شعار قسم ميدان

من المظاهرة للمفخخة.. قصة نشأة الحالة الجهادية الحديثة بمصر

midan - من المظاهرة للمفخخة1
اضغط للاستماع
   

دوت أصوات الطلقات النارية في جنبات حي شعبي قاطعة رتابة الحياة اليومية الروتينية، ومفزعة وجوها مرهقة بفعل حر الصيف في ساعات النهار الأخيرة، دافعة الجميع إلى الانزواء لبيوتهم وإغلاق نوافذهم مع مزيج من الترقب والخوف، بينما تُظهر نظرة خاطفة من نافذة إحدى البنايات المجاورة عشرات الملثمين من فرق القوات الخاصة بأرديتهم الرسمية المميزة، مسلحين بكامل عتادهم، يحاصرون عقارا سكنيا قديما، في حين يقف أسطول من سيارات الشرطة بمختلف أنواعها متأهبا بمشهد حربي لا يبدو مألوفا لأهالي المنطقة المسالمة. اندلعت المعركة المفاجئة، ثم استمرت لقرابة 45 دقيقة وفق رواية الأجهزة الأمنية المصرية، وربع ساعة وفق رواية شهود العيان، في إحدى أكثر مناطق القاهرة الكبرى ازدحاما، مخلفة في نهاية المطاف جثتين، مع نشوة واضحة في صفوف أجهزة الأمن ووسائل الإعلام المقربة منها، لا تتلاءم مطلقا مع الهوية الغامضة للقتيلين.

 

سرعان ما تبدأ حلقات السلسلة في استدعاء بعضها البعض، ويلتف الكثيرون حول حساب شخصي على موقع فيسبوك يحمل اسما لا يمكن تخيله إلا كأحد أولئك القادمين من عالم الروايات المثيرة إذ يكسو الغموض كل شيء، مع منشورات جيدة الصياغة تسبغ على صاحبها مزيجا من الحماسة والحكمة، وحديث مستفيض يمتلئ بالإشارات حول «القتال» و«الجهاد» و«السلاح»، حيث لا يمكن للحدس أن يخطئ تلك النشوة الشابة الفائضة من كلماته، وإن اكتست أحيانا ثوب الموعظة.

 

"مالك الأمير عطا"، اسم الحساب الذي اجتذب آلاف المتابعين من الأصدقاء والمعجبين المتحمسين، وهو ذاته اسم أعلنت أجهزة الأمن ووسائل الإعلام المرتبطة بها عن مصرع(1) صاحبه في ذلك اليوم مبتهجة تحت عناوين براقة مثل «مقتل الإرهابي» و«القاتل المحترف». ثم بقليل من التأني، وفي قراءة التفاصيل، نصل أخيرا إلى الهوية الحقيقية للشخص المقصود من كل ذلك: "أحمد محمد أحمد سعد"، اسم لا يبدو مألوفا لأحد على أي حال، يتجاوز عمره بالكاد 20 عاما، مثيرا لتساؤلات جمة عما يمكن أن يجعل شابا في هذا السن يستجلب كل ذلك القدر من الاهتمام.

  

أحمد محمد أحمد سعد الشهير بمالك الأمير عطا (مواقع التواصل)
أحمد محمد أحمد سعد الشهير بمالك الأمير عطا (مواقع التواصل)

    

يمكننا أن نعدد قائمة طويلة من الأسباب التي لا تجعل من أحمد سعد، طالب الهندسة العشريني، مرشحا مثاليا للاستهداف من قبل الأجهزة الأمنية المصرية كناشط في أحد التنظيمات الجهادية المسلحة المستهدِفة مؤسسات الدولة ورجالها. فعلى مدار العقود الثلاثة السابقة، شكل الخيال العام هوية نمطية لأبناء هذه التنظيمات، كمنتمين لأقصى يمين الطيف الإسلامي، ممن تشبعوا بالأفكار المناهضة للدولة، ومن نشأوا في غالب الأمر في مناطق فقيرة أو مهمشة. غير أن سعدا لا يتناسب مع أي من هذه المواصفات رغم نزعته المتدينة، فانتماؤه لمحافظة الغربية الهادئة، التي تجمع في طبيعتها بين الولاء للدولة وأجهزتها والتدين الهادئ المحافظ الذي جعلها بيئة مناسبة لنشاط جماعة الإخوان المسلمين، التي نشأ سعد نفسه في أكنافها في سنوات طفولته ومقتبل عمره، فضلا عن حالة أسرته المادية الميسورة، جعلت من الصعوبة بمكان تطبيق تلك المداخل التقليدية حول معتنقي أفكار التغيير العنيف مثل الفقر والظروف الاجتماعية الطاحنة، أو حتى الأيديولوجيا.

  

نشأ مالك كصبي في صفوف جماعة الإخوان، لكنه تركهم مبكرا وانضم في مقتبل شبابه لحركة "حازمون"، وهم أنصار المحامي الإسلامي المعتقل والمرشح الرئاسي المستبعد بعد الثورة حازم صلاح أبو إسماعيل، ثم تمرد سعد على ذلك كله ليقيم صلات مبكرة غير تنظيمية مع جماعة أنصار بيت المقدس، أحد التنظيمات المسلحة في سيناء، بدافع من تأثره بقضية المسجد الأقصى، قبل أن يبدأ نشاطه المسلح كعضو بارز ضمن صفوف حركة "أجناد مصر"، التي بدأت عملها المسلح بمصر في النصف الثاني من عام 2013 عبر استهداف أفراد وجهاز الشرطة المصري، وهي أولى الحركات الشبابية العنيفة الناشئة من رحم انقلاب 3 يوليو/تموز العسكري. تعرف سعد على مؤسس الحركة "همام عطية"، المعروف بـ "مجد الدين المصري"، وأقنعه الأخير بالبقاء بالقاهرة والتخلي عن حلمه القديم بـ «النفير لبيت المقدس»، ليخوض الشاب منذ ذلك الحين رحلة حافلة من كر وفر مع الأجهزة الأمنية، قبل أن يستقر به المقام في محطته الأخيرة في الدور الرابع من العقار رقم 4 بشارع سيد زكي المتفرع من شارع العشرين بمنطقة فيصل، حيث لقي حتفه بصحبة أحد أصدقائه منتصف عام 2015.

   

لقاء مع مؤسس حركة أجناد مصر "مجد الدين المصري"

   

يمكن للرحلة الفريدة لمالك عطا أن تخبرنا الكثير حول ظاهرة العنف المسلح في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز، والخارطة المتقلبة لتياراته وهياكله التنظيمية المتداخلة، وطبيعته الأيديولوجية "السائلة"، منذ نشأتها، وحتى إدراج آخر عناقيد الظاهرة، حركتا "حسم" و "لواء الثورة"، على قوائم الإرهاب الأميركية للمرة الأولى أواخر الأسبوع الماضي. لم تنته رحلة مالك الأمير عند أجناد مصر، ولكنه أبدى، بالتزامن مع نشاطه في صفوف التنظيم الشبابي اهتماما بأنشطة "تنظيم الدولة الإسلامية" في العراق والشام، ثم بفرعه المصري "ولاية سيناء" المؤسس بأواخر عام 2014، غير أن أحلامه في العبور لسيناء لاستكمال مسيرته باءت بالفشل بفعل المطاردة الأمنية المكثفة، والرقابة على الطرق الموصلة لشبه الجزيرة الحدودية، ما دفعه لاستكمال مسيرته في القاهرة، ليس ضمن صفوف حركة "أجناد مصر" التي تركها، كما أكد بيان التنظيم الصادر عقب مقتله، وإنما بالالتحاق(2) بصفوف ما صار يعرف باسم "خليه الجيزة"، المتشكلة من مجموعة من المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بهدف مد نشاط التنظيم للعاصمة المصرية.

 

لطالما مثل وادي النيل ودلتاه، والقاهرة بالأخص، حلما "للجهاديين"، حيث كانت النجاحات المحدودة للحركات المسلحة في مصر دائما ما تنحصر في المناطق النائية والهوامش الحدودية. وظل البر المصري معضلتهم الأولى على مدار تاريخهم، منذ ظهورهم في أواخر الستينيات وحتى اليوم، بل إن "جهاديي مصر" ظلوا يؤمنون(3) بتعرضهم لخذلان شديد من الشعب المصري منذ حادثة اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، حين كان "عبود الزمر" و"الإسلامبولي" ومن خلفهم "عبد السلام فرج" و "الظواهري" ورفاقهم يؤمنون بصدق بأن السادات ونظامه يقفون عائقا أمام «رغبة المصريين في تطبيق الشريعة»، وأنه بمجرد إبعاد هذا العائق فإن المصريين سيندفعون إلى الشوارع مطالبين بـ «تحكيم شرع الله».

   

اغتيل السادات في نهاية المطاف، ولكن شيئا سوى ذلك لم يحدث، ومكث المصريون بمنازلهم ولم يندفعوا لطُرقات ظلت هادئة، بينما دُفع "الجهاديون" لسجون الأجهزة الأمنية ومسالخها، وانزوت معهم أفكارهم للهامش لوقت طويل، قبل أن تعيد هذه الأفكار إنتاج نفسها من جديد بفعل ظروف تهيأت لذلك، ولكن هذه المرة ليس في القاهرة أو الوادي، وإنما على بعد مئات الكيلومترات على الهامش، وتحديدا في شبه جزيرة سيناء على حدود مصر الشرقية.

 

"التوحيد والجهاد" .. البداية كانت سلفية

امتلك طبيب الأسنان السيناوي نزعة سينمائية في اختيار توقيتات عملياته، توقيتات حرص من خلالها على إثبات نظرته المحبطة للدولة وانتصاراتها الوهمية من وجهة نظره. وشهدت مناسبات(4)، مثل ذكرى حركة 23 يوليو وحرب السادس من أكتوبر وعيد تحرير سيناء، مواقف تردد خلالها صدى اسم "خالد مساعد"، من أفصحت أفعاله عن رغبته في إعادة تعريف تلك الأحداث على طريقته الخاصة، ليس كذاكرة للانتصارات ولكن كشواهد على زيف وفشل آمن بهما.

  

تفجير فندق هيلتون طابا 2004 (رويترز)
تفجير فندق هيلتون طابا 2004 (رويترز)

   

في تمام العاشرة والنصف من مساء يوم السابع من أكتوبر لعام 2004، قطعت الألعاب النارية في فندق هيلتون طابا أوركسترا العزف المنتظم لجوقة الشرف الوطني الإعلامي بمناسبة ذكرى انتصارات الشهر، وبعد ذلك بـ 15 دقيقة، أضاءت الانفجارات سماء نويبع على بعد 80 كم فقط من الفندق. كان التخطيط بدائيا ومحكما في الوقت نفسه: سيارة طراز "شيفروليه" خضراء نصف نقل استولى عليها أنصار "مساعد" من منطقة المساعيد بالعريش، وسيارة طراز "نيسان" بيضاء استولوا عليها بطريقة مشابهة، بالإضافة إلى سيارة ملاكي القاهرة طراز "بيجو 504" تم شراؤها من تاجر سيارات مسروقة، في حين تكفل أحد الرجال بتعديل أنابيب الغاز المنزلي لتكون بمثابة هياكل معدنية حاملة للمتفجرات، وتولى آخر مهمة صنع ثلاث دوائر كهربائية، اثنتين منها تعملان بمؤقت والثالثة تعمل بالهاتف المحمول، بينما تم تأمين المتفجرات عبر شراء 50 لغم من أحد تجار الخردة في سيناء كلفت آنذاك 700 جنيه مصري لا غير.

 

لم تتوقف مغامرة "مساعد" ورفاقه عند هذا الحد، ففي 23 يوليو/ تموز من العام التالي 2005 استهدفت ثلاثة تفجيرات أخرى فندق غزالة والسوق التجاري وكافيتريا سياحية بشرم الشيخ، مخلفة 68 قتيلا مصريين وأجانب، وفي العام التالي حول رفاق "مساعد" وجهتهم لـ "دهب" بثلاثة تفجيرات أخرى خلفت 18 قتيلا من الأجانب والمصريين.

 

يمكن لانتماء مساعد لسيناء أن يفسر الكثير مما لا يمكن تفسيره عبر ميوله الأيديولوجية الإسلامية وحدها. لم يكن التدين الصوفي السيناوي عبر تاريخه مسيسا أو عنيفا، ولكن ابن قبيلة "السواركة" السيناوية الكبيرة كان شاهدا(5) على تهميش متعمد لاقته سيناء من قبل الحكومات المصرية المتعاقبة، حكومات يقول أهل سيناء إنهم عرفوها على حقيقتها منذ استعادة المحافظة في عام 1982، ويضعونها كرمز للتخويف والكذب والظلم، بعد أن حولت تلك الحكومات البدو، على مدار عدة عقود، إلى فرائس مستباحة لأنياب أجهزة الأمن المصرية ومسالخها.

 

كانت شبه جزيرة سيناء جزءا من مصر منذ عهد الفراعنة، ولكنها ظلت(6) أقرب لغزة ويافا وعكا وصحراء النقب أكثر من قربها للقاهرة. وأسهمت حركة التجارة إضافة للروابط القبلية في تمتين علاقة سيناء مع جوارها الشمالي الشرقي، على حساب علاقتها الجافة مع العاصمة في الغرب. أما في التاريخ الحديث، ورغم أن سيناء ظلت وبحكم الجغرافيا حارسا أمينا على بوابة مصر الشرقية، فإن حدود مصر كانت تنتهي واقعيا عند شاطئ قناة السويس الغربي، تلك القناة التي لم تكن تعني بالنسبة لأهالي سيناء سوى المزيد من العزلة.

  

خلال أيام ثورة يناير2011، فقدت الحكومة المصرية سيطرتها على شمال سيناء، حيث حاصر البدو الغاضبون مراكز الشرطة والمنشآت العسكرية، وأحرقت الكثير من الأقسام، ونهبت أسلحتها
خلال أيام ثورة يناير2011، فقدت الحكومة المصرية سيطرتها على شمال سيناء، حيث حاصر البدو الغاضبون مراكز الشرطة والمنشآت العسكرية، وأحرقت الكثير من الأقسام، ونهبت أسلحتها
   

تركت الحروب المتتالية مع إسرائيل في سيناء بدورها بصماتها على المخيلة الجماعية المصرية حول الأخيرة كأرض للشرف الوطني في المحافل والمناسبات، وكمصدر للحروب والمتاعب في معظم الأوقات. ومع وجود اعتقاد راسخ لدى الجيش المصري بأن سيناء تعمل كمنطقة عازلة مع إسرائيل، فإن تنمية شبه الجزيرة لم تكن استثمارا سليما من وجهة نظر القوات المسلحة المصرية، نظرا لإمكانية تجدد الحرب من ناحية، ومن ناحية أخرى للنظرة التقليدية المهيمنة على صورة البدو كموضع دائم للشكوك، وربما كمتهمين بالخيانة، بدون أن يفعلوا أي شيء في غالب الأحيان.

 

جمعت(7) سيناء ثلاثة أسباب رئيسة جعلتها موطنا مثاليا للتمرد ضد الدولة، أولاها كونها موطنا لعدد كبير نسبيا من السكان البدو، من ثم تهميشهم وحرمانهم وقمعهم لعقود، وثانيها توفر تضاريس وعرة تمنح غطاء حماية من هجمات الدولة وتتيح فرصا واسعة لتدريب المسلحين وتصعب تعقبهم في ظل نقص الطرق، أما آخرها فهو توفر شبكات مظلمة تسمح بتداول كل شيء من الأسلحة للمخدرات وسائر أنواع التجارة غير المشروعة عبرها.

 

مع الوقت، بدا أن عزلة سيناء صارت أشبه بنبوءة ذاتية التحقق، ففي حين جعلها التهميش أكثر انعزالا، فإن عزلتها دفعت النظام لتحويلها لمنفى إجباري للفئات "المزعجة"، وعلى رأسهم المعلمين والموظفين من ذوي التوجهات السلفية، من يبعثون لسيناء كنوع من العقاب الروتيني الرادع للعاملين بأجهزة الدولة. وفي شبه الجزيرة المنعزلة وقع التفاعل المحتوم بين المعلمين والموظفين السلفيين من المنفيين، وبين أبناء القبائل السيناوية المهمشين، بالتزامن مع عودة طلاب سينائيين عبروا قناة السويس للدراسة في الجامعات الحكومية وعادوا محملين بنفس الأفكار، وكانت باكورة نتاج هذا التفاعل هي "جماعة التوحيد والجهاد"، أول خلية عنيفة مسلحة في الشمال المصري، أسسها خالد مساعد خريج جامعة الزقازيق بصحبة زميله وابن جامعته نصر خميس الملاحي خريج الحقوق، وسالم خضر الشانوب، من أصبح لاحقا المسؤول العسكري للتنظيم. وجندت المجموعة حوالي 100 شخص، مع تواجد محدود خارج سيناء اقتصر على خلية صغيرة في محافظة الإسماعيلية المجاورة على خط القناة.

 

ورغم عملياتها المؤثرة وغير المسبوقة، كان عمر خلية "التوحيد والجهاد" قصيرا للغاية مع قبضة أمنية من قبل النظام كانت كافية لسحق "جهاديي سيناء"، ما أدى لمقتل خالد مساعد في سبتمبر/ أيلول عام 2005، بينما لحقه سالم الشانوب في نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، ثم نصر الملاحي في مايو/ أيار من العام 2006، وأصبحت المجموعة مبعثرة وبلا قيادة، وعاد الهدوء النسبي لشبه الجزيرة من جديد، غير أن ذلك الحال لم يستمر لفترة طويلة كما هو معتاد.

 

خلال أيام ثورة يناير/كانون الثاني 2011، عرفت الحكومة المصرية حقيقة وضعها في شبه الجزيرة حين فقدت سيطرتها على شمال سيناء، حيث حاصر البدو الغاضبون مراكز الشرطة والمنشآت العسكرية، وأحرقت الكثير من الأقسام، ونهبت أسلحتها، وأطلق سراح المئات من المعتقلين والسجناء. كانت أيام الثورة برهانا لمدى هشاشة القبضة الحكومية على سيناء رغم استمرار سياسات القمع، وفي تلك الأجواء ظهرت للساحة مجموعة مسلحة عرفت نفسها باسم "أنصار بيت المقدس"، وبرغم أن المجموعة استخدمت اسما جديدا، إلا أن العديد من أعضائها كانوا(7) من قدامى مسلحي "التوحيد والجهاد"، من خرجوا من السجون بعيد الثورة، وعلى رأسهم رجال مثل "كمال علام". وفي البداية، ركزت المجموعة على إسرائيل، وقامت بسلسلة من الهجمات الصاروخية ضد ميناء إيلات من سيناء، فضلا عن عدد من الهجمات بالقنابل على خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الممتدة من مصر لإسرائيل. وفي عام 2012 بدأت المجموعة في اغتيال بعض زعماء القبائل السيناوية العاملين كأعين للحكومة لكبح "النشاط الجهادي" في شبه الجزيرة.

  

كمال علام القيادي بجماعة
كمال علام القيادي بجماعة "أنصار بيت المقدس" (مواقع التواصل)

 

في أواخر العام نفسه بدأت "أنصار بيت المقدس" في استهداف قوات الأمن المصرية، غير أن هذه السياسة أصبحت أكثر وضوحا وتواترا مع وقوع انقلاب تموز / يوليو 2013 مطيحا بالرئيس السابق محمد مرسي. استفاد التنظيم من التدهور الأمني في سيناء ووفرة الأسلحة القادمة من ليبيا، وأدخل تكتيكات جديدة في عملياته شملت القنابل المزروعة على جانبي الطرقات، والمتفجرات المستخدمة للانتحاريين، والأسلحة الصغيرة والصواريخ. وبلغت تلك التكتيكات ذروتها مع نجاح التنظيم في إسقاط مروحية تابعة للجيش المصري بسيناء باستخدام صاروخ أرض-جو محمول من طراز "إيغلا" قادم من ليبيا.

 

الحرس القديم.. واختراق الجيش

لم يكن "الجهاديون" في أي وقت متحمسين للنهج الديمقراطي لمحمد مرسي وجماعته "الإخوان المسلمين"، غير أن إبعاد الجماعة عن السلطة بالقوة قدم لهم فرصة غير مسبوقة لتعزيز نشاطهم مع سردية أكثر قابلية للانتشار، في ظل انسداد مجالات التغيير السياسي السلمي وعودة الأمور إلى حالة أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة. ومع تزايد نفوذ جماعة "أنصار بيت المقدس" في سيناء، بدأت الأحلام القديمة لاختراق وادي النيل تداعب مخيلة "الجهاديين" من جديد، حيث كان المناخ مهيئا بشكل غير مسبوق، في ظل وجود آلاف من الشباب الساخطين والمحملين بأثقال الدماء والثأر في مواجهة النظام القائم، والأهم من ذلك وجود العشرات، وربما المئات، من "الجهاديين" الكامنين في الوادي ممن هربوا من السجون أثناء الثورة، أو ممن تم الإفراج عنهم في أعقاب الثورة من قبل المجلس العسكري. وكان "توفيق فريج"، القيادي البارز في "أنصار بيت المقدس"، الأسرع في حسم تردده في الاستجابة لهذه الطموحات، ولم يلبث طويلا قبل أن يشد رحاله للوادي للإشراف على تشكيل بعض الخلايا هناك.

  
undefined
  

لم يمكث فريج طويلا قبل أن يجد ضالته حين التقى برفيقه القديم في سجن الفيوم، وأحد أبرز الجهاديين الكامنين في الوادي: محمد علي عفيفي. وشأنه شأن أبناء جيله من "الجهاديين"، بدأ عفيفي مسيرته الجهادية بالتوجه للعراق، غير أنه فشل في الوصول إليه، ليستقر به المقام في اليمن لمدة ثلاث سنوات، قبل أن تقوم المخابرات اليمنية بترحيله، لتسجنه السلطات المصرية حال وصوله بتهمة الاتصال بتنظيم القاعدة، قبل أن يطلق سراحه في أبريل/نيسان عام 2011، لينتهي به الحال أخيرا ناشطا مع فريج برتبة مسؤول عن خلايا تنظيم أنصار بيت المقدس في الوادي والدلتا. ليتم إعدامه لاحقا في عام 2015 في قضية عرب شركس الشهيرة، خلال فترة قصيرة من تأسيس خلايا شملت عدة محافظات، بدأت بمحافظة الدقهلية ثم كفر الشيخ والشرقية والسادس من أكتوبر، ولاحقا الجيزة والفيوم وقنا ومنطقة المطرية بالعاصمة القاهرة.

 

نجحت خلايا فريج وعفيفي في نقل أنصار بيت المقدس من جماعة هامشية تعمل في سيناء إلى فاعل مسلح نشط على المستوى الوطني. بدأ الأمر بلجوء خلية أنصار بيت المقدس في وادي النيل للتعاون مع بعض المجموعات الجهادية الناشئة، وعلى رأسها كتائب الفرقان التي سهلت مهمة تفجير مبنى المخابرات الحربية في الإسماعيلية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 وهي أول عملية لأنصار بيت المقدس خارج سيناء، قبل أن تظهر خلايا الأنصار براعتها في تخطيط وتنفيذ مجموعة من العمليات الحاسمة وفائقة الدقة في وادي النيل، بل وفي قلب القاهرة نفسها.

 

لم يثبت أنصار بيت المقدس بعملياتهم في الوادي قدراتهم التخطيطية والتشغيلية فحسب، ولكنهم أثبتوا أيضا براعتهم الاستخباراتية بعد أن نجحوا في اختراق قلب أجهزة الدولة. بدأ الأمر بتجنيد اثنين من الضباط لعب كل منهما دورا في تسهيل بعض عمليات التنظيم، أولهما ضابط المرور محمد عويس، من قدم معلومات حاسمة سهلت عملية اغتيال ضابط أمن الدولة "محمود مبروك" بالقرب من منزله في القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2013. وثانيهما هو عقيد الشرطة "سامح العزيزي"، من يعتقد أنه قدم التوجيهات الفنية لعمليات تفجير مديريتي أمن المنصورة والقاهرة في الشهرين التاليين مباشرة، ديسمبر/ كانون الأول 2013 ويناير/كانون الثاني 2014 على الترتيب، بما في ذلك طريقة تفادي جميع نقاط التفتيش لإيصال المتفجرات لتلك الأماكن الحساسة.

 

على كل حال، لم يكن تجنيد أبناء الأجهزة الأمنية في مصر من قبل التيارات الجهادية سابقة اختص بها نشطاء أنصار بيت المقدس. يحمل العسكريون المصريون تاريخا حافلا(8) من الارتباطات مع الحركات الجهادية، لدرجة أن أبرز المنظرين والمخططين العسكريين في الحركة الجهادية المصرية على مدار تاريخها كانوا من أبناء الأجهزة الأمنية، بداية من مقدم المخابرات الحربية "عبود الزمر"، ورائد سلاح المدرعات "عصام القمري"، من صاغا نظريات «الانقلاب الجهادي» خلال السبعينيات، مرورا بأعضاء تنظيم الفنية العسكرية، من نفذوا أول وآخر محاولة «انقلاب إسلامي» في تاريخ مصر الحديث، وصولا لمنفذين من أمثال الملازم "خالد الإسلامبولي"، من نفذ عملية اغتيال الرئيس السادات عام 1981.

  

  

وكامتداد طبيعي لهذه القائمة، يبرز للصدارة اليوم بلا منازع اسم ضابط الصاعقة السابق "هشام عشماوي"، من تم فصله من الجيش المصري عام 2011 بسبب «ميوله الدينية»، ليلتحق في وقت مبكر بأنصار بيت المقدس. ظهر اسم عشماوي في وادي النيل مبكرا، حيث ارتبط اسمه بتدبير محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم في القاهرة في سبتمبر/أيلول 2013، بصحبة نقيب الصاعقة "عماد الدين عبد الحميد"، من أعلن مقتله(9) في قصف جوي بعد شهر واحد مما نسب إليه من قيادة هجوم الواحات الأخير أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، والضابط وليد بدر الذي قاد سيارة العملية المفخخة.

 

في وقت لاحق، تولى عشماوي مسؤولية خلايا أنصار بيت المقدس في وادي النيل في أعقاب القبض على "محمد علي عفيفي"، ومقتل خليفته ورفيقه "محمد الطوخي". في ذلك الوقت كانت خلايا الوادي تتعرض(10) لضغط غير مسبوق بعد أن فقدت جزءا كبيرا من قوتها بُعيد الكشف عن أبرز مخازنها الاستراتيجية في قرية عرب شركس في مارس/ آذار 2014. ومع تزايد الضغط الأمني على مجموعته، عمد عشماوي لتغيير استراتيجيته بالبحث عن ملاذ آمن لرجاله في جبال الصحراء الشرقية، وفتح جبهة جديدة بالصحراء الغربية لتخفيف الضغط عن القاهرة. وفي أثناء ذلك اضطر عشماوي ورجاله للاشتباك مع دورية جيش قرب واحة "الفرافرة"، ما أسفر عن مقتل خمسة جنود، قبل أن يؤسس معسكرا في الواحات انطلق منه لتنفيذ عملياته، وأهمها هجوم على سرية تابعة لحرس الحدود عند الكيلو 100 في نفس الواحة في يوليو/تموز 2014، ما أسفر عن مقتل 21 من ضباط وجنود الجيش، بينما أصيب عشماوي وانتقل لتلقي العلاج في ليبيا.

 

كان للخلاف الواقع بين تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق وتنظيم القاعدة في عام 2013، والمؤدي بنهاية المطاف لإعلان تنظيم بيت المقدس الولاء لتنظيم الدولة وتغيير اسمه لـ "ولاية سيناء" أواخر عام 2014، تأثيره الملحوظ على مسار أنشطة عشماوي. فرغم أن "أنصار بيت المقدس" لم تكن في أي وقت فرعا رسميا من القاعدة، إلا أن المنظمة لم تجد غضاضة في الاعتراف بروابط فكرية تجمعها بالتنظيم. ونتيجة لذلك، كان عشماوي هو أحد القادة الرافضين لانحياز أنصار بيت المقدس لـ "تنظيم الدولة"، موثرا السير على نهج القاعدة، وعنى ذلك (11) انقسام خلايا وادي النيل لفصيلين، أحدهما مُوال للقاعدة تحت قيادة عشماوي، أما الآخر فسار على خيار قيادة المنظمة في سيناء بالولاء لـ "دولة البغدادي"، وتولى قيادته نائب عشماوي "أشرف الغرابلي".

 

أعلن عشماوي رسميا انشقاقه عن ولاية سيناء، وأسس تنظيما عرف باسم "تنظيم المرابطون" يرجح أنه ركز نشاطه بصحراء مصر الغربية، قبل أن يتوارى عشماوي عن الأنظار لفترة طويلة يرجح أنه تنقل خلالها بين مصر وليبيا، تاركا المشهد "الجهادي" في العمق المصري لخلايا "الغرابلي"، وحرص الأخير على استغلال الفرصة والإعلان عن نفسه مبكرا. وكانت البداية في 10 يونيو/حزيران 2015، حين أرسل الغرابلي ثلاثة مسلحين في محاولة لتفجير معبد الكرنك في الأقصر بصعيد مصر، ولكن المسلحين تم رصدهم وتحييدهم. كان أبرز ما ميز هذه العملية أن اثنين من المسلحين كانا انتحاريين من تونس والسودان، ولم يتضح إذا ما كانا قد دخلا لمصر من ليبيا أو السودان، غير أن تلك المشاركة المزعومة لمقاتلين أجانب أشارت لأول مرة لدخول بُعد عابر للحدود للنشاط الجهادي بالوادي.

   

تسجيل صوتي للضابط هشام عشماوي يعلن فيه تأسيس "جماعة المرابطين"

  

لم يشر تنظيم الدولة من قريب أو بعيد لأي دور له في هجوم الكرنك المزعوم، وكان عليه أن ينتظر شهرا كاملا كي يعلن عن نفسه بتفجير هز وسط القاهرة مستهدفا القنصلية الإيطالية. وفي 12 اغسطس/آب قام التنظيم بإعدام رهينة كرواتي تم اختطافه من قلب القاهرة في وقت سابق، ثم عاد التنظيم وتبنى عملية تفجير مبنى أمن الدولة في شبرا الخيمة جنوب العاصمة باستخدام سيارة مفخخة، قبل أن تعلن السلطات المصرية نجاحها في إحباط محاولة لاغتيال المدعي العام لنيابات أمن الدولة "تامر فرجاني"، ومعلنة تبعية الخلية المدبرة للعملية لتنظيم الدولة.

 

بخلاف نشاطه المكثف في القاهرة وأجوارها، سار الغرابلي على خطى قائده السابق عشماوي في سياسة التوسع غربا عبر تمديد عملياته للصحراء الغربية. وفي مطلع عام 2015 أعلنت قوات الأمن المصرية خوضها اشتباكا مع مسلحين قادمين من سيناء بالقرب من واحة سيوة، وفي سبتمبر/أيلول من نفس العام أقدم تنظيم الدولة على اختطاف أحد البدو من أبناء البحرية متهمة إياه بالتعاون مع الجيش، وتم إعدامه بعد ذلك بيومين فقط، قبل أن يقوم التنظيم باشتباكات مسلحة مع قوات الجيش المرسلة للبحث عنه. وفي خضم فوضى خلقتها الاشتباكات أطلقت مروحية أباتشي النار خطأ على مجموعة من السياح المكسيكيين في الصحراء مما أدى لمقتلهم جميعا.

 

قبل نهاية شهر سبتمبر الحافل نفسه، شهدت منطقة جبل ديروط، الواقعة 30 كم غرب أسيوط، المعركة الأهم في الصحراء الغربية قبل حادث الواحات أكتوبر الماضي، حيث اشتبكت وحدات شرطية وعسكرية مع مسلحي مخيم لتنظيم الدولة يعتقد أنهم عبروا من ليبيا. كان ذلك أول انتقال للنشاط المسلح المعاصر في مصر لتلال الجنوب المطلة على وادي النيل، وهي منطقة استضافت معظم أنشطة "الجماعة الإسلامية" في الثمانينيات. وفي الوقت نفسه تقريبا كانت الخلية الرئيسة لتنظيم الدولة في وادي النيل تتلقى ضربة قاصمة، بعد استهدافها من قبل حملة أمنية في محافظة الجيزة نجحت في قتل تسعة مسلحين ممن عملوا تحت قيادة الغرابلي، قبل أن يتم استهداف الغرابلي نفسه بعد ذلك بشهرين، بعد أن اكتشفت السلطات استخدامه هوية مزورة لعامل في شركة نفطية بالصحراء الغربية سهلت له مهمة التعامل مع نقاط التفتيش الأمني في المنطقة لفترة طويلة.

 

طوبوغرافيا العنف.. ساحات التدريب والعمليات

تشغل الصحراء الغربية ما يقرب من ثلثي مساحة مصر تقريبا، مع طبيعة قاحلة إلى حد كبير وكثافة سكانية قليلة تتركز في خمس واحات رئيسية. ومثلها مثل سيناء، فإن الصحراء الغربية هي موطن تقليدي للقبائل البدوية الأقل اندماجا مع الدولة، وهم يواجهون، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم السينائيين، مظالم ضد الحكومة تشمل منعهم من امتلاك الأراضي وحرمانهم من المواطنة، كما أن انهيار الدولة في ليبيا والتدفق اللاحق للأسلحة والمقاتلين كان له تأثير عميق على مجتمعات غرب مصر، وتحولت الصحراء الغربية إلى ممر حاسم لتهريب الأسلحة والناشطين.

  undefined

 

في ضوء ذلك، لم يكن من المستغرب أن تتحول الصحراء إلى باحة إمداد خلفية للتيار "الجهادي" المصري، سواء كممر لتهريب الأسلحة والمقاتلين لسيناء، أو كباحة خلفية لتدريب وتزويد الخلايا المحاصرة في وادي النيل، أو حتى كساحة عمليات(12) لاستهداف الكمائن الأمنية المعزولة فيها، مثل عملية استهداف نقطة تفتيش واحة الخارجة، قام بها تنظيم الدولة في يناير/كانون الثاني من العام الماضي 2017، وأسفرت عن مقتل عشر رجال شرطة. وحاول تنظيم الدولة الاستفادة من استراتيجيته في سيناء والشاملة لمحاولة استقطاب المجتمع البدوي من أجل شل يد الأجهزة الأمنية المعتمدة بشكل كبير على الأدلة من البدو، جنبا إلى جنب مع عملياته العسكرية المعتادة.

 

في الوقت الذي نجحت فيه القوات الأمنية في تقويض الخلايا العاملة في وادي النيل بعد تفكيك شبكة الغرابلي، وفر الظهير الصحراوي الصاعد لتنظيم الدولة في الصحراء الغربية خطا للإمداد والدعم لخلايا جديدة، مكونة من مجندين جدد من تنظيم الدولة كان ولاؤهم المباشر للبغدادي فقط، وقد أظهروا طموحا ربط الصحراء الغربية بالعاصمة وما بعدها، ولكنهم عانوا من نقص الخبرة والقدرة بسبب تصفية معظم العناصر المؤثرة في الوادي.

 

في تلك الأجواء تأسس ما صار يعرف باسم "خلية الجيزة"(13)، ما يمكن اعتبارها تدشينا لمرحلة جديدة من العمل المسلح في قلب مصر. وعلى النقيض من سائر الخلايا المسلحة المتشكلة في الأعوام السابقة لها، والمصنوعة بشكل رئيس عبر تفاعل الجهاديين القادمين من سيناء والناشطين القدامى الموالين لتنظيم القاعدة في الوادي، كانت خلية الجيزة هي أول دليل على حدوث تفاعل بين المنظمات الجهادية وبين الحركات الشبابية البادئة في تبني العنف في مواجهة السلطة كأحد تداعيات حقبة انقلاب 3 يوليو/تموز وما بعدها، وفي مقدمتها باكورة هذه الحركات "أجناد مصر".

 

كانت حركة أجناد مصر في ذاتها هي أولى تجليات التفاعل بين كوادر الجهاديين وبين نشطاء شباب شاركوا في المظاهرات السلمية خلال يناير /كانون الثاني 2011 وما بعدها، وهو ما انعكس بشكل واضح على أفكار الحركة التي بدت مخالفة(14) بشكل كبير للكثير من الأفكار الجهادية المتوارثة. حرصت "أجناد مصر" على تقديم نفسها باعتبارها حركة «جهادية ثورية»، فأيدت المظاهرات السلمية مع تأكيد الحرص على تأمينها، وأعلنت تأييدها لثورة 25 يناير، وتبنت موقفا معتدلا من الأقباط، ووجهت عملياتها حصرا نحو الأجهزة الأمنية الموالية للنظام. ورغم أن مؤسس الجماعة "همام عطية"، المعروف بـ "مجد الدين المصري"، هو جهادي سبق له القتال في العراق عام 2007 قبل أن يعود لمصر عام 2011 ليلتحق بصفوف جماعة أنصار بيت المقدس، فإن قوام حركته اعتمد بأكمله على شباب من ذوي خلفيات مختلفة، بداية من "جمال زكي" وهو مدمن سابق للمخدرات ومتعافي، إلى "أحمد سعد" الناشئ في صفوف الإخوان المسلمين، أو مالك الأمير عطا، كما أشرنا سلفا، وبينهما خط من خلفيات شبابية شديدة التباين على استقامته.

 

بدأ تنظيم أجناد مصر نشاطه في أعقاب انقلاب يوليو/تموز، وقام بأول عملية له في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 مستهدفا كمين منطقة عبود شمال القاهرة بعبوة ناسفة، ورغم كونها عملية لم تسفر عن وقوع أي خسائر، لكن التنظيم تعرض لضربة أمنية مبكرة لم يتعاف منها قبل منتصف عام 2014، حين كثف عملياته لترتبط بشكل كبير باستهداف التجمعات الأمنية في محيط الجامعات المصرية، بشكل عكس بوضوح تركيبة التنظيم وميول كوادره، بجانب التجمعات الأمنية في محيط الأماكن السيادية مثل قصر القبة وقصر الاتحادية ودار القضاء العالي. وكما هو متوقع، لم يصمد تنظيم أجناد مصر طويلا أمام الضربات الأمنية، وبحلول منتصف عام 2015 كانت قوات الأمن قد نجحت في تفكيك شبكات التنظيم بالكامل، وتصفية الكثير من كوادره بمن في ذلك مؤسسه همام عطية، ووريثه في القيادة أحمد جلال المعروف باسم "عز الدين المصري"، لينزوي التنظيم بشكل نهائي ويتوقف حتى نشاطه الإلكتروني، حيث يعود تاريخ آخر بيان أصدره التنظيم لشهر يوليو/تموز من عام 2015.

  

أحمد جلال، الشهير
أحمد جلال، الشهير "بعز الدين المصري" (مواقع التواصل)

   

في ذلك التوقيت، كانت الخلايا التابعة للتنظيمات الجهادية في وادي النيل من أتباع عشماوي والغرابلي قد أعلنت بقوة عن نفسها، فيما لم يستطع النشطاء الشباب مقاومة إغراء نجاحات تنظيم الدولة الكبيرة آنذاك سواء في سوريا والعراق أو حتى في سيناء. لذا وبرغم كون النشطاء الشباب في وادي النيل أقرب للاندماج مع أفكار القاعدة كما تشير تجربة "أجناد مصر"، فإن بريق تنظيم الدولة كان كفيلا باجتذاب هؤلاء وعلى رأسهم مالك الأمير عطا، الذي أكد تنظيم أجناد مصر في بيانه الأخير أنه ترك التنظيم في وقت سابق من أجل الانخراط في بعض الأنشطة الجهادية الأخرى.

 

لم يمهل القدر مالكا طويلا على كل حال، حيث طالته يد قوات الأمن قبل أن تتشكل المعالم الرئيسية لخلية الجيزة التي يعتقد كونه أحد مؤسسيها، والتي بدأت نشاطها بهجوم(15) على سفارة النيجر في أواخر يوليو/تموز عام 2015. وبحلول أبريل/نيسان من عام 2016، كانت الخلية الجديدة قد أعلنت مسؤوليتها عن وقوع 11 حادثة أمنية على الأقل أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 13 من رجال الشرطة وأربعة مدنيين في المحافظة. غير أن معظم هذه الهجمات لم ترق في تطورها للعلامة التسويقية المميزة لتنظيم الدولة الإسلامية، كما تمتعت الخلية بقدرات تأمين محدودة ما مكن الأجهزة الأمنية من اعتقال عدد كبير من أعضائها وتصفية شبكتها.

 

تشير البيانات المجمعة عن الخلية إلى أن عدد ناشطيها يتراوح ما بين 40-50 شخصا، معظمهم في العشرينات من عمرهم، مع خلفيات تتراوح بين طلاب المدارس الثانوية والجامعات للمهنيين. ولم تظهر الخلية قدرات مهنية متقدمة، بل إن الكثير من هجماتها كانت بدائية لحد مثير للسخرية الأمنية، مثل الهجوم على فندق بشارع الهرم باستخدام الشماريخ وزجاجات المولوتوف مطلع عام 2016 استجابة لدعوة أبو بكر البغدادي، "خليفة تنظيم الدولة"، لقتل اليهود، بينما تبين في النهاية أن اليهود المستهدفين هم من عرب إسرائيل المسلمين.

 

أطلقت الخلية أيضا عدة هجمات بدائية استخدمت فيها عبوات ناسفة، استهدفت المباني الدبلوماسية والحكومية، وكذلك نقاط التفتيش التابعة للشرطة على الطرق الرئيسة مثل الطريق الدائري بالقاهرة، غير أنها لم تسفر عن نتائج تذكر. وكانت عمليات إطلاق النار المباشر التي نفذتها الخلية أكثر خطورة، حيث نجحت على سبيل المثال في قتل أربعة من أفراد الشرطة في نوفمبر 2015 أثناء استهداف كمين في مدينة أبو النمرس. أما عملية الخلية الأكثر فتكا فلم تكن للمفارقة نتيجة لهجوم، ولكنها وقعت أثناء مداهمة الشرطة لمزرعة دواجن تم استخدامها كمصنع متفجرات في قلب مدينة الجيزة نفسها، حيث قادت المعلومات الاستخباراتية المستخلصة إلى مداهمة المزرعة لمنزل يقطن فيه مسلحون بصحبة بعض متفجراتهم، وأثناء مداهمة الشقة، انفجرت إحدى العبوات الناسفة مؤدية لمقتل ستة رجال شرطة على الأقل، ودمار الواجهة الخارجية للمبنى جزئيا.

 

عملت المجموعات الثورية العنيفة على صناعة علامة تجارية خاصة بها من العنف تختلف عن العلامة المميزة للتيارات الجهادية التقليدية
عملت المجموعات الثورية العنيفة على صناعة علامة تجارية خاصة بها من العنف تختلف عن العلامة المميزة للتيارات الجهادية التقليدية
  

كان الأمر الأكثر لفتا للانتباه بخصوص واقعة منزل الجيزة هو وجود ادعاءات متضاربة حول هوية الجهة المسؤولة عن العملية. ففي حين أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عنها، فإن جماعة تطلق على نفسها اسم "العقاب الثوري" أعلنت بدورها مسؤوليتها عن العملية، وادعت الجهتان معا أن العملية كانت فخا لقوات الأمن. وقدم هذا التضارب إشارة إضافية حول حالة التداخل العابر للأيدولوجيا بين التنظيمات المسلحة المختلفة، كما طرح تساؤلات حول إذا ما كانت التنظيمات الجهادية، مثل تنظيم الدولة أو حتى القاعدة، قد بدأت تستثمر الظروف بالاستعانة بخدمات مسلحين غير "جهاديين"، أو التعاون معهم على المستوى التكتيكي.

  

العنف الثوري.. من المظاهرة إلى المفخخة

هناك أمور كثيرة تجعل الجيزة محطة فارقة في رحلة العنف الموجه ضد الدولة المصرية، وكما يشير الباحث بجامعة جورج تاون "مختار عوض" في دراسته حول خلية الجيزة، فإن كون المحافظة معقلا للتيار الإسلامي منذ الستينيات لا يكفي وحده لتفسير تحولها لنقطة انطلاق للجماعات المسلحة في مصر. غير أن تحليل الجغرافيا يثبت أنه أكثر فائدة.

 

تقع الجيزة جنوب غرب القاهرة الكبرى مع قلب حضري كبير وامتدادات ريفية شاسعة، وتتاخم أرياف الجيزة الحدود الجنوبية لدلتا النيل للشمال، كما تبرز امتدادات المحافظة في عمق الصحراء وواحاتها للغرب، وتمتد للجنوب نحو الصعيد شاغلة المساحة الأكبر من الضفة الغربية لنهر النيل. ولهذه الأسباب، ربما كانت خلية الجيزة هي نقطة التقاطع الأكثر وضوحا بين الحركات الجهادية التقليدية، وبين تيارات ثورية قررت اللجوء للعنف كرد فعل على عنف نظام 3 يوليو. وظهر أن الجهاديين أدركوا حاجتهم للتعاون مع هؤلاء النشطاء الجدد لسد فجوة أعداد المقاتلين بعد الضربات الأمنية المتتالية، وكذا لإعادة تقديم أنفسهم لجمهور الوادي، ليس(16) كجماعات جهادية عابرة للحدود، ولكن كتيارات وطنية تتفاعل مع مظالم تتعرض لها فئات كبيرة من الشعب المصري من قِبل النظام. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الجماعات الجديدة أدركت حاجتها للاستفادة من الخبرات المتراكمة للجهاديين في ميادين التدريب والتسليح والقيادة، بينما اعتقد الطرفان معا على الأرجح أنه سيكون قادرا في وقت ما مستقبلي على ابتلاع الآخر بعد استنزافه.

 

عملت المجموعات الثورية العنيفة على صناعة علامة تجارية خاصة بها من العنف تختلف عن العلامة المميزة للتيارات الجهادية التقليدية. وحرصت(17) على بيان أنها توجه أنشطتها فقط لمواجهة انتهاكات الحكومة المصرية، معتبرة إياها «غير شرعية»، وأكدت أنها لا تحمل أي ارتباطات أو طموحات خارجية. كما حافظت هذه المجموعات على تفاديها استهداف المدنيين أو تعريضهم للخطر، بل إنها قدمت نفسها كمدافعة عنهم، وكذا تجنبت اللعب على الأوتار الطائفية، على النقيض من تنظيم الدولة، من لا يمانع استهداف الأقباط كما حدث في تفجيرات الكنائيس في أبريل/نيسان العام الماضي، حيث حرصت بعضها على إدانتها في بيانات علنية.

  

     

لا تؤسس الحركات الثورية العنيفة شرعيتها على أحقية دينية أو إلهية، وتتجنب التورط في التكفير على سبيل المثال، بقدر ما تتغذى على المستويات المتزايدة من الغضب الشعبي ضد نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويبدو أنها تتعلم بالتجربة من دروس بواكير أنشطة التنظيمات الجهادية في وادي النيل بأنه لا يمكن لجماعة مسلحة الاستمرار هناك لفترة طويلة دون غطاء من الدعم البشري من جماهير الوادي والدلتا، وهي جماهير ظلت مؤممة لصالح الأجهزة الأمنية، وعملت كشبكة استخبارات بشرية ضخمة قوضت بشكل تلقائي فاعلية أي تنظيمات مسلحة. 

   

بدأت هذه المجموعات أنشطتها في أعقاب تزايد القمع الدموي من قبل الأجهزة الأمنية بعد إطاحة الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي، في صورة ما عرف آنذاك بـ"لجان الردع" المتولية مسؤولية تأمين المظاهرات السلمية باستخدام أدوات بسيطة، ترواحت بين الشماريخ وبنادق الخرطوش والمسدسات محلية الصنع، واستخدمت الأخيرة في مهاجمة ضباط الشرطة وفرق "البلطجية" من المدنيين المسلحين الموظفين من قبل الأجهزة الأمنية للاحتكاك بالمظاهرات.

  

في وقت لاحق، وتحديدا في خريف عام 2014، طورت هذه اللجان نفسها للجيل الأول من الحركات الثورية شبه المسلحة على شاكلة حركات "ولّع" و"مولوتوف" و"إعدام"، وهي حركات بدائية ركزت على استهداف بعض منشآت البنية التحتية ضعيفة التأمين. لم تلبث هذه الحركات طويلا قبل أن تتلاشى  ليحل محلها جيل ثان أكثر تطورا يتمثل في حركات مثل "المقاومة الشعبية" و"العقاب الثوري"، وكانت الأخيرة أكثر انتشارا حيث نفذت حوالي 157 هجوما في 18 محافظة مصرية، نصفها تقريبا هجمات بمحافظة الفيوم، كما قامت بتنفيذ هجمات أكثر فاعلية وتنوعا تراوحت بين التفجيرات والهجمات المسلحة على الكمائن والاغتيالات، واستخدمت أسلحة تنوعت بين الأسلحة الخفيفة وصولا للكلاشينكوف والقنابل اليدوية. ووقعت أكثر عمليات "العقاب الثوري" تطورا في أغسطس/آب من عام 2015، حين استهدفت الحركة حافلة لرجال الشرطة بعبوة ناسفة ما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة العشرات، قبل أن تصدر الحركة إصدارا مصورا للعملية حوى مشاهد من انتهاكات قوات الأمن، وفي خلفيته أنشودة إسلامية شهيرة تعرف باسم "العقاب قادم".

 
undefined 

   

انزوت حركات المقاومة الثورية والعقاب الثوري خلال النصف الأخير من عام 2015، وفي تلك الفترة تكثفت الضربات الأمنية ضد الخلايا المسلحة في الوادي. ومع قدوم صيف عام 2016 ظهرت جماعتان مسلحتان جديدتان أكثر تطورا في الوادي مثلتا الجيل الثالث من هذه الحركات: حركة "سواعد مصر" المعروفة بـ "حسم" وحركة "لواء الثورة". ووقعت أول عملية معروفة لحركة حسم في 16 يوليو / تموز 2016، استهدفت الرائد محمود عبد الحميد رئيس مباحث طامية بالفيوم، أما ثاني عملياتها فكانت محاولة اغتيال المفتي الأسبق علي جمعة في أغسطس/آب من نفس العام في محافظة الجيزة، وهي محاولة اضطرت الحركة لإلغائها، وفق ادعائها، «خوفا من استهداف المدنيين».

 

وفقا لبيانات المدونة الإلكترونية للحركة، بلغ عدد العمليات المسلحة لها حتى سبتمبر/أيلول للعام الماضي 16 عملية، تنوعت بين التفجيرات والاغتيالات في صفوف قوات الأمن والاشتباكات المباشرة. وفي المقابل، كانت حركة "لواء الثورة" أقل نشاطا بكثير، وكانت العملية الأولى للمجموعة هي هجوم مسلح على نقطة تفتيش للشرطة في المنوفية في أواخر أغسطس/آب 2016، ووقعت أبرز عمليات المجموعة بعد ذلك بشهرين، وتحديدا في أكتوبر/تشرين الأول، عندما اغتالت "لواء الثورة" العميد عادل رجائي، قائد الفرقة التاسعة مدرعات بالجيش المصري، وأرفع شخصية عسكرية مصرية تم اغتيالها خلال الأعوام الأخيرة، أمام منزله في القاهرة.

   
undefined
   

تظهر عمليات "حسم" و"لواء الثورة" تطورات نوعية لم تتحقق لأي مجموعات مسلحة غير سلفية عملت في مصر من قبل، رغم أن الحركتين معا لم تنفذا سوى 20 عملية منذ تأسيسهما، مقارنة بحركات الجيل الثاني وعلى رأسها العقاب الثوري المنفذة لـ 157 عملية. فعلى المستوى العسكري حققت الحركتان نجاحا ملحوظا في فاعلية استخدام العبوات الناسفة، وهناك مؤشرات على استخدام أسلحة غير مألوفة لهذه الحركات رغم تقليديتها، مثل بنادق الكلاشينكوف في بعض عمليات حركة "حسم" على وجه التحديد، وهناك أيضا زيادة ملحوظة في دقة عمليات الاغتيال الموجه، والتي تتجاوز الضباط ذوي الرتب المنخفضة، ويمكن أن تمتد لاستهداف المدنين في المواقع الإعلامية والقضائية، مثل محاولتي اغتيال علي جمعة، والنائب العام المساعد زكريا عبد العزيز، وهي خطة تهدف بشكل كبير لتقويض الثقة في قدرة النظام على حماية مناصريه.

  

أما على المستوى الاستخباراتي، فقد أثبتت الحركتان براعة فائقة في عمليات الرصد طويل الأجل للأهداف، متغلبين على عوائق شبكة الاستخبارات البشرية التي طالما جعلت أي عملية لجمع المعلومات في مصر شبه مستحيلة. وعلى المستوى الجغرافي، فإن حسم ولواء الثورة حققتا نجاحات كبيرة في محافظات القاهرة الكبرى، معقل الأجهزة الأمنية، مقارنة بالحركات السابقة التي ركزت عملياتها في محافظات وسط مصر ذات الأظهرة الصحراوية مثل الفيوم وبني سويف.

   
undefined
   

على كل حال، رغم أن عمليات الحركات الشبابية مثل "حسم" و"لواء الثورة" تبقى أقل تطورا في كثير من الأوجه من عمليات نفذتها خلايا وادي النيل الجهادية قبل تفكيكها عام 2015، فإنها أظهرت مقدرة أكبر على إعادة تشكيل نفسها متجاوزة عقبات تقليدية طالما حجمت آفاق التمرد المسلح في الوادي، وربما هذا ما دفع النظام المصري -حسب رواية سائدة أقرب للصواب- للضغط باستمرار لإدراج الحركتين على قوائم الإرهاب الأميركية، منذ أقل من أسبوعين، في سابقة من نوعها لحركات بملفات تعريف منخفضة المستوى قياسا على قدرات أجهزة مصر الأمنية، مستشرفا ربما مستقبلا متطورا أكثر لهما. وفي حين لم تستطع الخلايا الجهادية في الوادي تجديد نفسها بنفس الفاعلية، وانتكست عمليات الكثير منها من المستوى العسكري إلى المستوى الأمني، واستهداف المدنيين مثل الأقباط، تحافظ الحركات الثورية على تطوير قدراتها العسكرية بشكل مثير للتأمل، وتبقى قادرة على التوالد من رحم بعضها البعض وإنتاج أجيال أكثر كفاءة، كما تظهر استعدادا للتفاعل واكتساب المزيد من الخبرات من الخلايا العسكرية التي لا تزال تعلن عن وجودها خارج سيناء، وعلى رأسها مجموعات الضابط المنشق عشماوي.

 

توارى عشماوي عن الأنظار لفترة طويلة إثر استهداف مجموعته بعد عملية الفرافرة، ولم تتبن جماعة "المرابطون" التي أسسها بعد تركه لأنصار بيت المقدس أي عمليات في مصر، وأشيع أنه غادر إلى ليبيا. وفي عام 2015 نشر(18) بعض عناصر تنظيم الدولة بليبيا صورة عشماوي تحت عنوان «مطلوب للقتل»، متهمين إياه بقتالهم في مدينة درنة تحت راية "مختار بلمختار"، زعيم حركة "المرابطين" الموالية للقاعدة في المغرب العربي.

 

غير أن اسم عشماوي عاد للتردد من جديد في القاهرة في أعقاب هجوم الواحات الأخير الذي راح ضحيته أكثر من 50 من رجال الأمن المصري. كان الهجوم كمينا عسكريا محكما ما استدعى ذكر ضابط الصاعقة السابق، من أصبح اسمه مرتبطا بالكثير من الأساطير في القاهرة، وبعد جولات من التكهنات، أعلن تنظيم جديد باسم "أنصار الإسلام" مسؤوليته عن العملية ومقتل قائدها عماد الدين عبد الحميد، الذين لم يكن سوى ضابط الصاعقة زميل عشماوي ورفيقه في العمليات منذ محاولة اغتيال وزير الداخلية محمد إبراهيم عام 2013.

 

لا يعرف أحد بالتحديد أين يقبع عشماوي اليوم، لكن ما يعرفه الجميع أن رجاله عادوا من جديد بعملية محكمة على مقربة من العاصمة، في صحراء مصر الغربية التي يفضلها، في لحظة بدا فيها أن مشهد العنف المسلح في وادي النيل يتم اقتسامه بين حركات شبابية نشأت من رحم قمع الدولة وأجهزتها الأمنية، وبين عسكري سابق طبعت عليه الدولة بقوميتها أكثر مما طبع عليه الجهاد بعالميته.

 

تستوعب السلطات المصرية الدرس بالتجربة الصعبة فيما يبدو، وتتخذ نفس الأساليب التقليدية كما في حملة الجيش المصري الأخيرة الشاملة على سيناء لـ "مكافحة الإرهاب" منذ أيام قليلة، وهي أساليب تثبت فشلها في معظم الحالات، خاصة مع عدم الالتفات لجبهة داخلية تتشرب عنف الحدود تدريجيا، لكنها تدرك أنها أمام جيل جديد من «المتمردين» يحمل هوية مختلفة عن تلك التي اعتادتها، وهو جيل يبدو أن المناخ السياسي في مصر ما بعد الثالث يوليو قد أسهم في ظهوره وتمدده، يتبنى نهجا عنيفا لا يبدو مدفوعا بالأيديولوجيا أو حتى بالتهميش الاجتماعي في المقام الأول، جيل يمثله مالك الأمير وأمثاله ممن تحولت أحلامهم من حمل اللافتات في ميدان التحرير  إلى حمل السلاح للانتقام أو للثأر أو للبحث عن متنفس جديد لطموحات يسحقها النظام بلا رحمة، في معركة صفرية ستستمر وتتوسع على الأرجح مادامت قبضة النظام الأمنية الباطشة مستمرة، ومادامت تعالج الأمور، كل الأمور، بحملات عسكرية شاملة تكافح "إرهابا" يبدو أنه لا ينتهي.