شعار قسم ميدان

مشاريع "داربا" السرية.. هكذا تسعى أميركا لخلق جيش من الآليين

اضغط للمشاهدة

"الليلة أود أن أشارككم فكرة تُثير شغفي بشدة"، قال الرجل. شعره الأسود الطويل مُسرَّح إلى الخلف كما لو كان نجم فرقة روك، أو بلطجيا! "فكروا في التالي"، واصل قائلا: "عبر التاريخ الإنساني برمته، كانت الطريقة التي عبرنا بها عن نيّاتنا، الطريقة التي عبرنا بها عن أهدافنا، الطريقة التي عبرنا بها عن رغباتنا، مقيَّدة بأجسادنا". عندما أخذ نفسا، بدا وأن عظام قفصه الصدري قد ملأت القميص. ثم قال مشيرا إلى جسده: "إننا نأتي إلى العالم بهذا. أيا كان ما تهبنا إياه الطبيعة أو الحظ".

ثم أخذ حديثه منعرجا: "حسنا، كان لدينا ولسنوات مضت الكثير من الأدوات المثيرة للاهتمام، لكننا  وبشكل جوهري بحاجة إلى أجسادنا للتعامل معها". ثم منعرج آخر: "إليكم حالة نألفها جميعا، إنه إحباط الهواتف الذكية، أليس كذلك؟ هذه أداة أخرى، صحيح؟ ونحن لا نزال نتصل بتلك الأجهزة عبر أجسادنا". ثم قام بوثبة: "أزعم لكم أن هذه الأدوات ليست بالذكية. وربما كان أحد أسباب ذلك هو أنها غير متصلة بأدمغتنا. ربما لو أمكننا ربط تلك الأجهزة بأدمغتنا، لأمكنها أخذ فكرة عن أهدافنا، ونيّاتنا، ومنبع شعورنا بالإحباط".

هكذا استُهلّت "ما وراء الأعضاء الآلية"، محاضرة لجاستين سي. سانشيز، الذي كان يشغل آنذاك منصب أستاذ مساعد في الهندسة الطبية الحيوية وعلم الأعصاب بجامعة ميامي، وكان عضو هيئة التدريس في "مشروع ميامي لعلاج الشلل"، كان يتحدث في مؤتمر تيديكس بفلوريدا عام 2012. ماذا بعد الأعضاء الآلية؟ وصف سانشيز عمله على أنه "محاولة لفهم الشيفرة العصبية" وهي عملية تتضمن "دس أقطاب كهربائية عالية الجودة"، بقُطْر شعرة رأس إنسان، "في الدماغ" و"الإنصات لنيّاته الدفينة" وإلقاء نظرة على "أهدافه ومكافآته" ومن ثم "البدء بفهم الطريقة التي يقوم فيها الدماغ بتكويد سلوك الإنسان".

 

معللا، قال سانشيز: "مع كل هذه المعرفة، ما نحاول القيام به هو صنع أجهزة طبية جديدة، ورقائق جديدة قابلة للزرع في الجسم يمكن تكويدها أو برمجتها بكافة تلك الجوانب المختلفة. الآن، لربما كنتم تتساءلون عن استخدامات تلك الرقائق؟ حسنا، ستُمنح أولوية تلقيها للمُقعدين. سيكون من دواعي سروري أن أتمكن في ختام مسيرتي المهنية من مساعدة شخص على مغادرة كرسيه المتحرك".

وتابع سانشيز: "إن الناس الذين نحاول مساعدتهم لا ينبغي أن يظلوا أسارى أجسادهم. واليوم يمكننا تصميم تكنولوجيات من شأنها أن تحررهم. وهذا يلهمني بحق. ويدفعني لكي أنهض صباح كل يوم من السرير. شكرا جزيلا لكم". ثم أرسل قُبلة للجمهور. بعدها بعام، ذهب جاستين سانشيز للعمل لدى وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة "داربا" (DARPA)، وهي قسم الأبحاث والتطوير في البنتاغون. في داربا، هو يشرف حاليا على كافة الأبحاث المتعلقة بشفاء وتحسين العقل والجسد الإنساني. طموحه يتخطى مساعدة المصابين بالإعاقة على التخلي عن الكرسي المتحرك، يتخطاها بكثير.

لعقود، ظلت داربا تحلم بدمج الكائنات الإنسانية بالآلات. قبل بضع سنوات، عندما شكّلت إمكانية الأسلحة المتحكم بها دماغيا تهديدا للعلاقات العامة في الوكالة، لجأ المسؤولون إلى القدرات الإبداعية، وقاموا بإعادة تشكيل الأهداف المعلنة للأبحاث التكنولوجية العصبية بحيث تركّز ظاهريا على هدف ضيق هو علاج الإصابة وشفاء المرض. بزعم المسؤولين، لم تكن الأهداف تتضمن التسليح أو الحروب. كان الأمر يتعلق بالعلاج والرعاية الصحية. فمن سيعترض؟ لكن حتى وإن كان هذا الزعم في محلّه، تغيرات من هذا النوع ستكون مصحوبة بآثار أخلاقية واجتماعية وميتافيزيقية شديدة. خلال عقود، سيكون علم الأعصاب قد حطم المجتمع بطريقة ستبدو معها تأثيرات الهاتف الذكي والإنترنت أشبه باهتزازة رقيقة على وجه بحيرة التاريخ. الأكثر إزعاجا، إنَّ التكنولوجيا العصبية ستفنّد سؤالا بعمر الدَّهر: ما هو الكائن الإنساني؟

مجازفات مرتفعة.. مكافآت مرتفعة

في خطاب ألقاه عام 1958 أمام عصبة الأمم، أعلن الرئيس دوايت أيزنهاور أنه يجب أن تكون للولايات المتحدة الأميركية "نظرة تطلعيّة في مجال البحث والتطوير من أجل استشراف أسلحة المستقبل المدهشة". بعدها بعدّة أسابيع، أنشأت إدارته وكالة البحوث المتقدمة "أربا"، جهاز مستقل بيروقراطيا يتبع وزارة الدفاع. هذه الخطوة كانت مدفوعة بإطلاق الاتحاد السوفياتي قمره الاصطناعيّ "سبوتنيك". كان الاختصاص الفعلي للوكالة التعجيل بدخول أميركا إلى الفضاء.

الرئيس دوايت أيزنهاور (مواقع التواصل)
الرئيس دوايت أيزنهاور (مواقع التواصل)

خلال السنوات القليلة اللاحقة، توسعت مهمة أربا لكي تشمل "تكافلية إنسان/حاسوب" وبرنامجا سريا لتجارب السيطرة على العقل أُطلق عليه اسم سري هو "مشروع باندورا". كانت ثمة جهود عجيبة تضمنت محاولة تحريك الأشياء عن بُعد باستخدام التفكير وحده. في 1972، توخيا للشفافية، أُضيفت مفردة "الدفاع" إلى الاسم، وأصبح اسم الوكالة "داربا". لتحقيق مهمتها، مولت داربا الباحثين الذين ساهموا في ابتكار تكنولوجيات غيّرت طبيعة المعركة (مقاتلات الشبح، وطائرات بدون طيّار) وشكّلت الحياة اليومية لمليارات البشر (تكنولوجيات تمييز الصوت، وأنظمة التموضع العالمي). أكثر ابتكاراتها انتشارا هو الإنترنت.

ولع الوكالة بما تطلق عليه أبحاث "مجازفة مرتفعة، مكافأة مرتفعة" ضمن لها أنها ستقوم أيضا بتمويل جحافل الحمقى. "المشروع سيسو"، مفخرة الحرب العالمية الثانية عديم الجدوى، كان يروم صنع "سلاح إشعاعي جزيئي" يُمكن نشره في حال وقوع هجوم سوفياتي. تقوم فكرته على إطلاق سلسلة من الانفجارات النووية تحت البُحيرات العظمى (في أميركا الشمالية) لتخلّف هوة ضخمة تحت الأرض. تتلاشى البحيرات بعدها، في غضون 15 دقيقة، لكي تولد الكهرباء اللازمة لإطلاق شعاع جزيئي. فيما بعد يتسارع الشعاع عبر أنفاق تمتد لمئات الأميال طولا (والتي تشكلت هي أيضا بفعل الانفجارات النووية تحت الأرضية) بهدف تجميع قوة تكفي لإطلاق الشعاع في الجو والقضاء على الصواريخ السوفياتية القادمة من السماء. خلال الحرب الفيتنامية، حاولت داربا بناء "آلة سبرانية بخصائص بشرية" وهي عربة أدغال أسماها المسؤولون "الفيل الميكانيكي".

إن الأهداف المتنوعة وفي بعض الأحيان المتعارضة لعلماء داربا وأسيادهم في وزارة الدفاع شكّلت بيئة بحثية تكافلية ملتبسة، حرة من الرقابة البيروقراطية المعتادة ومنعتقة من قيود الاستعراض العلمي من جانب النظراء، كما كتبت شارون واينبرغر في كتاب صدر لها مؤخرا، بعنوان "المهندسون الإبداعيّون للحرب". بحسب واينبرغر، فإن التاريخ المؤسسي لداربا حافل بالعديد من المناسبات التي قُدمت فيها تقنية جديدة في قالب تطبيقي جذّاب، لإخفاء دوافع أكثر حقيقية إنما إشكالية من ورائها. في داربا، اليد اليسرى تعرف، ولا تعرف، ما تقوم به اليد اليمنى.

الوكالة مرصوصة بشكل خادع. 220 موظفا فحسب، يحظون بدعم 1000 متعاقد، يذهبون للعمل كل يوم في مقرّ داربا، مبنى عصري من الزجاج والفولاذ يقع في أرلينغتون بولاية فرجينيا قبالة الشارع الذي تقع فيه صالة تدريب الواشنطن كابيتالز. قرابة 100 من أولئك الموظفين هم مديرو مشاريع، من علماء ومهندسين، يتمثل جزء من عملهم في الإشراف على 2000 ترتيب استعانة خارجية مع الشركات، والجامعات، ومختبرات الحكومة. قوة العمل المؤثرة لداربا تصل في الحقيقة إلى عشرات الآلاف. رسميا يُقال إن الميزانية هي نحو 3 مليارات دولار أميركي، وإنها توقفت تقريبا عند هذا المستوى لفترة طويلة غير معقولة، نتحدث عن مدة 14 عاما.

مجريات الأمور الداخلية في داربا معقدة. حيث تتغير وتتطور أهداف وقيم بحثها العلمي كما تفعل لعبة خطرة
مجريات الأمور الداخلية في داربا معقدة. حيث تتغير وتتطور أهداف وقيم بحثها العلمي كما تفعل لعبة خطرة

مكتب التكنولوجيات البيولوجية، الذي أنشئ في 2014، هو أحدث الأقسام الستّ للوكالة. إنه القسم الذي يرأسه جاستن سانشيز. وأحد أهدافه هو "استعادة واستدامة قدرات المقاتل الحربي" بشتّى الوسائل، بما فيها تعزيز التكنولوجيا العصبية، أي، تطبيق مبادئ الهندسة على بيولوجيا الجهاز العصبي. على سبيل المثال برنامج "استعادة الذاكرة النشطة" يعمل على تطوير معوِّضات عصبية -وهي شرائح إلكترونية متناهية الصّغر تُزرع في نسيج الدماغ- تهدف إلى تعديل عملية تكوين الذاكرة في حالات الإصابة الدماغية المسببة للاضطراب. هل تقوم داربا أيضا بتشغيل برنامج بيولوجي سري؟ في الماضي، قامت وزارة الدفاع بأشياء من هذا القبيل. أجريت على البشر اختبارات لا أخلاقية، ومريبة، وغير قانونية، بحسب كثيرين. في بروتوكول "الفتى الكبير"، على سبيل المثال، قورن بين التعرض الإشعاعي للبحارة العاملين على سطح السفينة المقاتلة وأولئك الذين في يعملون في الحجرات، دون إخبار أي منهم أنهم كانوا جزءا من تجربة.

العام الفائت سألت سانشيز مباشرة عمّا إذا كان أي من أعمال داربا في مجال التكنولوجيا العصبية، تحديدا، سرّيا. أشاح بناظريه وقال: "لا أستطيع، علينا تفادي هذا الموضوع، لأنني لا أستطيع الإجابة عنه بأي شكل كان". عندما قمت بتأطير السؤال بشكل شخصي: "هل أنت مرتبط بأي مشروع علم أعصاب سري؟"، نظر في عينيّ وقال: "إنني لا أقوم بأي عمل سري يتعلق بأهداف التكنولوجيا العصبية".

كان خطابه حذرا، لكنه لم يكن مبهما. لقد ظهر سانشيز في مناسبات عامة يكرر بعض الأشياء (فيديوهات منشورة عبر قناة داربا على يوتيوب)، لإظهار مقاطع سارّة عن أخبار مطمئنة حول تطبيقات مثبتة لداربا، على سبيل المثال، أطراف اصطناعية يتحكّم بها الدماغ لجندي خسر كلتا ذراعيه. من حين لآخر يأتي على ذكر بعض تطلعاته الأبعد. أحدها القدرة، على نقل المعرفة والأفكار من دماغ شخص لآخر، عبر جهاز حاسوب.

"نحاول إيجاد طرق لكي نقول نعم"

كان للطب وعلم الأحياء أهمية ضئيلة لدى داربا حتى التسعينيات، عندما أصبحت الأسلحة البيولوجية تشكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة. أجرت الوكالة استثمارا مهما في البيولوجيا عام 1997، عندما أنشأت داربا برنامج "النظم البيولوجية المتحكم بها". تمكّن عالِم الحيوان آلان إس. رودولف من القيام بذلك المجهود الهائل من دمج العالم الطبيعي بآخر من صنع الإنسان. على حد قوله، كان الهدف هو "زيادة، إن جاز التعبير، وتيرة الباود، أو الاتصالات المتبادلة بين النظم الحية وغير الحية". أنفق أياما وهو يعمل على مسائل مثل "هل يمكننا فكّ الإشارات المرتبطة بالحركة في الدماغ من أجل السماح لك بالسيطرة على شيء يقع خارج نطاق جسدك، مثل ساق أو ذراع اصطناعية، أو جسم آلي، أو منزل ذكي، أو لإرسال الإشارة إلى شخص آخر وجعله قادرا على تلقيها؟".

مشاريع "داربا" السرية

أصبحت التحسينات البشرية أولوية لدى الوكالة. "ألا يكون للجنود أي قصور جسماني، أو نفسي، أو إدراكي سيكون مفتاح النجاة والهيمنة التنفيذية في المستقبل". كما تنبأ مايكل جولد بلات، الذي كان مسؤول العلوم والتكنولوجيا لدى ماكدونالدز قبل الانضمام إلى داربا في 1999. لزيادة القدرة الإنسانية على "التحكم بالتطور"، قام بتجميع باقة من البرامج التي بدت أسماؤها وأنها مأخوذة من ألعاب الفيديو أو أفلام الخيال العلمي: "الهيمنة الأيضية"، و"الصمود في القتال"، و"الأداء الاستمراري المُساعَد"، و"الإدراك المعزز"، و"أداء الجندي القمّة"، بالإضافة إلى "واجهة استخدام دماغ/آلة".

إنَّ برامج هذا العصر، كما تصفها آني جاكوبسن في كتابها الصادر عام 2015، بعنوان "دماغ البنتاغون"، عادة ما وصلت مستويات العالِم المجنون. مشروع "الأداء الاستمراري المُساعَد" حاول صنع "جندي 24/7" بوسعه الاستمرار دون نوم حتى أسبوع كامل. ("إن مقياسي للنجاح"، كما قال مسؤول في داربا بشأن هذه البرامج، "هو أن تقوم اللجنة الأولمبية الدولية بحظر كل ما نقوم به").

كان ديك تشيني يستمتع بهذا النوع من الأبحاث. صيف 2001، قُدمت مجموعة من برامج "الجندي الخارق" لنائب الرئيس. وساهمت حماسته بالمجال الذي أفسحهُ الرئيس جورج بوش لداربا في وقت كانت فيه أسس الوكالة تتغير. لقد أفسح العلم الأكاديمي المجال "للإبداع" في صناعة التكنولوجيا. طوني تيثر، الذي أنفق سيرته المهنية يعمل بالتناوب لدى شركات التكنولوجيا الكبرى، ومتعاقدي صناعات الدفاع، والبنتاغون، أصبح مديرا لداربا. بعد هجمات 9/11، أعلنت الوكالة عن خطط لبرامج مراقبة تدعى "وعي المعلومات الكلي" (تيا)، الذي تضمن شعاره عينا تتوسط هرما وترسل شعاعا يغطي كافة جوانب الأرض. كانت المقاومة على أشدّها، فقد اتهم الكونغرس داربا بقيامها بتجاوز أورويلي (نسبة إلى جورج أورويل). رئيس البرنامج -الأدميرال جون بويندكستر، الذي تلطّخت سمعته سلفا بفضيحة تعود إلى سنوات ريجان- استقال في وقت لاحق، في 2003. هذا الخلاف لفت الأنظار على نحو غير مرغوب إلى أبحاث داربا حول الجنود الخارقين والدمج بين العقل والآلة. ذلك البحث أثار قلق البعض، وقد وجد آلان رودولف نفسه أيضا على طريق الخروج.

في هذا الوقت من الأزمة، وجّهت داربا دعوة إلى جوف لينغ، طبيب وعضو في اتحاد علم الأعصاب، وضابط قيد الخدمة في الجيش، آنذاك، للانضمام إلى مكتب علوم الدفاع. (تابع لينغ العمل في مكتب التكنولوجيات البيولوجية حتى عندما فُصل عن علوم الدفاع، في 2014). عندما أُجريت معه المقابلة من أجل أول وظيفة له في داربا، في 2002، كان يتحضر للعمل في أفغانستان ويفكر في احتياجات قتالية بعينها، أحدها كان "صيدلية تحت الطلب" من شأنها إنهاء الاعتماد على معظم الحشوات المسحوقية من المسكنات الحبوبية أو الكبسولية، وعوض ذلك استبدالها بعناصر فعالة يتم ابتلاعها عبر مكوّن بوزن أخفّ، وقابلية أشد للذوبان، مثل شرائط تنفس ليسترين. وأصبح هذا في النهاية أحد برامج داربا. إحساس الوكالة الجريء بالقدرة، ساند لينغ، الذي يتذكّر بسرور كيف أخبره زميل له: "إننا نحاول إيجاد طرق لكي نلقى القبول، لا الرفض". بذهاب رودولف، لينغ تسلّم الشعلة.

لينغ يتكلم بسرعة، لديه صوت أجش، كلمّا أسرع في الكلام، بدا أنه أقوى، وعندما قابلته، ضرب صوته السرعة القصوى وهو يتكلم عن أول مبدأ في علوم الدفاع. قال إنه تعلم ذلك "بالتحديد" من آلان رودولف: "يقوم دماغك بإخبار يدك بما يتعين عليها فعله. مبدئيا يداك هي أدواته، حسنا؟ وكان هذه تجليا بالنسبة لي". ثم تابع: "نحن مستخدمو أدوات، هذا ما نحن عليه. الإنسان يريد الطيران، يبني طائرة ويطير. يريد تدوين التاريخ، يصنع قلم حبر. كل شيء نقوم به يرجع إلى استخدامنا الأدوات، لا؟ والأدوات القصوى هي أيدينا وأرجلنا. أيدينا تسمح لنا بالعمل في البيئة لكي نصنع الأشياء، وأرجلنا تأخذنا إلى حيث تود أدمغتنا الذهاب. الدماغ هو العنصر الأهم".

قام لينغ بربط هذه الفكرة حول تفوق الدماغ بخبرته الطبية في أرض المعركة. سأل نفسه: "كيف يمكنني تحرير الجنس البشري من قيود الجسد؟". البرنامج الذي يُعرف به لينغ حق المعرفة يسمى "ثورة الأطراف الاصطناعية". منذ الحرب الأهلية، بحسب لينغ، كانت الأطراف الممنوحة لمبتوري الأعضاء بالكاد تتعدى أن تكون "خطّافا"، وليس دون مخاطر: "تخيل أخذ اغتسال صباحي بذلك الشقي [يقصد الخطاف]، وستكون بحاجة أخصائي مسالك بولية في كل يوم لعين". بمساعدة من زملائه في داربا، إلى جانب أكاديميين وباحثين لدى الشركات، قام لينغ وفريقه ببناء شيء كان يصعب فيما مضى مجرد تخيّله: ذراع اصطناعية متحكّم بها دماغيا.

لم يحدث أن كان اختراع مماثل مصدرا للدعاية الإيجابية لداربا منذ ابتكار الإنترنت. حظيت مراحل تطوّره بإعجاب مصحوب بالدهشة. في 2012، وفي برنامج 60 دقيقة ظهرت امرأة مشلولة تدعى جان شويرمان وهي تطعم نفسها لوحا من الشوكولاتة باستخدام ذراع روبوتيّة تحكمت بها عبر رقاقة في الدماغ. لكن عمل داربا لإصلاح الأجساد المتضررة كان مجرد علامة على طريق يؤدي إلى مكان آخر. لطالما كان للوكالة هدف أسمى، وفي محاضرة ألقيت عام 2015، يُطلعنا أحد مديري البرامج -أحد مجنّدي وادي السيليكون- على ذلك الهدف وهو "تحرير العقل من حدود الأجساد السليمة حتى". ما تتعلمه الوكالة من العلاج يشقّ طريقها نحو الارتقاء. الهدف هو جعل الكائنات الإنسانية شيئا آخر، بقدرات تتعدى تلك التي تولد معنا وتلك التي بوسعنا الحصول عليها عضويا.

مجريات الأمور الداخلية في داربا معقدة. حيث تتغير وتتطور أهداف وقيم بحثها العلمي كما تفعل لعبة خطرة. الحد الفاصل بين العلاج والتحسين يتلاشى. ولا يغفلنَّ أحد عن حقيقة أن أول حرف في اسم الوكالة هو "د". بعد عام ونصف على فيديو شويرمان وهي تطعم نفسها لوح شوكولاتة عبر التلفاز، صنعت داربا فيديو آخر لها، تظهر فيه واجهة استخدام كمبيوتر/دماغ الخاصة بها موصولة بجهاز محاكاة طيران إف-35، وكانت تقوم بإطلاق الطائرة. أفصحت داربا عن هذا فيما بعد ضمن مؤتمر يدعى "مستقبل الحرب".

جهود جوف لينغ واصلها جاستين سانشيز. في 2016، ظهر سانشيز في مناسبة بعنوان "يوم الديمو" لدى داربا رفقة رجل يدعى جوني ماثيني، يصفه مسؤولو الوكالة بأنه أول مبتور ضلع علوي يتلقى "لحاما عظميا"، إنه أول رجل تُلحم ذراعه الاصطناعية بالعظم مباشرة. لقد عرض ماثيني ما كان، آنذاك، أكثر الأذرع الاصطناعية تطورا لدى داربا. أخبر الوافدين: "يمكنني أن أجلس هنا وأرفع ثقّالة بوزن 45 باوندا طيلة اليوم، إلى أن تفرغ شحنة البطارية". في اليوم التالي، عنونت "جيزمودو" تقريرا لها حول المناسبة "ذراع داربا المتحكّم بها دماغيا ستجعلك تتمنى لو أنك كنت سايبورغ".

مذّاك، توسّع عمل داربا في مجال التكنولوجيا العصبية علانية، معتنقا "جوانب أشمَل من الحياة"، كما قال لي سانشيز: "تتعدى المريض في مستشفى والذي يستخدمها كعلاج". إن التتالي المنطقي لكل هذه الأبحاث هو صنع كائنات إنسانية مثالية أكثر من أي وقت مضى، بمعايير تكنولوجية محددة. الجنود الجدد والمحسَّنون هم ضروريون ومطلوبون لداربا، لكنهم مجرد واجهة للحياة التي تنتظرنا.

"فوق الأفق"

فلنأخذ الذاكرة، أخبرني سانشيز: "الجميع يتساءل عمّا ستكون عليه الأمور إن حظيت ذاكرته بتعزيز بنسبة 20، أو 30، أو 40% -اختر رقمك المفضل- وكيف سيكون الأمر تحويليا". استطرد في تحسين الذاكرة عبر واجهة استخدام عصبية شكلا بديلا من التعليم. "المدارس في أشد أشكالها جوهرية هي تكنولوجيا قمنا بتطويرها كمجتمع لكي نساعد أدمغتنا على القيام بالمزيد"، كما أشار. "بصورة مختلفة، فإن التكنولوجيا العصبية تستخدم أدوات وأساليب أخرى لمساعدة أدمغتنا لكي تكون في أفضل شكل ممكن". ورقة تعود لعام 2013 تتكلم عن أحد الأساليب، في دراسة تتضمن باحثين بجامعة وايك فوريست، وجامعة ساوث كاليفورنيا، وجامعة كنتاكي. أجرى الباحثون جراحة على 11 فأرا. في دماغ كل فأر، زُرعت مصفوفة إلكترونية، تُظهر 16 سلكا من الفولاذ المقاوم للصدأ. بعد عودة الفئران من الجراحة، تم فصلها إلى مجموعتين، وأنفقت مدة أسابيع وهي تتلقى التعليم، وإن كانت مجموعة تلقت تعليما أكبر من الأخرى.

المجموعة الأقل تعليما تعلّمت مهمة واحدة، هي طريقة الحصول على قطرة مياه. في حين تعلمت المجموعة الأخرى نسخة معقدة من المهمة نفسها، للحصول على المياه، كان على هذه الفئران لكز الدّعامات بأنوفها بغض النظر عن التأخير المدهش في وصول قطرة المياه. عندما أتقنت الفئران الأكثر تعليما هذه المهمة، قام الباحثون باستخراج الأنماط المُطلقة للنواقل العصبية والمسجلة في أدمغة هذه الفئران -أي تلك الذاكرة التي سجلت كيفية القيام بمهمة معقدة- إلى جهاز حاسوب.

"ما فعلناه فيما بعد كان أننا أخذنا تلك الإشارات ومنحناها لحيوان أخرق"، قال لينغ في حدث داربا في 2015، "والحيوان الأخرق فهم الأمر. لقد كان قادرا على القيام بالشيء نفسه". ثم أوجز لينغ: "بالنسبة لهذا الفأر، قمنا بتقليل مدة التعلّم من ثمانية أسابيع إلى ظرف ثوان معدودة".

"إن بإمكانهم حقن الذاكرة باستخدام الشفرات العصبية ذاتها لمهارات بعينها"، أخبرني سانشيز. إنه يعتقد بأن تجربة وايك فوريست هي بمنزلة خطوة جوهرية باتجاه "أطراف اصطناعية للذاكرة". إنها أمور الماتريكس. مع أن العديد من الباحثين يشككون بالنتائج، لافتين إلى أن الأمر لا يمكن، حقا، أن يكون بهذه البساطة. لكن سانشيز واثق: "إن كنت أعرف الشفرات العصبية لفرد ما، فهل يمكنني منح الشفرة العصبية لشخص آخر؟ أعتقد أنه بوسعك ذلك". تحت سانشيز، قامت داربا بتمويل استخدام التجارب الإنسانية في وايك فوريست، وجامعة ساوث كاليفورنيا، وجامعة بنسلفانيا، لميكانيزميات مشابهة في مناطق متناظرة في الدماغ. هذه التجارب لم تنقل الذاكرة من شخص لآخر، إلا أنها بدلا من ذلك منحت الأفراد "تعزيزا" في الذاكرة. سجلت الأقطاب الكهربائية المزروعة النشاط العصبي المتصل بتمييز الأنماط (في جامعة وايك فوريست وجامعة ساوث كاليفورنيا) وحفظ قوائم كلمات (في جامعة بنسلفانيا) في دارات بعينها في الدماغ. ثم قامت الأقطاب الكهربائية بتفريغ تلك التسجيلات للأنشطة العصبية مرة أخرى في الدارات ذاتها كشكل من التعزيز. النتيجة كانت، في كلتا الحالتين، تحسنا ملحوظا في التذكر.

دوغ ويبر، وهو مهندس أعصاب في جامعة بتسبيرغ، أنهى مؤخرا فترة أربع سنوات كمدير برامج لدى داربا، ويعمل مع سانشيز، تساوره شكوك حيال عملية نقل الذاكرة. "إنني لا أؤمن بالحدود اللامتناهية للتطور التكنولوجي"، قال لي. " أؤمن أنه ستكون هناك بعض التحديات التقنية التي سيكون تخطيها مستحيلا". على سبيل المثال، عندما يضع العلماء الأقطاب الكهربائية في الدماغ، فإن المطاف ينتهي بتلك الأجهزة إلى الفشل، بعد عدة أشهر أو عدة سنوات. أكثر المشاكل استعصاء هي تسرب الدم. عندما توضع مادة غريبة في الدماغ، قال ويبر: "إنك تخضع لتلك العملية: الإصابة، ثم النزف، فالشفاء، ثم الإصابة، ثم النزف، فالشفاء وفي أي وقت يتسرب فيه دم إلى حجرات الدماغ، ينحدر نزولا النشاط في الخلايا، بحيث تمرض، جوهريا". على نحو أكثر فعالية من أي وقت مضى، سيرفض الدماغ الغزو.

حتى وإن لم تكن مشاكل واجهة المستخدم التي تقوّضنا الآن موجودة، تابع ويبر قائلا، فإنه لا يؤمن أن علم الأعصاب سيتمكن من تفعيل سيناريو أطراف اصطناعية للذاكرة. يحلو للبعض التفكير في الدماغ كما لو كان حاسوبا، مضى ويبر، "حيث تنتقل المعلومة من (أ) إلى (ب) و(ج)، كما لو أن كل شيء تجميعيّ جدا. وبالطبع هناك تنظيم تجميعي واضح للدماغ، لكنه ليس حاسما كما هو الحال في حاسوب. كل المعلومات في كل مكان طيلة الوقت، صحيح؟ إنها موزعة بشدّة بحيث يكون تحقيق ذلك المستوى من التكاملية مع الدماغ خارج المتناول حاليا".

مشاريع "داربا" السرية

الأعصاب المحيطية، على النقيض، ترسل إشاراتها بطريقة تجميعية أكبر. إن العصب المحيطي الأكبر والأطول هو "المبهم"، إنه يصل الدماغ بالقلب، والرئتين، والقناة الهضمية، وأشياء أخرى. يفهم علماء الأعصاب علاقة الدماغ بعصب المبهم بشكل أوضح من تعقيدات تكوين الذاكرة والتذكّر في العصبونات في الدماغ. يؤمن ويبر أنه قد يكون من الممكن محاكاة عصب المبهم بطرق تحسّن عملية التعلم، ليس من خلال نقل الذكريات الخبراتية، وإنما عبر تحسين ملكة مهارات معينة.

لاختبار هذه الفرضية، قام ويبر بإدارة إنشاء برنامج جديد لدى مكتب التكنولوجيا البيولوجية، يدعى "المطاوعة العصبية الموجهة" (TNT). تحقق فرق البحث في سبع جامعات فيما إذا كانت محاكاة عصب المبهم قادرة على تحسين التعلم في ثلاث مناطق: مهارة الرماية، والمراقبة والاستطلاع، واللغة. فريق ولاية أريزونا هم أخلاقيون يتضمن عملهم، وفقا لويبر، "تقصّي الأفق لتدارُك التحديات المحتملة والصراعات التي قد تواجهنا" فيما يخص الأبعاد الأخلاقية لتكنولوجيا البرنامج. في افتتاحية اجتماع "TNT"، أنفقت فرق البحث 90 دقيقة من وقتها تناقش المسائل الأخلاقية المتعلقة بعملها، نقاش محموم سيتوسع ليشمل آخرين، ويمتد لفترة طويلة من الوقت.

يشير مسؤولو داربا إلى العواقب المحتملة لتكنولوجيا الأعصاب عبر الاختصار "إلسي" (elsi)، وهو مصطلح متداول وُضع لـ "مشروع الجينوم البشري"، إنه يشير إلى "الآثار الأخلاقية، والقانونية، والاجتماعية". الرجل الذي تولى إدارة النقاش حول الأخلاقيات ضمن فرق الباحثين كان ستيفن هايمان، وهو عالم أعصاب وأخلاقويّ أعصاب لدى معهد ماساشوستس ومعهد هارفارد التخصصي. هايمان هو أيضا الرئيس السابق للمعهد الوطني للصحّة. عندما تحدثت معه حول عمله في برامج داربا، لفت إلى أن المسألة الوحيدة المثيرة للاهتمام هي "كروس توك". واجهة استخدام إنسان/آلي لا يمكنها فحسب قراءة دماغ شخص ما وإنما أيضا "الكتابة إلى" دماغ شخص ما بحيث تقوم بشكل قاطع إلى حدّ ما بإنشاء "محادثة بين تلك الدَّارات التي نستهدفها والدارات المنخرطة فيما يمكن تسميته عواطف اجتماعية وأخلاقية"، كما أخبرني. يستحيل التنبؤ بتأثيرات هكذا محادثات على "السلوك أثناء الحرب" (بحسب المثال الذي عرضه)، فكم بالحري، طبعا، على الحياة العادية.

مشاريع "داربا" السرية

قام ويبر ومتحدث باسم داربا بتضمين بعض من الأسئلة التي طرحها الباحثون في نقاشهم حول الأخلاقيات: من سيقرر كيف تستخدم هذه التكنولوجيا؟ هل سيكون ضمن صلاحيات مسؤول إرغام مرؤوسيه على استخدامها؟ هل ستتمكن الفحوص الجينية من تحديد إلى أي مدى يمكن أن يستجيب شخص ما للمرونة العصبية المطلوبة؟ هل سيكون هذا النوع من الفحوص طوعيا أم إلزاميا؟ هل يمكن لنتائج هكذا نوع من الفحوص أن تؤدي إلى التمييز في فرص القبول في الجامعات أو التوظيف؟ ماذا إن كانت هذه التكنولوجيا ستؤثر على إدراكنا الأخلاقي أو العاطفي؟ قدرتنا على تحديد الصواب من الخطأ أو التحكم بتصرفاتنا؟ مستذكرا ذلك النقاش حول الأخلاقيات، أخبرني ويبر: "إن أكثر ما أتذكره هو أن الوقت داهمنا".

"بوسعك تسليح كل شيء"

في "دماغ البنتاغون"، أشارت آني جاكبسون أن بحث داربا في التكنولوجيا العصبية، بما فيه الأطراف الصناعية العلوية وواجهة استخدام إنسان/آلة، مختلفة عما تبدو عليه: "من المرجح أن هدف داربا الأساسي هو تطوير الأطراف الاصطناعية لكي تمنح الروبوتات، لا البشر، أذرعا وأيدي أفضل من تلك التي لديها سلفا". جيف لينغ رفض مغزى استنتاجها عندما أوجزته له (فلم يكن قد قرأ الكتاب)، وقال: "عندما نتحدث عن أشياء من هذا القبيل، ويكون الناس بانتظار أشياء شريرة، فإنني دائما ما أقول لهم ’هل تعتقدون حقا أن الجيش الذي أدّى فيه أجدادكم أو أقاربكم خدمتهم العسكرية، قد تحوّل إلى جيش نازي أو روسي؟‘ كل شيء قمنا به في تطوير برنامج الأطراف الاصطناعية -كل شيء قمنا به- قد نُشر بالفعل. إن كُنا حقا نقوم بتشييد نظام للأسلحة الأوتونوميّة (الذاتية)، فلماذا سنقوم بنشره في الأدبيات المجّانية لكي يقرأها أعداؤنا؟ نحن لم نخفِ شيئا. أتعرف ماذا؟ إن ذلك يعني أننا نقوم به فقط من أجل أميركا. لكننا نقوم به من أجل العالم".

بدأت بالقول إن نشر ذلك البحث لا يعني أنه سيكون بمعزل عن إساءة الاستخدام، لكنّ مصطلحَيْ حسن الاستخدام وإساءة الاستخدام يتجاهلان مسألة أكبر هي في صميم أي نقاش أخلاقي حول التكنولوجيا العصبية. هل سيظلّ كائن إنساني مُحسَّن -كائن إنساني بحوزته واجهة استخدام عصبية مع جهاز حاسوب- كائنا إنسانيا؟ أعني بالطريقة التي اختبر فيها البشر الإنسانية عبر الزمن؟ أم أن شخصا كهذا سيندرج تحت صنف آخر من المخلوقات؟

حكومة الولايات المتحدة تضع قيودا على قدرة داربا إجراء تجارب في مجال تحسين القدرات الإنسانية. لينغ يقول إن زملاءه أخبروه عن "أمر توجيهي": "لقد كان الكونغرس واضحا تماما"، كما قال. "إنهم لا يريدون لنا أن نصمم شخصا خارقا". يبدو أن الكونغرس يقول بأن هذا ليس هدفنا المعلن، لكننا إن وصلنا تلك المراحل عن طريق الخطأ، حسنا، هذه قصة أخرى. مخيلة لينغ لا تزال شاسعة. قال لي: "إن منحتك عينا ثالثة، وكان بوسع تلك العين أن ترى بالأشعة فوق البنفسجية، فإنَّ ذلك سيكون مُدمجا في كل ما تقوم به. إن منحتك أُذنا ثالثة بوسعها التقاط الأصوات من مدى بعيد، كما يفعل خفّاش أو أفعى، فإن ذلك سيضيف إلى كل تلك الحواس التي تستخدمها وتجرّبها لصالحك. إن كنت تستطيع أن ترى في الليل، هذا يعني أنك أفضل ممن لا يستطيع القيام بذلك".

مشاريع "داربا" السرية

تحسين الحواس بحيث تكتسب أفضلية فائقة، هذه اللغة تشي بالتسليح. قدرات كهذه من شأنها بكل تأكيد أن تحظى بتطبيقات عسكرية، كما أقر لينغ نفسه. "إن بوسعك تسليح كل شيء، أليس كذلك؟"، قبل أن يستبعد الفكرة ويعود إلى الرواية الرسمية: "كلا، واقعَ الأمر، فالأمر يتعلق بزيادة القدرات الإنسانية" بطريقة قام فيها بعقد مقارنة بين التمرين العسكري والتعليم المدني، وبررها اقتصاديا.

"لنقل إنني منحتك يدا ثالثة"، ثم يدا رابعة، إذًا، يدان إضافيتان، قال لي. "إنك ستكون متمكنا أكثر، أعني أنك ستقوم بالمزيد من الأشياء، أليس كذلك؟"، وإن كان بوسعك التحكم بأيادٍ أربع كما كنت تتحكم بيديك الاثنتين، واصل محدثا: "فإنك في الواقع ستقوم بضعف كمية العمل الذي كنت لتقوم به بالوضع الطبيعي. إن الأمر هو بهذه البساطة. إنك تضاعف إنتاجيتك أو أي شيء تريد القيام به". وبدأت بتصوّر رؤيته -العمل بأربع أذرع، أربع أيادٍ- ثم طرح سؤالا: "أين ينتهي الأمر؟".

"لن ينتهي أبدا"، قال لينغ. "إنني أعني، أن الأمر سيتحسن باستمرار"، ثمَّ رن هاتفه. وأجاب المكالمة، ثم تابع من حيث توقّف: "ما تقوم به داربا هو توفير أدوات أساسية بحيث يتمكن الناس من أخذ هذه الأدوات والقيام بأشياء عظيمة قد لا نفكّر فيها نحن". بالاستناد إلى ما قاله لاحقا، مع ذلك، فعدد الأشياء التي تفكّر فيها داربا يتخطّى ما تعلن عنه. "إن كان باستطاعة الدماغ التحكم بجهاز روبوت بهيئة يد"، قال لينغ: "فلماذا لا يمكنه التحكّم بجهاز روبوت بهيئة أفعى؟ لماذا لا يمكن للدماغ التحكُّم بروبوت بهيئة كتلة ضخمة من الجيلي القادر على الوصول إلى زوايا واختراق الأشياء؟ أعني، إن أحدهم سيجد تطبيقا لذلك".

جذب الاستثمارات

تودد إيلون ماسك لباحثي داربا للانضمام إلى شركته "نيورالينك"، التي يقال إنها تقوم بتطوير واجهة استخدام تُعرف باسم "نيورال ليس".

ما زالت القوى التطويرية لداربا تحوم حول أو قُرب مرحلة إثبات التصوُّر. لكن ذلك يكفي لجذب استثمار بعض أثرى شركات الأرض. في 1990، خلال إدارة جورج بوش الأب، فقد مدير داربا آنذاك كريغ إ. فيلدز وظيفته لأنه، بحسب شخصيات مطلعة، قام عن دراية برعاية أعمال تجارية مع عدد من شركات وادي السيليكون، أدان مسؤولو البيت الأبيض ذلك بوصفه سلوكا غير مناسب. لكن مذ تولى جورج بوش الابن الرئاسة، تلاشت مثل هذه الحساسيات.

بمرور الوقت، أصبحت داربا شيئا أشبه بخزان موارد بشرية لوادي السيليكون. دريجينا دوغان، التي عُيّنت رئيسا لداربا من قِبل الرئيس باراك أوباما، مضت لكي تترأس مجموعة غوغل للتكنولوجيا المتقدمة والمشاريع، بينما مضى مسؤولون سابقون لداربا للعمل لديها هناك. ثم ترأست في وقت لاحق، قسم البحث والتطوير لدى مجموعة المتناظرات في فيسبوك، المسمى مبنى 8. (وقد غادرت فيسبوك).

في السنوات الأخيرة، تأثر بحث داربا في التكنولوجيا العصبية بفعل الشركات. أخبرني دوغ ويبر أن الشركات "حصدت" بعض باحثي داربا، بما فيها فيرلي، قسم علوم الحياة لدى شركة ألفا بت (الشركة الأم لغوغل)، والتي قامت بشراكة شركة الأدوية البريطانية الضخمة "غلاكسو/سميث/كلاين" بإنشاء شركة تُدعى "غلافني للإلكترونيات البيولوجية"، بهدف ضخّ أجهزة النمذجة العصبية إلى الأسواق. غلافني تسميها أعمال "الدواء الإلكتروني البيولوجي" التجارية، التي توحي بهالة من الدفء والثقة. تيد بيرجر، مهندس في الطب الحيوي كان سبق له أن تعاون مع باحثي وايك فوريست في دراستهم حول نقل الذاكرة في الفئران، عمل كمسؤول العلوم الرئيسي في قسم التكنولوجيا العصبية لدى شركة كيرنيل، التي تخطط لبناء "واجهات استخدام عصبية متقدمة لعلاج الأمراض والإعاقة، والكشف عن ميكانيزمات الذكاء، وتوسيع الإدراك". إيلون ماسك نفسه تودد لباحثي داربا للانضمام إلى شركته "نيورالينك"، التي يقال إنها تقوم بتطوير واجهة استخدام تُعرف باسم "نيورال ليس". المبنى 8 لدى فيسبوك يعمل على واجهة استخدام عصبية أيضا. في 2017، قالت ريجينا دوغان إن 60 مهندسا كانوا يعملون على نظام يسمح للمستخدمين بطباعة 100 كلمة بالدقيقة "مباشرة من أدمغتهم". جيف لينغ يعمل في المجلس الاستشاري للمبنى 8.

بالحديث إلى جاستن سانشيز، خمنت بإنه إن كان يدرك فعلا حدود تطلعاته، سيمكن له أن يغير الحياة اليومية حتى بشكل أكثر جوهرية وديمومة مما فعل فيسبوك مارك زوكربيرغ وتويتر جاك دورسي. إن وجه سانشيز يحمرّ بسهولة، كما أنه يتفادى النظر في عيني عندما يشعر أنه غير مرتاح، لكنه لم يشح بناظريه عندما سمع اسمه مذكورا في شركة كهذه.

————————————————————

ترجمة: فرح عصام

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية