارق مقعد وحيد، وحكومة على وشك الانهيار بفعل تهديدات زعيم حزب البيت اليهودي ووزير التعليم نفتالي بينيت بالانسحاب من الحكومة ما لم يمنحه نتنياهو منصب وزير الدفاع، وبدا لوهلة أن الانتخابات المبكرة تدق الأبواب تماما كما أراد ليبرمان.

 

لكن نتنياهو ليس ذلك الخصم الذي يمكن مباغتته بسهولة، أو حتى ابتزازه، ومن أجل مواجهة دعوات بينيت وعدم الانجرار لتسليم حقيبة الحرب لأحد خصومه مجددا أعلن نتنياهو أنه سيحتفظ بحقيبة الدفاع لنفسه وألقى الكرة في ملعب خصومه للحفاظ على الحكومة، ما اضطر بينيت إلى التراجع مجددا لتستعيد حكومة نتنياهو موقعها على حافة الهاوية من جديد.

 

undefined

 

لكن مقامرة ليبرمان لا يبدو أنها على وشك النهاية، فمع تحالف حكومي أكثر هشاشة سوف يواجه رئيس الوزراء المزيد من المصاعب في تمرير أجندته التشريعية، وبخاصة قانون "جدعون ساعر" الذي صممه نتنياهو خصيصا للتغلب على أي محاولة للإطاحة به وإلزام الرئيس الإسرائيلي بتكليف رئيس الحزب الحاصل على الأغلبية بتشكيل الحكومة وليس أي عضو كنيست ممثل للحزب كما ينص القانون الحالي، والأهم من ذلك أن حظوظ نتنياهو في الانتخابات القادمة، سواء انهار التحالف الحاكم إلى انتخابات مبكرة أو أُجريت الانتخابات في موعدها العام المقبل، لم تعد مضمونة كما كان في السابق.

 

ومع ذلك، فإن ليبرمان يُدرك أنه ليس قادرا على الانتصار على نتنياهو في لعبة مباشرة، وأن جُلّ ما يطمح إليه هو تعزيز دوره كصانع للملوك من خلال زيادة حصص حزبه في الانتخابات القادمة أولا، وتعزيز صورته كوجه بديل لليمين الإسرائيلي ثانيا، لتعزيز فرصه في قيادة حكومة ائتلافية يمينية قادمة أو على الأقل امتلاك حظوظ أكبر من التأثير فيها. وفي هذا الصدد يبدو أن لعبة ليبرمان تؤتي أُكلها، فوفقا لاستطلاع أجرته "القناة الثانية" الإسرائيلية عقب استقالة ليبرمان، أظهرت النتائج أن حزب ليبرمان، "إسرائيل بيتنا"، سيحصل على سبعة مقاعد في حال حصول انتخابات مبكرة، بعد أن كانت نتائج الاستطلاعات السابقة تُظهر حصوله على خمس فقط، مقابل تراجع الليكود إلى ٢٩ مقعدا، خاسرا مقعدا واحدا عما يملكه الآن. [11]

 

يُظهر هذا الصعود الطفيف لشعبية "إسرائيل بيتنا" الطبيعة السياسية للعبة ليبرمان الأخيرة، والتي لم يخجل "إيفيت" من إعلانها بوضوح عندما كان في عز قوته في حكومة ليبرمان قائلا حينها إن دخوله في حكومة أولمرت لم يكن أكثر من خطوة لتجاوز أولمرت نفسه، تصريحات تبدو متسقة مع شخصية الوزير الذي استقال أو استُبعد ربما بقدر ما فاز وشارك، والذي يراهن هذه المرة بكل رصيده السياسي على الانتقال من موقع صانع الملوك إلى موقع الملك في مقامرة لا تبدو مأمونة أو مضمونة بحال من الأحوال.