شعار قسم ميدان

تأديب بريطانيا.. كيف تدفع لندن فاتورة أحلام الانفصاليين عن أوروبا؟

midan - رئيسية بريطانيا

في يونيو/حزيران 2016 وجدت المملكة المتحدة نفسها في خضم فانتازيا سياسية، وذلك بعدما صوتت أغلبية ضئيلة من المشاركين في استفتاء البريكسيت، لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كانت مآلات الأمور واضحة بالنسبة للبعض في ذلك الوقت. فبعد فترة وجيزة من التصويت على سبيل المثال، أُجبر مؤيدو البريكسيت على العدول عن مزاعمهم بأن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستوفر 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيًا يمكن إنفاقها على الخدمات الصحية الوطنية، التي تواجه حاليًا قصورًا ضخمًا في الموظفين، وهو ما يرجع جزئيًا إلى القيود المفروضة على الهجرة التي جاءت البريكسيت لتعزيزها. لكن الآن وبعد صدور مسودة لبنود اتفاقية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) صار حجم هذه الحلم الخيالي واضحاً للجميع.

 

الحلم في مواجهة الواقع

علَّق مؤيدو البريكسيت حملتهم على أمل نجاح المملكة المتحدة في الاحتفاظ بمعظم مزايا بقائها في السوق الأوروبية الموحدة، التي تسمح بالتجارة الحرة في السلع والخدمات في أنحاء القارة، دون أن تلتزم بسداد مستحقات خزائن الاتحاد الأوروبي أو الخضوع للوائحه. وادعوا في الوقت نفسه، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيمكنها من التفاوض على صفقات أخرى للتجارة الحرة في إطار السعي لتنمية صادرات بريطانيا وخفض تكلفة وارداتها.

 

إلا أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي ساورتهم مخاوف من أن حصول المملكة المتحدة على مثل هذه الصفقة سيدفع دولاً أخرى في الاتحاد لأن تحذو حذوها، وهو ما سيشكل تهديدًا لوجود الاتحاد نفسه. لم يرغب أي من الطرفين في "خروج خشن"، تخرج المملكة المتحدة بموجبه من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، إلا أن الإطار التوجيهي الذي قرر الاتحاد الأوروبي الالتزام به خلال هذه المفاوضات يقضي بأن تتكبد المملكة المتحدة خسائر مترتبة على مغادرتها للاتحاد. وهذا ما سيجري.

   

     

اعتقدت لندن لبعض الوقت أنها ستكون صاحبة اليد العليا في المفاوضات، إذ أن الكثير من الصادرات الأوروبية تمر عبر القنال الإنجليزي، والتي لا تقتصر على قطع غيار السيارات الألمانية. لكن في الحقيقة، فإن الاتحاد الأوروبي هو من يمسك بخيوط اللعبة: إذ يسهل على أعضاء الاتحاد العيش دون حرية الوصول إلى بضائع الأسواق البريطانية، وهو ما لا ينطبق بذات القدر على قدرة الأسواق البريطانية الاكتفاء بنفسها، دون حرية الوصول إلى الأسواق الأوروبية. ففي النهاية، تظل الدول الأوروبية جزءً من سوق واحدة تضم ما يقرب 450 مليون فرد. بينما في المقابل، لا تملك المملكة المتحدة إلا أن تأمل في إبرام اتفاقات تجارية جديدة مع بعض البلدان المتناثرة في أنحاء العالم، إذ أن الكومنولث لا يمثل سوى ورقة توت تغطي المصالح الذاتية الوطنية، كما يأتي هذا بالتزامن مع النهج الحمائي الذي سلكته الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.

 

بيد أن هذه الحقيقة لا تزال غائبة عن قاطني العالم الخيالي الذي آلت إليه السياسة البريطانية. في اليمين، يستنكر مؤيدو البريكسيت المتشددون الاتفاق الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء تيريزا ماي، زاعمين أنه نوع من "الخضوع والتبعية" لأوروبا، كما لو كان هناك شيء أفضل يمكن تحقيقه. أما في جانب اليسار، فقد أكد حزب العمال البريطاني على أنه سيقبل بالبريكسيت –مثلما أراد كثير من ناخبيه التقليديين من الطبقة العاملة-، فقط إن كانت بنود اتفاقية الخروج جيدة مثل التي تمتعت بها المملكة المتحدة أثناء وجودها في الاتحاد الأوروبي. لم يكن جيرمي كوربين، رئيس حزب العمال، من المتحمسين للاندماج مع أوروبا، وتمثلت أهداف حزبه في الموازنة بين رغبات ناخبي الطبقة العاملة المؤيدين للخروج، وبين العديد من مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي الذين تدفقوا إلى الحزب في الانتخابات الأخيرة. إلا أن إمعان النظر في سياسة الحزب المقصودة سيقود لاكتشاف عدم منطقيتها، وأنها مجرد حلم خيالي آخر.

 

بالطبع لا يتعلق هدف قيادة حزب العمال بالبريكسيت ذاته، بل يتلخص هدفهم في إجبار حكومة المحافظين على إجراء انتخابات عامة أخرى، انتخابات يأمل الحزب أن يفوز بها على الرغم من تقدمه الضئيل في استطلاعات الرأي، وهو تقدم محير بالنظر إلى حالة الفوضى التي ضربت صفوف حكومة ماي. وقد كان للانتخابات تأثير كبير على مسار البريكسيت بالفعل. إذ أن القرار الذي ترك أثره الحاسم على الاتفاق الجديد، والذي قد يودي بالحكومة البريطانية، اُتخذ في أبريل/نيسان 2017، عندما اختارت ماي الدعوة لانتخابات عامة قبل أن يغدو لك ضروريًا. حظي حزب المحافظين، في بدايات هذا العام، بتقدم كبير في استطلاعات الرأي، وبدت هذه فرصة لتعزيز موقعه في الصدارة وتحقيق الأغلبية. إلا أن حملته المبتذلة،   دفعت العديد من مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى حضن حزب العمال كنوع من الانتقام، ومن ثم نال المحافظون عدداً قليلاً من مقاعد البرلمان، ما اضطرهم إلى تشكيل تحالف محدود مع الحزب الديمقراطي الوحدوي، من أجل البقاء في السلطة.

 

الحاجز الحدودي

إن الحزب الديمقراطي الوحدوي هو حزب صغير يمثل كتلة انتخابية تتكون في معظمها من الأصوات البروتستانتية في مقاطعة أيرلندا الشمالية المنقسمة. بدأ هذا الحزب، بعد أن وجد نفسه بغتة في تحالف مع المحافظين، في التعبير عن الرؤى الراسخة في كافة أنحاء أيرلندا الشمالية، التي ترى بوجوب إزالة أي عراقيل أمام حركة الناس وتدفق التجارة عبر حدودها مع جمهورية أيرلندا في الجنوب، وبالتبعية، إزالة الحدود في البحر الأيرلندي بين أيرلندا الشمالية والبر الرئيسي البريطاني.

    

      

مثلت أولى تلك الأمنيات والتطلعات أولوية قصوى لجمهورية أيرلندا، منذ أن لعبت إزالة القيود المفروضة على الحدود، دورًا مفصليًا في اتفاقية 1998 التي جلبت السلام لأيرلندا الشمالية. ومن هذا المنطلق، خاض ليو فرادكار، رئيس الوزراء الجديد المرن والنشيط، حملة ناجحة لضمان أن هذا البند سيصير أيضاً خطًا أحمر للاتحاد الأوروبي خلال مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد. وعلى الرغم من القضايا العديدة التي يثيرها البريكسيت بالنسبة للجانبين، فإن أهمها يكمن في كيفية ضمان عدم إقامة حدود صلبة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وهي قضية شائكة كان بإمكانها أن تعيق الاتفاق.
 

بعد العديد من المعارك، توصل الاتفاق النهائي إلى حل لهذه المسألة، عبر جعل حرية حركة البضائع والأشخاص بين شمال وجنوب جزيرة أيرلندا هدفا نهائياً، مصحوباً بـ "شرط" يفرض على المملكة المتحدة بأسرها البقاء في الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، حتى يتفق الطرفان على أن الهدف قد تحقق عبر الوسائل التكنولوجية أو غيرها. سيسمح هذا الاتحاد الجمركي بالتدفق الحر للسلع والبضائع عبر الحدود، ولكنه يفرض على المملكة المتحدة، الالتزام بمجموعة من لوائح الاتحاد الأوروبي بشأن المعونة الحكومية للشركات، والضرائب، ومعايير العمل، ومسائل أخرى مع الامتناع عن عقد اتفاقات تجارية مع دول أخرى.
 

وهذا الشرط هو ما يعتبره مؤيدو البريكسيت خيانة. إذ يخشون من أن تعلق المملكة المتحدة لأعوام، إن لم يكن لعقود، في الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، وفي اللوائح المصاحبة له والتي لم يعد للبريطانيين رأي فيها. ومثل الأيام الخوالي، ها هي "المسألة الأيرلندية" تثير الذعر في أروقة السياسة البريطانية. برغم كل الإحباطات التي تعرض لها مؤيدو البريكسيت، فإن وضعهم يُذكّر بالكلمات الشهيرة لمارغريت تاتشر: لا يوجد بديل. إلا أن ماي ليست تاتشر، وليس من الواضح إذا كان الوزراء الذين اختارتهم للتفاوض بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد قدموا لها أفضل ما لديهم، لكن ماي لم تكن لتحصل على اتفاق أفضل في ظل الظروف الجيوسياسية للموقف. كما أن هناك توافق عام على أن الانسحاب بدون التوصل إلى صفقة أو اتفاق، من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى، لا تصيب أرصفة موانئ القنال الإنجليزي وحسب، بل تعصف بالاقتصاد البريطاني بأكمله.

 

في هذه المرحلة، لا أاحد يعرف إن كانت إدارة ماي ستصمد أمام الاضطرابات السياسية التي سببها الإعلان عن هذه الصفقة، أم  ستتمكن من تمريرها في برلمان شديد الانقسام. فداخل حزب المحافظين نفسه، دعا جاكوب ريس موج، وهو من زعماء مؤيدي البريكسيت، إلى التصويت على سحب الثقة من ماي. هذه ليست صفقة رابحة بالنسبة للمملكة المتحدة، وهو ما سارعت جميع الأطراف المشاركة في مناقشات البريكسيت إلى الإشارة إليه. كما أن هذه الصفقة لا تتشابه، إلا قليلاً، مع ما ظن المصوتون على خروج بريطانيا من الاتحاد في عام 2016 أنهم صوتوا عليه.
   

      

إن الإحباطات حاضرة على الجانب الآخر من القنال أيضًا. إذ لدى العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تحفظاتها الخاصة تجاه شروط الاتفاق: وما زالوا قلقين من أن لا تكون لوائح الاتحاد الأوروبي، التي ستخضع لها المملكة المتحدة ثمنًا لبقائها في الاتحاد الجمركي، رادعة بما يكفي. إذ يخشى أعضاء الاتحاد الأوروبي من أن يؤسس البريطانيون اقتصادًا منخفض الضريبة ومنخفض الأجور والتكلفة، عن طريق ضخ منتجات رخيصة عبر حدودهم، لا تستطيع شركاتهم منافستها. وهذا أيضًا ضرب من خيال، لأن المملكة المتحدة لديها اقتصاد أكثر تقدمًا من العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لكن تمرير الاتفاق مرهون في النهاية بموافقة جميع الدول الأعضاء.

 

باختصار، لا يمكن لأي شخص يريد صناعة فيلم رعب سياسي أن يحلم بحبكة أفضل من تلك التي تعيشها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك لا نعرف حتى الآن كيف سينتهي هذا الفيلم، لأسباب من بينها، أن معظم الممثلين السياسيين يؤدون أدواراً لا تجمعها سوى علاقة عرضية بالواقع.

—————————————-

ترجمة (فريق الترجمة)

هذا التقرير مترجم عن: Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان